مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الثاني
أولاً: قسم العبادات
(5) اجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام وبيان أمر الهلال وما يترتب عليه من الأحكام
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
14/10/90 هـ
حضرة صاحب السماحة مفتي قطر الموقر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد:
يسُر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي أن ترجو من سماحتكم المساهمة في تحقيق هدف من أهدافها النبيلة التي ترمي إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف والدعوة إلى التضامن في سبيل الحق وإعلاء كلمة الله.
ولقد وجدت الرابطة في اختلاف الأقطار الإسلامية على دخول شهر رمضان وثبوت الصيام، مثار نزاع شديد أدى إلى فرقة وخصومة في بعض البلدان الإسلامية، الأمر الذي يحز في النفوس وتألم له القلوب التي تود للمسلمين أن تسود بينهم المحبة والألفة، فيكونوا عباد الله إخوانًا يتسابقون في الخيرات ويسارعون إلى المبرات. ولقد فكرَتِ الأمانة العامة في إيجاد حل لجمع هذا الشتات الفكري والنزاع الفقهي الذي قد تتطور آثاره إلى فرقة يأباها الضمير الإسلامي، فتقدمت إلى المجلس التأسيسي بتقرير حول هذا الموضوع وما يترتب على ذلك من محاذير وأضرار. ولقد درس المجلس هذا التقرير وقرر ضرورة استقصاء البحث في هذا الموضوع الهام من الوجهة الفقهية والأدلة الشرعية بشأن النقاط التالية:
الأولى: اختلاف المطالع، هل يعتبر أو لا يعتبر؟
الثانية: ما تثبت به رؤية الهلال، هل يكفي خبر الواحد العدل أو لا بد من نصاب الشهادة أو الاستفاضة؟ وهل الشهور كلها في ذلك سواء أو تختلف؟
الثالثة: الحكم إذا كان بالسماء غيم قد يحول دون الرؤية.
الرابعة: رؤية الهلال نهارًا قبل الزوال أو بعده.
الخامسة: هل يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي في ثبوت الهلال أو لا يجوز؟
وغير ذلك من النقاط والبحوث، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة مستفيضة فيه واختيار ما يرى من الأحكام محققًا للغرض مدعمًا بالأدلة الشرعية، ولذلك قرر المجلس استمرار البحث في هذا الموضوع وعرضه في الدورة المقبلة لاجتماعه في منتصف شهر جمادى الثانية 1391 هجرية.
ونظرًا لما لسماحتكم من مكانة علمية مرموقة وغيرة دينية معروفة وحرص على توحيد الكلمة وجمع الشتات في ظل الأحكام الشرعية والتعاليم الإسلامية، فإن الأمانة العامة لترجو أن تتلقى من سماحتكم دراسة مستوفاة حول هذه النقاط التي أشار إليها المجلس، حتى تتمكن بعد دراسة الآراء والبحوث من وضع قرار يتفق وأهداف الشريعة الإسلامية وتعاليمها.
وثقوا يا صاحب السماحة أنكم بهذه المساهمة العلمية تؤدون رسالة إسلامية لها أجرها العظيم وثوابها الجزيل عند من لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وتقبلوا عظيم شكري وتحيتي واحترامي.
محمد سرور الصبان
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
يرجى الرد على العنوان التالي
ح/ رابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.
أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ إلى كافة الناس عربهم وعجمهم بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أمور الناس أحسن نظام في عباداتهم وأعيادهم ومعاملاتهم وسائر أمور الحلال والحرام، وساوى في التكليف بهذا الدين بين سائر الناس الخاص منهم والعام، فلم يجعل عبادة أحد منهم مقيدة ولا مرتبطة بأمر الآخر ولا إرادته.
ومن حكمته وشمول رحمته، أن جعل العبادات في الإسلام متعلقة بالظهور والمشاهدة والأمر الجلي الواضح الذي لا خفاء فيه، فوقت صلاة الفجر يعرف بطلوع الفجر وانتشاره، ووقت الظهر يعرف بزوال الشمس، ووقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله بعد فيء الزوال، ووقت المغرب بغروب الشمس، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر.
ويعرف وقت صيام رمضان برؤية الهلال باديًا للناظرين، فإن لم يُر مع الغيم فبإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا وكذلك شهر الحج.
يقول الله تعالى: ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ [البقرة: 189]. وسبب هذا السؤال على ما رواه أبو نعيم، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقًا كالخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة؟ فأنزل الله ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّ﴾ [البقرة: 189]. فنقلهم سبحانه عن السؤال عن الذات إلى الإخبار بالصفات، كأن الله تعالى قال: إنه لا فائدة ولا مصلحة لكم في البحث عن جرم الهلال، وإنما عليكم أن تنظروا إلى الحِكَم والمصالح المترتبة على الهلال، حيث جعله الله ميقاتًا لصيام الناس وحجِّهم وعِدَدِ نسائهم وإيلائهم وحلول ديونهم[248] وبه تعرف أشهر الحج والأشهر الحرم التي حرّم الله القتال فيها، سواء كان التحريم باقيًا أو منسوخًا.
فالتوقيت بالأهلّة هي المواقيت المشهورة لجميع الناس منذ خلق الله الدنيا، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ﴾ [التوبة: 36]. لأن التوقيت بالأهلة يسهل على جميع الناس معرفتها، العالم بالحساب والجاهل به والبدوي والحضري والكاتب والأمِّي، لكون الهلال أمرًا مشهورًا مشهودًا به مرئيًّا بالأبصار، وأجلى الحقائق ما شوهد بالعيان، إذ ليس المخبر كالمعاين، ولهذا سمي هلالاً لاستهلال الأصوات برؤيته، كما سمي شهرًا لشهرته، إذ الرؤية للهلال واشتهاره بمثابة الفجر وانتشاره. وقصد الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بدخوله وخروجه، إذ هو بمثابة الصُّوى والمنار الذي يعرف به، حيث قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».[249] وقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه»[250] لقصد التعبد بالوظائف الواجبة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها، بخلاف الشهور الشمسية، فإنه لا يعرفها إلا الحاسب أو الكاتب ويجهلها أكثر الأميين من الحضر وكل البوادي ولا يترتب عليها شيء من التعبدات أبدًا.
لهذا لا يجوز الاعتماد في الصوم والفطر على الحساب، كحساب الجداول وغيرها، لكون الحساب مبنيا على الظن والتخمين لا على العلم واليقين، فهم في إجراء عملية الحساب يجعلون شهرًا كاملاً وشهرًا ناقصًا إلى نهاية السنة، ومن المعلوم أن تمام الشهر ثلاثون قد يتوالى في شهرين وثلاثة، والنقص في الشهر وكونه تسعًا وعشرين قد يتوالى في شهرين وثلاثة فينتقض بذلك نظام حسابهم، كما نرى وقوع الخطأ في التقاويم، حيث يقول بعضهم: إن أول الشهر يوم كذا، وبعضهم يقول: يوم كذا[251].
إن أعظم مقاصد القرآن الكريم والشرع الحكيم في التوقيت بالأهلّة هو اتفاق الأمة في عباداتهم من صيامهم وحجهـم وأعيادهـم ما أمكن الاتفاق، إذ هذا من السهل الميسر، متى سلكوا مسالكه وأخذوا بعزائمه.
فلو جرى المسلمون على نصوص الكتاب والسنة في إثبات الأهلة بطريق اليقين من الرؤية؛ بأن يراه عدد من العدول المعروفين بالأمانة والصدق فيصومون برؤيتهم، ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمر دينهم لكان أفضل في حقهم من هذا الاختلاف الواقع بينهم في صومهم وأعيادهم؛ لأنهم في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة على خاصة الأهلة، وصار كل شاهد بالهلال مقبول الشهادة بدون أن يعرفوا ثقته وعدالته، ونجم عن هذا التساهل أن صاروا يشهدون به في وقت مستحيلة رؤيته فيه، ويشهدون به الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية، ما يحقق بطلان شهادتهم، فدخل على الناس بسبب هذا التساهل شيء من الخطأ في هذه العبادة، فصاروا يصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان.
وبسببه وقع الاختلاف بين أهل الإسلام في صومهم وعيدهم؛ لأنه متى كان بعض أهل الإسلام يعتمدون في صومهم وعيدهم على الرؤية المحققة التي يشهد بها عدد من العدول الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم؛ فهؤلاء هم أسعد الناس بالصواب في هذه القضية.
وبعضهم يعتمدون في صومهم وفطرهم على أي خبر يأتيهم من أي بلد عن طريق الإذاعة فيقبلونه على علاته ويعملون به في صومهم وفطرهم، فإن هذا بلا شك من لوازمه الافتراق وعدم الاتفاق، كما يشهد به الواقع المحسوس.
