تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن
تأليف
آية الله العظمى العلامة سيد أبو الفضل بن الرضا البُرقَعي القُمي
المترجم
سعد محمود رستم
الحمد لله الذي أنعم على عباده بنعمة الإسلام، واختار منهم أفضل عباده وأطهرهم لإبلاغ رسالة الحرية والتحرُّر من كل عبودية سوى عبودية الله، والصلاة والسلام على أهل بيتِ نبي المحبة والرحمة الكرام الأطهار، وعلى صحبه الأجلاء الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن الدينَ الذي نفخر به اليوم ثمرةٌ لجهاد رجال الله وتضحياتهم؛ أولئك الذين كانت قلوبهم مُتَيَّمةً بحب الله، وألسنتهم لَـهِجَةً بذكر الله، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل حفظ رسالات الله ونشرها، واضعين أرواحهم وأموالهم وأعراضهم على أكفهم ليقدِّموها رخيصةً في سبيل صون كلمة الله سبحانه و سنة نبيه الكريم، لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.
أجل، هكذا قامت شجرةُ الإِسْلاَمُ العزيز واسْتَقَرَّت ضاربةً بجذورِها أعماق الأرض، بالغةً بفروعها وثمارها عنان السماء، مُعْليةً كلمة التوحيد والمساواة.
ولكن في أثناء ذلك، تطاولت على قامة الإسلام يد أعدائه الألدَّاء، وظلم علماء السوء وتحريف المتعبِّدين الجَهَلة، فَشَوَّهُوا صورة الإسلام الناصعة بشركهم وغلوهم وخرافاتهم وأكاذيبهم، إلى درجة أن تلك الأكاذيب التي كان ينشرها المتاجرون بالدين غطَّت وجه الإسلام الناصع. وقد اشتدَّ هذا المنحى من الابتعاد عن حقائق الدين وعن سنة رسول الله الحسنة، بمجيء الصفويين إلى حكم إيران في القرن التاسع الهجري ثم بقيام الجمهورية الإسلامية في العصر الحاضر، حتى أصبحت المساجد اليوم محلاً لِـلَطْمِ الصدور وإقامة المآتم ومجالس العزاء، وحلَّت الأحاديث الموضوعة المكذوبة محل سنة النبيص، وأصبح المدَّاحون الجهلاء الخدّاعون للعوام، هم الناطقون الرسميون باسم الدين؛ وأصبح التفسير بالرأي المذموم والروايات الموضوعة المختَلَقة مستمسكاً للتفرقة بين الشيعة والسنة، ولم يدروا للأسف من الذي سينتفع ويستفيد من هذه التفرقة المقيتة؟
إن دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تُرْفع اليوم في إيران، ليست سوى ضجَّة إعلامية ودعاية سياسية واسعة، القصد منها جذب الأنظار وإعطاء صورة جيدة عن حكومة إيران الشيعية في العالم. إن نظرةً إلى قادة الشيعة في إيران وزعماءهم الدينيين ومراجعهم تدل بوضوح على هذه الحقيقة وهي أن التقريب بين المذاهب الإسلامية والأخوَّة والمحبَّة الدينية بين المسلمين، على منهج حُكَّام إيران الحاليين، ليست سوى رؤيا وخيالٍ وشعارات برَّاقة لا حقيقة لها على أرض الواقع.
في هذا الخِضَمّ نهض أفراد مؤمنون موحِّدون من وسط مجتمع الشيعة الإمامية في إيران، دعوا إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في العقائد والممارسات الشيعية الموروثة، ونبذ البدع الطارئة والخرافات الدخيلة، وإصلاح مذهب العترة النبوية بإزالة ما تراكم فوق وجهه الناصع منذ العصور القديمة من طبقات كثيفة من غبار العقائد الغالية والأعمال الشركية والبدعية، والأحاديث الخرافية والآثار والكتب الموضوعة، والعودة به إلى نقائه الأصلي الذي يتجلى في منابع الإسلام الأصيلة: القرآن الكريم وما وافقه من الصحيح المقطوع به من السنة المحمدية الشريفة على صاحبها آلاف التحية والسلام وما أيَّدهما من صحيح هدي أئمّة العترة الطاهرة وسيرتهم؛ وشمَّر هؤلاء عن ساعد الجِدّ وأطلقوا العِنان لأقلامهم وخطبهم و محاضراتهم لإزالة صدأ الشرك عن معدن التوحيد الخالص، ولسان حالهم يقول: «انهض أيها المسلم وامحُ هذه الخرافات والخزعبلات عن وجه الدين، واقضِ على هذا الشرك الذي يتظاهر باسم التقوى، وأعلن التوحيد وحطِّم الأصنام».
لقد اعتبر «حيدر علي قلمداران القمِّي» - وهو أحد أفراد تلك المجموعة من الموحِّدين المصلحين - في كتابه «طريق الاتحاد»، أن سبب هذه التفرقة هو جهل المسلمين بكتاب الله وسيرة نبيه، وسعى من خلال كشف الجذور الأخرى لتفرُّق الفرق الإسلامية، إلى التقدّم خطوات مؤثرة نحو التقريب الحقيقي بين المذاهب. ولا ريب أن جهود علماء الإسلام الآخرين مثل آية الله السيد أبو الفضل ابن الرضا البرقعي، و السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي، وآية الله شريعت سنكلجي، ويوسف شعار وكثيرين آخرين من أمثال هؤلاء المجاهدين في سبيل الحق، أسوة ونبراس لكل باحث عن الحق ومتطلِّعٍ إلى جوهر الدين، كي يخطوا هم بدورهم أيضاً خطوات مؤثرة في طريق البحث والتحقيق التوحيدي، مُتَّبِعين في ذلك أسلوب التحقيق الديني وتمحيص الادِّعاءات الدينية على ضوء التعاليم الأصيلة للقرآن والسنة، ليعينوا ويرشدوا من ضلوا الطريق وتقاذفتهم أمواج الشرك والخرافات والأباطيل، ليصلوا بهم إلى بر أمان التوحيد والدين الحق.
إن المساعي الحثيثة التي لم تعرف الكلل لِرُوَّاد التوحيد هؤلاء لَهِيَ رسالةٌ تقع مسؤوليتها على عاتق الآخرين أيضاً، الذين يشاهدون المشاكل الدينية لمجتمعنا، ويرون ابتعاد المسلمين عن تعاليم الإسلام الحيَّة، لاسيما في إيران.
هذا ولا يفوتنا أن نُذَكِّر هنا بأن هؤلاء المصلحين الذين نقوم بنشر كتبهم اليوم قد مرُّوا خلال تحوُّلهم عن مذهبهم الإمامي القديم بمراحل متعددة، واكتشفوا بطلان العقائد الشيعية الإمامية الخاصة - كالإمامة بمفهومها الشيعي والعصمة والرجعة والغيبة و... وكالموقف مما شجر بين الصحابة وغير ذلك - بشكل متدرِّج وعلى مراحل، لذا فلا عجب أن نجد في بعض كتبهم التي ألفوها في بداية تحولهم بعض الآثار والرسوبات من تلك العقائد القديمة لكن كتبهم التالية تخلَّصت بل نقدت بشدة كل تلك العقائد المغالية واقتربوا للغاية بل عانقوا العقيدة الإسلامية الصافية والتوحيدية الخالصة.
***
تُمثِّلُ الكتبُ التي بين أيديكم اليوم سعياً لنشر معارف الدين وتقديراً لمجاهدات رجال الله التي لم تعرف الكَلَل. إن الهدف من نشر هذه المجموعة من الكتب هو:
1- إمكانية تنظيم ونشر آثار الموحِّدين بصورة إلكترونية على صفحات الإنترنت، وضمن أقراص مضغوطة، و بصورة كتب مطبوعة، لتهيئة الأرضية اللازمة لتعرُّف المجتمع على أفكارهم التوحيدية وآرائهم الإصلاحية، لتأمين نقل قِيَم الدين الأصيلة إلى الأجيال اللاحقة.
2- التعريف بآثار هؤلاء العلماء الموحِّدين وأفكارهم يشكِّل مشعلاً يهدي الأبحاث التوحيدية و ينير الدرب لطلاب الحقيقة ويقدِّم نموذجاً يُحْتَذَى لمجتمع علماء إيران.
3- هذه الكتب تحث المجتمع الديني في إيران الذي اعتاد التقليد المحض، وتصديق كل ما يقوله رجال الدين دون تفكير، والذي يتمحور حول المراجع ويحب المدَّاحين، إلى التفكير في أفكارهم الدينية، ويدعوهم إلى استبدال ثقافة التقليد بثقافة التوحيد، ويريهم كيف نهض من بطن الشيعة الغلاة الخرافيين ، رجال أدركوا نور التوحيد اعتماداً على كتاب الله وسنة رسوله.
4- إن نشر آثار هؤلاء الموحِّدين الأطهار وأفكارهم، ينقذ ثمرات أبحاثهم الخالصة من مقصِّ الرقيب ومن تغييب قادة الدين والثقافة في إيران لهذه الآثار القَيِّمة والتعتيم عليها، كما أن ترجمة هذه الآثار القَيِّمة لسائر اللغات يُعَرِّف الأمّة الإسلامية بآراء الموحدين المسلمين في إيران وبأفكارهم النيِّرة.
***
لا شك أنه لا يمكن الوصول إلى مجتمع خالٍ تماماً من الخرافات البدع وإلى المدينة الفاضلة التي تتحقق فيها الطمأنينة في ظلِّ رضا الله سبحانه وتعالى، إلا باتِّباع التعاليم النقيَّة الأصيلة للقرآن الكريم وسنة نبي الرحمة والرأفة ص. إن هدف القائمين على نشر مجموعة آثار الموحِّدين هو التعريف بآثار هؤلاء المجاهدين العلميين الكبار، كي تكون معرفة الفضائل الدينية والعلمية لهؤلاء الأعزاء، أرضية مناسبةً لنموّ المجتمع التوحيدي والقرآني في إيران وقوّته، وذلك لنيل رضا الخالق وسعادة المخلوق.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لعلوّ درجات أولئك الأعزاء، وأن يمنّ علينا بالعفو.
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة العبودية له، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وآخر رسل الله محمد المصطفى وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار.
وبعد، فقد كان المسلمون طول القرون المنصرمة سبَّاقين للآخرين في تحصيل العلم والمعرفة وتعلُّم العلوم المختلفة، وذلك ببركة تعاليم الإسلام العزيز واتِّباعاً منهم لكلام رسول الله ص، حتى صار العلماء المسلمون في أواخر فترة الخلافة العباسية سادة العلوم في عصرهم، وتحول بيت الحكمة الذي تأسس في بغداد في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني في عهد خلافة هارون الرشيد العباسي، إلى أكبر مؤسسة علمية وبحثية في العالم، ولا يزال بيت الحكمة يُعتَبر مظهراً من مظاهر الحضارة الإسلامية وذلك بفضل نشاطاته الثقافية والعلمية في المجالات المختلفة من تأليف وترجمة واستنساخ وأبحاث متنوعة في المجالات العملية المختلفة سواء الطب والهندسة أم العلوم الإنسانية.
ولا شك أن هذه القوة العلمية للمسلمين كانت بمثابة شوكة في أعين أعداء الإسلام، لذلك سعوا من خلال بثِّ أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين إلى تحطيم عَظَمَة الإسلام هذه وسؤدده الذي يعود الفضل فيه إلى وحدة المسلمين وتماسكهم والأخوة السائدة بينهم، فأثار أعداء الإسلام عواصف النزاعات والتفرقة بين المسلمين كي يحجبوا جمال الحق عن أبصارهم، ويخفوا شمس الدين المشعة خلف غيوم البدع والخرافات. وكما يقول الشيخ سعدي الشيرازي: الحقيقــة مكـان مزَينٌ ألا ترى أن كل مكان اعتلاه الغبار لكن الهوى والرغبات أثارا الغبار فوقه لا يقع عليه النظر ولو كان الرجل بصيراً إن المساعي المخطط لها وعلى المدى الطويل لأعداء الإسلام، لأجل إغلاق أعين المسلمين عن حقيقة الدين وإضعاف المسلمين عن تعلُّم معارف الدين ونشرها، وإبعادهم عن سنة النبي الأصيلة الهادية، أدت إلى حدوث فجوة عميقة واختلاف كبير في أمة الإسلام وأصبح أبناء الإسلام اليوم يعانون بشدَّة من تبعات هذه الفجوة وآثارها المشؤومة.
وبموازاة مساعي أعداء نبي الإسلام ص العِدائية الرامية إلى تحريف تعاليم الإسلام وتشويهها وإدخال البدع المختلفة في الدين، أدرك أشخاصٌ مؤمنون أطهار شفيقون هذا الخطر، ونهضوا مشمِّرين عن ساعد الجِد والجهاد المتواصل لإحياء معالم الإسلام والسنة النبوية الأصيلة، وتناولوا بأيديهم -بشجاعة منقطعة النظير- أقلامهم وأخذوا يكتبون ويؤلفون في نشر ثقافة الإسلام الأصيلة والعقائد الإسلامية الصحيحة النقية بين أوساط الشيعة عُبَّاد الخرافات، وصدحوا بينهم بنداء التوحيد بصوت عال أيقظ المتاجرين بالدين والبدع من نوم غفلتهم مذعورين! لقد ضحى هؤلاء الموحدون الطالبون للحق والحقيقة بمصالحهم الشخصية فداء للحقيقة، وقدموا أرواحهم في هذا السبيل هديةً رخيصةً للحق تعالى، وصاروا عن حق مصداقاً لقوله تعالى:﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس/62].
إن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى غيضٍ من فيض المعارف الإلـهية، ومُنْتَخَبٍ من آثار الموحدين الطالبين لله تعالى الذين كانوا ينتمون في بداية أمرهم لطائفة الشيعة. لقد أشرق نور الله في صدورهم، وصار التوحيد نبراس حياتهم المباركة. لقد تم تحرك هؤلاء الأفراد الذين كانوا جميعاً في بداية أمرهم من الطراز الأول من علماء الشيعة في إيران، في مسيرتهم التحولية من مذهبهم القديم، خطوةً خطوةً؛ بمعنى أن نظرتهم إلى المسائل العقائدية لم تتحول بشكل فجائي مرةً واحدةً، بل حَصَل هذا التحول بمرور الزمان وعلى إثر المطالعة والدراسة المتأنية والتواصل مع من يوافقهم في أفكارهم، لذا من الطبيعي أن لا تنطبق بعض رؤى وأفكار هؤلاء الإصلاحيين في بعض مراحل حياتهم وكتاباتهم، مع عقائد أهل السنة والجماعة واتجاهاتهم الفكرية بشكل كامل؛ لكن رغم ذلك قمنا بنشر هذه المؤلفات كما هي نظراً لأهميتها في هداية شيعة إيران وغيرهم من الناطقين باللغة الفارسية. كما أنه من الجدير بالذكر أن الرؤى والمواقف الفكرية المطروحة في هذه الكتب، لا تنطبق بالضرورة مع رؤى الناشر والقائمين على نشر هذه المجموعة من الكتب، هذا على الرغم من أن هذه الكتب تمثل بلا ريب نفحةً من نفحات الحق و نوراً من جانب الله لهداية طالبي الحقيقة البعيدين عن العصبيات والظنون التاريخية الطائفية.
إن النقطة الجديرة بالتأمّل هي أنه للوقوف بشكل صحيح على رؤى وأفكار هؤلاء الأفراد، لا يمكن الاكتفاء بقراءة مجلد واحد من آثارهم؛ بل لا بد من قراءة حياتهم بشكل كامل، كي يتم التعرُّف بشكل كامل على كيفية تحولهم الفكري، ودوافعه وعوامله. فعلى سبيل المثال، ألف آية الله السيد أبو الفضل البرقعي في الفترة الأولى من بداية تحوله الفكري كتاباً بعنوان «درسى از ولايت» أي «درسٌ حول الولاية»، بحث فيه موضوع الأئمة وادعاء الشيعة حول ولايتهم وإمامتهم ورئاستهم المباشرة للمسلمين بعد نبي الله ص. واعتبر أن عدد الأئمة 12 إماماً، مصحِّحاً بذلك الاعتقاد بوجود محمد بن الحسن العسكري وحياته حتى الآن، بوصفه الإمام الثاني عشر. لكن المؤلِّف نفسه ألف بعد عدة سنوات كتاباً باسم «تحقيق جدي في أحاديث المهدي» ووضع تحت تصرف القراء نتائج بحثه التي توصل إليها في هذا المجال، وهي أن جميع الأخبار والروايات التاريخية المتعلِّقة بولادة ووجود المهدي إمام الزمان، روايات وأخبار موضوعة وكاذبة. من هذا المثال ومن أمثلة مشابهة أخرى يتبيَّن أن أفضل طريق لمعرفة المسيرة التحولية لأفكار هؤلاء الموحدين وآثارهم هي قراءة مجموعة كتاباتهم بشكل كامل، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم كل مؤلَّف من مؤلَّفاتهم أو تأخّره زمنياً.
نأمل أن تكون آثار هؤلاء المؤلّفين الكبار ومساعي القائمين على نشرها، سبباً للعودة إلى مسيرة الأمن الإلـهية وعبادة الحق سبحانه وتعالى الخالصة.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات المختصرة وسيلة لغفران ذنوبنا وأن يسامحنا إذا وقعنا في خطأ أو زلل، وأن يرحم أرواح أولئك المؤلفين الأعزَّاء ويجعلهم في جوار رحمته، إنه رؤوف رحيم، والحمد لله رب العالمين.
أولاً: اعتمد المؤلِّف البرقعي (رح) في كتابه الحالي، كما ذكر في ص41-42، على النسخة الفارسية لكتاب مفاتيح الجنان التي تحمل اسم «كلياتِ مفاتيح الجِنان»[1]، وأحال إلى صفحاتها.
ولكن لما كان قارئ الترجمة العربية الحالية لكتاب «تعارض «مَفَاتيحِ الجِنَان» مع القرآن» لا يعرف الفارسية في الغالب، فلن يستفيد شيئاً من الإحالات إلى أرقام صفحات النسخة الفارسية لکتاب المفاتيح؛ فلم أرَ فائدةً من إحالته إلى صفحات النسخة الفارسية لكتاب المفاتيح، بل تنبغي إحالته إلى نسخةٍ مُعَرَّبةٍ للمفاتيح يمكنه أن يرجع إليها إذا شاء التحقُّق من إحالات المؤلِّف، فاخترتُ نسخةً مُعَرَّبةً لمفاتيح الجِنان هي النسخة التي طَبَعَتْهَا وَنَشَرَتْهَا «دار ومكتبة الرسول الأكرم» في بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ - 1997م، باهتمام السيد محمد رضا النوري النجفي، وتقع في 928 صفحةً من القطع المتوسط، فأحلتُ إلى صفحاتها في كل موضعٍ تناوله المؤلف البرقعي من كتاب المفاتيح وأحال إليه، وقد تحمَّلتُ عناءً كبيراً به في مطابقة صفحات هذه النسخة المعرَّبة على صفحات النسخة الفارسية التي أحال المؤلف إليها.
ثانياً: أحال المؤلِّف البرقعي (رح) كثيراً في كتابه هذا إلى كتابه الآخر «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» المكتوب بالفارسية أيضاً، وللسبب ذاته المذكور أعلاه، وهو عدم معرفة قارئ الكتاب الحالي للفارسية؛ لذا رأيتُ أن تتمّ الإحالات إلى أرقام صفحات الترجمة العربية التي قمتُ بها مؤخَّراً لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» وخرجت في جُزأين و 985 صفحة.
أما بالنسبة إلى الإحالات إلى صفحاتٍ من سائر كتبه، أو إلى صفحاتٍ من كتب المرحوم «قلمداران» (كالإحالة إلى كتاب سوانح الأيام، أو زيارت وزيارتنامه [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]، أو راه نجات از شر غلاة [طريق النجاة من شر الغلاة]، أو شاهراه اتحاد [طريق الاتحاد]) فإن مُراده أرقام صفحات النسخ الأصلية لتلك الكتب باللغة الفارسية والتي طُبِعَتْ على الآلة الكاتبة IBM وصُوِّرَت نسخٌ منها ووُزِّعَت، فلا بد من الرجوع إلىها.
وأخيراً: فقد أرجعَ المؤلف في ثنايا هذا الكتاب، القُرّاءَ كثيراً إلى صفحاتٍ سابقة أو لاحقة منه، فطابقت صفحات الإحالات على الصفحات الجديدة الخاصة بهذه الترجمة العربية التي اختلفت بالطبع عن صفحات الأصل الفارسي، وصحَّحتُها كي يكون للإرجاعات معنى وفائدة للقارئ العربي. فليُعْلَم.
والحمد لِـلَّهِ على ما وفَّق، ونسأله القبول، إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول، والله من وراء القَصْد.
الـمُتَرْجِمُ
[1] للعِلْم: ألَّف الشيخ عبَّاس القُمِّيّ (رح) كتابه «مفاتيح الجنان» بالفارسية، ما عدا نصوص الأدعية والزيارات التي تركها بلغتها الأصلية العربية. (الـمُتَرْجِمُ)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لِـلَّهِ حمداً لا يَنْفَدُ، والشكر والثناء لِـلَّهِ المُتعال شُكْراً لا يبلُغُهُ العَدُّ، إذْ منحني القدرة على تنقيح بعض مؤلفاتي القديمة وتهذيبها، في هذه الأيام التي أصبحت فيها مُشرَّداً، ونال منِّي ضعف الشيخوخة ما نال، وأنهكتني الأمراض الناجمة عن الاعتقالات والحبس المُتكرّر في الفترة الأخيرة، إضافةً إلى فقداني للحُريّة وللأمْن على نفسي، إذ لا آمن في كل لحظة من هجوم الخرافيين ومأجوري المشايخ عليَّ، مما حدا بي إلى ترك السَّكَن في منزلي، حتى أنه لم يَكُنْ يُسمحُ لي بإقامة صلاة الجمعة في منزلي ولا أن أعقد فيه جلسات تفسير القرآن للأصدقاء والمعارف!
أجل، في هذه الأيام الأخيرة من عمري التي لم أعد قادراً فيها على فعل شيء ذي بال، ولا قادراً على الوصول إلى الكتب التي أحتاجها، قمتُ بإعادة النظر في كتابٍ كنتُ قد ألَّفتُه حول كتاب «مفاتيح الجنان» ووزَّعْتُه على عَدَدٍ محدودٍ من الأصدقاء والإخوة في الإيمان، فاشتغلتُ بتنقيحه وتحريره من جديد.
وقبل البدء بدراسة كتاب «مفاتيح الجنان» ونقده والتعريف بمؤلِّفِه، أرى من الضروري أن أُذكِّر إخواني أن الله تعالى حصر هداية البشر بهداية القرآن فجعل كتابه هاديَ المسلمين ومرشدهم فقال عزَّ مِنْ قائل: ﴿قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰ﴾[سورة البقرة: 120 و الأنعام:71] ، وقال أيضاً: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢﴾[البقرة: ٢] أي أن أهل الإنصاف والتحقيق إن كانوا يبحثون عن الحق والهداية فعليهم أن يبحثوا عنهما في القرآن. وقال تعالى كذلك: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧﴾[يونس : ٥٧].
لقد اعتبر الله تعالى مراراً كتابَه ﴿هُدٗى لِّلنَّاسِ﴾[البقرة: ١٨٥]، فيجب على جميع المسلمين فرداً فرداً أن يزنوا كلَّ ما يُعرض عليهم باسم الدين والشريعة -ومن جملة ذلك الأحاديث والأدعية والزيارات- بميزان القرآن الكريم فإن لم يكن ما يُعرض عليهم مُتوافقاً مع كتاب الله ولا مُنسجماً مع الهداية الإلهية، وجب عليهم رفضه وإلا كانوا ممن يُحارب كتاب الله ويُعاديه.