فلو عملوا عملهم في التوثق في الشهادة فلم يدخلوا في صوم رمضان ولم يخرجوا منه إلا باليقين الثابت من الرؤية الصادقة التي يشهد بها عدد من الثقات العدول، كما نص على ذلك جمهور فقهاء المسلمين، لحصل حينئذ الاتفاق، وزال عن الناس هذا الافتراق، إذ الرؤية المحققة الصحيحة تجمع أهل الإسلام من شتى البلدان فيراه أهل الشام ومصر والعراق والمغرب كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، وكما يراه أهل فارس وباكستان والهند.
وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع بين هذه البلدان، فإنما قالوه بمحض الاجتهاد يؤجرون عليه، لكنه بمقتضى المشاهدة والتجربة يترجح عدم صحته، وأن التفاوت في مطلعه بين هذه البلدان منتف، فيراه أهل الشام والعراق ومصر كما يراه أهل نجد والحجاز واليمن، لا يتغير عن مطلعه ولا يختلف عن حالته لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتًا لجميع الناس عربهم وعجمهم، يعرفون به وقت صومهم وحجهم ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ﴾ [البقرة: 189]. وما كان كذلك فإنه لا يتغير بحال ولو جربوا لعرفوا صحة ذلك.
والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أن تكون طريقة إثبات العبادة واحدة، وما ثبت من الأحكام على رؤية الهلال فإنه لا يتغير بحال ولا يختلف في محل دون محل.
وإنما يقع الاختلاف بين الناس لاختلاف الرائي، وعدم توثقه في رؤيته لا المرئي.
فقول النبي ﷺ: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون»[252] هو خطاب لجميع الناس في كل بلد، لكون الهلال إذا ظهر في بلد ورأوه رؤية صحيحة، فإنه غالبًا يظهر كذلك في كل بلد، إذا لم يحُلْ دون منظره غيم أو قتر.
وإذا لم يظهر الهلال وإنما قيل بأنه رؤي في بلد كذا، فإن هذا خبر يصدقه اليقين أو يكذبه، وما آفة الأخبار إلا رواتها، والله أعلم.
* * *
[248] هذا الحديث هو من رواية السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه ابن عساكر فذكره، ورواية الكلبي عن أبي صالح ضعيفة، غير أنه قد اشتهر هذا السبب لنزول الآية؛ إذ السؤال عن الأهلة واقع كما جاء مقرونًا بالجواب في نص الكتاب، وكون هذا الحديث ضعيفًا إنما ضعفه من قبل رجاله، وليس كل ما لا يصح سنده يعتبر باطلاً في نفس الأمر والواقع، ولا كل ما صح سنده يكون واقعًا بالفعل. [249] متفق عليه عن أبي هريرة. [250] متفق عليه عن ابن عمر. [251] لقد سمعنا من بعض المتفرنجين القول بتفضيل الشهور الشمسية التي عليها مدار الحساب الغربي على الشهور القمرية، بحجة أن الشهور الشمسية لا تتغير شتاء ولا صيفًا، وهذا ليس بمقتضى للتفضيل، وقد سبق الإسلام إلى كل عمل جليل وفعل جميل، وهذا التفضيل يجعل الشهر لا يتغير شتاء ولا صيفًا، قد استعمله أهل الإسلام باسم البروج على عدد شهور السنة أي اثنا عشر برجًا لا تتغير شتاء ولا صيفًا، وهي برج (الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت). فكل برج بعدد الأشهر، ولا يتغير عن وقته، وما من فضيلة إلا وقد أدلى الإسلام فيها بالسهم الأوفى، وكل الصيد ففي جوف الفرا. [252] رواه البيهقي في السنن الكبرى، وعبد الرزاق في مصنفه؛ كلاهما عن أبي هريرة.
من الفقهاء من قال: يجب صوم رمضان برؤية عدل ثقة وإثبات الفطر بشهادة عدلين، كما هو الظاهر من مذهب الحنابلة، وعندهم أنه متى ثبتت رؤية الهلال في بلد لزم جميع الناس الصوم وهي من مفردات المذهب.
ومنهم من قال: يجب الصوم بشهادة عدلين والفطر بشهادة عدلين أيضًا، كما هو الظاهـر من مذهب مالك والشافعي، واستدلوا لذلك بحديث ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال على عهد رسول الله ﷺ، فأخبرت النبي ﷺ أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان.
وعن ابن عباس، أن أعرابيا جاء إلى النبي ﷺ فقال: إني رأيت الهلال، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله» قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدًا رسول الله». قال: نعم، قال: «فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدًا» رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح النسائي وقفه.
أما الإمام أبو حنيفة، فإنه يشترط في حالة الصَّحْو[253] الاستفاضة بأن يراه عدد من العدول لا يمكن تواطؤهم على الكذب، ويقول: إنه لا يمكن أن ينظر جميع الناس إلى مطلع الهلال وأبصارهم متساوية والموانع منتفية، ثم يراه واحد واثنان دون الباقين. أما في حالة الغيم فيقبل عنده شاهد واحد.. انتهـى. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وإنما فرّق من فرّق من الفقهاء بين هلال الصوم والفطر؛ لقصد سد الذريعة بأن لا يدعي الفساق أنهم رأوا الهلال ليتعجلوا بذلك الفطر وهم بعد لم يروه.
والكلام هنا يرجع إلى حقيقة الإثبات وعدمه، إذ ما كل ما قيل: إنه رؤي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا ثابتًا ولا كون مدعي الرؤية عدلاً صادقًا. فقد ذكر الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال كونه يشهد به عدلان ثقتان، ثم هم يفسرون العدالة المطلوبة لصحة الشهادة بأنها التزام فرائض الصلوات الخمس بسننها الراتبة واجتناب المحارم، بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، والثانية استعمال المروءة وهي فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه، فهذه الشروط إن لم تُدرك كلها فلن تُترك كلها.
وقد ثبت بالتجربة والاختبار كثرة كذب المدعين لرؤية الهلال في هذا الزمان، وكون الناس يرون الشهر قويا مضيئًا صباحًا من جهة الشرق، ثم يشهد به أحدهم مساء من جهة الغرب وهو مستحيل قطعًا، ويشهدون برؤيته الليلة ثم لا يراه الناس الليلة الثانية من كل ما يؤكد بطلان شهادتهم، فالاستمرار على هذا الخطأ المتكرر الناشئ عن الشهادة المزيفة لا يجيزه النص ولا القياس، ومتى رؤي الهلال رؤية صحيحة في بلد، فإنه يُرى غالبًا في أكثر البلدان، فيتقارب بذلك الاتفاق بين جميع المسلمين في الصوم والعيد.
فلو أن فقهاءنا المتقدمين القائلين بثبات دخول الشهر بشهادة الواحد وخروجه باثنين، وكونه إذا ثبت في بلد لزم جميع الناس الصوم، فلو أنهم عاشوا إلى عصرنا اليوم وشاهدوا ما وقع الناس فيه من الأخطاء التي تنشأ عن شهادة الواحد والاثنين، لتبدل رأيهم في فنون التوثق والإثبات والاحتراس من الناس، لأن حالة الناس اليوم غير حالتهم في السنين السابقة، فيما يتعلق بشأن الأهلة وطريق إثباتها والشهادة فيها وتعميم العمل بها.
فقد كانت البلدان المتجاورة في قديم الزمان بمثابة المتباعدة، بحيث تكون القرية عن القرية الأخرى قدر مائة كيلو أو أقل أو أكثر، فتثبت رؤية الهلال في إحدى القريتين ولا تعلم الثانية بثباته فيها لصعوبة الاتصالات بينهما إلا عن طريق البعير والحمار، فيحكم قاضي تلك البلدة بصحة رؤية الهلال بشاهدين عدلين، ويأمر بالعمل بذلك من الصوم أو الفطر، فتصوم هذه القرية والبلدة الأخرى المجاورة لها مفطرون، حيث لم يروا الهلال ولم يبلغهم خبر رؤيته.
وكلا القريتين على حق، الصائمون منهم والمفطرون، لأن هذا هو غاية جهدهم واجتهادهم، سواء أصابوا أو أخطؤوا، لأن كل مجتهد في مثل هذا يعتبر مصيبًا في حصول الأجر وحط الوزر، إذ ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ﴾ [البقرة: 286].
ما عدا قضاء ذلك اليوم الذي سبقت به إحدى القريتين، فإنه من اللازم بالاتفاق وفي الغالب أنه متى ثبتت رؤيته في مثل هذه البلاد رؤية صحيحة، فإنه يرى غالبًا في أكثر البلدان فينتشر أمره ويشتهر خبره، وهذا هو حقيقة الحكمة في خلقه، حيث جعله الله ميقاتًا للناس والحج.