إن الإسلام دين الله، وقد ارتضى الله لعباده هذا الدين إلى يوم القيامة، وجعل لهذا الدين ميزاناً، كي لا يتمكَّن كلُّ شخص أن يُدخل في دين الله ما يشاء أو يُنقِص منه ما يشاء. اعتبر اللهُ كتابه الحكيم «ميزاناً» وقال: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِيزَانَۗ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٞ ١٧﴾[الشورى: ١٧] وقال كذلك: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ﴾[الحديد: ٢٥].
من هذا المنطلق فإن واجب المسلمين وتكليفهم هو أن يزنوا كل أمور دينهم بميزان القرآن ليحفظوا بذلك دينَهم الإلهي من النقص والزيادة أو التغيير والتحريف ودسِّ أمورٍ مُخالفةٍ للدين فيه. ولكن للأسف الشديد، لقد قصَّر المسلمون في هذا الأمر وتركوا العقل جانباً وقبلوا كل ما وصل إلى أيديهم باسم الدين وأُعجبوا به ولم يزنوه بهذا الميزان الإلهي.
وإننا لنتعجَّب كيف ترك المسلمون كتاب الله وانحرفوا عنه، وابتُلوا بأنواع الخرافات والأوهام؟!! رغم أنه تعالى جعل لهم القرآن «ميزاناً» كي يزنوا به الأمور الدينية فيميِّزوا بواسطته بين الحق والباطل ولا يسمحوا بتلويث دين الله وتشويهه، ورغم أن رسول الله ص وأئمَّة الدين الكرام أوصوا وصايا عديدة مُؤكَّدة بعدم التسرُّع في قبول كل خبر وحديث منقول عنهم، بل عرضه أولاً على كتاب الله، فإن وافق القرآن قُبِلَ وإلا وَجَبَ رَفْضُهُ.
لقد قال رسول الله ص: «فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ، ومَا خَالَفَ كِتَابَ اللهِ فَدَعُوهُ [2]». وَ رُوِيَ عن حضرات الصادِقَيْن (أي الإمامين الباقر والصادق)-عَلَيْهِمَا السَّلامُ- أنهما قالا: «لَا تُصَدِّقْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ [3]». وقد تكلَّمْنَا في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» بما فيه الكفاية على كون القرآن «ميزاناً» وعلى وصيِّة أئمة الدين بوجوب عرض الروايات على كتاب الله (فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ)[4].
من الطبيعي أن كلَّ من أراد أن يبتدع بدعةً في الدين أو يفتري أكاذيب ويلصقها بالإسلام، أن يقوم بنسبة بدعته وأكاذيبه إلى النبيّ ص وأئمة الدين أو إلى الرواة ذوي السمعة الحسنة كي تلقى القبول لدى الآخرين. وبناء عليه، فمُجَرَّد كون الراوي عادلاً وصادقاً لا يكفي لقبول روايته بل لا بُدَّ من تقييم كل رواية ووزنها بميزان القرآن الكريم، فَرُبَّ أحاديث باطلة رُوَاتُها رجالٌ بسطاءُ طيبو القلب وعدولٌ، استطاع واضع الحديث أن يخدعهم وينشر أكاذيبه بواسطتهم! لاسيما في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث لم تكن هناك حوزة علمية ولا جامعة يقوم علماؤها بالتدقيق والتفحُّص في كل ما يروج من أحاديث وأخبار دينية، فكان كل من شاء أن يضع الحديث يضعه وينشره بين العابدين والزاهدين من السُّذَّج والبسطاء الذين تنطلي عليهم أحاديثه ويُصدِّقون كلَّ خبر بسرعة، الأمر الذي أدَّى إلى ضلال المسلمين. ولكن لحسن الحظ فإن كثيراً من الخرافات والأمور المُخالفة لروح الدين، رُويت عن طريق غُلاة ومُنحرفين وأفراد مشهورين بالكذب والوضع، أُثبِتَتْ أسماؤهم وأحوالهم في كتب الرجال (مما يُسَهِّل كشف زيف أحاديثهم).
في زماننا هذا، قام شخصٌ ذو بضاعة من العِلْم مُزجاة، بكتابة ديباجة وتقريظ على كتاب «مفاتيح الجنان» مضمونه أن ميزان معرفة الرجال في أخبار أهل البيت يعتمد على اتّصافهم بصدق الحديث وأداء الأمانة، وأن أهم معيار لمعرفة صدق الأخبار من كذبها هو إحراز صدق لهجة الراوي وسماعه من الثقات!
ويجب أن نقول: كم من أشخاص صادقين وزاهدين وعابدين لا تتوافق عقائدهم ولا أفكارهم مع كتاب الله! نعم، لا شكَّ أن الصدق من صفات المُتقين، ولكن من الممكن أن يُخطئ الصادقُ أو يظنَّ الصدقَ في راوٍ كاذبٍ فيروي عنه. فكم من أمور باطلة رُويت عن هؤلاء الرواة الموثوقين وأدَّت إلى ابتلاء الناس بالانحراف بل حتى وقوعهم في حبائل الشِّرْك!
وبناءً على ذلك، فقد وقع المُحدِّثون ذوو البصيرة الضعيفة ومُقلِّدوهم، في خطأ كبير عندما صرفوا جُلَّ همَّتهم إلى التحقُّق من صحة السند ووثاقة الرواة ولم يلتفتوا أو يهتموا اهتماماً جِدِّيَّاً بمتون الأخبار ولم يتفكَّروا ويتعمَّقوا فيها. وَمِنْ ثَمَّ فإن ذلك المدح والثناء لكتاب «مفاتيح الجنان» الذي ذُكر في تلك الديباجة والتقديم ليس في محلِّه، ويجب على العلماء البصيرين بعقائد القرآن أن يُحقِّقوا في جميع ما ذُكر من أمور في كتاب «مفاتيح الجنان» ويُميِّزوا الحق من الباطل والصواب من الخطأ فيه. وللأسف لم يُقدِم أحدٌ حتى الآن على مثل هذا العمل المُهِمّ ولم ينتدب أيُّ مُحقِّق مُريد لخير الناس إلى إرشادهم في هذا المجال. ولذلك فإننا نُقدِّم اليوم -طلباً لرضا الله وخدمةً لعباده- هذا الكتاب المُختصر إلى إخوتنا في الدين مُحتسبين الأجر على ذلك عند الله. ونأمل أن يُهيِّئَ الله تعالى لهذا الكتاب الانتشار بين الناس على الرغم من مُخالفة المُسترزقين بالدين وتُجَّار الخرافات وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيز.
خادم الشريعة المُطهَّرة: سيد أبو الفضل بن الرضا البرقعي
[2] أصول الكافي، بَابُ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَشَوَاهِدِ الْكِتَابِ، ج1، ص 69، الحديث 1. وسائل الشيعة، ج 18، ص 78، الحديث 10. (الـمُتَرْجِمُ) [3] الحديث رواه مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سَدِيرٍ - ونقله الحر العاملي عنه في وسائل الشيعة، ج 18، ص 89، حديث 47. (الـمُتَرْجِمُ) [4] راجعوا مُقدِّمة الكتاب المذكور لاسيما ص 32 - 34 ، وص 265-267 من الترجمة العربية لكتاب عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول. تذكير مهم: أرجو من القراء المُحترمين قبل أن يقرؤوا الكتاب الحالي، أن يقرؤوا مُقدِّمة الإصدار المُنقّح الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ويقرؤوا الأمور التي ذكرناها في الصفحة 917 فما بعد منه، وذلك لأن قراءةَ تلك الأمورِ والمسائلِ مفيدةٌ جداً لاستيعابٍ أفضل وفهمٍ أعمق لمطالب الكتاب الحالي. وقد أحلنا القُرَّاء في كثير من مواضع الكتاب الحالي إلى الكتاب المُشار إليه (عرض أخبار الأصول) وإلى كتاب «زيارت و زياراتنامه» (أي زيارة المزارات وأدعية الزيارات) [للمرحوم قلمداران].
1قبل البدء بدراسة ونقد كتاب «مفاتيح الجنان»، يجب أن نعلم أن أحد علل شيوع الأحاديث الموضوعة وغير المعقولة والمُخالفة لروح الإسلام بين المسلمين وأحد أسباب انتشار الخرافات والأوهام في أوساطهم قاعدة غير منطقية ولا معقولة تُعرف باسم «التسامح في أدلَّة السنن»، ورغم أنني قد ذكرتُ كلاماً مُفصَّلاً حول هذه القاعدة في كتابي «عرض أخبار الأصول...»[5]، لكنني لدى إعادة قراءتي للكتاب الحالي رأيت من الضروري أن أذْكُرَ هنا كلاماً مُختصراً حول هذه المسألة:
2اعلم أن أحاديث «مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ .....»[6] المشهورة بأحاديث «مَنْ بَلَغَهُ » والتي تُعْتَبَر مُستندَ ودليلَ قاعدة «التسامح في أدلَّة السنن» التي أضرَّت كثيراً، قد رُويت في كتب حديث من أمثال «المحاسن» للبرقي و«الكافي» للكُلَيْنِيّ و«ثواب الأعمال» للشيخ الصدوق، وبعض رواتها هم «علي بن إبراهيم»[7] القائل بتحريف القرآن، و «محمد بن سنان» الكذَّاب[8]، و «عليّ بن الحَكَم» المُفرِّق بين المسلمين وعدو القرآن والراوي لحديث أن القرآن يحتوي سبعة عشر ألف آية[9]!! و «عمران الزعفراني» و «محمد بن مروان» مجهول الحال!
ونذكر هنا أحد هذه الروايات المذكورة كنموذج: "مَنْ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى (شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ) فَعَمِلَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ص لَمْ يَقُلْهُ "[10].
قال الشيخ البهائي:
"قد شاع العمل بالضعاف في السنن وإن اشتدَّ ضعفها ولم تُجبَر"[11].
وقال المَجْلِسِيّ أيضاً:
"اعلم أن أصحابنا رضوان الله عليهم كثيراً ما يستدلُّون بالأخبار الضعيفة والمجهولة على السنن والآداب، ويحكمون بها بالكراهة والاستحباب، وأُوْرِدَ عليه أن الاستحباب أيضاً حكم شرعي كالوجوب فلا وجه للفرق بينهما والاكتفاء فيه بأخبار الضعفاء والمجاهيل، وكذا الكراهة والحرمة لا فرق بينهما في ذلك، وأُجيبَ عنه بأن الحكم بالاستحباب فيما ضعف مستنده ليس في الحقيقة بذلك الخبر الضعيف، بل بالروايات الواردة في هذا الباب [أي باب «من بلغه من الله ثواب على عمل...»] وغيره."[12].
وقد صدق في كلامه، وكما صرَّح فإن مأخذ ومُستند كثير من المُستحبَّات والمكروهات التي نصَّ عليها العلماء وأفتوا بها ومن ثَمَّ اعتبروها جزءاً من دين الله وحثُّوا الناس على فعلها أو حذَّروهم منها هو أحاديث ضعيفة رواتُها غير مُوثَّقين أو فسقة فاسدو العقيدة وكذَّابون ووضَّاعون وَحمْقَى أو مجاهيل، وكم من أمثال هذه الأحاديث والأخبار غير المعقولة والخرافية والمُتعارضة مع العلم يُروَّج بين الناس بواسطة العلماء أو المُتظاهرين بالعلم!
ولا يخفى أننا لو بحثنا في آثار علمائنا بعيداً عن التعصب والتحيّز الأعمى لتبيَّن لنا أن أقوالهم في بعض الواجبات والمُحرَّمات أيضاً تستند إلى أحاديث ضعيفة، رغم أن العلماء مُتَّفِقُون ومُجْمِعُون على أن الحكم بالوجوب أو الحُرمة لا يجوز الاستناد فيه إلا إلى دلائل تُفيد العلم، بل هم مُتفقون أيضاً على أن أخبار الآحاد غير المحفوفة بالقرائن القطعية لا تُفيد العلم ولا تُوجب العمل بأيّ حال من الأحوال، فما بالك بالأخبار الضعيفة!!
وبالطبع ادَّعى حارس البدع ومُروّج الخرافات «محمد باقر المَجْلِسِيّ»، ربَّما بهدف تقوية الحديث المذكور، أن هذه الأحاديث قد نقلها الفريقان، ولكن كلامه هذا غير صحيح، ولم يذكر هو نفسه اسم أيّ كتاب من كتب أهل السنة روى مثل هذا الحديث. ولذلك قال الشيخ البهائي في كتابه «الوجيزة»: "وهي مما تفرَّدنا بروايته"[13]. (فَتَأَمَّل)
ولقد ذكر المَجْلِسِيّ -الذي لديه ميل شديد للخرافات- وذكر غيره أيضاً، شبه دليل واضح البُطلان للدفاع عن أحاديث «مَنْ بَلَغَهُ» وقاعدة «التسامح في أدلَّة السنن». وسأذكر بعض الأمور في هذه المسألة على نحو الإجمال، كي يقف إخوتي في الإيمان على ضعف كلام المَجْلِسِيّ وموافقيه:
أولاً: قال رسول الله ص والأئمة إنه لا بُدَّ أن يكون كل حديث مُؤَيَّداً مِنْ قِبَلِ كتاب الله في حين أن أحاديث «مَنْ بَلَغَهُ » لا مُؤيِّدَ لها لا في القرآن ولا في السنة القطعية، وحتى لو فرضنا أن أحد طرق الأحاديث المذكورة صحيحة، فإننا نقول إن سند الحديث يُؤخذ بعين الاعتبار ويُقبل عندما لا يكون المتن مُتعارضاً مع القرآن، مع أن القرآن الكريم لا يُؤيد الاعتماد على الأخبار الضعيفة والأقوال التي لا تُفيد العلم بل أكثر ما تُفيده هو إيجاد «الظنِّ»، وقد انتقد كتاب الله في كثير من المواضع الاعتماد على «الظنّ». ومن جملة ذلك: سورة البقرة (الآية 78) ويونس (الآية 36) والجاثية (الآية 24) والنجم (الآية 23). لقد قال القرآن مراراً: ﴿وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡٔٗا﴾[النجم : ٢٨]وقال أيضاً: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ﴾[الاسراء: ٣٦] وقال: ﴿نَبُِّٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾[الانعام: ١٤٣]، وقال كذلك: ﴿قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمٖ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَآۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ﴾[الانعام: ١٤٨]، وقال أيضاً: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦﴾[النحل: ١١٦]، وقال أيضاً: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾[يونس : ٦٨].
ثانياً: إن أحاديث «مَنْ بَلَغَهُ. ..» تتعارض مع آية «النبأ» التي قال تعالى فيها: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ٦﴾[الحجرات: ٦]. فهذه الآية تدل على أن قول الفاسق لا يجوز قبوله قبل التحقُّق من صدق الخبر وحصول العلم بصحَّته، فكيف نقبل بالأحاديث المنقولة عن الضعفاء وعن الأفراد الكذَّابين والفَسَقَة وفاسدي العقيدة والتي لا نملك أيَّ دليل على صحَّتها.
يقولون نحن لا نستند في حكم الاستحباب أو الكراهة إلى روايات الضعفاء أو إلى أقوال رواة غير موثوقين وفُسَّاق بل نعمل بهذه الروايات استناداً إلى أخبار «مَنْ بَلَغَهُ ....» التي أحد طرقها على الأقل صحيح.
ولكن الحقيقة أنهم يعلمون أنفسهم أن جميعَ طرق روايات «مَنْ بَلَغَهُ » معلولةٌ ولا يصحُّ أيٌّ منها، وأن واحداً من طرقه فقط اعتُبِرَ حسناً. بناءً على ذلك فإن أحاديث «مَنْ بَلَغَهُ » التي ليس لها مُؤيِّدٌ من الكتاب ولا من السنة لا تتمتع من ناحية سندها أيضاً بوضع قويّ، وَمِنْ ثَمَّ فلا يُمكن الاستناد إليها، وعليه فقبول أخبار «مَنْ بَلَغَهُ » في حُكم قبول خبر الفاسق قبل التبيُّن! (فَتَأَمَّل)
ثالثاً: إن الاستحباب أو الكراهة من الأحكام الخمسة وهما من الأحكام الشرعية وجزء من الشريعة، تماماً كحُكمي الوجوب والحُرمة، ولا فرق بينها. فبأيِّ دليل لا تعتمدون في الوجوب والحُرمة على الأحاديث غير الصحيحة ولكنكم تعتمدون في أمر الاستحباب والكراهة على الأحاديث غير الصحيحة؟!
لقد أقرَّ الشيخ «يوسف البحراني» صاحب «الحدائق الناضرة» - وهو من العلماء الأخباريين - في «كتاب الحج» أن الاستحباب والكراهة كالوجوب والحُرمة كلها من أحكام الشريعة التي لا تثبت إلا بدليل واضح وصريح، ولكنه قال: إن بعض الفقهاء، مثل «محمد الموسوي العاملي» صاحب «مدارك الأحكام» حمل الأحاديث الضعيفة على الاستحباب أو على الكراهة لأنه لم يكن يرغب -من باب الاحتياط- بردِّ جميع الأخبار الضعيفة وتركها. واعترف[14] الشيخ «البحراني» أن هذا الموقف منه غلطٌ محضٌ[15].
ونقول للذين يُرتِّبون الأثر على الأحاديث الضعيفة: إن النقطة المُهمّة في هذا الموضوع التي لا يجوز إغفالها هي أنه إذا كان الفقيه يمتنع عن ردِّ جميع الأحاديث الضعيفة بدعوى الاحتياط في استنباط الأحكام وخشيةَ أن يكون بعضها من أحكام الشرع، فإن الاحتياط الواجب في استنباط الأحكام يقتضي من الفقيه أن لا يُدخل حُكماً ليس من أحكام الشرع في الشريعة باعتماده على الأحاديث الضعيفة! (فَتَأَمَّل) وبعبارة أخرى فإن العمل بقاعدة «التسامح في أدلّة السنن» لا يُعدُّ احتياطاً بل مخالفة للاحتياط؛ لأن الاحتياط هو العمل بمفاد آية «عدم حُجّيّة الظن» [سورة النجم: 28] وبآية «النهي عن اتِّباع ما ليس للإنسان به علم» [سورة الإسراء: 36] وبآية «النبأ» [سورة الحجرات: 6].
رابعاً: قال رسول الله ص -برواية الشيعة والسنة-: «فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[16]. وحديث «مَنْ بَلَغَهُ » يُؤدِّي إلى العمل بأحاديث أفراد كذَّابين وفسقة أو مجهولين لا تُعرف هويَّتهم [وَمِنْ ثَمَّ الوقوع في مظنَّة الكذب على رسول الله ص] ومن المقطوع به أن الشرع الحنيف لا يرضى بهذا الأمر.
فنتيجة كل ما سبق أن العمل بقاعدة «التسامح في أدلّة السنن» سيُؤدي يقيناً إلى ترويج أنواع الخرافات ونشر الأوهام وإشاعة العقائد الحمقاء المُضادة للعقل والعلم والتي تُوجب وَهَنَ الإسلام العزيز وَضَعْف المسلمين وتأخّرهم وتبثُّ الفُرقة والاختلاف بينهم، وهذه الأعراض السيئة أفضل دليل على بُطلان القاعدة المذكورة، فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ.
إحدى مشاكل المسلمين الكُبرى مسألة الخرافات والأوهام، وللأسف نادراً ما نُشاهد علماء الدين والمُعمَّمين ينهضون إلى مُحاربة البدع والخرافات التي أُشرِبَت قلوبُ العوام بِـحُبِّها، أو يسعون في توعية الناس، بل على العكس من ذلك نُشاهد أنهم إذا رأوا شخصاً قد نهض لتوعية الناس طعنوا به وحاربوه وشوَّهوا سُمعته في أعين الناس. لقد نشأ الناس طيلة القرون والعصور الماضية على فهم سطحيٍّ لأمور الدين، وجهلٍ بحقائق الشرع المبين، وبمسألة التوحيد، وبُعْدٍ عن تعاليم القرآن الكريم. كما أدَّى كتمان العلماء لحقائق الدين وسكوتهم وصمتهم أمام الخرافاتن إلى شيوعها ورسوخها في قلوب الناس. كلنا نعلم "أيَّ ضربة قاصمة حلَّت بالدين بسبب الاعتماد على الكلام الذي لا سند له والأخذ بالأحاديث والأخبار الموضوعة والواهية، وأيَّ ضرر ألحقه هذا الأمر بأركان الإسلام، وأيَّ مُستمسك ضدّ الدين قدَّمه لأعداء دين الإسلام"[17].
إن الخطر الأكبر للخرافات هو أنه يجعل أولي الألباب وأصحاب الفكر النيّر والطبقة المُثقَّفة سيئي الظن بالإسلام لأنهم يضعون تلك الأباطيل على حساب دين الله ولا يدرون أن الإسلام ذاته أكبر عدوٍّ للخرافات والأوهام، وأن أحد الأهداف الأساسية للدين إنقاذ عباد الله من غلّ الرسوم وقيود الطقوس الخرافية وتحريرهم من براثن الجهل والأوهام. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡ﴾[الاعراف:١٥٧].
3ومن جملة الأمور الخرافية ذات الأضرار الاجتماعية البالغة عقيدة الناس بأحفاد وذراري الأئمة الذين انتشرت قبورهم كانتشار النار في الهشيم في سائر أنحاء البلاد، ولوَّثت عقيدة الناس وأضاعت أموالهم وأوقاتهم في زيارة المزارات التي يُنفق على بنائها وتعميرها وصيانتها وترميمها مبالغ باهظة، حتى أصبحت تلك المزارات باب رزق لعدد من الطفيليين العاطلين عن العمل، وللأسف لا يُسمع في مواجهة ذلك أيُّ صوت من العلماء.
كتب «عبد الله المُستوفي» يقول:
"في بعض القُرى تُوجد قبور لأحفاد وذراري الأئمة بعضها يستند إلى رؤيا رآها بعض العُبَّاد بأنه في الموضع الفُلاني دُفن أحد أولاد الأئمة أو يستند إلى العثور على بعض الأشياء التي تدل على دفن إنسان في ذلك الموضع، وكل ذلك ليس له أصل ولا أساس معقول. وفي هذا المجال يظهر بعض الدجالين الذين يخطر لهم أن يستفيدوا من تولي قبر أحد أحفاد الأئمة فيفترون مثل تلك المنامات، التي لا حُجّة في الصحيح منها فما بالك بالمكذوب؟! فيخدعون بمثل تلك الأكاذيب البُسطاء من أهالي الأرياف ويصنعون لهم قبوراً لذراري الأئمة مكذوبة من أساسها ويبنون عليها قُبَّة وضريحاً ليقوم أهالي المنطقة البُسطاء بالإنفاق عليها وتقديم النذور للإمام زاده (أي حفيد الإمام) المُخترع، فيستفيد أولئك الدجالون من هذه الأموال ويعيشون عليها! وقد اتَّفق أن حدث نزاع بين شخصين على أحد القبور المُزوَّرة لحفيدِ إمامٍ مُخترع، فأقسم أحد الشخصين بهذا الإمام زاده لإثبات أحقيَّته بتولي قبره، فقال رفيقه وقد تملَّكه الغضب الشديد: أيُّ إمام زاده هذا الذي تقسم به، هل هذا الذي اخترعناه سويَّةً؟!"[18].
ومن جملة الخرافات التي شاعت بين عوام المسلمين بل حتى بين بعض المُتظاهرين بالعلم نتيجةَ صَمْتِ العلماء تجاهها: الاعتقاد بالكرامات وبظهور المُعجزات من قبور الأئمة أو قبور الصالحين من أولادهم وأحفادهم أو قبور سائر العلماء والصالحين. هذا في حين أن مثل هذا الاعتقاد مُخالف لأصل «التوحيد» وللعقائد الإسلامية والقرآنية الأصيلة. كان أهالي تركستان في عصر القاجاريين يعتقدون أن أصحاب القبور والمزارات من أولياء الله في تلك المناطق هم المُدافعون الوحيدون عن الوطن وذلك استناداً إلى أن أولئك الأولياء كانوا أصحاب كرامات وأعمال خارقة للعادة زمن حياتهم وَمِنْ ثَمَّ كان أهالي تلك المناطق يُوقنون أنه ببركة قبور أولئك الأولياء ورجال الله لن يستطيع الكفار أن يقتربوا من حدود بلدانهم. ولكن رؤساء الكفر جاؤوا دون أن يمنعهم أحد واقتربوا من تلك البلدان ولم يقم أولياء الله بأيّ معجزة لصدهم!