ولو قدر خطأ هذه الرؤية، فإن هذا الخطأ لا يتعدى مكان البلدة المشهود فيها وما حولها فلا يتعدى إلى البلدان الأخرى.
أما الآن وفي هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذَّوَاتِ والمقربة للأصوات من برقيات وإذاعات وتليفونات وتلفزيونات؛ فقد صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب فيسري خبر الرؤية في مشارق الأرض ومغاربها في ساعة واحدة، سواء كان الخبر صحيحًا أو غير صحيح، فيعم الناس الخطأ كما يعمهم الصواب.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن من الحزم وفعل أولي العزم أن يحسب لهذا الأمر الحساب ويستخدم له سائر الوسائل والأسباب من كل ما يقتضي التوثق والثبات بشهادة المعروفين بالعدالة والثقة والرؤية الثابتة المحققة في دخول الشهر وخروجه حتى يكون الناس آمنين على إكمال صومهم فرحين بعيد فطرهم، فلأن نخطئ في التوثق والاحتياط أولى من أن نخطئ في التساهل والاستعجال، وهذا هو حقيقة ما ندعو إليه وننصح به، والله عند لسان كل قائل وقلبه.
وأما حديث ابن عمر في شهادته على الهلال، وكذا حديث الأعرابي الصحابي، فقد وقعت الشهادتان على دخول رمضان ولعلهما في قضية واحدة في سنة واحدة أو في سنين متفرقة.
وعلى كلا الأمرين فليس في الحديثين ما يدل على أنه لم ير الهلال أحد غيرهما، لا من أهل المدينة ولا من حولها من الأعراب، إذ عدم العلم بالشيء ليس علمًا بالعدم، ومن المحتمل أن يكون شاركهما غيرهما في رؤيته، وإن لم يذكر في الحديث اكتفاء بصدور الأمر من رسول الله ﷺ في إثباته.
ثم إنه لا يقاس شهادة ابن عمر وهذا الأعرابي الصحابي على شهادة غيرهما من أهل هذا الزمان، ممن لا تعرف عدالتهم ولا ثقتهم، إذ من المعلوم أن رسول الله ﷺ قد عرف تقوى هذين الشاهدين وثقتهما، فأمضى شهادتهما، إذ القصد الخبر اليقين بالرؤية، وقد وقف رسول الله ﷺ على حقيقة ذلك[254].
ثم إن ابن عباس راوي حديث الأعرابي لم يقبل قول كريب وحده في رؤية دخول رمضان وقد أخبره أن معاوية صام وصام الناس معه حتى قال: أما نحن فلا نصوم حتى نراه أو نكمل العدة ثلاثين يومًا، كما أمر رسول الله ﷺ بذلك.[255]
ثم إن الإثبات يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فقد جعل النبي ﷺ شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين عدلين لما يعلمه من صدقه وثقته وأمانته، ومن ذلك أنه يشهد الرجل الثقة العدل على الشيء ويشهد بضده عشرة رجال ممن لا تعلم عدالتهم ولا ثقتهم فيمضي القاضي شهادة الواحد العدل ويرد شهادة العشرة لكون الكمية لا تغني عن الكيفية شيئًا. فإن قيل: فقد ثبت عن النبي ﷺ وجوب العمل في الصوم والفطر بشهادة الشاهدين، كما روى أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب الناس في اليوم الذي يُشك فيه، فقال: إني جالست أصحاب رسول الله وسألتهم وكلهم حدثوني أن رسول الله ﷺ قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا».
فهـذا حديث ثابت، يحمل على المراد منه والمقصود به، وأن النبي ﷺ أمرهم إذا شهد شاهدان أن يصوموا ويفطروا، لأنه لن يشهد شاهدان عدلان برؤيته الثابتة في بلد كالمدينة إلا وقد رآه الكثير من الناس في سائر الآفاق، لاعتبار أن كل بلد تراه كذلك أو أكثر البلدان، إذ القصد من الشهود على الرؤية هو إثبات اليقين والحقيقة وهي تحصل بشهادة العدلين، وقد أمضى النبي ﷺ شهادة ابن عمر وشهادة الأعرابي الصحابي، لمّا وقف على حقيقة صدقهما، غير أنه لم يكن مراد النبي ﷺ أنه متى شهد شاهدان مجهولان على رؤية الهلال وجميع الناس لم يروه أنه يجب إمضاؤه وتكليف الناس بالعمل بشهادتهما على قرب الديار وبعدها، فهذا لم يكن مرادًا منه أبدًا. والشهادة أمانة. وأول ما يفقد الناس من دينهم الأمانة وآخر ما يفقدون من دينهم الصلاة، ومعلوم فقدان أكثر الناس في هذا الزمان لعمود دينهم وأمانة وبهم، فضلاً عن فقدان أماناتهم واستخفافهم بشهاداتهم، وقد أخبر النبي ﷺ بهذا الأمر قبل وقوعه، كما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» - لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثًا - «ثم يجيء قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن».
ففي هذا الحديث الإشارة إلى استخفاف الناس في آخر الزمان بالشهادة، وأنهم يشهدون بما لم يشاهدوه وبما لم يحيطوا بعلمه.
وقد روي من حديث ابن عباس، أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ ليشهد عنده، فقال له: «ترى الشمس» قال: نعم. قال: «مثلها فاشهد أو دع».[256]
فالعدالة التي يشترطها الفقهاء لصحة الشهادة على الهلال وغيره قد صارت مفقودة في هؤلاء الأفراد، الذين يشذ أحدهم بشهادته على الهلال من بين مجموع سائر الناس، بحيث يدعي أحدهم رؤيته الليلة ثم لا يراه جميع الناس الليلة الثانية، ويدعي رؤيته في وقت هي مستحيلة فيه بمقتضى الدليل العقلي على عدم إمكانها، كأن يراه الناس نيرًا مضيئًا صباحًا فيما بين الفجر وطلوع الشمس ثم يدعي أحدهم رؤيته مساء من ذلك اليوم، وهذا لا يتفق أبدًا والدعوى برؤية الهلال معه تعتبر كاذبة كما سيأتي بيانه.
ومما يؤكد هذه الغرابة وبطلان هذه الشهادة، كون البدو الذين يسكنون في الصحراء البعيدة عن كبار المدن ودخانها وارتفاع بنيانها وقد مُنحوا من قوة الإبصار نتيجة صحة الأجسام، فكان أحدهم يرى ويعرف سمة الإبل قبل أن يرى أكثر الحضر أجسامها، ويحرصون أشد الحرص على التطلع إلى الهلال وقت التحري له ولا يرونه، بينما يدعي أحد هؤلاء رؤيته وهي غير صحيحة في ظاهر الأمر.
فلا عبرة بمثل شهادة هؤلاء، مع قيام الدليل العقلي على بطلانها، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.
ثم إن رؤية الهلال يقع فيها الوهم والاشتباه دائمًا حتى من بعض العدول الثقات، بحيث يخيل للشخص أنه رأى الهلال ولم يكن هلالاً ﴿كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمَۡٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡٔٗا﴾ [النور: 39].
من ذلك أن جماعة كانوا يتراءون هلال رمضان وفيهم أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله ﷺ وكان قد قارب مائة سنة، وفيهم إياس بن معاوية، المعروف بالفراسة، فبينما هم ينظرون إليه إذ قال أنس بن مالك: أنا رأيت الهلال هو ذاك. وأخذ يشير بإصبعه إليه ولا يراه الناس، فقام إياس بن معاوية فمسح شعر عيني أنس، ثم قال: انظر يا أبا حمزة، هل ترى شيئًا؟ فنظر ثم قال: الآن لا أرى شيئًا. فعرفوا أنها شعرة اعترضت لعينه فحسبها هلالاً[257].
اجتمع عدد من الرؤساء العقلاء في مكان عال من الصحراء يتراءون الهلال، قالوا: فنظرنا إلى قطعة سحاب في شكل الهلال وفي مطلع الهلال، فجعلنا نكبر ويريه بعضنا بعضًا، لا نشك إلا أنه الهلال، فبينما نحن كذلك نحقق فيه النظر، إذ رأيناه يتمزق وبعد قليل اضمحل وزال فعرفنا أنها قطعة سحاب، والله إن العَجُول من الناس ليشهد أنه رأى الهلال، ومثل هذا يقع كثيرًا بين الناس، ولهذا أمر الله بالتثبت في خبر الفاسق.
ثم إن الخبر برؤية الهلال هو بمثابة الخبر عن رسول الله أنه فعل وقال؛ إذ لكلٍّ خبرٌ ديني مما يتعلق بالأحكام والحج والصيام وأمور الحلال والحرام.
ولمّا رأى العلماء كثرة الكذب على رسول الله ﷺ أنه فعل وقال؛ اخترعوا فنَّ الجرح والتعديل ليميزوا به بين الصادق الأمين والكاذب المهين، فكانوا يقولون: فلان كذاب، وفلان مدلس، وفلان كثير الوهم، وفلان غير ثبت، وفلان ينفرد بالمناكير، وفلان يشذ بحديثه عن الثقات، ونحو ذلك من المميزات التي تقتضي التحذير عن الاغترار بخبرهم أو تصديقهم في شهادتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة لله ولدينه ولعباده المؤمنين.
وكان أول من اعتنى بالتحفظ على الشهادة والعقاب على ما دخل فيها من النقص والزيادة، هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مشهورة حاصلها ما رواه البخاري في صحيحه، أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع وكان عمر مشغولاً، فلما أفاق من شغله قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ - يعني أبا موسى الأشعري - قالوا: بلى. قال: ائذنوا له. فطلبوه فلم يجدوه، فأرسل في أثره من يرده إليه، ثم قال له: ما حملك على أن ترجع؟ قال: لأني سمعت رسول الله يقول: «إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»، فقال عمر: إني لم أسمع ذلك أبدًا، والله لتأتين بشاهد يشهد لك بذلك، أو لأوجعن ظهرك. فانطلق أبو موسى مذعورًا حتى وقف على ملأ من الأنصار فقال: أنشدكم بالله، هل أحد منكم سمع رسول الله يقول: «إذا استأذن أحدكم على أخيه ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع» قالوا: اللهم نعم سمعناه، فقال: ليشهد معي أحدكم عند عمر. فقالوا: يشهد معك أصغرنا، قم يا أبا سعيد الخدري فاشهد معه. فجاء أبو سعيد فشهد عند عمر فقال: صدقت، أشغلني عنها الصفق بالأسواق.
فهذا من فنون سياسته في رعيته وتثبته في الشهادة بما لا يثق بصحته حتى لا يدخل الخلل على الدين بالنقص والزيادة من طريق الشهادة المزوّرة، وإنما سميت الشهادة الكاذبة بشهادة الزور لازورارها عن طريق الحق والعدل.
وخطب النبي ﷺ فقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثم قرأ: ﴿ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ ٣٠ حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ ٣١﴾ [الحج:30-31]. رواه الإمام أحمد من حديث خريم بن فاتك الأسدي.
* * *
[253] الصَّحْو: ذهاب الغيم. [254] إذ لا يشترط لصحة الدخول في صوم رمضان حكم القاضي بذلك بل لو أخبره ثقة عدل أنه رأى هلال رمضان فصدقه وجب عليه أن يصوم، وكذا لو رأى بنفسه الهلال فردت شهادته أو لم يشهد به بخلاف ما لو رأى بنفسه هلال شوال فلم تقبل شهادته أو لم يشهد به، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر إلا معهم، كما هو الظاهر من مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقًا للحنابلة. [255] رواه مسلم عن كريب. [256] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس. [257] ذكر هذه القصة ابن خلكان في تاريخه في ترجمة إياس - ص 226 الجزء الأول.
إن الله سبحانه يقول: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ﴾ كما قال: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ﴾ ، فأمر بإقامة الشهادة لله كما أمر بإقامة الصلاة لله، وإقامة الشهادة هي أن تأتي بها مقوّمة معدلة غير مائلة ولا مزيفة، بل تشهد على حقيقة ما رأيت وسمعت بثبت وإتقان من غير زيادة ولا نقصان، كما في الحديث: «على مثل الشمس فاشهد أو دع» [258].
والشهادة على الهلال هو مما يكثر الاشتباه فيها دائمًا، بحيث يخيل للشخص أنه رأى شيئًا ولم يكن شيئًا، كما علم بالقطع كثرة وقوع ذلك.
فإذا انحصرت الشهادة على رؤية الهلال في واحد أو اثنين من بين مجموع الناس، فإنها شهادة ظنية ليست يقينية، تشبه الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب فهي لا تفيد اليقين قطعًا، لاسيما إذا كان هذا الشاهد أو الشاهدان ممن لا تعرف ثقتهما ولا عدالتهما، إذ ليس الخبر كاليقين ولم يقل أحد من أئمة المذاهب الأربعة ولا فقهاؤهم: إنه يجب تصديق خبر مدعي الرؤية وإن لم تعلم عدالته.
لاسيما في هذا الزمان الذي ضعفت فيه الأمانة وفاض فيه الغدر والخيانة، وحاول الكثير من المنافقين أن يتلاعبوا بالدين ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ﴾ [التوبة: 47]. والمنافقون في هذا الزمان هم شر من المنافقين الذين نزل فيهم القرآن، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةٗ مِّن دُونِكُمۡ لَا يَأۡلُونَكُمۡ خَبَالٗا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَآءُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِي صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ ١١٨﴾ [آل عمران: 118]. فكان أحدهم يشهد برؤية الهلال في وقت مستحيلة رؤيته فيه، وهذا مما يؤكد بطلان شهادتهم ووقوع التساهل في الحكم بها، كما شهدوا في زمان فات برؤية هلال شوال وأُمر الناس بالفطر فأفطروا، وعند خروجهم إلى مصلى العيد لصلاة العيد انكسفت الشمس والناس في مصلى العيد!! ومن المعلوم أن الشمس لا يكسف بها في سنّة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، أي ليالي الإسرار، كما أن القمر لا ينخسف إلا في ليالي الإبدار، أي ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، كما حقق ذلك أهل المعرفة بالحساب وعلماء الفلك، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عديدة وأبطل ما يعارضه.
فالاستمرار على هذا الخطأ الناشئ عن الشهادات المزوّرة لا يجيزه النص ولا القياس، ولن نعذر عند الله وعند خلقه بالسكوت عنه.
ثم إن الناس في هذا الزمان أخذوا يتساهلون في تصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، وصار كل واحد مقبول الشهادة على خاصة الهلال، وبناء على هذا التسامح أخذ بعض الناس يتسابقون إلى ادعاء رؤية الهلال بدون تثبّت ولا يقين، فدخل الخطأ على الناس في هذه العبادة فصاروا يصومون شيئًا من شعبان ويفطرون شيئًا من رمضان، بناء على شهادة من لا يعرفون عدالته ولا ثقته.
من ذلك، أنه جاء الخبر من إحدى البلدان برؤية هلال شوال من هذه السنة ليلة الجمعة، وأن يوم الجمعة هو العيد فضجت الأصوات من الإذاعات يأمرون الناس بالفطر يوم الجمعة، لاعتبار أنه العيد، فأفطر الناس، وفي الليلة الثانية التي هي ليلة السبت، اجتهـد الناس لرؤيته فلم يروه قطعًا، وفي الليلة الثالثة التي هي ليلة الأحد رآه أفراد من الناس الحادة أبصارهم رأوه ضعيفًا، وقد سبره عدد من العقلاء الرؤساء حتى غاب في خمس وعشرين دقيقة، وبعضهم قال: في ثلاثين دقيقة. وهو الليلة الثالثة على حسب هذه الشهادة!!
وكان الصحابة يصلون مع رسول الله ﷺ صلاة العشاء غيبوبة القمر ليلة الثالثة، كما في سنن أبي داود عن النعمان بن بشير، أنه قال: أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء الآخرة، كان رسول الله ﷺ يصليها سقوط القمر لثالثه.
لهذا اضطرب الناس من هذه الشهادة، وعرفوا تمام المعرفة أن يوم الجمعة من رمضان وكذا يوم السبت على الراجح، وأخذوا يسألون عن قضاء هذا اليوم أو اليومين، هل يجب أو يستحب أو لا يجب ولا يستحب؟!
وهذه المسألة ترجع إلى قضية من أفطر في نهار رمضان، يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب، وقد وقعت هذه القضية على الصحابة رضي الله عنهم كما روى البخاري في صحيحه، قال: حدثني عبد الله بن شيبة، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا على عهد النبي ﷺ يوم غيم ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أفأُمروا بالقضاء؟ قال: لابد من قضاء. وقال معمر: سمعت هشامًا قال: لا أدري أقضوا أم لا.
قال في فتح الباري: اختُلف عن عمر في ذلك فروي عنه ترك القضاء قائلاً: لم نقضِ، إنا لم نتجانف الإثم.
وروى مالك عنه أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا.
وروى عبد الرزاق عنه أنه قال: نقضي يومًا.
وروى سعيد بن منصور عنه: وفيه: من أفطر منكم فليصم يومًا مكانه. قال: وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن، وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة... انتهى.
وظاهر المذهب وجوب القضاء لكون الأصل بقاء النهار، وحكى في الإفصاح اتفاق الأئمة على وجوب القضاء.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عدم القضاء لدخوله في عموم قوله: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» [259]. انتهى. وكما لو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع فتبين أنه طالع فلا قضاء عليه في ظاهر المذهب.