"كان سكان إحدى المدن التي تُدعى «حضرة تركستان» من توابع مدينة «خوقند» يعتقدون أن هذه المدينة مصونة من أيِّ اعتداء للكفار عليها بواسطة المزار الشريف لما يُسمَّى بـ «السلطان خواجه أحمد»، ولكن لم يطل الزمن حتى وجد أهل تلك البقعة أنفسهم تحت وابل من رصاص بنادق الجنود الروس وقنابل مدافعهم فاستسلمت المدينة لهم!"[19].
وجاء في كتاب «أمير كبير وإيران» نقلاً عن كتاب «تاريخ تبريز وجغرافيتها»: "وما يتعلّق بموضوعنا هنا هو أن علماء تبريز المُعتبرين كانوا يُدافعون عن أمير [كبير] إلى أن صنعت بقعة «صاحب الأمر» مُعجزةً في ميدان «صاحب الزمان» (سنة 1265)! كان أحد القصَّابين يجرُّ بقرةً لأجل ذبحها فتفلَّتت البقرة من يديه وقطعت الرسن، ولجأت إلى تلك البُقعة فلما أراد القصَّاب أن يسحبها من هناك وقع ومات على الفور[20]. وهربت البقرة على الفور إلى منزل الميرزا حسن المتولي. لعل الحيوان غير الناطق قد أُلهم فعل ذلك!! فقال الناس: لقد صنع صاحب الأمر (ع) مُعجزةً.... وأضاءت مصابيح جميع الدكاكين وارتفعت أصوات الصلوات وهنَّأ الجميع بعضهم بعضاً بأن مدينة «تبريز» أصبحت مدينة صاحب الأمر وأصبحت معفيّةً من ضرائب الحكّام وحكمهم!! بعد ذلك، صار الحُكْم تابعاً لصاحب المقام العظيم..... وأضاء المسجد والمقام كله بالمصابيح وانتشر الصياح من فوق الأسطح وضرب الناس الطبول!
كتب «نادر ميرزا» الذي شاهد ذلك المشهد يقول: لقد ذهب «مير فتاح» بتلك البقرة ورمى عليها بردعة مصنوعةً من قماش كشميري وذهب الجند كلهم فأخذوا يُقبِّلون ظلف البقرة، ويأخذون روثَهَا ليتبرَّكوا به!! وأرسل كبار القوم إلى ذلك المكان مصابيح وستائر نَذَرُوها لذلك المكان، إلى حدّ أن سفير إنجلترا أرسل ثُرَيَّا من البلّور فعلَّقوها هناك, وتمّ استخدام السدنة والمُستخدمين (الفرَّاشين) وبدأ أهالي النواحي يأتون فوجاً فوجاً لزيارة تلك البقرة! وكل يوم كان يُسمع حصول معجزة بأن الأعمى الفلاني أبصر والأبكم الفلاني نطق والأعرج الفلاني مشى! وقام بعض كبار القوم بتقوية هذا العمل. ومضت مدة شهر كاملة لم يجرؤ أحد على الكلام في هذا الأمر. ومن قضاء الله ماتت البقرة. لكن الناس لم يكفُّوا عن تقديسها. وأنَّى لحاكم تلك المنطقة أن يتجرأ على أن ينبس ببنت شَفَة حول هذا الأمر؟... إلخ"[21].
وكتب مُعيّر الممالك يقول: "ارتكب أحد الخُدّام الداخليين [لِقَصْرِ المَلِكِ] خطيئةً ولما علم أن سيدته ستغضب عليه وتُعاقبه هرب ليلاً ولجأ إلى ضريح حضرة عبد العظيم [في رَيّ]. فلما وصل الخبر إلى مسامع الشاه رقَّ قلبه لحاله..... فقرّر أن يجعل لأمثاله من الخدم ملجأً ومأمناً أقرب من مرقد حضرة عبد العظيم كي يلجؤوا إليه عند الضرورة، فأمر أحد سدنة الحرم المُسنِّين أن يُعلن بين الناس أنه رأى مناماً قيل له فيه إن أحد أحفاد الأئمة (إمام زاده) يُدعى «عباسعلي» مدفونٌ إلى جانب شجرةِ دُلْبٍ[22] قديمةٍ ذات أغصان مُتشعِّبة تقع في جوار قناة «مهر كرد»! لما سمع الناس هذا النداء فرح أهل الحرم وطلبوا من الشاه أن يضرب سياجاً حول تلك الشجرة! فأمر الشاه بنصب سياج وصبغه بدهان أخضر! ومنذ ذلك الحين عُرفت الشجرة باسم شجرة عباسعلي. وعلَّقوا على جذع الشجرة دعاءَ زيارةٍ خاصة بها، ووضعوا حولها شمعدانات فضية وكانوا يُشعلون الشموع حولها كل ليلة! شيئاً فشيئاً ازدادت أهمية تلك الشجرة وترسخ تقديسها في قلوب الناس وأخذ أهالي المنطقة ينذرون نذوراتهم لها من قبيل الحلوى وغير ذلك ويطبخونها عندها، ويربطون على جذع الشجرة ولحائها ما يُسمَّى بالدخيل (عُقَد وَخُيُوط). وبهذا نشأ لمُتسوّلي الحرم مركزٌ يُشكل نقطة جذب للأنظار ومأمناً قريباً يحميهم"[23].
وفي زماننا أيضاً بعد وفاة آية الله السيد كاظم شريعتمداري، نشر أنصاره وأتباعه منشوراً ووضعوا له فيه دعاء زيارة خاصة به! وكذلك بعد أن تُوفي خصمه الذي كانت زمام أمور البلاد بيده بنوا لقبره من بيت مال هذا الشعب الفقير حرماً وقُبَّة ومئذنتين وصنعوا له دعاء زيارة خاصة به وأُضيف دكان آخر إلى دكاكين الاسترزاق السابقة!
[5] راجعوا الكتاب المذكور، ص 53 فما بعد (أو الصفحات 79 فما بعد، من ترجمته العربية). [6] تمام الحديث: "مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَه رَجَاءَ ذَلِكَ الثَّوَابِ، أُوتِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَه !". وسيذكر المؤلف لاحقاً نماذج لألفاظ روايات هذا الحديث. (الـمُتَرْجِمُ) [7] لمعرفة حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول...»، الصفحات 79 و 97، 112 فما بعد 162. [8] لمعرفة حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول...»، الصفحات 304 حتى 308. [9] لمعرفة حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول...»، ص 278-279 و360 و373 و411 و414 و633 و826 و835. ولم يروِ هذا الرجل حديث القرآن سبعة عشر ألف آية فقط، بل روى أحاديث أخرى دالة على تحريف القرآن أيضاً!! راجعوا «بحار الأنوار»، ج 89، ص 48، الحديث 7، و ص 50 الحديث 14، و ص 59 الحديث 41. [10] بحار الأنوار، ج 2، (كتاب العلوم، باب 30) ص 256، الحديث 1، نقلاً عن «ثواب الأعمال» للشيخ الصدوق. [11] كتاب الدراية، من مؤلفات شيخنا البهائي، المعروف بالوجيزة، الطبعة الحجرية، الفصل الثاني، الصفحة الرابعة. [12] المَجْلِسِيّ، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج8، ص 112. (الـمُتَرْجِمُ) [13] كتاب الدراية، من مؤلفات شيخنا البهائي، المعروف بالوجيزة، الطبعة الحجرية، الفصل الثاني، الصفحة الرابعة. [14] ونصّ عبارة الشيخ يوسف البحراني هي: " لكنه [أي صاحب المدارك] وأمثاله جَرَوْا على هذه القاعدة الغير المربوطة والكلية الغير المضبوطة، من حَمْل الأخبار الضعيفة متى رموها بالضعف على الاستحباب أو الكراهة تفادياً من طرحها بالكلية. وهو غلط محض، فإنَّ الاستحباب والكراهة أيضاً حكمان شرعيان كالوجوب والتحريم لا يجوز القول بهما إلا بالدليل الصحيح الصريح". «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة»، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1405 هـ. ق.، [25 مجلداً]، ج16، ص89. (الـمُتَرْجِمُ) [15] وللأسف لقد ارتكب هذا الخطأ المحض هو وسائر الفقهاء مراراً وتكراراً في كتبهم الفقهية! وليس في متناول يدي هذه الأيام كتاب «الحدائق الناضرة» كي أذكر لكم المُجلد ورقم الصفحة حول هذا الموضوع. وقد نقلتُ الأمر الذي ذكرتُه أعلاه من مُفكِّرتي الخاصة بتدوين المُلاحظات. [16] نهج البلاغة، الخطبة 210، وبحار الأنوار، ج 2، ص 117، وصحيح مسلم، ج 1، ص 10، وسنن ابن ماجه، ج 1، ص 14. [17] مفاتيح الجنان، الديباجة، ص 2. [18] «شرح زندگانى من يا تاريخ اجتماعى و ادارى دورهى قاجاريه» [أي: شرح حياتي، أو التاريخ الاجتماعي والإداري لعصر الأسرة القاجارية]. تأليف عبد الله المستوفي، ج 3، ص 574. [19] تاريخ روابط سياسى ايران وانگليس در قرن نوزدهم ميلادي، [أي تاريخ العلاقات السياسية بين إيران وإنجلترا في القرن التاسع عشر الميلادي]، تأليف محمود محمود، انتشارات إقبال، ج 3، ص 846. [20] يقول الكاتب: في الاحتمال الغالب أن يكون القصَّاب قد أُصيب بجلطة قاتلة تُوفي منها على الفور، إذ يُكثر القصابون من أكل الشحوم والدسم. [21] أمير كبير وإيران، فريدون آدميت، ص 428 - 429. [22] شجرة الدُّلْب شجرة طويلة الجذوع ذات أوراق تشبه الكف، لا تثمر وإنما تُزرَع لخشبها وظلِّها. (الـمُتَرْجِمُ) [23] يادداشتهايى از زندگانى خصوصى نادر الدين شاه، [أي مذكرات عن حياة الملك ناصر الدين شاه الخاصة]، دوستعلي مُعيّر الممالك، كتاب فروشي علمي، فصل «أسطورة شجرة عباسعلي».
لنأتِ الآن إلى كتاب «مفاتيح الجنان» والتعريف بمؤلِّفه:
اعلَم أن المرحوم الحاجّ الشيخ عبّاس القُمِّيّ كان عالماً مُتَتَبِّعاً شديد الزُّهْدِ، ومُتَعَبِّداً وَرِعاً، ولكنه كان ساذجاً طيب القلب سريع التصديق، وفي نظري لم يكن ذا علم وافٍ بكتاب الله، كما لم يكن يمتلك ملكة الاجتهاد، وكان متقاعساً عن استخدام نعمة العقل، خلافاً لأوامر القرآن الذي دعانا مراراً وبتأكيد بالغ إلى التفكُّر والتعقُّل!
قال الشيخ في مقدمة كتابه: "... قد سألني بعض الاخوان من المؤمنين أن أراجع كتاب «مِفْتَاح الجنان» المتداول بين النّاس، فأؤلّف كتاباً على غراره، خلواً ممّا احتواه ممّا لم أعثر على سنده، مُقتَطِفاً منه ما كان له سند يدعمه،..... فأجبتهم الى سُؤلهم فكان هذا الكتاب وسمّيتُهُ «مَفَاتِيْحُ الجنان»"[24].
وكتب أيضاً بعد ذكر «زيارة وارث» يقول:
"قال شيخنا[25] في كتابه الفارسي «لؤلؤ ومرجان»: إنّ هذه الكلمات الّتي ذُيِّلَتْ بها هذه الرّوايةُ إنّما هي بدعةٌ في الدّين وتجاسرٌ على الإمام (عليه السلام) بالزّيادة فيما صدر منه، وفوق ذلك فهي تحتوي على أباطيل وأكاذيب بيّنة الكذب، والغريب المدهش أنّها شاعت بين النّاس وذاعت حتّى يُهتَف بها في كلّ يوم وليلة عدّة آلاف مرّة في مرقد الحُسين (عليه السلام) وبمحضر من الملائكة المقرّبين وفي مطاف الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، ولا منكر ينكرها أو رادع يردع عن الكذب والعصيان، فآل الأمر إلى أن تُدوَّن هذه الأباطيل وتُطبَع في مجاميع من الأدعية والزّيارات يجمعها الحمقاء من عوام النّاس فتزعمها كتاباً فتجعل لها اسماً من الأسماء ثمّ تتلقَّفُهَا المجاميع فتسري من مجموعة أحمق إلى مجموعة أحمق آخر، وتتفاقم المشكلة فيلتبس الأمر على بعض طلبة العلم والدّين. وإنّي صادفت طالباً من طلبة العلم والدّين وهو يزُور الشّهداء بتلك الأباطيل القبيحة فمسست كتفه فالتفت إلَيَّ فخاطبتُه قائلاً : ألا يشنع من الطّالب أن ينطق بمثل هذه الأباطيل في مثل هذا المحضر المقدّس؟ قال: أليست هي مرويّة عن الإمام (عليه السلام)؟ فتعجّبت لسؤاله وأجبته بالنّفي. قال: فإنّي قد وجدتها مدوّنة في بعض الكتب، فسألته عن الكتاب فأجاب كتاب مِفْتاح الجنان ، فسكتُّ عنه فإنّه لا يليق أن يكلِّمَ المرءُ رجلاً أدَّى به الغفلة والجهل إلى أن يَعُدَّ المجموعةَ الّتي جمعها بعض العوامّ من النّاس كتاباً من الكتب ويستندَ إليه مَصدراً لما يقول، ثمّ بسط الشّيخُ (رحمه الله) كلامه في هذا المقام وقال: إنّ عدم ردع العوام عن نظائر هذه الأمور الغير الهامّة والبدع الصّغيرة كغسل أويس القرني وحساء أبي الدّرداء (وهو التّابع المخلص لمعاوية)، وصوم الصّمت بأن يتمالك المرء عن التكلّم بشيء في اليوم كلّه، وغير ذلك من البدع، الّتي لم يردع عنها رادع ولم ينكرها منكر، قد أورثت الجرأة والتّطاول، ففي كلّ شهر من الشّهور وفي كلّ سنة من السّنين يظهر للنّاس نبيٌّ أو إمام جديد فترى النّاس يخرُجُون من دين الله أفواجاً". (انتهى كلامه رُفِعَ مقامه).
وأقول: أنا الفقير ألاحظ هذا القول وأنعم النّظر فيه أنّه القول الصّادر عن عالم جليل واقف على ذوق الشّريعة المقدّسة واتّجاهاتها في سننها وأحكامها. وهو يبدي بوضوح مَبْلَغَ اهتمام هذا العالم الجليل بالأمر ويكشف عمّا يكظمه في الفؤاد من الكآبة والهمّ ، فهو يعرف مساوئه وتبعاته على النّقيض من المحرومين عن علوم أهل البيت (عليهم السلام) المقتصرين على العلم بضغث من المصطلحات والألفاظ ، فهُم لا يعبؤون بذلك ولا يبالون، بل تراهم بالعكس يصحّحونه ويصوِّبونه ويجرون عليه في الأعمال، فيستفحل الخطب ويعاف كتابَ «مصباح المتهجّد» [للشيخ الطوسي]، و«الإقبال» [إقبال الأعمال] و«مهج الدعوات» و«جمال الأسبوع» و«مصباح الزّائر» [للسيِّد ابن طاووس] و«البلد الأمين» و«الجُنَّةُ الواقية» [للكفعمي]، و«مفتاح الفلاح» [للشخ البهائي]، و«المقباس» [مقباس المصابيح] و«ربيع الأسابيع» و«التّحفة» [تحفة الزائر] و«زاد المعاد» [للمجلسي]، ونظائرها[26]، فيستخلفها هذه المجاميع السّخيفة فيدسّ فيها في «دعاء المجير» وهو دعاء من الأدعية المأثورة المُعتبرة كلمةَ «بعفوك» في سبعين موضعاً فلم ينكرها منكر، و«دعاء الجوشن الكبير» الحاوي على مائة فصل، يبدع لكل فصل من فصوله أثراً من الآثار، ومع ما بلغتنا من الدّعوات المأثورة ذات المضامين السّامية والكلمات الفصيحة البليغة يُصاغ دعاء سخيف غاية السّخف فيسمّى بدعاء الحُبّى فينزّل من شرفات العرش فيفتري له من الفضل ما يدهش المرء ويبهته؛ من ذلك -والعياذ بالله- أنّ جبرئيل بلَّغ النّبيَّ محمّداً ص أنّ الله تعالى يقول: إنّي لا أعذّب عبداً يجعل معه هذا الدّعاء وإن استوجبَ النّار وأنفقَ العمر كلّه في المعاصي ولم يسجدْ لي فيه سجدةً واحدةً، إنّني أمنحه أجر سبعين ألف نبيٍّ وأجر سبعين ألف زاهدٍ وأجر سبعين ألف شهيدٍ وأجر سبعين ألف من المُصلّين وأجر من كسى سبعين ألف عريان وأجر من أشبع سبعين ألف جائع، ووهبته من الحسنات عدد حصا الصّحارى وأعطيته أجر سبعين ألف بقعة من الأرض وأجر خاتم النّبوّة لنبيّنا ص وأجر عيسى روح الله وإبراهيم خليل الله وأجر إسماعيل ذبيح الله وموسى كليم الله ويعقوب نبيّ الله وآدم صفيّ الله وجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والملائكة، يا محمّد من دعا بهذا الدّعاء العظيم دعاء الحُبّى أو جعله معه غفرت له واستحييت أن أعذّبه !!!... الخ.
...
و وصل الأمر إلى أن أصبح الأمر منحصراً بكتاب «المفتاح» ويرجع إليه العوام والخواص والعرب والعجم وما ذلك إلا لأن أهل العلم والدّين لا يبالون بالأحاديث والرّوايات، ولا يراجعُون كتب علماء أهل البيت الطّاهرين وفقهائهم ولا ينكرون على أشباه هذه البدع والزّوايد وعلى دسّ الدّساسين والوضاعين وتحريف الجاهلين ولا يصدّون من لا يرونه أهلاً ولا يردعون الحُمَقاء فيبلغ الأمر حيث تُلَفَّق الأدعية بما تقتضيه الأذواق أو يُصاغ زيارات ومفجعات وصلوات ويطبع مجاميع عديدة من الأدعية المدسوسة وينتج أفراخ لكتاب «المفتاح»، وتعمّ المشكلة فيروج الدّس والتّحريف ونراهما يسريان من كتب الأدعية الى سائر الكتب والمؤلّفات فتجد مثلاً كتابي الفارسي المسمّى «منتهى الآمال» المطبوع حديثاً قد عبث فيه الكاتب بما يلائم ذوقه وفكره،...
والغاية الّتي توخيتها بعرض هذه النّماذج من التّحريف هي بيان أمرين:
أوّلاً:... الزّيادات الّتي يبعثنا الجهل على إضافتها إلى الأدعية والزّيارات والتغييرات والتّصرفات الّتي تقتضيها طباعنا وأذواقنا النّاقصة زعماً أنها تزيد الأدعية والزّيارات كمالاً وبهاءً، وهي تنتزع منها الكمال والبهاء وتسلبها الاعتبار عند أهلها العارفين، فالجدير أن نُـحافِظَ على نصوصها المأثورة فنجري عليها لا نزيد فيها شيئاً ولا نحرف منها حرفاً.
ولنلاحظ ثانياً: الكتاب اّذي تكلمنا عنه أنّه كتابٌ لمؤلّفٍ حيٍّ يراقب كتابه ويترصّد له، [ورغم ذلك] فيَجري فيه من التّحريف والتّشويه نظائر ما ذكرتُ، فكيف القياس في سائر الكتب والمؤلّفات؟ وكيف يجوز الاعتماد على الكتب المطبوعة إلا إذا كانت من المؤلّفات المشهورة للعلماء المعروفين وعرضت على علماء الفنّ فصدّقوها وأمضوها،....
وإنّي قد أقدمت على تأليف هذا الكتاب وأنا واقف على طباع النّاس في هذا العصر وعدم اهتمامهم لنظائر هذه الأمور، وإنّما ألّفته إتماماً للحجّة عليهم فجدَّدت واجتهدت في أخذ الأدعية والزّيارات الواردة في هذا الكتاب عن مصادرها الأصيلة وعرضتُها على نسخ عديدة، كما بذلت أقصى الجهد في تصحيحها واستخلاصها من الأخطاء كي يثق به العامل ويسكن إليه إن شاء الله، ولكن الشّرط هو أن لا يحرّفه الكاتب والمستنسخ وأن يتخلّى القارئُ عمّا يقتضيه طبعه وذوقه من التّغيير.
روى الكُلَيْنِيُّ -رضي الله عنه- عن «عبد الرّحمن القصير» قال: دخلت على الصّادق صلوات الله وسلامه عليه، فقلتُ: جُعِلْتُ فداك! إنّي اخترعتُ دعاءً، قال: دعني من اختراعك، فأعرض (عليه السلام) عن اختراعه ولم يسمح أن يعرض عليه......... الخ."[27].
[24] مفاتيح الجَنان، مقدمة المؤلف، ص 12 (ص 43 من النسخة المُعَرَّبة) كما أنه أشار في ختام فصل «أدعية شهر رمضان» (ص 245 أو ص 328 في النسخة المُعَرَّبة) أيضاً إلى أنه لا يُثبِتُ في كتابه أي روايةٍ يجد أنها غير معتبرةٍ. وَمِنْ ثَمَّ فيبدو أنَّه كان يعتبر كلَّ ما ذكره في كتابه مقبولاً ومعتبراً، لكن قراءتكم لكتابنا الحالي ستثبت لكم أنه على الرغم مما قيل في حق كتابه «المفاتيح» من مدح وثناء، إلا أن مؤلفه في الواقع لم يكن يميِّز بين صحيح الروايات وسقيمها! وسوف نرى في هذا الكتاب أن أغلب الرويات المسندة التي ذكرها فيه ساقطة من الاعتبار، فضلاً عن الروايات التي لا سند لها. [25] يقصد به «الحاج ميرزا حسين نوري [الطبرسي]» صاحب كتاب مستدرك الوسائل ووكتاب «لؤلؤ و مَرْجَان» بالفارسية وغيرهما من الكتب. توفي سنة 1319هـ. ق. [26] سنرى في كتابنا الحالي أن الشيخ عباس القمي نقل كثيراً مما أورده في كتابه عن الكتب المذكورة أعلاه، هذا مع أن أغلبها لا يختلف كثيراً عن الكتاب الذي ينتقده! فهي كذلك كتب مشحونة بالخرافات المناقضة للعقل وللقرآن، وبالطبع لولا ذلك لما جذبت نحوها فرداً خرافياً قليل العقل مثل الشيخ عباس القمي! [27] مفاتيح الجنان، فصل (بيان ما أضيف إلى زيارة وارث) ص 432 فما بعد (ص 552 من النسخة المُعَرَّبة). وقد أورد الشيخ عباس القمي مرَّةً ثانيةً روايةَ «عبد الرحيم القصير» هذه في فصل (آداب الزيارة) صفحة 314، (ص 415 من النسخة المُعَرَّبة) ونهى هناك أيضاً عن قراءة الزيارات "المخترعة التي لفَّقها بعض الأغبياء من عوام الناس فأشغل بها الجُهَّال" على حد قوله.
هذا الكلام الذي أورده الشيخ عبّاس في كتابه إضافةً إلى مدح المشايخ الدائم لهذا الكتاب قد يوهم القرّاء أن كتاب «مفاتيح الجنان» خالٍ من تلك العيوب المذكورة. لكن التحقيق في الأمر يُثبت خلاف ذلك، وبعد قراءة كتابنا الحالي ستدركون أيها القُرَّاء أن كتاب «مفاتيح الجنان» ذاته من المصاديق التامة والكاملة للكتب التي ذُمَّت وانتُقدت في السطور السابقة وأنه ليس بين الشيخ عباس والشيخ الذي أشار «حسين النوري» في كتابه الفارسي «لؤلؤ ومرجان» إلى حواره معه أيُّ فَرْقٍ![28]. حقاً لقد صدق من قال: «رُبَّ مشهور لا أصل له».
إن كتاب «مفاتيح الجنان» مليء بالأخبار الضعيفة والأدعية الشركية التي لا سند لها وبالروايات غير المعقولة والمُخالفة لآيات القرآن ولحقائق التاريخ ومليء بالخرافات التي تتعارض مع العلم وبالثوابات المُغرقة وبعيوب أخرى!! كل من كان مشهوراً بأنه جليل القدر شيخ العلماء و..... كتب ما شاء كتابته ولم يرَ العلماء الآخرون أنه من مصْلحتهم أن يفحصوا ادِّعاءاتهم ويمنعوا تشويه دين الإسلام[29]، بل جاء أفرادٌ غيرُ مُؤهلين أو أعداءٌ عالمون أو مُسترزقون بالدين خادعون للعوام أو أصدقاء حمقى، فجعلوا تلك الروايات الموضوعة والأدعية الخرافية مُستمسكاً ومُستنداً وأضلُّوا الجاهلين[30] وأوقعوا الفُرقة بين المسلمين.
يجب على الإنسان أن يتعرَّف بصدق على دين الله طبقاً لكتاب الله وسنة رسول الله ص الحقيقية، وأن لا يُخدع بكتب الأدعية والزيارات ومن جملتها كتاب «مفاتيح الجنان» المليء بالأمور الخرافية المُعارضة لتعاليم الإسلام، إذ إن سبب قبول المرحوم الشيخ «عباس القمي» في الغالب للأحاديث التي أوردها في كتابه هي رواية «الكُلَيْنِيّ»[31] أو الشيخ«الصدوق»[32] أو الشیخ«الطوسي»[33] أو الشيخ «الكَفْعَمِيِّ»[34] أو «ابن طاووس»[35] أو «ابن المشهدي»[36] أو «المَجْلِسِيّ» أو الشيخ «حسين النوري» وأمثالهم لها، واتِّباعه لقاعدة «التسامح في أدلّة السنن» المُضِرَّة! لقد كان حسن الظن بالمشايخ المذكورين مع أن الرواة الذين كانوا قبلهم كان مُعظمهم من الغُلاة والضعفاء أو الفطحية أو الواقفة أو الناووسية أو من المجهولين أو المُهملين. ولم يذكر الشيخ عباس أسماء الرواة فيُلاحظها القارئ ويستطيع أن يعلم مقدار صحة واعتبار مروياته ومنقولاته. ولو ذكر في كتابه «المفاتيح» أسماء الرواة لأدرك أهل التحقيق على الأقل سقوط كثير مما فيه عن درجة الاعتبار. ولدى مُراجعتنا لأحوال رواة ما ذكره الشيخ عباس القُمّيّ من روايات وجدنا أن مُعظمهم لا يتمتع بحال جيدة مثل:
«عباس بن عامر و«أحمد بن رزق الكوفي» و«محمد بن المشمعل» و«محمد بن أبي زيد» و«سهل بن يعقوب» وكلهم من مجهولي الحال.
و«قطرب بن عليف» و«عبد الرحمن سابط» و«عثمان بن جُنيد» و«إبراهيم بن مأمون» و«إسحاق بن يوسف» وكلهم مُهملون.
و«سهل بن زياد» الكذَّاب و«محمد بن سليمان الديلمي» الفاسق الضعيف، و«إسحاق بن عمار» الفطحي و«علي بن حسن بن فضال» الواقفي وأمثال هؤلاء الأوباش!
لقد روى المرحوم القُمِّيّ أدعيةً وأذكاراً عن أستاذه الشيخ «حسين النوري» الذي كان يروي عن المُلَّا «فتحعلي سلطان آبادي» وهو يروي عن الآخوند المُلَّا «صادق العراقي» أنه رأى رؤيا وتعلَّم فيها أذكاراً وأدعيةً من سيدٍ يُدعى «محمد سلطان آبادي»!!
أو يقول في باب «كيفية زيارة الإمام الرضا» (ع) أن رجلاً صالحاً ادَّعى رؤية النَّبِيّ الأَكْرَم ص وأن النبيَّ قال له في تلك الرؤيا: زُرْ قبر حضرة الرضا! ومثل هذه الأمور صارت مُستنداً ودليلاً لمُؤلف كتاب «مفاتيح الجنان»[37]!!! وليت شعري! ألم يكن الشيخ عباس يعلم أن الرؤيا والمنامات ليست حُجّةً ؟!
رأينا في الأسطر الماضية أن الشيخ عباس قال إنه التزم في كتابه بأن لا يذكر من الأدعية إلا ما كان له سندٌ أو ما صحَّت روايته، أما ما لم يكن له سند أو كان له سند ولكنه سند واهٍ وغير مُعتبرٍ، فلن يذكره في كتابه. لكننا إذا قرأنا كتاب «مفاتيح الجنان» رأيناه يروي أدعيةً كثيرةً عن «المَجْلِسِيّ»! مع أن «المَجْلِسِيّ» ذكر في كتبه وآثاره كثيراً من الأمور التي لا سند لها أو ضعيفة السند وكان يصرّح مراراً: بأنني رأيت الدعاء الفلاني في كتب بعض الأصحاب[38]، أو وجدتُ الدعاء الفلاني في نسخة قديمة!!
ورغم أن الشيخ عباس نفسه، في فصل «آداب الزيارة»، وبعد ذكره لـ «زيارة وارث» أيضاً، ذمَّ الأدعية والزيارات المُخترعة غير المأثورة[39]، لكنه هو نفسه روى «دُعاء الْعَدِيلَة» رغم اعترافه أنه ليس دعاءً مأثوراً بل وضعه أحد أهل العلم! ويُقِرُّ أنه ذكر «دُعاءَ السّيفي الصَّغير المعروف بِدُعَاءِ القاموس» تسامحاً وتأسيَّاً بالعلماء الأعلام![40] ويروي في الفصل السابع من الباب الأول «دعاء التَّوَسُّل» الفاقد للسند! ويروي في باب «كيفية زيارة الإمام الرضا» زيارةً لم يقم هو نفسه بالتحقيق بسندها ولا يدري هل وضعها الشيخ الصدوق أو أنها مأثورة عن الأئمة![41] ويروي في الفصل السادس من الباب الأول «دعاء الصباح» ويقول هو نفسه عنه: "قد أورد العلامة المجلسي (رحمه الله) هذا الدّعاء في كتابي الدّعاء والصلاة من البحار.... وقال: إنّ هذا الدّعاء من الأدعية المشهورة، ولكن لم أجده في كتاب يُعتمد عليه سوى كتاب المصباح للسيّد ابن باقي!!".
لقد روى المرحوم القُمِّي في كتابه -كما ذكرنا- أدعيةً وأذكاراً وزياراتٍ كثيرةً عن أشخاص مثل: «الكفعمي» و«ابن طاووس» و«ابن بابويه» و«ابن المشهدي» و«الشيخ الطوسي» و.....، ليست عن الله ولا عن رسوله ص! فمثلاً يقول: قال «الكفعميُّ» في «البلد الأمين»: اكتبوا الدعاء الفلاني وانقعوه في الماء!![42]
4فليت شعري! هل كان دين الله -نعوذ بالله- ناقصاً فأكمله هؤلاء؟! أم أن هؤلاء -والعياذ بالله - شركاء لِـلَّهِ في التشريع؟! أم أن الله تعالى -نعوذ بالله- تابع لهم فكل ما قالوه أمضاه ووافق عليه؟!! فبأيِّ حقٍّ أضافوا للدين أموراً من عندهم؟ إن كل من يضيف شيئاً إلى الدين من عند نفسه فإن ما أضافه لا علاقة له بدين الله بل هو كلام بشريٌّ محض، فإن نسَبه إلى الدين كان «بدعة». وقد قال أمير المؤمنين علي ÷: "السُنَّةُ ما سَنَّ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ والبِدْعَةُ مَا أُحْدِثَ مِنْ بَعْدِهِ "[43]، وقال: "مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا الْبِدَعَ "[44].
إن المُبتدئين في علم الحديث يعلمون أن من العلامات الواضحة لوضع الحديث تضخيم العمل الصغير والحقير والمُبالغة الكبيرة بشأن فضيلته وثوابه، وأكثر مثل هذه الأحاديث وضعها قصَّاصون أو كُتَّاب أو خُطباء لا وزن لهم. والشيخ عباس -كما رأينا في الصفحات السابقة- انتقد -نقلاً عن كتاب أستاذه- دعاءً رُويت له آثار وثوابات عجيبة وغريبة، ولكنه هو نفسه يروي في كتابه المفاتيح مراراً وتكراراً ثوابات مُدهشة تُثير العجب!! فعلى سبيل المثال يقول: "رُوِيَ أَنَّ مَنْ قال يوم الجمعة قبل صلاة الصّبح ثلاث مرّات: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذي لا إلـهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ ولو كانت أكثر من زَبَد البحر "!![45] أو ذكر صلاةً وقال إنَّ "من صلَّاها يوم الأحد من شهر ذي القعدة غُفرت له جميع ذنوبه !! أو قال: "إن من صام أيّام الخميس والجمعة والسّبت، في شهر من الأشهر الحُرم كتب الله له عبادة تسعمائة عام "!![46] أو ادَّعَى أن أداء صلاة خاصَّة من ركعتين في عيد الغدير "يعدل عند الله عزَّ وجلَّ مائة ألف حجّة ومائة ألف عُمرة، ويُوجب أن يقضي الله الكريم حوائج دنياه وآخرته في يُسر وعافية "[47]. أو أتى بقول المَجْلِسِيّ الذي روى عنالزهراء عليها السلام أهها قالت: "قال لي أبي: من صلّى عليكِ غفرَ اللهُ عزّ وجلَّ له، وألحقه بي حيثما كنت من الجنّة !![48].
5ويقول الشيخ عباس: إن الصلاة في حرم أمير المؤمنين (ع) تعدل مئتي ألف صلاة !![49] (من أين علم أنَّ الصلاة في حرم ذلك الإمام الهُمام لها مثل هذا الثواب؟ من هذا يتبيَّن أن ليس في دين الشيخ عباس كتاب وميزان صحيحان لحساب الأعمال! فلماذا إذن انتقد كتاب «مفتاح الجنان»؟!). وقال الشيخ عباس في موضع آخر: "ركعتان من الصلاة في حرم عَلِيٍّ (ع) تُعادل مئة ركعة في غيره " (في النهاية لم يُبيِّن لنا هل الركعة تُعادل مئتي ألف صلاة أم تُعادل مئة ركعة؟!). وقال أيضاً: "والفريضة فيه [أي في مسجد الكوفة] تعدل حُجّة مقبُولة وتعدل ألف صلاة تُصلّى في غيره "![50] (لاحظوا أنه لم يستثنِ في كلامه هذا المسجد الحرام ولا المسجد الأقصى ولا مسجد النبيّ!!). وقال أيضاً: "الصّلاة المكتوبة فيه [أي في مسجد الكوفة] تعدل حَجَّةً مقبولةً، والنّافلة تعدل عُمْرَةً مقبولةً ...." أو "الفريضة والنّافلة فيه تعدل حجّةً وعمرةً مع رسول الله ص..." وقال: "وفي الحديث أنّه قد صلّى فيه ألف نبيّ، وألف وصيّ نبيّ "! (لا ندري كيف يعود الأنبياء السابقون الذين رحلوا عن الدنيا إليها من جديد ويُصلُّوا في ذلك المسجد؟ هذا مع العلم أنَّ مدينة الكوفة بُنيت في خلافة عمر ولم تكن هناك في تلك المنطقة أيُّ مدينة قبل ذلك كي يكون فيها مسجد!). وقال أيضاً في ذلك الباب: "ما من نبيّ ولا عبد صالح إلا وقد صلّى في مسجد الكوفة !!"[51] (لا ندري هل في رأي الشيخ عباس صلَّى جميع الأنبياء في مسجد الكوفة؟!!).
وفي ذلك الموضع أيضاً يقول: "وَيُسْتَفَادُ من بعض الرّوايات فضل مسجد الكوفة على المسجد الأقصى في بيت المقدس "!![52] هذا رغم أن المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى و بقعة يُقَدِّسُها أتباع حضرة إبراهيم (ع) جميعهم. (ونسأل: لماذا لم يُسْرِ اللهُ بنبيِّه إذاً إلى مسجد الكوفة - الأقرب والأكثر فضيلةً - بدلاً من الإسراء به إلى المسجد الأقصى؟ ولماذا لم يأتِ في القرآن أي ذِكْرٍ لمسجد الكوفة هذا؟!).
وأورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في فصل «آداب الزيارة» قصيدةً لـ«بحر العلوم» أول أبياتها يقول:
وَمِنْ حَديثِ كَرْبَلا وَالْكَعْبَةْ لِكَرْبَلا بانَ عُلُوُّ الرُّتْبَةْ
وهو يدل على علو كربلاء على الكعبة!! ويقول في زيارة «الوداع» (ص 339) نقلاً عن أستاذه [الميرزا حسين النوري الطبرسي] المعتقد بتحريف القرآن: "قال شيخنا في التحيّة: إنّ موضع جسد نبيّنا والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين في الأرض أشرف من الكعبة المعظّمة باتّفاق جميع الفقهاء كما صرّح به الشّهيد (ره) في القواعد!!...".
ولم يتفكّر في نفسه بأن النبيّ الأكرم ص نفسه كان يذهب إلى زيارة الكعبة ويُصَلِّي نحوها، فكيف يمكن أن يكون قبره أشرف من الكعبة!
6وفي فصل «أعمال الشّهور الرّومية» يروي رواية عجيبةً جداً حول شفاء الناس من الأمراض ويقول: "هذه الرّواية المشهورة ينتهي سندها إلى «عبد الله بن عُمَر» لأجل ذلك يكون السّنَد ضعيفاً!"[53].
ونسأله: فأين إذاً كلامك الذي قُلْتَهُ في مقدمة كتابكَ (ص 12 و ص 432)؟ ونسأله أيضاً: هل هذه الرواية وحدها فقط ضعيفة السند أم أن كثيراً من الروايات الأخرى التي ذكرتها في كتابك هي كذلك أيضاً؟
وأتى الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في مقدِّمة الباب الثالث المُخَصَّص للزيارات وعنوانها «المقدِّمة في آداب السفر» (ص 308 و309)[54] بأمور وقصص عجيبة، ثم لما ذكر آداب السفر التي يوصَى بها، قال في الوصية الخامسة (ص310)[55]: "أن لا يشرب من ماءِ أيِّ منزلٍ يَرِدُهُ إلّا بعد أن يمزجَه بماء المنزل الذي سبقه !..". مع أن هذا العمل مخالف لقواعد الصحَّة!
وفي مبحث «حِرزْ حضرة فاطمة» روى دعاءً ضد الُحمَّى[56]، وفي أعمال «الليلة الأولى من شهر رمضان» يوصي بالغسل فيه ويقول: "في الحديث أنّ من اغتسل أوّل ليلة منه لم يصبه الحكّة إلى شهر رمضان القابل !!"[57] (حديثٌ جدير باهتمام المبتلين بالحساسية والأمراض الجلديَّة!). وفي أعمال «يوم عيد الفطر» ينقل عن «الشيخ المفيد» قوله: "يُستحبّ أن يبتلع شيئاً من تُربة الحسين (عليه السلام) فإنّها شفاء من كلّ داء!"[58]. (جدير باهتمام الأطباء وطلاب الطب الذين أمضوا سنوات طويلة في الدراسة بلا طائل ولا زالوا غير قادرين على اكتشاف علاج عديد من الأمراض المستعصية، ولم يلتفتوا مع الأسف إلى أن شيخنا قد اكتشف علاج جميع الأمراض!!)[59].
وفي أعمال «اليوم الأول من شهر محرم» نقل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن «الشّيخ الطّوسي» قولَه: "يُسْتَحَبُّ صيام الأيّام التسعة من أوّل محرّم وفي اليوم العاشر يمسك عن الطّعام والشّراب إلى بعد العصر ثمّ يفطر من تربة الحسين (عليه السلام)!!"[60].
هذا مع أنه من الواضح أن مثل هذا التوصيات مخالفة لقواعد الصحة والطبّ.
ويصف المرحوم القُمِّيّ وَصْفَةً ناجعةً لوجع الأسنان فيقول: "يضع عوداً أو حديدةً على السنِّ ويرقيه من جانبه سبع مرات: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ دودَةٌ تَكُونُ في الفَمِ تَأكُلُ العَظْمَ وَتُنْزِلُ الدَّمَ،....الخ"[61]. أو يقول إن الحيوانات أيضاً كانت تأتي إلى قبر حضرة عليٍّ (ع) لتعالج ما بها من جراحات!! (جدير بانتباه الأطبَّاء البيطريين واهتمامهم!)[62].
أعتقد أنه لو قُرِئت مثل هذه الأمور في الجامعات والمراكز العلمية لأثارت بكل تأكيد ضحك بل قهقهة المستمعين لها، ولكانت مفيدة كتسلية للطلاب والأساتذة والترفيه عنهم في فترة الاستراحة!
كتب أحد علماء زماننا حول عادات الناس في عهد الجاهلية يقول:
"وكانت تُعبَد أصنامٌ أخرى أيضاً أتت عادةً من شعوب مُجاورة أو بقيت من الأزمنة السابقة ووصلت إلى عرب الجاهلية وقد وُجد لها عُبَّاد بينهم. من هذه الأصنام: فِلْس، بَعْل، يغوث، يعوق، نَسْر، وُدّ، سُوَاع، وقد جاءت أسماؤها في القرآن المجيد أيضاً.
كان عابدو كل واحد من تلك الأصنام التي كان يُحتفظ بأصلها في مكان مُعيَّن يصنعون نموذجاً ومثالاً لصنمهم المحبوب الذي يعبدونه كي يتمكنوا من عبادته في البيت وأخذه معهم في السفر! وقد وصلت عبادة الأصنام إلى حدٍّ أنَّ المُسافر من عُبَّاد الأصنام كان أحياناً كلما وصل إلى منزل أخذ أربعة حجارة واختار أجملها ونصبها في مكان وأخذ بعبادتها" [63]. "كان أهل مكة يُولون الكعبة احتراماً ومحبّةً مُتميِّزين، فإذا خرجوا من المدينة اصطحبوا معهم أحجاراً من الكعبة كانوا يطوفون حولها حيث ما وصلوا، وقد اشتد هذا السلوك وتحوَّل إلى عبادة وحلَّت الوثنية وعبادة الأصنام محلّ التوحيد"[64]. "كان عمرو بن الجموح أحد الوُجهاء.... يسكن يثرب. وقد حمله حُبُّه الشديد لإله عشيرته إلى أن صنع من الخشب شبيهاً للإله «مناة» ووضعه في منزله في مكان مُحترم وأخذ بعبادته!"[65].
7قارنوا بين ما ذكره هذا الكاتِب وبين ما أورده الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في «المفاتيح» في «زِيارَة النَّبي صَلّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ مِنَ الْبُعد» (ص 324)[66] حين قال: "قال العلامة المجلسي (رحمه الله) في زاد المعاد في أعمال عيد الميلاد وهو اليوم السّابع عشر من ربيع الأول: قال الشّيخ المفيد والشّهيد والسّيد ابن طاووس (رحمهم الله) : إذا أردت زيارة النّبي ص في ما عدا المدينة الطيّبة من البِلاد فاغتسل وَمثِّل بين يديك شبه القبر واكتب عليه اسمه الشّريف ثمّ قف وتوجّه بقلبك إليه وقُل: أَنْ لا إله إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ....الخ".
أليس هذا العمل مماثلاً لعمل مُشركي العرب؟ هل يمكن لأحد شمَّ رائحة التوحيد أن يدعوَ الموحِّدين والمسلمين إلى القيام بمثل هذا الأمر؟ هل جاهد النَّبِيُّ الأَكْرَمُ ص كل ذلك الجهاد وتحمَّل كل ذلك العناء والمرارة كي لا يقوم الناس بمثل تلك الأمور تجاه الأصنام بل يقوموا بها تجاه قبره وقبر أحفاده؟! أم أنَّ سعيَ رسولِ الله ص وعليٍّ (ع) وسائرِ أصحاب النبيِّ ومُجاهداتهم إنما كانت لأجل أن يتجه الناس نحو الله تعالى وحده فقط؟ (فَتَأَمَّل جداً). لهذا السبب أُمر المسلمون أن يقولوا عشر مرَّات على الأقل في صلواتهم: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ٥﴾[الفاتحة: ٥].
إنَّ معلومات المرحوم القُمِّي والروايات التي كان يعتمدها تستند إلى أحاديث وأخبار مذهبية وخرافية وضعها الغُلاة وأتباع الفرق المنحرفة، وتستند بشكل خاص إلى أفكار الأخباريين الباطلة، إذ إنَّ أستاذه ومُعلِّمه الذي أخذ عنه الحديث أي «الحاج ميرزا حسين النوري» كتب كتاباً باسم «فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب»!!! فكان يعتبر أن كتاب الله قد حُرِّف وأفرح بكتابه ذاك قلوب اليهود والنصارى!
وللأسف كان التلميذ على عقيدة أستاذه، إذْ نجد الشيخَ عبَّاس القُمِّيّ يكتب في فصل «أعمال نهار الجمعة»: "واعْلَم أنّ لقراءة آية الكرسي على التّنزيل [أي كما أُنْزِلَتْ] في يوم الجُمعة فضلاً كثيراً". ثم يكتب في حاشية الصفحة ذاتها: "قال العلامة المجلسي: آية الكرسي على التنزيل على رواية عليّ بن ابراهيم والكُلَيْنِيّ هي كما يلي: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُما وَمَا تَحْتَ الثَّرَى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُمَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَه......إلى آخر الآية)!![67].
كما نجده يروي صلواتٍ عن فردٍ أصفهاني (ص 52) تدل على وقوع التحريف في القرآن!![68] ويبدو أن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ لم يقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾[الحجر: ٩]، ويبدو أنه لا يعلم أن جميع الأحاديث الدالة على تحريف القرآن ضعيفة وأن قرائن الوضع فيها كثيرة[69]. ليت أحداً قام بلقاء المرحوم عبَّاس القُمِّيّ قبل أن يبدأ بتأليف كتابه «مفاتيح الجِنان» وقال له: لو قرأت هذه الآية كل يوم فإنها ستكون مفيدة لك كثيراً: ﴿وَيَجۡعَلُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ ١٠٠﴾ [يونس : ١٠٠].
نعم، كتاب «مفاتيح الجِنان» كما سيأتي بيانه باختصار، مليء بالخرافات والأوهام التي وضعها الغلاة والكذَّابون باسم الأدعية والزيارات و نشروها بأيدي المحدِّثين والكُتَّاب السُذَّج الذي يُصَدِّقون كلَّ ما يُروى لهم.
لقد ذكرنا على نحو الإجمال، في التحرير الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول....»، (ص 74 فما بعد)، أموراً حول أنواع الحديث وعيوبه من المناسب أن يطلع عليها القراء الكرام، ولكن على أي حال فإن أهم معيار لقبول الأحاديث أو ردِّها هو توافقها أو عدم توافقها مع القرآن الكريم.
8ملاحظة: نسخة «كليات مفاتيح الجنان» التي في متناول يديَّ والتي أستند إليها وأحيل إلى أرقام صفحاتها فيما تناولته منها بالنقد والتعليق، هي النسخة المكتوبة بخط المرحوم «ميرزا طاهر خوشنويس» التبريزي، التي طبعتها مكتبة «محمد حسن علمي» بعد أن قُوبِلَت على النسخة الأصلية المكتوبة بخط المؤلف نفسه وصُحِّحَتْ مِنْ قِبَلِ «الحاج الملا علي واعظ تبريزي خياباني»، وختمها الشيخ المذكور بخاتمه في آخر صفحة من الكتاب (ص 600)، وقد تمَّ الفراغ من كتابة هذه النسخة سنة 1365 هـ. ق.، الموافق لسنة 1316 هـ. ش.، وكُتِبَ في آخرها حديث الكِساء بخط «حسن بن الحاج عبد الكريم الهريسي» في الصفحة 604 فما بعد.