وقد نص الفقهاء على أنه لو وقف الناس بعرفة اليوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح، لقول النبي ﷺ: «الحج يوم يحج الناس»، وهذا يوم حج الناس على حسب اجتهادهم، كما لو اجتهد إنسان فصلى ثم تبين أنه صلى إلى غير جهة القبلة، فإن صلاته صحيحة ولا يعيدها، لكون المكلفين إنما خوطبوا بالظاهر الذي يسعهم العلم به، فإذا اجتهدوا فأخطؤوا فلا حرج عليهم، أشبه بالقاضي إذا اجتهد وأخطأ فله أجر.
* * *
[258] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس. [259] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذر الغفاري.
إن الهلال آية من آيات الله في استهلاله وفي إبداره وفي استسراره، وقد جعل الله له علامات يعرف بها إمكان رؤيته وعلامات يعرف بها تعذر رؤيته، كما جعله تارة ثلاثين وتارة تسعًا وعشرين، وقد قال بعض الصحابة: صمنا مع النبي ﷺ تسعًا وعشرين أكثر ما صمنا ثلاثين [260]. والرؤية الصادقة الصحيحة تصدق ذلك أو تكذبه، فهـي أصح العلامات للعمل به، لحديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [261]، وقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» [262].
ومتى رئِي الهلال ابتدأ حكم به لأول ليلة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كانت منزلته مرتفعة أو منخفضة، لأن أجلى الحقائق ما شوهد بالعيان.
أما العلامات التي يعرف بها امتناع رؤيته وعدم صحة الشهادة به، فمن أهمها كونه يرى صباحًا فيما بين الفجر وطلوع الشمس من جهة الشرق، ثم يدعي بعضهم رؤيته مساء من ذلك اليوم من جهة الغرب، فإن هذا من الممتنع المستحيل قطعًا، بمقتضى الحس والتجربة والعادة الجارية في سنة الله، حتى ولو كان أقوى نظرًا من زرقاء اليمامة، فلا تتفق رؤيته صباحًا ثم رؤيته مساء من ذلك اليوم، فمن ادعاه فإنما خيل له ولم يره، فالشهادة بذلك تعتبر كاذبة، لأن من شرط صحة الشهادة كونها تنفك عما يكذبها.
وقد أجرى الله العادة في خلق القمر أنه يظهر لأبصار الناس في ثمانية وعشرين يومًا من الشهر لحلوله في ثمانية وعشرين منزلاً، ثم يختفي عن أبصار الناس يومين إن كان تاما ثلاثين أو يومًا واحدًا إن كان ناقصًا، أي تسعة وعشرين.
فهذا الاختفاء والاستسرار في اليومين أو اليوم لا بد منه كما هو متفق عليه عند أهل العلم وأهل الحساب والجداول والمفسرين وعلماء اللغة وبعضهم قال بجواز اختفائه ثلاثة أيام.
ويسمى هذا الاختفاء للهلال: السرار والاستسرار واجتماع النيرين والمحاق وغير ذلك من التسمية الجارية على ألسنة العرب، فمتى رأوه صباحًا طالعًا نيرًا، عرفوا تمام المعرفة أنه لن يهل مساء من ذلك اليوم أبدًا، بمقتضى العادة التي أجراها الله فيه.
وما يدعيه بعض أهل العلم من إخواننا في زماننا من القول بجوازه، وعدم امتناعه كما سمعنا به من بعضهم ويجادلون في إثباته، فهو قول لم يستند إلى إثبات لا بطريقة المشاهدة ولا التجربة، ويترجح أن هذا القول إنما خرج منهم مخرج الظن والتخمين بدون علم ولا يقين وبدون مشاهدة ولا تجربة، وذلك لا يُغني عن الحق شيئًا.
وكأنهم في نظرهم ومناظرتهم بنوا أمرهم على الشهادة المزيفة برؤية الهلال حيث يراه الناس صباحًا، ثم يشهد بعضهم برؤيته مساء، فبنوا أمرهم ورأيهم على هذه الشهادة الكاذبة وجعلوها لهم بمثابة القاعدة وهي بلا شك من باب قياس الفاسد على الفاسد.
وسنورد من الأدلة ما يوضح امتناع ذلك وعدم إمكانه بمقتضى سنة الله في خلقه:
قال البغوي في تفسيره على قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥﴾ [يونس: 5].
قال: إن منازل القمر ثمانية وعشرين منزلاً وأسماؤها: الشرطان والبطين والثرياء والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرفة والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك الأعزل والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعايم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم والفرغ المؤخر والرشاء.
قال: فينزل القمر كل ليلة منزلاً منها ويستتر ليلتين إن كان الشهـر ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين.
وقال القرطبي في تفسيره على الآية وعلى قوله: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ﴾. قال: إن الله سبحانه قدر للقمر منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر منها كل ليلة بمنزلة ويومان للنقصان والمحاق، ثم ساق عدد النجوم الثمانية والعشرين ينزل في كل ليلة منها ثم يستتر.
وقال ابن كثير في تفسير سورة نوح: قدر الله للقمر منازل وبروجًا وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهر.
وقال الخطيب الشربيني في تفسيره: أنوار التنزيل، قال: إن منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها: الشرطان والبطين.. إلخ.
قال: وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجًا لكل برج منزلان وثلث، فينزل القمر منها كل ليلة منزلاً، ثم يستتر ليلتين إن كان ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين.
وقال في تفسير المنار على الآية المذكورة:
قال: إن الله قدر للقمر في سيره في فلكه منازل ينزل كل ليلة في منزل منها لا يخطئه ولا يتخطاه، وهي ثمانية وعشرون معروفة تسميها العرب بأسماء النجوم المحاذية لها، وهي ثمانية وعشرون: الشرطان والبطين... وذكر بقية النجوم، ثم قال: فهذه المنازل الثمانية والعشرون هي التي يُرى فيها القمر بالأبصار، ثم تبقى ليلتان إن كان الشهر ثلاثين أو ليلة واحدة إن كان تسعًا وعشرين يحتجب فيها عن الأبصار فلا يُرى أبدًا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
قال: إن القمر يجري في منازله الثمانية والعشرين كما قدره الله منازل، ثم يقرب من الشمس فيستتر ليلة أو ليلتين لمحاذاته لها، فإذا خرج من تحتها جعل الله فيه النور، ثم يزداد نوره كلما بعد عنها إلى أن يقابلها ليلة الإبدار، ثم ينقص كلما قرب منها إلى أن يجامعها، ولهذا يقولون: الاجتماع، وأهل الحساب يسمونه اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار، كما يعرف بذلك وقت الكسوف والخسوف، فإن الشمس لا تكسف في سنة الله إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، كما أن القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار لحؤول الأرض بينه وبين الشمس، فمعرفة الكسوف والخسوف تدرك بالحساب الصحيح.
قال: وأهل الحساب يرون بأنهم يعرفون طلوع الهلال بأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها بعشر درجات أو أقل أو أكثر، أما كونه يرى أو لا يرى فهو أمر حسي طبيعي يحققه وجوده وليس حسابيا، والأمر الشرعي في الصوم والفطر إنما يترتب على الرؤية المحقة لا على الحساب. انتهـى[263].
وقال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن، قال: والسرار هو اليوم الذي يستسر فيه القمر آخر الشهر. وقال في النهاية لابن الأثير: قال الأزهري: يقال سرار الشهر وسرره وهو آخر ليلة استسر فيها الهلال بنور الشمس وقال في مختار الصحاح: استسر القمر أي خفي ليلة السرار وربما كان ليلة وربما كان ليلتين.
وقال في لسان العرب: استسر القمر إذا خفي ليلة السرار، وربما كان ليلة وربما كان ليلتين، قال الشاعر:
نحن صبحنا عامرًا في دارها
عشية الهلال أو سرارها
قال: وحكي عن الكسائي وغيره، أنه قال: السرار آخر الشهر ليلة يستسر الهلال.
وقال أبو عبيدة: وربما استسر ليلة وربما استسر ليلتين.. انتهـى.
وبهذا يتبين أن استسرار القمر آخر الشهر ليلة أو ليلتين أنه من الأمر الثابت شبه المجمع عليه عند المحققين من سائر العلماء، وقد أجرى الله العادة به واستقر في نفوس الناس معرفته، فمتى رآه الناس صباحًا عرفوا تمام المعرفة أنه لن يهل مساء أبدًا ولا تنخرم هذه العادة التي هي بمثابة القاعدة، بدعوى الرؤية الكاذبة، وما كل ما يقال: إنه رئِي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا واقعًا لوقوع الفرق شرعًا وعرفًا بين الخبر واليقين، والله أعلم.