9لا يخفى أنَّ كتاب «مفاتيح الجنان» للمرحوم الشيخ عبَّاس القُمِّيّ يشتمل على متن وحواشٍ، أما المتن فهو كتاب «مفاتيح الجنان» وفي حاشيته رسالة له اسمها «الباقيات الصالحات في الأدعية والصلوات المندوبات» وكلاهما (أي المتن والحاشية) يبدآن من الصفحة 12 من الكتاب وينتهيان في الصفحة 571 منه. ثمَّ ابتداءً من الصفحة 572 يبتدئ في المتن كتاب «ملحقات مفاتيح الجنان» مع مُقدِّمة للمؤلف، وفي حاشيته يبتدئ كتاب «ملحقات الباقيات الصالحات»، وينتهيان في مُنتصف الصفحة 592. هذه الأقسام الأربعة هي بلا شُبهة من تأليف ذلك المرحوم. لكننا لا نستطيع أن ننسب على وجه القطع واليقين الأمور التي ذُكرت قبل الصفحة 12 والتي جاء في متن الكتاب بعد الصفحة 592 تحت عنوان «المُلحقات الثانية» إلى ذلك المرحوم[70]. والله العالم. كما أن حديث الكساء -كما سنرى لاحقاً- أُضيف إلى كتاب المفاتيح دون رضا المؤلِّف[71]. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِـلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
***
[28] سمعت أن أحد الخطباء المشهورين غير المُعمَّمين في طهران والذي وصل إلى مجلس الشورى بعد الثورة سمَّى كتاب الشيخ عباس القمي «مفاتيح الجنون». ولو صحَّ هذا الخبر فأنا أرى أن ما ذكره ذلك الخطيب ليس بعيداً عن الحقيقة، لأنني لا أدري كيف يُمكن لعاقل مؤمن بالقرآن أن يُؤلِّف كتاباً مثل كتاب «مفاتيح الجنان» أو مثل كتب السيد ابن طاووس أو الكفعمي. [29] لأنهم عندما يقوم شخص ككاتب هذه السطور بتحقيق ذلك الكتاب وإظهار ما فيه من العيوب فإنهم يُهاجمونه بكل قوتهم ويتهمونه بآلاف التهم بل يُفَسِّقُونه ويُكَفِّرونه ويعتبرونه واجب القتل!! لماذا يحدث ذلك؟ الجواب: لأن الدين أصبح باب رزق لبعضهم وكل من كان طالب رئاسة ويبحث عن جلب احترام العوام له، لا يُمكنه أن يفعل أفضل من ذلك. وعلى كل حال لقد دوَّنَّا هذه المُلاحظات والتنبيهات والتذكير طلباً لرضا الله وتوعيةً للباحثين عن الحق وطُلَّاب الهداية ونسأل الله أن يحفظنا من شرِّ أهل البدعة ويُحسن عاقبتنا، والله العاصم. [30] لا يخفى أنني كنت -في الفترة التي كنت أدرس فيها العلوم َالدينية في قم- مُتَعَلِّقاً ومُحبَّاً بشدة لكتاب مفاتيح الجنان ومُعتقداً به أشدّ الاعتقاد، وكان ذلك الكتاب جليسي ومُؤنسي لا يفترق عني، وكنت أقرأ منه كثيراً. وبفضل الله، وله الحَمْدُ والمِنَّة، استيقظتُ من غفلتي ببركة معرفة القرآن الكريم ونجوتُ من الخرافات وها أنا أرى أن واجبي هو توعية الناس إلى حقيقة هذا الكتاب. آمل أن يجعل الله ذلك لي في الباقيات الصالحات. آمين يا ربَّ العالمين. [31] الكُلَيْنِيّ: محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُلَيْنِيّ الرازي، البغدادي (أبو جعفر) توفي ببغداد سنة 329هـ.. كان من فقهاء الشيعة القدماء، وأقدم أخبارييهم، وجمع أحاديثهم في أشهر كتب الحديث لدى الإمامية وهو كتاب «الكافي» الذي جمع فيه ما يربو على 16 ألف رواية، لم يُصَحِّح بعض المحققين المعاصرين منها سوى نحو أربعة آلاف فقط. وله أيضاً كتاب تعبير الرؤيا. والرد على القرامطة. وكتاب الرسائل. وغيرها. (الـمُتَرْجِمُ) [32] الشيخ الصدوق: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (ت 381 هـ)، من محدِّثي الإمامية المشهورين القدماء وصاحب أحد الكتب الأربعة التي عليها معتمد الفقه الإمامي وهو كتاب «من لا يحضره الفقيه»، كما ألَّف كثيراً من الكتب الروائية الأخرى مثل «الأمالي» و«الخصال» و«التوحيد» و«عيون أخبار الرضا» و«علل الشرائع» و«معاني الأخبار» و«كمال الدين» و«ثواب الأعمال وعقاب الأعمال»...الخ. (الـمُتَرْجِمُ) [33] الشيخ الطوسي: هو الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي الملقَّب بشيخ الطائفة، يُعْتَبر من رؤوس علماء ومحدثي الإمامية وأعظم فقهائهم المتقدمين، طُرِدَ من بغداد فهاجر للنجف وتوفي فيها سنة 445 هـ. له تفسير في عشرة أجزاء عنوانه: «التبيان في تفسير القرآن»، كما أنه صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة التي عليها مدار فقه الإمامية وهما «التهذيب» و«الاستبصار»، وله كتب عديدة في الفقه والأصول، ومن أشهر كتبه: كتابٌ في الأدعية والزيارات باسم: «مصباح المتهجِّد» الذي نقل الشيخ عباس القمي عنه كثيراً في المفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [34] الكَفْعَمِيُّ (ت 905 هـ /1500م): هو الشيخ تقي الدين إبراهيم بن علي بن الحسن الكفعمي مولداً - نسبةً إلى قرية (كفر عيما) بناحية الشقيف بجبل عامل جنوب لبنان - اللوزي محتداً، الجب شيثي مدفناً، توفى بها عام 905هـ، ومزاره في بلدة «جب شيث» - من بلدات جبل عامل جنوب لبنان - معروفٌ. أديبٌ كاتبٌ من علماء الشيعة الإمامية، أقام مدَّةً في كربلاء، له نظمٌ وشِعرٌ، وصنَّف 49 كتاباً، من أشهر مؤلفاته كتابه في الأدعية والزيارات الموسوم بـ «جُنَّةُ الأمان الواقية وجَنَّةُ الإيمان الباقية» المعروف بـ «مِصْبَاحِ الكَفْعَمِيِّ»، طبع مراراً، كما له «الاحتساب من كتب الأدعية لبعض الأصحاب» و«البلد الأمين والدرع الحصين من الأدعية والأعمال والأوراد والأذكار» وغيرها. (الـمُتَرْجِمُ) [35] ابن طاووس: هو السيدُ رضيُّ الدين بْنُ أبي القاسم عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ طاووس الحِـلِّيُّ (ت 664هـ). متكلِّم إماميٌّ مشاركٌ من أشهر كتبه: كتابٌ في الأدعية والزيارات وفضائل الأعمال من عشرة أجزاء عنوانه «المهمّات والتتمّات»، كل جزء من الأجزاء العشرة حمل عنواناً خاصَّاً به وطُبعَ ككتاب مستقل، من جملتها «فلاح السائل»، «زهرة الربيع»، «جمال الأسبوع»، «إقبال الأعمال». هذا وقد كتبها ابن طاووس بوصفها تتمةً -كما قال- لكتاب «مصباح المتهجِّد» للشيخ الطوسي. ومن كتبه أيضاً: «مُهَجُ الدَّعَوَاتِ» و«الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف» و«كشف المحجَّة في ثمرة المهجة» و«الملهوف على قتلى الطفوف". (الـمُتَرْجِمُ) [36] هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن جعفر بن علي المشهدي الحائري، المعروف بمحمد ابن المشهدي و«ابن المشهدي» الراوي عن أبي الفضل شاذان بن جبرئيل القمي وصاحب كتاب «المزار الكبير» الذي اعتبروه من أقدم الكتب المدوّنة في الزيارات وأن الأصحاب اعتمدوا على كتابه، وهو الأصل في عدة من الأدعية والزيارات. ويبدو أن ابن المشهدي كان من مشايخ الإمامية في القرن السادس الهجري ولكن بعضهم قال إن شخصه مجهول جداً، حتى قال السيد الخوئي (رح) في معجمه: "لم يظهر لنا اعتبار هذا الكتاب في نفسه، فإن محمد بن المشهدي لم يظهر حاله بل لم يُعلم شخصه!!". (الـمُتَرْجِمُ) [37] مفاتيح الجنان، في فضيلة بعض الأدعية في تعقيب صلاة الصبح، ص 21 و ص 500. [38] على سبيل المثال انظروا إلى مقدمة المناجاة الخمس عشرة في الفصل الثامن، الباب الأول من «المفاتيح»، ص 114. [39] مفاتيح الجنان، ص 314 و 432 حتى 437. (ص 415 و 552 من النسخة المُعَرَّبة). [40] مفاتيح الجنان، ص 103 (ص 167 من النسخة المُعَرَّبَة). [41] مفاتيح الجنان، ص 105 وص 500- 501. (ص 627 من النسخة المُعَرَّبة) [42] مفاتيح الجنان، حاشية الصفحة 233. [43] بحار الأنوار، ج2، ص266، الحديث 32. والشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 155. (الـمُتَرْجِمُ) [44] نهج البلاغة، الخطبة 145. [45] مفاتيح الجنان، أعمال ليلة الجمعة، ص 34 (ص70-71 من النسخة المُعَرَّبة). [46] مفاتيح الجنان، «أعمال شهر ذي القعدة»، ص 251. (ص341 من النسخة المُعَرَّبة). [47] مفاتيح الجنان، أعمال يوم الغدير، ص 281. (ص 378 من النسخة المُعَرَّبة). [48] مفاتيح الجنان، زيارة حضرة رسول الله ص، ص 324. (ص427 من النسخة المُعَرَّبة). ولم يذكر المَجْلِسِيّ أيضاً أيَّ سند لهذا الكلام. [49] مفاتيح الجنان، زيارة أمير المؤمنين المُطلقة، ص 365. [50] مفاتيح الجنان، الفَصْلُ الخامِسُ: في فَضل الكوفة ومَسجدها الأعظم وأعماله، ص 387. (ص 502-503 من النسخة المُعَرَّبة). راوي هذا الحديث أحد الضعفاء الذي يُدعى «محمد بن علي ماجيلويه». وللتعرّف على الراويين الآخرين لهذا الحديث ذاته وهما «محمد بن سنان» و «المُفضَّل بن عُمَر»، راجعوا كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» [وسنشير إليه من الآن فصاعداً بكتاب «عرض أخبار الأصول...» اختصاراً (المترجِم)] الصفحات 304 حتى 308 والصفحات 171 فما بعد. [51] مفاتيح الجنان، الفَصْلُ الخامِسُ: في فَضل الكوفة ومَسجدها الأعظم وأعماله، ص 387. (ص 502 من النسخة المُعَرَّبة). وراوي هذا الحديث «سهل بن زياد» الكذّاب المشهور (راجعوا وسائل الشيعة، ج 3، ص 521 و522، الحديث 3). وقد عرَّفنا بالراوي «سهل بن زياد» في كتاب «عرض أخبار الأصول...»، الصفحات 86 فما بعد. [52] مفاتيح الجنان، في فَضل الكوفة ومَسجدها الأعظم وأعماله، ص 387. (ص 502 من النسخة المُعَرَّبة). وراوي هذا الحديث مجهول الهوية ومع ذلك قبل المرحوم القمِّيّ روايته (راجعوا مستدرك الوسائل، الطبعة الحجرية، ج1، ص 235). وقد اُفْتُري في الحديث المذكور على الإمام الصادق (ع) قوله إن المسجد الأقصى ليس في بيت المقدِس، بل "ذَاكَ فِي السَّمَاءِ إِلَيْهِ أُسْرِيَ رَسُولُ اللهِ (ص)!! فَقُلْتُ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ مَسْجِدُ الْكُوفَةِ أَفْضَلُ مِنْه ". مع أن القرآن يقول: ﴿ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ﴾ [الاسراء: ١]، أي أن المسجد يقع في الأرض وفي بقعةٍ جعلها اللهُ مليئةً بالبركة. وأساساً ما فائدة المسجد في السماء؟ هذا وقد اعتبرت تفاسير «مجمع البيان» و «الميزان» و «الأمثل» كلها أن «المسجد الأقصى» يقع في بيت المقدس (أي القُدس الشريف). [53] مفاتيح الجنان، ص 303 فما بعد. (ص 404 من النسخة المُعَرَّبة). [54] ص 411 من النسخة المُعَرَّبَة. (الـمُتَرْجِمُ) [55] ص 407 من النسخة المُعَرَّبَة. (الـمُتَرْجِمُ) [56] المفاتيح، ص 109 (ص 174 من النسخة المُعَرَّبَة). ورغم أن الكذب يطفح من كل جوانب متن هذا الحديث ولكنَّنا لا نرى بأساً في الإشارة إلى بعض رواته وهم: «الحسين بن محمد بن سعيد» مجهول الحال. و «جعفر بن محمد بن بشرويه» و «داود بن رشيد» و «الوليد بن شجاع بن مروان» وكلهم مهملون. (راجعوا بحار الأنوار، ج 92، ص 37-38). [57] المفاتيح، ص 231 (ص 297 من النسخة المُعَرَّبَة). (الـمُتَرْجِمُ) [58] المفاتيح، ص 249 (ص 335 من النسخة المُعَرَّبَة). (الـمُتَرْجِمُ) [59] وقال الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في فقرةٍ في آخر الفصل السابع من باب الزيارات: (تذييلٌ: في فضل تربة الحسين المقدّسة (ع) وآدابها: اعلم أنّ لنا روايات متظافرة تنطق بأنّ تربته (ع) شفاء من كلّ سقم وداء إلاّ الموت! ... والأحاديث في هذا الباب متواترة وما برزت من تلك التّربة المقدّسة من المعجزات أكثر من أن تُذكر!". (مفاتيح الجنان، ص 596 من النسخة المعرَّبة). (الـمُتَرْجِمُ) [60] المفاتيح، ص 289 (ص387-388 من النسخة المُعَرَّبَة). (الـمُتَرْجِمُ) [61] حاشية مفاتيح الجنان: (كتاب الباقيات الصالحات)، ص 287. [62] المفاتيح، الفصل الرابع (من الباب الثالث): في فضل زيارة أمير المؤمنين (ع)، ص342 (ص451 من النسخة المُعَرَّبَة). (الـمُتَرْجِمُ) [63] الشيخ جعفر سبحاني، راز بزرگ رسالت [سر الرسالة العظيم]، انتشارات كتابخانه مسجد جامع طهران، 1358 هـ ش. ص 243 [64] المصدر السابق نفسه، ص 237. [65] المصدر السابق نفسه، ص 240. [66] ص 430 من النسخة المعربة. (الـمُتَرْجِمُ) [67] مفاتيح الجِنان، ص 36 (ص 72 في النسخة المُعَرَّبة) [68] راجعوا فصل «تحقيق مختصر حول مفاتيح الجِنان» في الكتاب الحالي، الآتي بعد قليل. وراجعوا كتاب «منتهى الآمال»، ج2، ص 355. (لا يخفى أننا ننقل من نسخة «منتهى الآمال» التي طبعتها مكتبة كتابفروشي اسلاميه، و هي بخط الحاج ميرزا حسن هريسي الأرونقي). [69] حول موضوع عدم وقوع التحريف في القرآن، راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول....»، الإصدار الثاني، ص 734 فما بعد، وكتاب «البيان» لآية الله السيد أبي القاسم الخوئي. [70] وللأسف في التحرير الأول لهذا الكتاب أغفلتُ ذكر هذه النقطة. [71] راجعوا ما سنذكره في هذا الصدد في آخر الكتاب الحالي.
صرَّح المرحوم الشهيد الثاني (الشيخ زين الدين العاملي) في كتابه «البداية في علم الدراية» (الطبعة الحجرية، ص 72) -كما أشرنا إلى ذلك في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» بأنَّ الأحاديث المُغالية العجيبة التي أوردها الواحدي والثعلبي والزمخشري في كتبهم حول ثواب قراءة سور القرآن أحاديث موضوعة[72].
وقال الأستاذ «محمد باقر البهبودي» أيضاً:
"... إن الزنادقة والغلاة لم يألوا جهداً في إطفاء نور الإسلام وإفساد الشريعة والأحكام، وإيقاع الشك في القلوب، والتلاعب بالحقائق الدينية ومعارفها، وترويج الخرافات والتُّرَّهات والبِدع وإيجاد الفُرقة والاختلاف....
وهكذا نراهم قد اختلقوا معجزات خرافية تافهة مُستبشعة فنشروها على لسان القصاصين ومشايخ الحديث المُغفَّلين ليبتهج المسلمون بتردادها ونقلها وسماعها، كل ذلك تنفيراً لطباع المُتفكِّرين ودحضاً لبيِّنات القرآن ومعجزته الخالدة التي طالما أخذت بأسماع السامعين.
وأخرى لفَّقوا أساطير مزعومة وأحاديث مُزوَّرة تُرغِّب الناس في الزهد والاعتزال وأدرجوا فيها سفاسف التصوف والعرفان ليشتغل الناس بالتفكُّر في ذواتهم عن التشاغل بأعدائهم....
وهكذا ابتدعوا عبادات وصلوات مُخترعة واصطنعوا أدعية جميلة عرفانية وغير عرفانية بشَّروا عُبَّادها وقُرَّاءها بالثوابات الجُزافية والفوز بنعيم الآخرة، فرغب فيها كثيرٌ من العُبَّاد المُغفَّلين لا يفترون عن العبادة [التي ليس لها سند في الشرع] وقراءة الأدعية [الموضوعة] ليلاً ونهاراً، و[بهذا] عدلوا عن السنَّة النبوية العادلة فتشاغلوا بها عن مغزى العبادة والدعاء يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً!"[73]. (مقدِّمة كتاب «صحيح الكافي»، بيروت، الطبعة الأولى، ج1، الصفحة «و» فما بعد، وراجعوا أيضاً كتاب «عرض أخبار الأصول....»، ص 24 حتى 26).
يقول الكاتِب: إن كتب الشيعة - مع الأسف - لم تخلُ من مثل هذه الروايات، فنجد في تفسير «مجمع البيان» [للشيخ الطبرسي] و«تفسير الصافي» [لمحسن فيض الكاشاني] و..... مثل هذه الروايات الخرافية. وقد أورد صاحب «مفاتيح الجِنان» تلك الروايات أيضاً، من ذلك قوله عن سورة يس، نقلاً عن كتاب «مفاتيح النجاح» دون سند: "سُورَةُ يس.... تَعُمُّ صَاحِبَهَا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَتُكَابِدُ عَنْهُ بَلْوَى الدُّنْيَا وَتَدْفَعُ عَنْهُ أَهَاوِيلَ الْآخِرَةِ وَتُدْعَى الْمُدَافِعَةَ الْقَاضِيَةَ تَدْفَعُ عَنْ صَاحِبِهَا كُلَّ شَرٍّ وَتَقْضِي لَهُ كُلَّ حَاجَةٍ وَمَنْ قَرَأَهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً وَمَنْ سَمِعَهَا.... أُعْطِيَ أَلْفَ نُورٍ وَأَلْفَ يَقِينٍ وَأَلْفَ بَرَكَةٍ وَأَلْفَ رَحْمَةٍ وَنَزَعَتْ عَنْهُ كُلَ دَاءٍ وَغِلٍّ "[74]. وقوله أيضاً: "وَمَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ وَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَات !!"[75]...... و"مَنْ قَرَأَهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَوْ فِي نَهَارِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ كَانَ فِي نَهَارِهِ مِنَ الْمَحْفُوظِينَ وَالْمَرْزُوقِينَ حَتَّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ وَكَّلَ اللهُ بِهِ مِائَةَ أَلْفِ مَلَكٍ يَحْفَظُونَهُ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ وَمِنْ كُلِّ آفَةٍ وَإِنْ مَاتَ فِي يَوْمِهِ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّة !!"[76] 10.
أو قال في «أعمال ليلة الجمعة» (ص 31، أو ص66 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح): "مَن قرأ الواقعة كلّ ليلة جُمعة أحبّه الله تعالى وأحبّه إلى النّاس أجمعين ولم يَرَ في الدّنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقةً ولا آفةً من آفات الدّنيا ....". أو روى في الصفحة 38 (ص 75 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح) عن عنبسة بن مصعب عن الإمام الصادق (ع): "مَن قرأ سُورة ابراهيم وسورة الحجر في ركعتين جميعاً في يوم الجُمعة لم يصبه فقر أبداً ولا جنون ولا بلوى !!"[77].
وهذه الأخبار كذبٌ يقيناً وهي أخبار مغالية وتدفع إلى الاغترار. لقد قرأ رسول الله ص وأصحابه مراراً سورة يس وسورة الواقعة ولم تُدْفَع عنهم مصائب الدنيا ولا آفاتها.
أو قال عن سورة الرحمن : "لَا تَدَعُوا قِرَاءَةَ سُورَةِ الرَّحْمَنِ وَالْقِيَامَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ (وَتَأْتِي بِهَا) يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَأَطْيَبِ رِيحٍ حَتَّى تَقِفَ مِنَ اللهِ مَوْقِفاً لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى اللهِ مِنْهَا ..."[78].
إن من كتب تلك الأمور لم يستخدم عقله وإلا لعرف أنه ليس لِـلَّهِ تعالى مكان يتحيز فيه، حتى يأتي إليه شيء ويقترب منه، ويقف لديه!!
أو كتب قائلاً: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ عِنْدَ كُلِّ ﴿فَبِأَيِّ ءَالَآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٣﴾[الرحمن: ١٣]: «لَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ رَبِّ أُكَذِّبُ»، فَإِنْ قَرَأَهَا لَيْلًا ثُمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيداً، وَإِنْ قَرَأَهَا نَهَاراً ثُمَّ مَاتَ مَاتَ شَهِيداً "[79].
ونقول: لو كانت مرتبة الشهادة تُنال بمجرد قراءة هذه السورة على النحو المذكور لما بقيت هناك حاجة إلى الجهاد في سبيل الله وإعداد آلات الحرب!! وهل يريد الاستعمار شيئاً أفضل من هذا؟! (فتأمَّل)
ويقول عن سورة الجمعة: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ÷ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ إِذَا كَانَ لَنَا شِيعَةٌ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِالْجُمُعَةِ وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا يَعْمَلُ بِعَمَلِ رَسُولِ اللهِ ص.....". وقد كرَّر المؤلف هذه الرواية الباهرة مرةً أخرى في «المفاتيح» في فقرة «أعمال يوم الجمعة» (ص 48، أو ص 89 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح)!![80] 11
طبقاً لهذه الرواية عمل رسول الله ص بكل ما كان فيه من مشقات ومرارات وجهاد وعبادات، يعادل قراءة سورتين من القرآن!!! ثم لماذا لا يصلي الشيعي من أتباع الإمام الصادق ÷ صلاة الجمعة بل يصلي مكانها صلاة الظهر؟
12ويقول عن الآية 2 من سورة النبأ إن ﴿عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ ٢﴾هو الولاية وهو حضرة الأمير (ع)؟! هذا في حين أن حضرة الأمير (ع) يدعو - كما في دعاء يوم الاثنين في الصحيفة العلوية - قائلاً: "الْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَنِي بِالْإِيمَانِ وَبَصَّرَنِي فِي الدِّينِ وَشَرَّفَنِي بِالْيَقِينِ وَعَرَّفَنِي الْحَقَّ الَّذِي عَنْهُ يُؤْفَكُونَ وَالنَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ "[81].
من هذا الدعاء يَتَبَـيَّنُ أن "النَّبَأَ الْعَظِيمِ"ليس الإمام ذاته، بل الإمام مؤمن بالنبأ العظيم. (فتأمَّل). بمُلاحظة أنَّ الآية ذكرت اختلاف أهل مكّة حول هذا النبأ العظيم يُمكننا أن نقول: إنَّ الخبر المذكور لم يكن قضية التوحيد ولا نُبُّوة النبيّ لأنَّ أهل مكّة كانوا مُتَّفقين على رفض هذين الأمرين، أما بشأن مسألة بعث الأموات والقيامة فكان بعضهم يعتقد ببقاء الروح ولا يرفض فكرة المعاد الروحاني في حين كان فريق آخر يشكُّ في إمكانيّة المعاد، وفريق ثالث يُنكر المعاد كُليَّة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً أن الله تعالى قال بعد تلك الآية مرَّتين بلهجة فيها تهديد: ﴿كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٤ ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٥﴾[النبا: ٤، ٥]، وأنه قال في الآية السابعة عشرة من السورة: ﴿إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا ١٧﴾[النبا: ١٧]، ثُمَّ أخذ بذكر جهنَّم وعذابها وذِكر الجنَّة، فإنَّه من الواضح أنَّ ذلك النبأ العظيم المُختلف فيه يتناسب مع واقعة القيامة العظيمة التي ستقع في المُستقبل. ورغم أنَّ تفسير «مجمع البيان» يذكر عادةً الأخبار الخُرافية [التي يرويها الكُلَيْنِيّ في الكافي] إلا أنَّه هنا أهمل تماماً ذِكر الرواية التي تدَّعي أنَّ «النبأ العظيم» هو الولاية. كما لم يعتنِ تفسير «الميزان» بتلك الروايات وقال: إنَّ المُراد من النبأ العظيم البعث والقيامة لأن القرآن الكريم اهتمَّ اهتماماً تاماً وأكَّد في السور المكية لاسيما تلك السور التي نزلت في أوائل البعثة على إثبات القيامة ويوم الفصل.
وكذلك تفسير «الأمثل» ذَكَرَ -حفاظاً على اعتبار الروايات- ثلاثة أحاديث غير مُعتبرة، ولما رأى أنَّ مضمون هذه الأحاديث لا يتناسب مع آيات سورة «النبأ» ادَّعى ادِّعاءً لا دليل عليه بأنَّه من الممكن أن يكون المقصود الباطني للآيات هو «الولاية»!! لكنه أثناء تفسير الآية اعترف أنَّ كون أكثر المُشركين مُختلفين حول مسألة «المعاد» يُؤكِّد على تفسير الآية بالبعث والمعاد. وصرَّح أن تفسير الآية بالمعاد راجح على سائر الأقوال.
ويقول كاتب هذه السطور: لو جاز القول بمعنى باطني للآيات لا يتناسب مع ظاهرها ولا يتعلَّق به فإنَّنا نقول أيضاً: إنَّ المعنى الباطني لـ «النَّبَأ الْعَظِيم» هو أنَّ علماء الدين والمشايخ مُتعصِّبون وخُرافيُّون وأنَّهم سببٌ لانحراف عوام الناس وضلالهم، وكانت تلك مسألة يصعب قبول العوام لها لذلك كانوا مُختلفين فيها مُتردِّدين بشأنها وسوف يعلمون يوم القيامة أيَّ خدعة وقعوا بها؟! «باؤك تجرُّ وبائي لا تجرّ»!
إضافةً إلى ذلك فإن سورة النبأ نزلت في مكة ولم يكن أهل مكة في ذلك الحين يتساءلون حول حضرة عَلِيٍّ (ع) أو يختلفون بشأنه حتى يُنزِّل اللهُ جواباً وبياناً بشأن اختلافهم ذاك.
وقال الشيخ عبَّاس القمي أيضاً بشأن سورة القدر: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ «إنا أنزلناه» فِي صلاة الفريضة نَادَاه مُنَادٍ من عند الله: اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فَقَدْ غُفِرَ لَك ما تقدَّم من ذنبك !!"[82].
يعني استأنف من جديد خطاياك وجرائمك! لا ندري لماذا لم يستخدم كُتَّاب مثل هذه الأحاديث وناقلوها عقولهم فيُدركوا أنَّ هذه الأخبار مُتعارضة مع القرآن ومع القانون الإلهي الذي بيَّنه تعالى بقوله ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾[الزلزلة: ٧، ٨]، وقال: ﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١﴾[الطور: 21]، وقال: ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨﴾[المدثر: ٣٨]، وقال أيضاً: ﴿يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ ١٦﴾[لقمان: ١٦].
ما ذكرناه يكفي لمعرفة مقدار صلة حواشي هذا القسم من كتاب «مفاتيح الجنان» بالإسلام والمسلمين، ولا نحتاج إلى مزيد من التفصيل في ذلك. وبالطبع فإنَّ وضع سائر أقسام «المفاتيح» ليس أفضل من ذلك. فعلى سبيل المثال يقول في «أعمال نهار الجمعة» (ص 49، أو ص71- 72 من النسخة المُعرَّبة): "مَن قال بعد فريضة الظّهر وفريضة الفجر في يوم الجُمعة وغيره من الأيّام: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَجِّلْ فَرَجَهُم، لم يمت حتّى يدرك القائم (عليه السلام) !!!". أو قال في «أعمال ليلة الجمعة» (ص 31، أو ص 66 من النسخة المُعرَّبة): "من قرأ بني إسرائيل (= الإسراء) في كلّ ليلة جمعة لم يمت حتّى يدرك القائم (عليه السلام) فيكون من أصحابه !!!".
ينبغي أن نعلم أنَّ واضع هذه الأحاديث نسبها إلى الإمام الصادق ÷ غافلاً عن أنَّه لم يكن في ذلك الزمن من إمام سواه، أي أنَّه عند الصدور المُفترض لهذه الأحاديث كان الإمام القائم هو حضرة الصادق نفسه لا غيره! ألم يفهم واضع الحديث ما لفَّقه من كلام؟ لماذا لم يسأل الشيخ عبَّاس نفسه عند كتابته لهذين الحديثين: ما هو إذن تكليف ومصير الأشخاص الذين قرؤوا هذه السورة أو هذه الصلوات حتى عهده ورحلوا عن الدنيا دون أن يُدركوا حضرة الصادق أو الإمام الثاني عشر؟![83]
وبالطبع عليَّ أن أسأل نفسي هل كان الشيخ عبَّاس وأمثاله يُفكِّرون فيما يكتبون أصلاً؟ أم أنهم لم يكن لهم أيُّ صلة بعقلهم ولم يكونوا يعتبرون أن الاستفادة من عقلهم أمراً واجباً!
وفي الصفحة ذاتها يقول بشأن قراءة سورة «ص»: قال: "وبسند معتبر عن الباقِر (عليه السلام) قال: مَنْ قرأ سورة ص في ليلة الجُمعة أعطي من خير الدّنيا والآخرة ما لم يُعط أحدٌ من النّاس إلا نبيّاً مُرسلاً أو ملكاً مُقرّباً وأدخله الله الجنّة، وكلّ من أحبّ من أهل بيته حتّى خادمه الذي يخدمه وإن لم يكن في حدّ عياله ولا في حدّ من يشفع له!!"[84].
ويقول في الصفحة ذاتها أيضاً: "وقال (عليه السلام): من قرأ سورة الكهف كلّ ليلة جمعة لم يمت إلا شهيداً وبعثه الله مع الشّهداء ووقف يوم القيامة مع الشّهداء !!"[85].
وأيضاً يروي في الصفحة ذاتها عن الإمام الصادق ÷ قوله: "وقال (عليه السلام): من قرأ سورة السّجدة في كلّ ليلة جمعة أعطاه الله كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما كان منه وكان مِن رفقاء محمّد وأهل بيته (عليهم السلام) !!"[86].
أو يقول في الصفحة 15 (ص من النسخة المُعرَّبة): كل من قرأ الدعاء الفلاني لم يفتح الله له ديوان ذنوبه!!
إنَّ مثل هذه الأقوال تُخالف قول الله في القرآن الكريم: ﴿فَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦﴾[الاعراف: ٦] فالله تعالى يعتبر الأنبياء مسؤولين فكيف يُمكن أن يكون من قرأ سورةً أو دعاءً غير مسؤول وأن لا يُحاسبه الله؟! أفلا تعقلون؟
حقاً إنَّ السؤال المُحيِّر: ألم يسأل مؤلِّف «مفتاح الجنان» أو مؤلِّف «مفاتيح الجنان» وأمثالهما أنفسهما: كيف يُمكن أن يقول دين الله من جهة: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣... وَمَن جَٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَٰهِدُ لِنَفۡسِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٦﴾[العنكبوت: ٢ و 3 و ٦]، ويقول: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤﴾[البقرة: ٢١٤]. أي أنَّ الوصول إلى السعادة الأبديّة رهين بالإيمان والعمل الصالح والمُجاهدات المُخلصة.
ثم يقول من الجهة الأخرى: إن قرأتم الدعاء الفلاني أو أدَّيتم الزيارة الفلانية فستكون الجنة والسعادة الأبدية من نصيبكم؟!! إنَّ مثل هذا العمل يستوجب بلا ريب نقض الغرض من تشريع الأحكام لأنه في مثل هذه الحالة، سيقول كل إنسان في نفسه: لماذا أترك العمل البسيط الذي يُدخلني الجنة وأُتعب نفسي باختيار الأعمال الصعبة؟! إذا كان من الممكن شراء الجنة بقراءة دعاء أو زيارة فلماذا أتحمَّل عناء جهاد النفس والتضحية والجهاد في سبيل الله؟
أجل، لو صدَّق الناس هذه الثوابات العجيبة والغريبة لأدَّى ذلك إلى تهرُّبهم من الالتزام بالأعمال وإلى فقدان قيمة كل ما جاء في الشرع من ترغيب بالعمل بالأوامر وباجتناب نواهي الشرع وترهيب من ارتكاب المعاصي والذنوب. فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا؟
[72] راجعوا الصفحات 35- 37 من الكتاب المذكور. (أي عرض أخبار الأصول ...) [73] ملاحظة: ما بين المعقوفتين: [ ] هو من كلام البرقعي أدرجه بين كلام البهبودي بقصد التوضيح. (الـمُتَرْجِمُ) [74] مفاتيح الجِنان، حاشية الصفحة 3، والحديث المذكور منسوب لأبي بكر! (راجعوا: مستدرك الوسائل، الطبعة الحجرية، ج1، ص 304). ملاحظة للمُتَرْجِمُ: هكذا جاء في حاشية ص 3 من المفاتيح، ولكن أصل الرواية كما في بحار الأنوار هي هكذا: "مَنْ سَمِعَ سُورَةَ يس عَدَلَتْ لَهُ عِشْرِينَ دِينَاراً فِي سَبِيلِ الله وَمَنْ قَرَأَهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً وَمَنْ كَتَبَهَا وَشَرِبَهَا أَدْخَلَتْ جَوْفَهُ أَلْفَ يَقِينٍ وَأَلْفَ نُورٍ وَأَلْفَ بَرَكَةٍ وَأَلْفَ رَحْمَةٍ وَأَلْفَ رِزْقٍ وَنَزَعَتْ مِنْهُ كُلَّ غِلٍّ وَدَاء". أي أن الثواب المذكور في الرواية هو لمن كتبها ونقعها وشرب محلولها!!! وليس لمن سمعها. (المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 89، ص 291). (الـمُتَرْجِمُ) [75] بحار الأنوار، ج 79، ص 63 (نقلاً عن كتاب «عُدَّة الداعي» لابن فهد الحلّيّ) (الـمُتَرْجِمُ) [76] مفاتيح الجِنان، حاشية الصفحة 4، وهذا الحديث موجود في «وسائل الشيعة»، ج4، ص 886، الحديث 1. ولاحظوا أن أحد رواته هو «إسماعيل بن مهران» الذي عرفنا به في كتابنا كتاب «عرض أخبار الأصول....»، ص 662-663 و 813. والراوي الآخر «الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاء» الواقفي، الذي اختلف علماء الرجال بشأنه ولكن لم يوثِّقْهُ أحدٌ، وضعَّفه الفاضل الجزائري. وهو ذاته راوي الرواية العجيبة التي تقول: "مَنْ قَرَأَ سُوَرَ الطَّوَاسِينِ الثَّلَاثَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَفِي جِوَارِ اللهِ وَكَنَفِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ فِي الدُّنْيَا بُؤْسٌ أَبَداً..... الخ". (ص 31، أو ص66 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح). راجعوا وسائل الشيعة، ج 5، ص 59، الحديث 9. [77] لمشاهدة الرواية المذكورة راجعوا وسائل الشيعة، ج 5، ص 59، الحديث 9. [78] مفاتيح الجِنان، حاشية الصفحة 5، وانظروا الرواية المذكورة في وسائل الشيعة، بَابُ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْحَوَامِيمِ وَالرَّحْمَنِ وَالزَّلْزَلَةِ وَالْعَصْرِ فِي النَّوَافِل، ج 4، ص 809، الحديث 2. [79] مفاتيح الجِنان، حاشية الصفحة 6. وأصل الحديث لدى الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص116-117. ونقله عنه الحُر العاملي في وسائل الشيعة، ج6، ص72. (الـمُتَرْجِمُ) [80] لقراءة الحديث المذكورة بتمامه راجعوا وسائل الشيعة، ج 4، ص 790، الحديث 8. بعض رواة الحديث المذكور هم: «منصور بن حازم» الذي عرفنا به في كتابنا «عرض أخبار الأصول....»، ص 342 فما بعد. و«إسماعيل بن مهران» الذي عرفنا به في ذلك الكتاب أيضاً في ص 662-663 و813. والراوي الآخر للحديث هو «محمد بن حسان» الذي ضعَّفه الشيخ الطوسي والغضائري وابن داود والعلامة الحلي وقال عنه النجاشي: يروي عن الضعفاء كثيراً! [81] الصحيفة العلوية، بترجمة محلاتي، ص 623. [82] للاطِّلاع على الحديث المذكور راجعوا «وسائل الشيعة»، ج 4، ص 811، الحديث 9. أحد رواته «الحسين بن أبي العلاء» الذي عرَّفنا به في حاشية الصفحة 44 من الكتاب الحالي. [83] لمُطالعة هذين الحديثين راجعوا كتاب «مستدرك الوسائل»، ج 1، ص 423، وكتاب «وسائل الشيعة»، ج 5، ص 88، الحديث 8. وبالمناسبة فإن راوي الحديث الأخير هو «الحسين بن أبي العلاء» الذي سبق أن عرّفنا به في حاشية الصفحة 44 من الكتاب الحالي. [84] لرؤية هذا الحديث راجعوا «وسائل الشيعة»، ج 5، ص 89- 90، الحديث 1. وأحد رواة هذا الحديث هو «عمرو بن جبير العزرمي» وهو مجهول. وينبغي أن نقول للشيخ عباس: لقد فهمنا أيضاً معنى قولك «وبسند مُعتبر»! [85] لرؤية هذا الحديث راجعوا «وسائل الشيعة»، ج 5، ص88، الحديث 9. اثنان من رواة هذا الحديث هما «محمد بن حسان» و «إسماعيل بن مهران». للاطِّلاع على حالهما راجعوا حاشية الصفحة 46 من الكتاب الحالي. [86] راجعوا «وسائل الشيعة»، ج 5، ص 89، الحديث 13. وراوي هذا الحديث «الحسين بن أبي العلاء» الذي عرّفنا به في حاشية الصفحة 44 من الكتاب الحالي.
اعلم أن المرحوم القُمِّيّ قسَّم كتابه إلى ثلاثة أبواب:
البابُ الأول: في تعقيب الصلوات ودعوات أيام الأسبوع، وأعمال ليلة الجمعة وعدة أدعية مشهورة والمناجاة الخمس عشرة وغيرها.
البابُ الْثّاني: في أعمال أشهر السّنة العربيّة وَفضل يوم النّيروز وَأعماله وأعمال الأشهر الرّوميّة.
البابُ الثّالِثُ: في الزّيارات وما يُناسبها.
في الصفحات التالية سنمرُّ مروراً سريعاً على بعض ما ذكره في «الباب الأول» ونفحصه على نحو الإجمال:
أولاً: لقد نسي المرحوم القُمِّيّ في الصفحة الثالثة من كتابه العهد الذي قطعه على نفسه للقراء في الصفحة الأولى! إذْ أورد في فصل «التعقيبات العامة» (ص14)[87]، دعاءً عن كتاب «مِصْبَاح المُتَهَجِّد» للشيخ الطوسي ليس له سندٌ، في حين أنَّه كان قد التزم في مقدمة «مفاتيح الجنان» (ص 12)[88] أن لا يذكر أيَّ أمر ليس له سند!
والدعاء المُشار هو الذي يقول: "وهذا دعاء علّمه جبرئيلُ يوسفَ (عليه السلام) في السّجن (وفيه): ثمّ خُذْ لحيتك بيدك اليمنى وابسط يدك اليسرى إلى السّماء وقل سبع مرّات .... الخ".
ونسأل: هل على النساء اللواتي ليس لهن لِحَىً أن لا يقرؤوا هذا الدعاء؟ ثم لماذا علَّم جبريل حضرة يوسف (ع) دعاءً لم يتحقَّق حتى بعد عشرات القرون؟ ألم يكن جبريل يعلم -نعوذ بالله- دعاءً أكثر فائدةً ليوسف (ع) من هذا؟!
وخلاصة الكلام، إن معظم ما أورده المرحوم القُمِّيّ في هذا الباب مخالفٌ لما عاهد القراء عليه، لأنه عبارة عن أخبار فاقدة للسند أو ضعيفة السند، وكل من راجع الكتب التي ذكرها بوصفها مستَنَدُهُ ومرجِعُهُ فيما يذكره من نصوص أيقن بصحّة كلامنا. وسنذكر هنا بعض النماذج بنحو مختصر، لأن ذكر جميعها سيُخرجنا عن الاختصار:
1- روى في الصفحة 16[89] عن ابن بابويه القمي سلاماً على الأئمة الاثني عشر وقال بعده: "ثم سَلِ اللهَ ما شِئْتَ !".
ونسأل: هل كان الشيخ الصدوق يملك حق التشريع؟! وبأيِّ حق يفتي من عند نفسه بأمر غيبي ديني؟
2- ونقل عن «مصباح» الكفعمي أموراً لا سند لها.
3- وروى في الصفحة 17[90] حديثاً عن الإمام محمد التقي (ع) [حول ثواب قراءة سورة القَدْر] راويه «الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَرِيشِ الرَّازِيُّ»[91].
4- وفي الصفحة 18[92] ذكر «صلاة الغُفَيْلَة» التي ليس لها سند جيد[93]. ولكن يُمكننا أن نستنبط من الحديث المذكور ومن أحاديث مُتعددة أخرى ذُكرت في الوسائل، أن الأئمَّة عليهم السلام كانوا يُجيزون أن يقرأ المُصلِّي جزءاً من سورةٍ بعد قراءة الحمد[94]. (فَتَأَمَّل)
5- وفي الصفحتين 19 و20 [95] نقل عن كتاب «مِصْبَاح المُتَهَجِّد» للشيخ الطوسي أدعيةً تُقْرأ عقب صلاة العشاء وصلاة الصبح لا سند ها!
6- وفي الصفحة 20[96] روى عن الكُلَيْنِيّ روايةً في تعقيب صلاة الصبح والمغرب، اثنان من رواتها هما: «إسماعيل بن مهران» و«علي بن أبي حمزة البطائني»![97]
7- وفي الصفحة ذاتها روى عن «الجُعْفِيّ» وهو من الضعفاء، دعاءً لوجع العين يبتدئ بالجملة التالية: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْك...الخ"[98]. ونسأل: وهل لمحمد وآل محمد حقٌّ على الله؟! أم أن لِـلَّهِ عليهم حقٌّ عظيم؟
8- وذكر في الصفحة 21[99] رؤيا، نُعرض عن التعليق عليها لأن الرؤى والمنامات ليست حُجَّةً.
9- وفي الصفحة 22[100] روى عن الصادق (ع) قوله: فريضةٌ على كل مسلم أن يقرأ قَبْلَ طلوع الشمس وقبل غروبها عشراً: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.... الخ"[101].
ألا يعلم الشيخ عبَّاس أنه لم يقل بوجوب هذا الدعاء أيُّ أحد من علماء الإسلام وحتى علماء الإمامية؟!!
10- وفي الفصل الثالث من الباب الأول (ص 32)[102] يروي أدعية أيام الأسبوع نقلاً عن «ملحقات الصحيفة السجاديّة»، مع أن هذه الملحقات ليس لها أيُّ سند أصلاً، والعجيب أنها تبتدئ أيام الأسبوع من يوم الأحد -كاليهود- وتُنهيها يوم الخميس؟! وقد جاءت هذه الأدعية أيضاً في كتاب «البلد الأمين» للكفعمي دون سند[103]. وفي بعض جمل هذه الأدعية إشكالات شرعية وعقلية، مثل مسألة التوسل (في دعاء يوم الخميس) الذي سنذكر لاحقاً شرحه باختصار. وقد جاءت الجملة قبل الأخيرة من دعاء يوم الخميس في كتاب «البلد الأمين»، على النحو التالي: «واجعلهُ لي شافعاً يوم القيامة نافعاً» وليس فيها عبارة: «توسُّلي به»[104].
11- ويروي في الصفحة 29[105] [عن الإمام الصادق ÷]: "اجتنبوا المعاصي ليلة الجمعة .... ومن ترك معصية الله ليلة الجُمعة غَفَرَ الله له كلّ ما سلف !!"
أقول: إذن ما أحسنها من فكرة، نعصي الله في ستة أيام ثم نأتي ليلة الجمعة ونأخذ فيها وفي يوم الجمعة فترة راحةٍ، لِنُجَدِّد فيها قوانا حتى نتقوى على الذنوب في الأسبوع القادم مِنْ جِهَةٍ، وَلِتُغفرَ كل ذنوبنا الماضية من الجهة الأخرى!! أما القرآن الكريم فيقول: ﴿لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ١٢٣﴾[النساء : ١٢٣]، وعلى القارئ أن يختار بين قبول كلام الله أو تصديق رواية المفاتيح!!
وقد تكلمنا فيما سبق[106] عن الأمور الذي ذكرها القمي في الصفحة 31 من المفاتيح[107] فلا نكرر الكلام هنا.
12- ادَّعى في الصفحة 12 أن قراءة الشعر ليلة الجمعة ويومها مكروهة ويجب تركها حتى لو كان كلام الشعر حقاً، وحتى لو صلَّى عن شخص لا تُقبل صلاته. ونقول: إن كنتم تؤمنون بهذه الرواية فلماذا ملأتم المساجد ليلة الجمعة ويومها بالشعر والمدائح ولطم الصدور أو قراءة المرثيَّات خلافاً لهذه الرواية؟!
13- وروى في الصفحة ذاتها روايةً فيها أنَّ: "من قال هذه الكلمات سبع مرّات في ليلة الجمعة فمات ليلته دخل الجنّة ومن قالها يوم الجمعة فمات في ذلك اليوم دخل الجنّة "[108]. في حين أن هذا الحديث مُرْسَل وساقط من الاعتبار[109].
وينقل أيضاً دعاءً عن كتاب «مصباح المتهجد» للشيخ الطوسي وهو دعاء لا سند له! وفي الصفحة ذاتها يروي عن الشيخ الطوسي والسيد ابن طاووس والكفعمي والسيد ابن باقي أنه يُستحبُّ قراءة الدعاء الفلاني! ونسأل: إذا كان ذلك الدعاء عن رسول الله ص فلماذا لا تروونه عن حضرته مباشرة، وإن لم يكن عن رسول الله ص فأيُّ حق للشيخ والسيد والآخرين أن يُضيفوا مُستحبَّات من عند أنفسهم على دين الله؟!