* * *
[260] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود. [261] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [262] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [263] من رسالة بيان الهدى من الضلال في شأن الهلال - ص 33.
وأما قول الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: وإن رئِي الهلال نهارًا فهو لليلة المقبلة، سواء كان قبل الزوال أو بعده قاله في الإقناع، ومختصر المقنع وغيرهما، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فهذا القول جرى من الفقهاء على سبيل الفرض والتقدير لكونهم يقدرون دائمًا ما لا يقع على فرض وقوعه، فهم يقدرون رؤيته نهارًا لعارض يعرض في الجو، بحيث يقل ضوء الشمس فيمكن لقوي النظر رؤيته، وهو تقدير يبعد وقوعه جدًّا، رؤيته قبل الغروب مستحيلة وغير ممكنة ولو فرض وقوعها فإنه لا تأثير لها في حكم إثبات الصيام بها، وقد أنكر هذا التقدير بعض الفقهاء وعدُّوه من الأمر المستحيل لعدم إمكان وقوعه؛ لكون الهلال لا يُرى رؤية صحيحة إلا بعد غروب الشمس وذهاب شعاعها، كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وحتى صاحب كشاف القناع في شرح الإقناع[264]، استدرك على الفقهاء القول به، قائلاً: إنه لا أثر لرؤية الهلال نهارًا وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب. قال: ولعله مراد أصحابنا لظاهر الخبر السابق فعلم منه أن الرؤية قبل الغروب لا تأثير لها.. انتهى.
والخبر السابق الذي أشار إليه هو ما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية. رواه الدارقطني، وهذا الأثر عن عمر دليل واضح على عدم الاعتبار برؤية الهلال في النهار، سواء كان قبل الزوال أو بعده، وأنه لا يعتد به على فرض وقوعه، وقد قال في بداية المجتهد: إن سبب اختلافهم في حكم رؤية الهلال بالنهار هو ترك اعتبار التجربة وليس في ذلك أثر عن النبي ﷺ يرجع إليه. وحكى عن القاضي قائلاً: الذي يقتضيه القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب، لكون المعتمد في ذلك على التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتمد في ذلك مغيب الشمس أول مغيبها.. انتهى.
* * *
[264] من أشهر كتب الحنابلة، لمؤلفه منصور بن يونس البهوتي.
إن مطالع الهلال متفقة ومتقاربة في البلدان العربية وسائر البلدان التي يسكنها المسلمون، وذلك بمقتضى المشاهدة والتجربة وتناقل الأخبار من بين سائر الأقطار.
وما ذكره الفقهاء من اختلاف المطالع فيما بين الشام والحجاز وفيما بين مصر والعراق، فيترجح بأن هذا التحديد جرى منهم على حسب الاجتهاد، يؤجرون عليه ولا يلزم التقيد به لكونه جرى منهم بدون تجربة ولا مشاهدة، فظنوا وقوع التفاوت في المطالع بين هذه البلدان فقالوا بموجبه على سبيل الفرض والتقدير لصعوبة المواصلات في زمنهم وتعذر الاتصالات من بعضهم مع بعض.
أما في هذا الزمان، فإنه بمقتضى اختراع الآلات الناقلة للذوات والمقربة للأصوات، فقد صارت الدنيا كلها بأسرها كمدينة واحدة وكأن عواصمها على بعدها غرف متجاورة يتخاطبون فيما بينهم شفهيا من بعيد كتخاطبهم من قريب، ويسأل بعضهم بعضًا عن الهلال وقت طلوعه فيخبره بما يوافق في بلده فعلموا بذلك عدم التفاوت في المطالع بين سائر البلدان العربية، لكونها من الأمور الحسية التي تدرك بالمشاهدة والتجربة، فضعف القول باختلاف المطالع في هذا بعد وقوفهم على عدم صحته.
يحققه أن بعض الأقطار المتباعدة، مثل: بلدان سلطنة عمان وفارس وباكستان والهند، بما فيها من المسلمين أنهم إنما رأوا هلال شوال من هذه السنة ليلة الأحد وصار عيدهم بالأحد، وعندنا لم يره الناس رؤية صحيحة ثابتة إلا ليلة الأحد ليلة رآه أهل الهند وباكستان، ولا عبرة بما قيل من رؤيته قبلها بناء على الأوامر الصادرة عليهم بالفطر، فإننا إنما نتكلم على الرؤية الثابتة المعترف بصحتها. وإن رؤيتنا لهلال شوال توافق رؤية فارس والهند وباكستان على حد سواء، غير أنه قد يختلج في نفوس بعض الناس شيء من الشك في ذلك حينما يرى ويسمع أن الشمس تغرب في بعض البلدان غير الوقت الذي تغرب فيه في البلدان الأخرى، كما أنها تغرب في الشام والعراق قبل غروبها في الحجاز، وتغرب في باكستان والهند قبل غروبها في نجد والحجاز بعدد ساعات. فيظنون أن اختلافها في مشارقها ومغاربها أنه مما يتغير به مطلع الهلال تبعًا لها، وهذه هي الشبهـة التي جعلت الفقهاء المتقدمين يقولون باختلاف المطالع، وفات عليهم بأن الله سبحانه خلق القمر ميقاتًا لجميع الناس عربهم وعجمهم في صومهم وحجهم، فهو آية من آيات الله في استهلاله وإبداره واستسراره، ومسخر من الله لمصالح عباده، فهو يساير الشمس حسبما يراه الناظرون وإلا فإن فلكه غير فلكها.
وعند اقتراب انقضاء الشهر، فإنه يقرب منها كالملازم لها أحيانًا، يطلع صباحًا من جهة الشرق قبلها فيغيب قبلها فلا يراه أحد في أي بلد، وأحيانًا ينحسر عنها ويتخلف منها، فتطلع قبله وتغيب قبله، فمتى بعُد من شعاعها على قدر ما يتمكن من رؤيته الناظرون فإنهم حينئذ يرونه في كل بلد، كما أنه لا يتغير طلوعه في حال قصر الليل ولا طوله؛ لأن الله سبحانه نصب الهلال ميقاتًا لجميع الناس، وما كان كذلك فإنه لن يختلف بحال ولا يتغير في محل دون محل، وهذا معنى قول النبي ﷺ: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» رواه الترمذي.
والخطاب في هذا لجماعة الناس، فليس منشأ الخلاف بين الناس من مطلع الهلال، وإنما يعود إلى التثبت في الرؤية وعدمها لوقوع الاختلاف من الرائي لا المرئي، فإن الرؤية تختلف باختلاف صفاء الجو وكدره وقوة النظر وضعفه، والاستعداد لمراقبته وقت التحري له من جهة مطلعه وعدم الاستعداد لذلك، ثم التثبت لصحة الرؤية وعدم التثبت فيها، وبهذه الأسباب تختلف الأحوال في المحلات في الحكم برؤية الهلال، وهذا الاختلاف يقع من قديم الزمان بين البلدان المتجاورة كما يقع بين البلدان المتباعدة، وسببه معقول كما ذكرنا.
ثم إن القول باختلاف المطالع من لوازمه أن شهر رمضان الذي افترض الله على عباده صيامه بكماله أنه يتنقل من بلد إلى بلد؛ فيكون أول رمضان في إحدى الأقطار بالجمعة وفي القطر الثاني بالسبت وفي القطر الآخر بالأحد، وهذا لا يكون أبدًا حتى ولو قدر وقوعه فعلاً بناء على التثبت في الرؤية وعدم التثبت فيها ووقوع الغيم في جهة والصحو في الجهة الأخرى، وغير ذلك من الأعذار المقتضية لاختلاف الناس في الدخول في الصيام والخـروج منه، لكن الأمر الصحيح أن رمضان الذي افترض الله صومه على عباده هو معلوم العدد والحدّ تارة تسعًا وعشرين وتارة ثلاثين ومعلومة حدوده في دخوله وخروجه، لا يتنقل أبدًا، أما كون الناس يختلفون في التثبت في رؤيته وعدم التثبت، فإن هذا أمر واقع ولا يغير شيئًا من صفاته التي رتبها الله عليه في قوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ﴾ [يونس: 5].
فكما أنه لا يتغير من بلد إلى بلد في حالة مطلعه واستهلاله، فكذلك لا يتغير في كل قطر عن حالة إبداره، فكل الدنيا تتفق على حالة الإبدار التي يعرفون بها هيجان البحر واضطرابه وانتفاخه في سائر الأقطار وذلك ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وقد زعموا أن هذا الاضطراب وهيجان البحر أنه من تأثره بالقمر، والله أعلم.
ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا اتسعت فتوحهم الإسلامية وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، وكانوا هم الملوك والأمراء في مشارق الأرض ومغاربها وفي ممالك كسرى وقيصر وغيرها، فكانوا يتراسلون ويتساءلون عما يلزم من الأحكام وأمور الصيام. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أمراءه وعماله بأن يلقوه بموسم الحج بمكة كل عام فيسأل كل واحد منهم عن ولاية عمله وشؤون بلده.