14- قال في «أعمال ليلة الجمعة» (ص 34)[110] [في البند العاشر]: «فإذا طلع الفجر يوم الجمعة فليقل: أَصْبَحْتُ في ذِمَّةِ اللهِ .... الخ»[111] مع أن راوي هذا الحديث رجلٌ ضعيفٌ يُدْعَى «داود بن كثير الرّقي»[112].
15- أورد في «أعمال نهار الجمعة» (ص37) [113] أكاذيب «صالح بن عُقبة» بشأن الرمَّان!![114].
16- وفي الصفحة 38 [115] قال: «التاسع عشر: أن يقرأ «دعاء الندبة»، وهو من أعمال الأعياد الأربعة». هذا في حين أن كثيراً من جُمل هذا الدعاء تتعارض مع القرآن!! وسوف يأتي شرح ذلك في الصفحات القادمة، إن شاء الله تعالى.
17- وفي «أعمال نهار الجمعة» (ص 37-38)[116] [البند الثامن عشر] ذكر افتراء الرواة على الإمام الباقر (ع) أنه قال: "زوروا الموتى يوم الجُمعة فإنّهم يَعْلَمُونَ بِمَنْ أَتَاهُمْ فَيَفْرَحُونَ بِه !!"[117]. في حين أن القرآن يقول إن الأموات لا علم لهم بما يجري في الدنيا وهم في عالَم البرزخ. وأحد رواة هذا الحديث هو «محمد بن جعفر بن بطة» وكان كما قال عنه النجاشي: "يتساهل في الحديث، ويعلق الأسانيد بالإجازات، وفي فهرست ما رواه غلط كثير. وقال ابن الوليد كان محمد بن جعفر بن بطة ضعيفاً مخلطاً فيما يسنده"[118]. والراوي الآخر للحديث «علي بن الحَكَم»[119]. وراويه الآخر «ربيع بن محمد المسلي» الذي لم يُوثَّق.
18- وقال بشأن صلاة النّبيّ ص في (ص 39)[120] : "ثمّ تنصرف وليس بينك وبين الله تعالى ذنب إلا وقد غُفِرَ لك وتعطَى جميع ما سألت !!".
19- وقال بشأن صلاة أمير المؤمنين ÷ (ص 40)[121]: "من صلّى منكم أربع ركعات صلاة أمير المؤمنين ÷ خَرَج من ذُنوبه كيوم ولدته أمّه وقضيت حوائجه !!".
20- وقال في «أعمال يوم الجمعة» [البند الرّابع والعشرون] (ص 49)[122]: "من قال بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة الظّهر: اَللّـهُمَّ اجْعَلْ صَلاتَكَ وَصَلاةَ مَلائكَتِكَ وَرُسُلِكَ على مُحَمَّد وآلِ مُحَمَّد لم يكتب عليه ذنب سنة !!".
وأقول: إن هذه التعليمات والوصايا مُفيدة لتجرئة الناس على المعاصي. إذ يُمكن بناءً عليها لكل من ارتكب إثماً أن يُصلِّي هذه الصلوات أو يقرأ تلك الأدعية فتُغفر ذنوبه. إن هذه التوصيات تُعجب الأراذل والأوباش والفُسَّاق والظَّلَمَة إذ يرون أنه يُمكنهم أن يعملوا بها فلا تُسجَّل عليهم ذنوبهم فيعيشون في الدنيا بلا أي قيد أخلاقي ثم يدخلون الجنة في الآخرة!! سُبحان الله ربِّ العالمين.
21- وبعد الصلاة المُخترعة والموضوعة التي ادَّعوا أن حضرة الصادق (ع) نسبها إلى عَلِيٍّ (ع) ونسبوا فيها إلى الإمام قولَهُ مُخاطباً ربَّه: «يَا مُتَرَئِّفُ.... يَا مُتَجَبِّرُ، يَا مُتَمَلِّكُ .....» في حين أن عَلِيَّاً (ع) كان أعلم الناس بالقرآن وكان أمير الفصاحة والبيان وكان أكثر بلاغةً وفصاحةً من أن يُخاطب الله بمثل هذه الصفات المذكورة. ولو كان ذلك الدعاء له فعلاً لقال تأسيّاً بالقرآن الكريم ومراعاة لمُقتضى المقام والمقال: «يا رؤوف يا جبَّار يا مالِكُ» (فَتَأَمَّل). وفي رأينا إن الذي لفَّق هذا الدعاء لم يكن عربياً أصلاً فضلاً عن أن يكون فارس ميدان الفصاحة والبلاغة حضرة أمير المؤمنين علي ÷!
22- وجاء في جملةٍ من هذا الدعاء منسوباً إلى عَلِيٍّ (ع) أنه قال: «اللَّهُمَّ بِمُحَمَّدٍ سَيِّدِي وبِعَلِيٍّ وَلِيِّي وَبِالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ.....». إن واضع هذا الحديث كان على درجة من قلة الفهم جعلته يعجز عن فهم أنه لا يُمكن لعليٍّ (ع) أن يقول في دعائه: «وبِعَلِيٍّ وَلِيِّي »! وأنه لا يمكن للأئمة الراشدين أن يُقسموا على الله بأنفسهم، إذ ما أجهل من يُقسم على الله بنفسه!! حاشا لأئمة الدين الكرام أن يفعلوا ذلك! حقاً إنه لخداع كبير أن نقول: إن من يقرأ هذا الدعاء بهذه التعابير الواهية: "يُغفَر لَه ما تقدّم مِن ذنبِه وما تأخّر، وكان كمن ختم القرآن اثنتي عشرة ختمةً، ورفع الله عنه عطشَ يوم القِيامة !!"[123].
2313- ثم ذكر صلاةً باسم: "صلاة فاطمة صلوات الله عليها" (ص 41)[124] وادَّعى أن جبريل (ع) علَّمها إياها!! [125] وليت شعري! هل ينزل جبريل بمسائل الشريعة على غير النبيّ؟! إن رواةَ هذه الصلاة اثنان من الكذابين المشهورين باسم «محمد بن سنان»[126] و «المُفضَّل بن عُمَر»[127]!
24- وبعد تلك الصلاة المزعومة أورد صلاةً ودعاءً آخر عن حضرة فاطمة (ع) يتضمن تعابير ركيكة مثل: «لَمْ آتِكَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمْتُهُ وَلَا بِشَفَاعَةِ مَخْلُوقٍ رَجَوْتُهُ أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِه» !!
يا سُبحان الله! ألا تعتبرون حضرة فاطمة من أهل بيت النبيّ؟ فهل يُمكن لحضرة فاطمة أن تتقرّب إلى الله بشفاعة نفسها لنفسها؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟
كيف يُمكن لحضرة الزهراء (ع) أن تقول مثل ذلك الكلام في حين أن زوجها الكريم (ع) كان يقول في دعائه: «وَلَقَدْ رَجَوْتُ مِمَّنْ تَوَلَّانِي فِي حَيَاتِي بِإِحْسَانِهِ أَنْ يَشْفَعَهُ لِي عِنْدَ وَفَاتِي بِغُفْرَانِه» [128] وكان يقول: «اللهم إني أتقرب إليك بذكرك و أستشفع بك إلى نفسك»[129]. وكان يقول: «لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ»[130]. وكان حفيده الجليل حضرة زين العابدين (ع) يقول: «وَإِنْ شَفَعْتُ فَلَسْتُ بِأَهْلِ الشَّفَاعَة... شَفِّعْ فِي خَطَايَايَ كَرَمَك... لَا شَفِيعَ لِي إِلَيْكَ فَلْيَشْفَعْ لِي فَضْلُك...»[131]. ويقول: «لَا شَفِيعَ يَشْفَعُ لِي إِلَيْكَ»[132].
والأهم من ذلك: أين نجد في القرآن أن المخلوق يُرجَى ويُؤمَل به يوم القيامة؟ في أيِّ دعاء مُعتبر وموثوق جعل النبيُّ الأنبياء الآخرين شفعاءه أو واسطته في التقرُّب إلى الله؟[133] وبالمناسبة فصدر هذا الحديث يُفهم منه أن فاطمة أفضلُ من عَلِيٍّ مع أنكم تعتبرون عليَّاً أفضل منها!
25- بعد الصلاة الموضوعة المذكورة آنفاً، ذكر الشيخ عباس القمي نقلاً عن كتاب «جمال الأسبوع» الخُرافي للسيد ابن طاووس[134]، صلاةً خاصّةً ودعاءً خاصاً بكلّ واحدٍ من الأئمة (عليهم السلام) إماماً إماماً، ليس لأيٍّ منها سندٌ؟!
فليت شعري! هل الأئمة يملكون حقّ التشريع كي يُشرعوا للناس صلاة لم يُعلِّمها النبيّ ص لأمته؟! وإن كان النبيُّ ص هو الذي أتى بتلك الصلوات فما معنى اختصاص كلَّ واحدةٍ منها بإمامٍ من الأئِمَّة؟ وأساساً ما معنى اختصاص صلاة بأحد الأئمة؟
2614- الدعاء الذي أورده بعد صلاة صاحب الزمان فاضح جداً ومُضاد للقرآن ويستوجب الشرك والكفر![135] يقول في هذا الدعاء -كما ذكرنا في معرض بياننا لأحوال «الْحَسَنِ بْنِ مُثْلَةَ الْجَمْكَرَانِيّ» في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات ونصوص الزيارات]، (ص 167، الراوي 102)-:
«يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَاي، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ انْصُرَانِي فَإِنَّكُمَا نَاصِرَاي، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، يَا عَلِيُّ يَا مُحَمَّدُ احْفَظَانِي فَإِنَّكُمَا حَافِظَاي، يَا مَوْلَايَ يَا صَاحِبَ الزَّمَانِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) الْغَوْثَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَدْرِكْنِي (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) الْأَمَانَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) »!! [136]
أقول: كيف يُمكن لمن له علم بالقرآن أن يتحمَّل مثل هذا الشرك الذي جاء به الشيخ عبَّاس؟
في هذا الدعاء: دعاء غير الله الذي يُعدُّ شركاً تُعارضُه وتحرِّمُه عشرات الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿... فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨ ﴾ [الجن: ١٨]، وقوله سبحانه: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٠﴾[الجن: ٢٠]، وعشرات الآيات الأخرى التي اعتبرت أن نداء موجود غيبي غير الله واعتباره حاضراً وناظراً وسميعاً وبصيراً في كل مكان شِرْكٌ.
أضف إلى ذلك أنه تمَّ تقديم حضرة محمَّدٍ على عَلِيٍّ مرَّةً وتأخيره عنه مرَّةً أخرى! لعل ذلك كي لا يحزن عَلِيٌّ ويقول: لماذا لم تُقدّموا اسمي على اسم النبيّ بل أخَّرتموه عنه؟! ولذلك قدَّم كلاهما مرَّةً حتى لا يشتكي أيٌّ منهما!! أو لعلّ واضع الحديث لم يكن يعلم أو لم يكن متأكداً هل حضرة محمَّدٍ أفضل أم حضرة عَلِيٍّ!!
ثم يقول في الدعاء: «اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَاي »!! ألم يقرأ صاحب الزمان القرآن الذي قال بلهجة الاستفهام الإنكاري: ﴿أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ ٣٦﴾[الزمر: ٣٦]، وقال: ﴿وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٦﴾[النساء : ٦]و قال: ﴿وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّٗا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرٗا ٤٥﴾[النساء : ٤٥]فالله تعالى يقول إنني كافٍ لعبادي وكافٍ لنصرتهم ولحسابهم ولكن هذا الدعاء يقول: «يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ، اكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا كَافِيَاي .... وانْصُرَانِي فَإِنَّكُمَا نَاصِرَاي .... واحْفَظَانِي فَإِنَّكُمَا حَافِظَاي » في حين أن القرآن يقول: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ ٥٧﴾[هود: ٥٧]، ويقول مخاطباً نبيَّه: ﴿فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠﴾[النساء : ٨٠]، ويقول: ﴿وَمَا جَعَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا﴾[الانعام: ١٠٧].
ليت شعري! لماذا كان مُدَّعو العلم والحديث خرافيون إلى هذه الدرجة وجاهلون بالقرآن أو يخافون من العوام فيقعون في الشرك ويوقعون الشعب معهم في الشرك أيضاً؟! ألا يدري من يُخاطب صاحب الزمان الوهمي بقوله: «الغوث» و«أدركني» أن لا مُغيث إلا الله؟! متى اعتبر رسول الله ص وسائر الأنبياء وأمير المؤمنين علي ÷ أنفسَهم مُغيثين للخلق خاصةً من مكان بعيد أو بعد وفاتهم؟!
ألم يكن مُلفّق هذا الدعاء يعلم أن محمداً وعليَّاً بعد أن رحلا عن الدنيا استقرا في جوار رحمة الحق فلا خوف عليهما وهما مشغولان بجمال الحق لا غير؟.
27- وذكر في الصفحة 47[137] روايةً عن «المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ» وهو من الضعفاء وهو الذي روى صلاة حضرة فاطمة (ع)[138].
28- وفي الصفحة 50[139]روى صيغةً من الصلوات على النبي وآله، وقال إن: "مَنْ قَالَهَا يومَ الجُمُعَة فِي دُبُرِ الْعَصْرِ كَتَبَ اللهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ مِائَةَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَقَضَى لَهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ حَاجَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا مِائَةَ أَلْفِ دَرَجَة !!"[140].
29- وقال في «أعمال يوم الجمعة» (الصفحة 51)[141] كلاماً يُفِيدُ أن إمام الزمان سيطهِّر الأرض عند ظهوره من أدران الشّرك والكفر وأقذار المعاصي والذّنوب ومن الجبابرة والملحدين والكفّار والمنافقين... الخ".
وهذا القول مخالف للقرآن الذي قال عن النصارى: ﴿فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١٤﴾[المائدة: ١٤]، وقال عن اليهود: ﴿وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾[المائدة: ٦٤]. وآيات أخرى تدل على أن الكفر والشرك سيبقيان في البشر وسيبقى هناك غير مسلمين إلى ماقبل القيامة وستكون بينهم العداوة والإختلاف.
30- وفي «أعمال يوم الجمعة» (ص 52)[142] يروي صيغة صلوات على النبي وآله عن كتاب «مصباح المتهجِّد» للشيخ الطوسي[143]، والأثر مرويٌّ عن فرد مهملٍ يُدعى «أبو الحسن الضرَّاب الأصفهاني» وهو يرويه عن «عَجُوزٍ سَمْرَاءَ»! (هل يُسَمَّى هذا سنداً شرعياً؟!)[144].
31- وفي موضعٍ من تلك الصلوات يقول عن النبي ص: "الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ دِينُ اللهِ "!!
ولا يخفى أن مثل هذه الأباطيل إنما قيلت تأثراً بأحاديث الباب 110 من «الكافي» للكُلَيْنِيّ. ولقد ذكرنا في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» توضيحات في هذا الشأن (ص 171 فما بعد وص 621).
وهنا نذكِّر أيضاً أن رسول الله ص لما حرَّم شيئاً بسيطاً على نفسه فقط، ولم لم يحرِّمْهُ على الآخرين، عاتبه الله على ذلك وقال له: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ﴾[التحريم: ١]؟ وكذلك لمَّا قَبِلَ رسولُ الله ص عذر المنافقين الذين جاؤوا يعتذرون إليه في عدم خروجهم إلى الجهاد، قبل أن يتحقق من صحة أعذارهم، عاتبه الله وقال له: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ﴾[التوبة: ٤٣]. ولو كان لهذا التفويض حقيقة لما كان هناك من معنى لهذا العتاب. وذكر المفسِّرون في سبب نزول الآية 39 في سورة الحج المباركة أن المسلمين كانوا يتعرَّضون لأذى المشركين واضطهادهم الشديد وإلى القتل والجرح، فكانوا يأتون إلى رسول الله ص ويطلبون منه الإذنَ في قتال المشركين فكان ص يقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ". ولهذا نزلت أول آية في الإذن بالقتال وهي قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ﴾[الحج : ٣٩].
من هنا يقول تعالى: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ... ٱلظَّٰلِمُونَ... ٱلۡفَٰسِقُونَ ٤٧﴾[المائدة: ٤٤و 45 و ٤٧]. ويقول سبحانه أيضاً: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦﴾[الحاقة: ٤٤، ٤٦].
بناءً على ما تقدَّم، فإن الدين من عند الله فقط وليس لرسول الله ص الحق في أن يضيف إليه شيئاً أو ينقص منه.
32 - بعد ذكره تلك الصلوات على النبي ص أخذ الشيخ عبَّاس بصناعة حُجَجٍ لِـلَّهِ، فقدَّم للقراء اثني عشر إماماً وصفهم واحداً واحداً بعبارة: «حُجَّةَ ربِّ العالمين»! مع أن الله تعالى قال أنه ليس بعد الرسل «حُجَّة» [سورة النساء: 165] ومع أن أمير المؤمنين عليَّاً ÷ قال: «تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ » (نهج البلاغة، الخطبة 91).
وقد اعتبر في هذا الدعاء الحجج المذكورة دعائم الدين وأركان التوحيد[145]، أي أنه لو لم تكن تلك الحجج لكان الدين بلا دعائم وكان التوحيد بلا أركان! ونسأل: لماذا إذاً لم يعرِّف لنا الله تعالى في كتابه دعائم دينه وأركان توحيده وترك مهمَّة التعريف بهم على عاتق مشايخ الكُلَيْنِيّ والصدوق؟!
و وصف الأئِمَّة أيضاً بعبارة: «تراجمة وحيك»! وهذا الادّعاء يستند إلى حديث واهٍ ساقط من الاعتبار أورده الكُلَيْنِيّ في الباب 69 من الكافي، لاسيما الحديث الثالث الذي أوضحنا بطلانه في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 429).
ثم قال: «خُلَفَاءَكَ في أَرْضِك » فاعتبر الأئِمَّة خلفاء الله تعالى في الأرض!! في حين أن الله تعالى لا خليفة له لأن الخليفة لا يُتَصَوَّر إلا لشخص يموت أو يذهب أو يسافر أو يتمَّ عزله أو يعهد لشخص آخر أن يحل محله لانشغاله في عمل من الأعمال، وكل هذه الأمور لا تصح في حق الذات الإلهية، فالله لم يمت ولا يموت ولا يذهب إلى أي مكان ولا يشغله شأن عن شأن ولا يعزله أحد حتى يخلفه أحد. أما إذا لم يكن هذا معنى لخلافة الله مراداً من تلك العبارة، فكان من الواجب أن تكون العبارة على النحو التالي: "خلفاء نبيك في أرضك ". ولو كان ذلك الدعاء صادراً حقَّاً عن الأئِمَّة لبينوا قصدهم منه ببيان بليغ وفصيح، لكن الدعاء من وضع الرواة الجهلة.
ثم قال عن الأئِمَّة «اصْطَفَيْتَهُم عَلَى عِبَادِكَ وَارْتَضَيْتَهُم لِدينك »!!
إن أهل المعرفة بالقرآن الكريم يعلمون أن الرضا والاصطفاء الإلهي لفردٍ من أفراد من البشر، لا بد فيه من إعلان صريح من الله للبشر عن هذا الاصطفاء والاختيار؛ ونحن لا نجد في القرآن عبارة الاصطفاء إلا بشأن حضرة مر يم وطالوت. فأنتم الذين تعتبرون أن الأئمة ليسوا من قبيل طالوت بل أعلى شأناً من ذلك، فعليكم أن تقولوا: أين أعلن الله لنا في كتابه اصطفائه واختياره لأمير المؤمنين وأولاده (ع)؟ ألا تعلمون أن نسبة أي شيء إلى الله دون برهان ودليل شرعي أو سلطان وحُجَّة من الله حرام في دين الإسلام؟! هل لهذه الادِّعاءات سند ودليل؟
وجاء في الدُّعاء كذلك وصف الأئِمَّة (ع) بعبارة: «أَلْبَسْتَهُم نُورَكَ وَرَفَعْتَهُم في مَلَكُوتِك ». وهذا القول كذب لأن جدَّهم الذي هو أفضل من الجميع وأرفع شأناً كان بشراً كسائر البشر ولم يُلْبَس نور الله. ولأن الرفع إلى الملكوت والعروج إلى السموات كان خاصَّاً برسول الله ص، ولم يُعرَج بأحد من أحفاده وأقاربه. قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ١١٠﴾[الكهف: ١١٠]، وقال أيضاً: ﴿وَقَالُواْ مَالِ هَٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأۡكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشِي فِي ٱلۡأَسۡوَاقِ﴾[الفرقان: ٧]؟ (وانظروا الآية 20 أيضاً من السورة ذاتها). من هذا يتبيَّن أن هناك تفاوتٌ كبير بين نبيّ القرآن ونبيّ مفاتيح الجنان!
في هذا الدعاء يُطلب من الله أن يُخلِّص الإمام القائم من أيدي الجبارين والظالمين! وليت شعري! ألم يكن هناك من يقول لواضع هذا الدعاء: أنتم تقولون إن إمامكم غاب كي لا يقع أسيراً بأيدي الجبارين ولا يُقتل على أيديهم، فالإمام الغائب الآن ليس في أيدي الجبارين والظالمين حتى يُطلب من الله أن يُخلِّصه منهم! من الواضح أن واضع هذا الدعاء لم يكن يفهم ما يُلفِّقه من كلام.
والفضيحة الأكبر في هذا الدعاء احتواؤه على جُمَلٍ تدلُّ على تحريف القرآن وهي: "اللَّهُمَّ جَدِّدْ بِهِ مَا مُحِيَ مِنْ دِينِكَ، وَأَحْيِ بِهِ مَا بُدِّلَ مِنْ كِتَابِكَ، وَأَظْهِرْ بِهِ مَا غُيِّرَ مِنْ حُكْمِك"!!.
إن الوضَّاعين والمُبتدعين للفرق المذهبية أوجدوا كل تلك البدع في الإسلام، فغيَّروا أذان المسلمين وأخَّروا وقت الغروب (أذان المغرب) وبدَّلوا كيفية صلاة العيدين و..... ثم جاؤوا يصيحون ويذرفون دموع التماسيح قائلين: اللهم جِّدد ما مُحيَ من دينك وأظْهِرْ ما غُيِّر منه كي لا تبقى هناك بدعةٌ!! إن واضع هذا الدعاء مثله مثل السارق الذي يسرق شيئاً وفي الوقت ذاته يصيح حرامي..! حرامي...! كي يخدع الناس!!
وفي آخر الدعاء وصف الأئمة بعبارات: "الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَالْحَبْلِ الْمَتِينِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيم "!! مع أن حضرة أمير المؤمنين علي ÷ قال مراراً إن العروة الوثقى والحبل المتين هو القرآن (نهج البلاغة، الخطبة 156، 167، 192 و 189). ولم يقل أنا «حبل الله» بل قال إنني تابع لدين الله ومُطيعٌ لحبل الله.
وأخيراً قال واضعُ هذا الدعاء، الجاهلُ، في آخر دعائه: "اللهم صَلِّ عَلَى وَلِيِّكَ وَوُلَاةِ عَهْدِهِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ وَمُدَّ فِي أَعْمَارِهِمْ وَزِدْ فِي آجَالِهِمْ...".
هل فهم هذا الوضَّاع الكلام الذي لفَّقه؟ هل كان يظنَّ أن الأئمةَ أبناءٌ للإمام الغائب وأنهم كلهم أحياء حتى طلب من الله أن يمدَّ في أعمارهم؟! ألم يكن يعلم أن الأئمة كانوا أجداد الإمام الغائب وأنهم في عهد الإمام الغائب كانوا قد رحلوا عن الدنيا منذ سنين؟!! أم أنه لم يكن يعلم أن الإمام الغائب -طبقاً لعقيدة الشيعة- آخر الأئمة ولا إمام بعده؟!
نعم، هذا ما أدخلوه باسم الدين في الكتب الدينية وأضلوا الناس، ولم يظهر عالم ناطق بالحق يُبيِّن للناس الحقائق ويُنقذهم من هذه التُرَّهات.