ومع هذا كله، فلم يثبت عنهم ولا عن أحد منهم الخوض في اختلاف مطالع الهلال، إذ لو كان له أصل لأكثروا فيه الكلام وبينوا للناس ما يترتب عليه من أحكام الصيام، كما أنه لم يثبت عن رسول الله ﷺ في موضوعه حديث واحد لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، غير أن الفقهاء أخذوا القول به من مفهوم حديث ابن عباس مع كريب، لمّا قدم عليه من الشام وقال له: متى رأيتم الهلال؟ قال: رأيناه يوم الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قال: نعم رأيته وصام أمير المؤمنين وصام الناس معه. فقال ابن عباس: أما نحن فلم نر الهلال إلا ليلة السبت ونصوم حتى نراه أو نكمل عدة رمضان ثلاثين يومًا. فقال كريب: ألا تكتفي برؤية أمير المؤمنين؟ فقال: هكذا أمرنا رسول الله ﷺ. وكأنه يشير إلى حديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [265] وحديث: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين» [266]، وهذا الرأي وهذا العمل وقع من ابن عباس رضي الله عنه موقع الاجتهاد وهو عين الصواب، يريد ألا يخرج من الصوم المفروض إلا بيقين الفطر من الرؤية أو إكمال العدة، ولم يقل ابن عباس في حديثه مع كريب، بأن مطلع الهلال بالشام غير مطلعه بالحجاز، وإنما أخذوه على حسب الظن منهم فيه، فقالوا بموجبه، ثم أخذ بعضهـم ينقل عن بعض القول به حتى اشتهر وانتشر، ولعل ابن عباس لم يكن هذا مراده، وإنما أراد الأخذ بالحزم وأن يفطر على يقين من الرؤية أو إكمال العدة.
ومن المعلوم أن الفقهاء قد نصوا على أنه لو رأى أحد هلال شوال بطريق اليقين فردت شهادته أو لم يشهد بذلك، وقد صام الناس من أجل أنهم لم يروا الهلال، فإنه يجب عليه أن يصوم مع الناس ولا يفطر في الراجح من الأقوال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وفاقًا للحنابلة، بل قد نصوا أيضًا على أنهم لو صاموا رمضان بشهادة واحد ثلاثين يومًا فلم يروا الهلال، فإنه يجب ألا يفطروا حتى يروه حتى ولو صاموا واحدًا وثلاثين يومًا. ذكره في الإقناع ومختصر المقنع وغيرهما. وهذا القول ينطبق على فعل ابن عباس رضي الله عنه.
ثم إن الكثيرين من شرّاح حديث ابن عباس مع كريب، قالوا: إنما رد ابن عباس شهادة كريب ولم يعمل بها، من أجل أنه شاهد واحد والمفروض شاهدان، احتياطًا لحفاظ هذه الفريضة، إذ ما كل ما يقال: إنه رئي في بلد كذا؛ أن يكون صحيحًا ثابتًا ولا كون الرائي عدلاً صادقًا، اللهم إلا أن يقال بثبوت وقوع التفاوت في المطالع بطريق اليقين بين الأقطار الأجنبية الواسعة والأقاليم الشاسعة، وأن مطلع الهلال فيها غير مطلعه في الجزيرة العربية وما جاورها، فعند ثباته يتعلق حكم كل قُطر وكل إقليم برؤيته بنفسه، والله أعلم.
[265] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [266] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
إن كل اجتماع يعقده الزعماء والرؤساء وسائر المنتدبين لعلاج الأوضاع وإصلاح الأحوال والأعمال، فإن مبدأ حديثهم يتناول البحث عن اختلاف المسلمين في الأعياد، حيث يكون عيد بعضهم اليوم وبعضهم بعد يومين، والكل مسلمون على دين واحد، فهم يرون أن في هذا الاختلاف نوع مغمز لأعداء الإسلام، حيث يظنون أن المسلمين متفرقون في أصل الدين والعقيدة، وأنهم لن يتفقوا أبدًا، فالزعماء أعطوا هذا البحث نوعًا من الاهتمام، يحبون اجتماع المسلمين على عيد واحد في يوم واحد، كما أنهم على دين واحد يأمر بالاجتماع والاتفاق وينهى عن الاختلاف والافتراق ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ﴾ [آل عمران: 103]. وكان النبي ﷺ إذا قام إلى الصلاة قال: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم»[267].
وإن هذه البغية المنشودة والرغبة المطلوبة لمن العمل السهل الميسر متى أخذوا بعزائم أسبابها ودخلوا عليها من بابها، كيف وقد نصب الله لها صوًى ومنارًا يعرّفهم طريقها ويسلك بهم سبيل تحقيقها.
ونحن نعيش في ضمن دولة إسلامية دينية، هدفها الحق والسير برعاياها على سبيل العدل، فهي تحيل النظر في أحكام الأهلة إلى المحاكم الشرعية، لتصحيح الشهادة وتمحيص العدالة، ثم إبلاغ الناس بما يلزم من ذلك.
وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد، القريب منهم والبعيد، هو في امتثال المأمور واتباع المأثور الثابت عن النبي ﷺ حيث قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» [268].
وفي قوله: «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا، تارة تسعًا وعشرين وتارة ثلاثين، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» متفق عليه. ولمسلم: «فاقدروا له ثلاثين». فالخطاب في هذا كله لعامة المسلمين الذين خلق الله لهم الأهلة ليهتدوا بها لميقات صومهم وحجهم، لأن من مقاصد الشارع اتفاق الأمة في عباداتها وأعيادها ما أمكن الاتفاق.
وغرض الشارع الحكيم من هذا كله هو شهرة العلم بهذه الأوقات لقصد التعبد فيها بوظائفها المفروضة على الناس.
وإن الأحكام المتعلقة بالصيام وعيد الإسلام منوطة برؤية الهلال رؤية صحيحة ثابتة، بحيث يراه عدد من العدول المعروفين بالثقة والعدالة، إذ الهلال أمر مشهور مشهود به مرئي بالأبصار، ومن أصح المعلومات ما شوهد بالعيان، إذ ليس الخبر كالعيان.
والحكمة في ذلك جعل العبادة في ابتدائها وانتهائها مما يتيسر العلم بوقته لكل أحد من بادية وحاضرة، وعالم وجاهل وكاتب وأُمي ورجل وامرأة، فلم يجعل عبادة أحد متعلقة بإرادة الآخر، لأن الله سبحانه العظيم شأنه، علم ما كان يتلاعب به علماء الأديان ورؤساء الأمم السابقة، من تصرفهم في العبادات الشرعية، حيث أسقطوا عن أممهم فرض الصيام الواجب عليهم تدريجيا، وكانوا يحلون لهم ويحرمون بدون إذن من الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله.
فجعل عبادة هذه الأمة متعلقة بالمشاهدة والظهور والأمر الجلي، سواء في ذلك فرائض الصلوات والصيام والحج، يقول الله تعالى: ﴿۞يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ﴾ [البقرة: 189].
فمعرفة وقت الصيام في دخوله وخروجه، يعرف برؤية الهلال جليا واضحًا، بحيث يستوي في العلم به والتكليف بواجبه جميع الناس، أو بإكمال العدة عند حصول ما يمنع الرؤية، ومتى رئي ابتداءً فإنه يحكم لأول ليلة، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كانت منزلته عالية أو منخفضة، فلو جرى المسلمون على عملية التوثق واليقين في دخوله وخروجه، بحيث لا يصومون ولا يفطرون حتى يراه عدد من العدول الثقات لسلموا من هذه التشكيكات والاختلافات في الصوم والعيد الناشئة عن الشهادات غير الثابتة في الرؤية والتساهل في الحكم بصحتها والعمل بها. والله أعلم.
[267] أخرجه مسلم عن أبي مسعود. [268] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
إنه يستحب الترائي للهلال وقت التحري لطلوعه للتحفظ على الوظائف المفترضة فيه حتى لا يزاد فيها ولا ينقص منها.
لقد قلنا سابقًا ولاحقًا: إن منشأ الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد يرد إلى أمر واحد وهو التثبت في دعوى الرؤية وعدم التثبت فيها، لأنه متى كان بعض المسلمين يبنون أمرهم في صومهم وفطرهم على الرؤية المحققة المستفيضة الثابتة بشهادة عدد من العدول الثقات على صحتها فيصومون برؤيتهم ويفطرون برؤيتهم على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم، كما عليه العمل في سائر البلدان التي ينتحل أهلها العمل بمذهب الأحناف؛ فهم أسعد بالصواب في هذه القضية، لاسيما عند فساد الناس في هذا الزمان. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: إنما سمي الهلال هلالاً لارتفاع الأصوات برؤيته وكما سمي شهرًا لشهرته، فلا يكفي عنده ولا عند الأحناف شهادة الواحد والاثنين على رؤيته في حالة الصحو من بين مجموع سائر الناس، لكون الرؤية الصحيحة الثابتة حسية تدرك بالأبصار ويشترك في العلم بها غالب أهل الأمصار، إذا لم يكن ثم ما يمنع الرؤية من غيم وغيره، لأنها متى كانت الأبصار متساوية والموانع منتفية، فإنه حينئذ يمتنع اختصاص الواحد والاثنين بالرؤية دون سائر الناس، فلا بد أن تنتشر وتشتهر الرؤية الصحيحة، بحيث يراه من كل بلد واحد أو اثنان.
وهذا القول بما أن له قوة في النظر، فإن له حظا كبيرًا من الأثر، حيث قال النبيﷺ: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [269]. وقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» [270]. وكلها أحاديث صحيحة ثابتة.
فمتى لم يره المسلمون وإنما أخبرهم به مخبر عن طريق الإذاعة برؤية فرد معلوم أو مجهول في بلد كذا ولم يثبت لدى أحد من القضاة الشرعيين عدالة هذا الشاهد ولا ثقته، وهل هو شاهد واحد أو اثنان؛ فإنه حينئذ لا يقال: إن المسلمين قد رأوه. وهم لم يروه، وإنما أُخبروا به وليس الخبر كاليقين.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الاختلاف بين المسلمين في الصوم وفي العيد لا يزال واقعًا ومستمرًّا دائمًا لاختلاف الأفهام في تطبيق النظام على العمل بصحيح الأحكام.
* * *
[269] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [270] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.
إنه ينبغي لنا أن نعمل عملنا فيما يعود بالصلاح على أمتنا وأهل ملتنا، من كل ما يقضي بتخفيف هذا الاختلاف والافتراق، ويستدعي الاجتماع والاتفاق بأمر يقتضيه الحزم وفعل أولي العزم ولا ينفيه الشرع، وإن الرأي السديد والأمر المفيد لجمع الناس على الصيام والعيد القريب منهم والبعيد، هو في اتباع المأثور وامتثال المأمور الثابت عن رسول الله ﷺ حيث قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، وفي قوله: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين»، وكلها أحاديث صحيحة.
وبما أن أهل المدن والعواصم لا يحتفلون برؤية الهلال غالبًا ولا يتفرغون للترائي ويمنعهم عدم صفاء الجو من كثرة الغبار والدخان وارتفاع البنيان، فهم يتكلون على غيرهم في استهلال الشهر وقت التحري لطلوعه، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن الغفلة تغلب على أكثر الناس وإنما يراقبون خبره عن طريق الإذاعة فقط لا عن طريق الرؤية، لهذا فإن من الحزم وفعل أولي العزم تعيين لجنة استهلالية تشتهر بهذا الاسم أو باسم لجنة مراصد الأهلة أو غير ذلك من الأسماء اللائقة بعملها، وتكون هذه اللجنة من العدول الثقات المعروفين بالدين والعقل وقوة النظر ولا يقلون عن عشرين شخصًا، يتفرقون في الجهات كل فرقة منهم قدر خمسة أشخاص ليقوي بعضهم بعضًا بالنظر، وإنما قلنا بتفريقهم في الجهات خشية أن يخيم الغيم على جهة فيتحصلون على الصحو في الجهة الأخرى فيتم المقصود بذلك. فهؤلاء يرصدون الهلال وقت التحري لطلوعه.
ويكون مقرهم بمكة المكرمة، مكان خيرة الله لبيته الذي جعله مثابة للناس وأمنًا والذي هو أول بيت وضع في الأرض لعبادة الله عز وجل، فهذا هو مقرهم، وأما تنظيم أمرهم وإصدار القرارات الصادرة منهم في إبلاغ إثبات الأهلة وغيرها فيكون عند الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فهـي التي تتولى تنظيم أمرهم، فهذه اللجنة الاستهلالية يصرفون جهدهم في رصد الهلال وقت التحري لطلوعه، فإذا رأوه حكم بصحة رؤيتهم وصام الناس وأفطروا على يقين من أمرهم وحزم في أمر دينهم.
ويمكن لأئمة المسلمين وقضاتهم أن يصدروا حكمًا للعمل برؤيتهم فيصير حجة على الجمهور من سائر الأقطار الإسلامية التي تتفق مطالعها، وإن لم يروه ترجح عدم استهـلاله فلا يلتفتوا إلى أي خبر يأتيهم من أي بلد لرجحان عدم ثباته، اللهم إلا أن يثبت ثبوتًا شرعيا قطعيا بشهادة عدد من العدول الذين لا يمكن اتفاقهم على الكذب، كما روى أهل المدينة عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذين وقعت فيهم الرؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك. ذكره في بداية المجتهد.
وهذا العمل بهذه الصفة هو مما يزيد المسلمين ثقة ويقينًا واطمئنانًا، ولو عمل المسلمون عملهم في التوثق واليقين في دخول الشهر وخروجه بصفة ما ذكرنا لنجحوا في مهمة الاتفاق من جميع الآفاق.
وأما إذا خيم الغيم على هلال شعبان وأشكل الأمر على الناس فظاهر مذهب الحنابلة في ذلك معروف، وهو أنهم يحسبون تسعًا وعشرين من شعبان ثم يصومون اليوم الثلاثين، حكمًا ظنيا احتياطًا أنه من رمضان، ويستدلون على ذلك بحديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له» وفسر ابن عمر «فاقدروا له» بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين يومًا، وقد خالف في ذلك من خالف من علماء الحنابلة، إذ ليس القول بهذا متفق عليه عندهم.
أما الجمهور، فإنه عند الغيم يكملون عدة شعبان ثلاثين يومًا، سواء كان الغيم في هلال شعبان أو في هلال رمضان، وكذا لو غم الذي قبله فإنهم يعملون بإكمال العدة ثلاثين من كل شهر وهذا هو الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة» ولمسلم «.. فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا».
وكان سبب اختلافهم هو الإجمال في قوله: «فاقدروا له» حيث فسره من فسره بالتضييق عليه، أي جعله تسعة وعشرين، كما هو رأي ابن عمر رضي الله عنه، وذهب الجمهور إلى أن معناه إكمال العدة ثلاثين، واستدلوا له بالأحاديث المفسرة له بإكمال العدة ثلاثين.
أما تفسيره بالتضييق عليه، فإن فيه بعدًا في اللفظ والمعنى ولم يثبت رفعه إلى الرسول ﷺ بهذا اللفظ، ويكفي في رده الروايات المصرحة بإكمال العدة ثلاثين، فقد ثبت رفعها وهي مفسرة لقوله: «فاقدروا له» فوجب أن يحمل المجمل على المفسر، وهي طريقة معروفة عند الأصوليين لا خلاف في جواز استعمالها، إذ ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلاً، والمفسر مقدم على المجمل.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الناس في هذه القضية تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، لحديث: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون» رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن غريب، لكون القضية موضع اجتهاد وللإمام مجال في الاجتهاد فيها.
أما المسلمون المقيمون أو الساكنون في إنجلترا وأمريكا وفرنسا وروسيا، وسائر بلدان أوروبا التي تغمرها الغيوم المتواصلة دائمًا، بحيث لا يرون فيها الشمس إلا نادرًا، فضلاً عن الهلال فإن هؤلاء يكونون تبعًا للجنة الاستهلالية وللبلدان العربية في الصوم والفطر كسائر جماعة المسلمين، إذ هذا هو غاية جهدهم في معرفة وقت صومهم وفطرهم لحديث: «الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس» [271]. والناس هم جماعة المسلمين.
وفي الختام، فإن هذا هو نهاية ما حضرني من الكلام في إيراد النصوص والأحكام المتعلقة بشأن الهلال وشهر الصيام وعيد الإسلام، وهي جواب عن رسالة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي عليه السلام، كما أنها هدية دينية للخاص والعام، وإني أرجو أن تقع بموقع القبول والرضى من علماء المسلمين الذين لهم لسان صدق في العالمين، وقدم راسخ في الفقه في الدين وقلم خالص في النصح لله وعباده المؤمنين، ولا أقول ببراءتي فيها من الخطأ والتقصير، غير أنني لدى الحق أسير، إذ ليس كل قائل خبير ولا كل ناقد بصير سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد البشير النذير وعلى آله وصحبه أجمعين.
جرى تحريره في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة، عام ثلاثة وتسعين بعد الثلاثمائة وألف.
28 ذي القعدة سنة 1393 هـ.
[271] أخرجه الترمذي من حديث عائشة.