[87] ص 45 من النسخة المُعرَّبة لمفاتيح الجنان. [88] ص 43 من النسخة المُعرَّبة لمفاتيح الجنان. [89] ص 49 من النسخة المُعرَّبة لمفاتيح الجنان. [90] ص 51 من النسخة المُعرَّبة لمفاتيح الجنان. [91] الحديث المُشار إليه مذكور في «مستدرك الوسائل»، ج 1، ص 348. ولمعرفة حال «الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَرِيشِ الرَّازِيِّ» راجعوا كتابنا «عرض أخبار الأصول ...»، ص 561. [92] ص 52 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [93] راجعوا «مستدرك الوسائل»، ج 1، ص 461. [94] للاطِّلاع على الحديث المذكور راجعوا وسائل الشيعة، ج 4، ص 737 فما بعد. [95] ص 53 و54 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [96] ص 55 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [97] لقد عرّفنا في كتابنا «عرض أخبار الأصول ...» بـ «إسماعيل بن مهران» في الصفحات 662 - 663 و 813. وبـ «علي بن أبي حمزة البطائني» في الصفحة 163 و 196 فما بعد. [98] لرؤية هذا الحديث راجعوا وسائل الشيعة، ج 4، ص 1055، الحديث 5. [99] ص 56 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [100] ص 57 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [101] هذا الحديث مذكور في وسائل الشيعة، ج 4، ص 1235، الحديث 4. (نقلاً عن كتاب الخصال للشيخ الصدوق). أحد رواة هذا الحديث «تميم بن بهلول» مهمل. والراوي الآخر شخصٌ يُدعى «بكر بن عبد الله بن حبيب» ضعيف. [102] ص 58 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [103] ذكر الكفعمي هذه الأدعية أيضاً في كتابه «المصباح» (الفصل 17 في أدعية الليالي والأيام) دون سند. [104] الشيخ إبراهيم الكفعمي، البلد الأمين، ص 139. وراجعوا أيضاً كتاب المصباح للكفعمي، الفصل 17. [105] ص 64-65 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [106] راجعوا الصفحة 46 -49 من الكتاب الحالي. [107] ص 66 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [108] ص 68 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [109] راجعوا كتاب «مستدرك الوسائل»، ج 1، ص 427. [110] ص 65 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [111] ص 70 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [112] راجعوا جمال الأسبوع، للسيد ابن طاووس، الفصل التاسع عشر، «فيما يقوله إذا طلع فجر يوم الجمعة»، وللتعرف على داود الرقي راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول....» ص 399-400 و 458. [113] ص 73 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [114] لمعرفة حال «صالح بن عقبة» وأكاذيبه حول الرمَّان راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول....»، ص 310-312. [115] ص 74 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [116] ص 74 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [117] هذا الحديث مذكور في وسائل الشيعة، ج 5، ص 92، الحديث 1. [118] رجال النجاشي، ص 372 - 373. [119] راجعوا ما ذكرناه بشأنه في الصفحة 15 من الكتاب الحالي. [120] ص 75 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [121] ص 76 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [122] ص 90 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [123] مفاتيح الجنان، ص 78 من النسخة المُعَرَّبة. [124] مفاتيح الجنان، ص 78 من النسخة المُعَرَّبة. [125] هذا الحديث مذكور في مستدرك الوسائل، ج 1، ص 459. [126] راجعوا ما قلناه بشأنه في حاشية الصفحة 15 من الكتاب الحالي. [127] عرَّفنا به في كتابنا «عرض أخبار الأصول ...»، ص 171 فما بعد. [128] الصحيفة العلوية، دعاؤه في المناجاة. [129] مفاتيح الجنان، دُعاء كُمَيْل، ص 62. (ص 106-107 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجِنان) [130] نهج البلاغة، الكلمات القصار رقم 371، وسفينة البحار، ج 2، ص 646. [131] الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في ذكر التوبة وطلبها. [132] الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام بعد الفراغ من صلاة الليل. [133] راجعوا في موضوع الشفاعة كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات ونصوص الزيارات]، ص 231 وكتاب «راه نجات از شرّ غلاة» [طريق النجاة من شر الغُلاة]، ص 233 فما بعد. [134] ص80 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجِنان. (الـمُتَرْجِمُ) [135] جاء الدعاء المذكور في وسائل الشيعة، ج 5، ص 298 دون سند. [136] ذكر نحوه الحر العاملي في وسائل الشيعة، ج 8، ص 185 من طبعة مؤسسة آل البيت، روايةً عن كِتَابِ جَمَالِ الْأُسْبُوع للسيد ابْنِ طَاووُسٍ الحلي. وهو بهذا اللفظ في مستدرك الوسائل، ج6، ص 309-310 نقلاً أيضاً عن السيد ابْنِ طَاووُسٍ فِي فَرَجِ الْهُمُومِ، وَفَلَاحِ السَّائِلِ. (الـمُتَرْجِمُ) [137] ص 87 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [138] راجعوا ما ذكرناه بشأنه في ص 57 من الكتاب الحالي. [139] ص 91-92 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [140] راجعوا وسائل الشيعة، ج 5، ص 79، الحديث 2. [141] النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان، ص 93. [142] المصدر نفسه، ص 93. [143] هذه الصلوات جزءٌ من قصة أسطورية طويلة كلها كَذِبٌ من أولها إلى آخرها، تشتمل على إثبات معجزات وعلم الغيب (للإمام). وقد ذكر الشيخ عبَّاس القمِّي الجزء المتعلق بالصلوات منها فقط. والقصة أثبتها المَجْلِسِيّ في البحار. راجعوا بحار الأنوار، ج 91، ص 81 فما بعد. [144] من الرواة الآخرين لهذه الأسطورة «أحمد بن علي الرازي» وهو من الغُلاة. [145] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبة)، ص 96.
1- يذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 54[146] قصَّةً بشأن الإمام علي بن محمد النقي (ع) راويها شخص من الغلاة الوضَّاعين يُدعى «محمد بن موسى»[147] ادَّع فيها أن الإمام قال: "...الْأَيَّامُ نَحْنُ مَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَالسَّبْتُ اسْمُ رَسُولِ اللهِ ص وَالْأَحَدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْإِثْنَيْنِ [الْإِثْنَانِ] الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (ع) وَالثَّلَاثَاءُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - وَالْأَرْبِعَاءُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - وَأَنَا وَالْخَمِيسُ ابْنِي الْحَسَنُ وَالْجُمُعَةُ ابْنُ ابْنِي..... الخ"
إذن، الإمام زين العابدين كان - نعوذ بالله - يمزح في أدعية أيام الأسبوع التي أوردها الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الفصل الثالث من الباب الأول للمفاتيح، حين قال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ فِي يَوْمِي هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْآحَادِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ". فكان قصده إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ في عليٍّ هذا وفيما بعده من أفراد عليٍّ!!! أو أنه لما قال "اللَّهُمَّ اقْضِ لِي فِي الْخَمِيسِ خَمْساً" فإنه كان يقصد: في حضرة الحسن العسكري - الذي لم يكن قد وُلِد بعد - اقضِ لي خَمْساً!!! لأن تلك الأيام لم تكن في الواقع ظرفاً زمانياً يعيش فيه الأئِمَّة بل كانت الأئِمَّة أنفسهم!! وكان قصده من عبارات « في الاثنين» و «في الثلاثاء» و «في الأربعاء» أن ظرف الزمان والمظروف فيه، كلاهما واحد وهم الأئِمَّة عليهم السلام! هذا هو التناقض في كلام ملفقي الأدعية و بائعي الخرافات.
2- بعد تلك القصة الخرافية ذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ زيارةً لأمير المؤمنين[148] ليس لها سند في بحار الأنوار (ج 99، ص 211 فما بعد) ولا في «جمال الأسبوع» للسيد ابن طاووس، كل ما في الأمر أن السيد ابن طاووس الخرافي هذا قال بشأنها: "زيارة أمير المؤمنين (ع) برواية مَنْ شَاهَدَ صَاحِبَ الزَّمَانِ (ع) وهو يزور بها، في اليقظة لا في النوم!!".
بغض النظر عن كون رواة هذه الزيارة مجهولين، فإن متن الزيارة أيضاً مخالف للعقل والقرآن وهذا أوضح دليل على وضعها.
في هذه الزيارة يقول الزائر لأمير المؤمنين: "وَأَنَا ضَيْفُكَ فِيهِ وَجَارُكَ؛ فَأَضِفْنِي يَا مَوْلَايَ وَأَجِرْنِي فَإِنَّكَ كَرِيمٌ تُحِبُّ الضِّيَافَة ...!!". يبدو أن هذا الضيف، الذي لم يُدعَ إلى الضيافة، يتصور أن رسول الله ص والأئمة يسمعون كلامه لأنهم حاضرون وناظرون في كل مكان لذلك فهو يتوقع منهم أن يُحسنوا ضيافته! ولا يدري أن أولئك الكرام رحلوا عن الدنيا إلى دار السلام ولم يعد لهم علم بالدنيا وما فيها من فسق وفجور وخيانة وآثام، وإلا لما كانت الدار التي انتقلوا إليها بعد وفاتهم دار السلام بل دار الغُصص والأحزان. وأساساً لم يُكلّفِ اللهُ الأنبياءَ والأئمَّةَ أن يستضيفوا الوضاعين الكذابين بعد رحيلهم عن الدنيا ويقبلوا كلامهم، بل الأنبياء والأولياء جميعهم مُطيعون لِـلَّهِ وحده.
في هذه الزيارة يُخاطب الزائر الإمام بقوله: "وَأَجِرْنِي فَإِنَّكَ كَرِيمٌ تُحِبُّ الضِّيَافَةَ وَمَأْمُورٌ بِالْإِجَارَةِ!"، في حين أن الأمام نفسه لم يكن في حال حياته يعتبر أحداً سوى الله جاراً وملجأً له ولم يقل للناس أبداً أن هناك كائن يستحق أن يستجير به الإنسان ويلجأ إليه سوى الله عزّ وجل، هذا فضلاً عن أن الإمام المُنادى في الدعاء ليس حاضراً الآن في هذه الدنيا.
15وأكثر الأمور خرافية أن الزائر يعتبر حضرة فاطمة (ع) حاضرةً ناظرةً ويُخاطبها قائلاً: "امْتَحَنَكِ الَّذِي خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكَ !!!".
هل فهم واضع هذه الزيارة ما لفَّقه فيها من كلام؟ هل فهم السيد ابن طاووس هذا الكلام عندما دوَّن هذه الزيارة في كتابه؟ ليت شعري! كيف يمتحن الله شخصاً لم يخلقه بعد؟!
وفي هذه الزيارة يتزلَّف الزائر للأئمة ويتملّقهم ويصفهم بأوصاف خرافية كالتي جاءت في الصلوات الخرافية في أعمال يوم الجمعة (ص 52)[149] فيقول: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا خُزَّانَ عِلْمِ اللهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا تَرَاجِمَةَ وَحْيِ اللهِ...". وقد أوضحنا في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 429 و 830) بُطلان مثل هذا الكلام.
ثم يقول الزائر في هذه الزيارة مُخاطباً حضرات الحسنين - عَلَيْهِمَا السَّلَام -: "فَأَضِيفَانِي فَأَحْسِنَا ضِيَافَتِي...... فَإِنَّكُمَا مَأْمُورَانِ بِالضِّيَافَةِ"!! من أين علم الزائر أنهما مأموران بهذا الأمر بعد وفاتهما؟!!
و وصف كاتب الزيارة الإمامَ بأوصاف مثل: "الوَفِيِّ والطَّيِّبِ والطَّاهِر والزَّكِيِّ وَالْبَرِّ والْصَّادِقِ الْأَمِينِ والتَّقِيُّ النَّقِيُّ ونُورِ اللهِ...الخ". ولكن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ أورد مباشرةً بعد هذه الزيارة، وفي بداية الفصل السادس، «دعاء الصباح» الذي صوَّر كاتبه فيه الإمام عليّاً (ع) وكأنه شخص آثمٌ مُذنبٌ مُتَّبِعٌ لهواه، إذ ادَّعى أن عليَّاً (ع) قال في ذلك الدعاء: "فَاصْفَحِ اللَّهُمَّ عَمَّا كُنْتُ أَجْرَمْتُهُ مِنْ زَلَلِي وَخَطَائِي ..."، أو قال: "إِلَهِي قَلْبِي مَحْجُوبٌ وَنَفْسِي مَعْيُوبٌ وَعَقْلِي مَغْلُوبٌ وَهَوَائِي غَالِبٌ وَطَاعَتِي قَلِيلَةٌ وَمَعْصِيَتِي كَثِيرَةٌ وَلِسَانِي مُقِرٌّ بِالذُّنُوب ...!!".
ألم يكن هناك من يقول لهؤلاء الأفراد الوضاعين للأدعية: لماذا لا تُوضِّحون لنا موقفكم النهائي الثابت، فمرَّةً تعتبرون الإمام طيباً طاهراً تقياً نقياً، ونورَ الله، ومرّة تُصوِّرونه مُذنباً آثماً مُتَّبعاً لهواه؟!
[146] ص 96 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [147] الحديث مذكور في بحار الأنوار للمجلسي، ج 99، ص 210. وفي «جمال الأسبوع» لابن طاووس، الفصل الثالث. [148] النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان، ص 98. [149] النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان، ص 93.
أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في هذا الفصل عدداً من الأدعية من جملتها «دعاء الصباح» وقال بعد ذكر نص الدعاء (ص 62)[150]: "قد أورد العلامة المجلسي (رحمه الله) هذا الدّعاء في كتابَيْ الدّعاء والصلاة من البحار وذيَّله في كتاب الصلاة بشرح وتوضيح وقال: إنّ هذا الدّعاء من الأدعية المشهورة ولكن لم أجده في كتاب يُعتَمد عليه سوى كتاب «المصباح» للسيّد ابن باقي رضوان الله عليه...".
وهنا ينبغي أن نُذكِّر القُرَّاء بأن «السيد ابن باقي» كان من علماء القرن السابع الهجري ومُعاصراً للمُحقّق الحلي الذي تعود مؤلفاته إلى سنة 653 هـ ، فكيف يروي عن أمير المؤمنين ÷ رغم وجود ستة قرون تفصله عن زمنه؟!
وقال المَجْلِسِيّ بعد ذكر «دعاء الصباح» في البحار:
"و وجدتُ في بعض الكتب سنداً آخر له هكذا قال الشريف يحيى بن القاسم العلوي ظفرت بسفينة طويلة مكتوب فيها بخط سيدي وجدي أمير المؤمنين... عليّ بن أبي طالب عليه أفضل التحيات ما هذه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم هذا دعاء علمني رسول الله ص وكان يدعو به في كل صباح...الخ"[151].
هذا في حين أن «أبا بصير يحيى بن القاسم» كان -كما يقول الشيخ «هاشم معروف الحسني»[152]- فاسد العقيدة ومن الضعفاء والمُتَّهمين.
وجاء في هذا الدعاء: "بَاعَدَتْنِي ذُنُوبِي عَنْ دَارِ الْوِصَالِ" في حين أن عليَّاً (ع) لم يكن صوفياً كي يستخدم مُصطلحات الصوفية بل جاء التصوف إلى بلاد الإسلام بعد زمنه. إضافةً إلى ذلك فإن عَلِيّاً (ع) قال في نهج البلاغة إن الله تعالى لا يتصل به شيء أو ينفصل عنه شيء، وَمِنْ ثَمَّ فلا ينبغي أن يعتقد لنفسه وصالاً أو فراقاً مع الله، وهذه العبارات لا تليق بالذات الإلهية المُقدَّسة.
[150] ص 106 من النسخة المُعَرَّبة لمفاتيح الجنان. [151] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 84، ص 342. (الـمُتَرْجِمُ) [152] الموضوعات في الآثار والأخبار، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، ص 231.
نظراً إلى أننا نُشاهد في هذا الدعاء وفي عدد من الأدعية الشائعة بين الناس في زماننا ومن جملتها دعاء «كميل» والمناجاة الخمس عشرة و.....، عبارات صوفيّة، أرى من اللازم أن أذكر هنا بعض الأمور المُتعلِّقة بهذا الأمر:
إحدى المسائل التي يجب أن نُنزِّه اللهَ سبحانه وتعالى عنها وصال الخلق بذات الحق الأقدس تبارك وتعالى. أما الصوفيَّة فاستناداً إلى مقولة "الفناء في الله والبقاء بالله" -التي لا تعدو ادّعاءً محضاً وعُجباً بالنفس ولا دليل عليها من القرآن أو الأحاديث المُعتبرة- يقولون إن الوصل بالحق ووصول العارف إلى الحق تعالى شأنه أمرٌ ممكنٌ!! وهذا الادِّعاء الجُزاف من الآثار الباقية لأديان ما قبل الإسلام، كدين «بوذا» وقول بعض النصارى، وقول عدد من مشركي اليونان أيضاً.
جاء في كتاب «نفحات الأُنس» للجامي[153] (ص 102): كان بوذا يعتبر بشكل عام أن غاية كمال النفس الإنسانية اتِّصالها بـ «النيرفانا» الذي هو مقام «الفناء».
هذا ويقول الصوفيَّةُ: إذا مارس الإنسان الرياضة الروحيّة ووصل إلى الحقيقة سقطت عنه الشريعة![154] كما قال المولى الروميّ في المُجلّد الخامس من ديوانه «المثنويّ»: «لَوْ ظَهَرَتِ الحَقَائِقُ بَطَلَتِ الشَّرَائِعُ»، ويقول: إذا وصلتَ إلى الله لم تعد بحاجة إلى الرسول والقرآن.
وقال «منصور الحلاج» طبقاً لما نقله «الميرزا طاهر القمي»[155] في كتابه «تحفة الأخيار» (ص 116): "إن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مقام التوحيد فإذا وصل إليه سقطت من عينه الشريعة"!!
وقال الشيخ «فريد الدين العطار»:
خدا را يافتم ديـدم حقيـقت برون رفتم من از عين شريعت
أي: وجدت الله ورأيت الحقيقة فخرجـــــــت من عين الشريعة
يقول الصوفيّة: إذا وصل الإنسان إلى الحق لم يعد بحاجة إلى الصلاة وأن من وصل إلى الله سقطت عنه التكاليف! لكن الأنبياء - عَلَيْهِمُ السَّلَام - لم يدَّعوا مثل هذا الادِّعاء. لذلك نرى أن حضرة عيسى (ع) كان يقول﴿وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١﴾[مريم: ٣١]، وقال القرآن الكريم عنه: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ١٧٢﴾[النساء : ١٧٢].ألم يكن حضرة روح الله (ع) واصلاً؟ أوليس الملائكة المُقرَّبون المشغولون على الدوام بتسبيح الله وتقديسه (البقرة: 30) واصلين للحق؟!
إن الأنبياء - عَلَيْهِمُ السَّلَام - رغم أنهم كانوا أكثرَ الناسِ قُرباً من الله، كانوا يعتبرون أنفسهم مُكلَّفين بعبادة الله وإخلاص العبودية لربِّهم حتى آخر لحظة من عمرهم، وكان النَّبِيّ الأَكْرَم ص يُكثر من الصلاة وعبادة الله ولم يتوقف حتى آخر عمره المبارك عن العبادة وأداء واجبات الشريعة والعمل بأحكامها.
إن الله تعالى لم يتحدث في كتبه السماوية عن الوصل به والفصل عنه، ولم يدعُ عباده إلى الوصول إليه. إن الله حاضر ناظر في كل مكان وليس بعيداً عنا حتى نسعى إلى الوصول إليه، كما أنه ليس جسماً ولا جوهراً حتى يصح في شأنه الاتِّصال والانفصال، إذْ كل شيء يقبل الاتِّصال به محدودٌ، والحق تعالى غير محدود.
علاوةً على ذلك فإنه لا سبيل للعقول والأفكار إلى إدراك كنه ذات الله، فكيف يُمكنها أن تصل إليه؟
يقول الحق تعالى:﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ ١٦﴾[ق: ١٦]، ويقول أيضاً: ﴿وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ﴾[الحديد: ٤]، وَمِنْ ثَمَّ فلا معنى للوصل والفصل عن الله تعالى. ويقول عَلِيٌّ (ع): "لا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ ولا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ ولا نَعْتٌ مَوْجُودٌ" (نهج البلاغة، الخطبة 1).
نعم، إن لقاء رحمة الله أو عذابه ممكنةٌ ولكن هذا غير الوصل بذات الحق تعالى. وليت شعري! كيف يمكن للإنسان، الذي عجز عن إدراك نظام جسمه وروحه المُحيِّر للعقول ولم يستطع الوصول إلى كنه أصغر مخلوقات الله ومعرفة حقيقته، أن يصل إلى خالق الكون؟ إن هذا الادِّعاء منشؤه الجهل والرعونة وقلة الحياء. وكل من قرأ الخطبة 186 من نهج البلاغة أدرك أن مسألة الوصل بالحق تعالى والفصل عنه باطلة. ولم يُؤثَر عن النبيّ ص أي دعاء صحيح مقبول يشتمل على عبارات الوصل والفصل أو الفراق والوصال أو العشق والمعشوق في حق الله، لأن العشق يستوجب التبدُّل في الحال ؛ والذات الإلهية لا يتطرّق إليها التغيُّر والتبدُّل. ثانياً: العشق شدَّة ميل النفس إلى الشيء وليس لِـلَّهِ ميل نفسي. ثالثاً: لا بُدَّ في العشق أن يكون المعشوق قابلاً للتصور والله مُنزَّه عن أن يتصوره مخلوق. رابعاً: الأنبياء لم يدعوا العبادَ إلى عشق الله ولم تأتِ في القرآن كلمة العشق والعُشَّاق، ولم يقل الله تعالى: يا أيها العُشَّاق ولا يا أيها العاشقون. ولم يُرغِّب الله تعالى عباده بعشقه. خامساً: إن صفات الله وأسماءه توقيفيةٌ أي موقوفةٌ على ورود الشرع بها، وليس في الشرع ولا في عبارات القرآن كلمة الوصال والفراق والعاشق والمعشوق و.....، وإذا وُجدت أخبار فيها مثل هذه المفردات في كتب المُتأخِّرين فهي من وضع الصوفية والدراويش.
فادِّعاء الشعراء والصوفية أنهم عاشقون لِـلَّهِ لا ينسجم مع تعاليم الكتب السماوية وهو نوع من قلة الأدب والوقاحة والعُجب بالنفس والله مُنزَّه عن الوصل والفصل والمعشوقية، فعلى الذين يدَّعون الوصول إلى الله تعالى ووصاله أن يتوبوا.
***
[153] هو: نور الدين عبد الرحمن بن أحمد الجامي (817 - 898 هـ/ 1414 - 1492 م)، عالمٌ وأديبٌ ونحويٌ وشاعرٌ وفقيهٌ حنفيٌّ ومتكلِّمٌ صوفيٌّ نقشبندي، ولد في قرية من قُرى ولاية جام من أعمال هراة، وعاش أغلب حياته في هراة وتُوفِّي فيها تاركاً عشرات الآثار في النحو والفقه والتصوف والكلام. والاسم الكامل لكتابه المشار إليه: «نفحات الأنس في حضرات القُدْس» وهو من أشهر ما كُتِبَ في طبقات الصوفية وتراجم رجالهم بالفارسية، وقد تُرْجِمَ الكتاب إلى العربية ونشره الأزهر الشريف في مصر. (الـمُتَرْجِمُ) [154] الواقع أن هذا ليس قول جميع الصوفية بل قول قلَّةٍ ضئيلةٍ منهم. (الـمُتَرْجِمُ) [155] هو الميرزا محمد طاهر بن محمد حسين الشيرازي الأصل النجفي المنشأ القُمِّيّ الموطن والوفاة. (يُعرَف باختصار بالميرزا طاهر القُمِّيّ) من علماء الشيعة الأخبارية، كان معاصراً للمجلسي وتوفي في حدود سنة 1100هـ. وكان شديد المخالفة للصوفية. له آثار عديدة منها كتابه الأربعين في فضائل أمير المؤمنين. بهجة الدارين في مسائل الحكمتين. حجة الإسلام في أصول الفقه والكلام. حكمة العارفين في رد شبه المخالفين. الفوائد الدينية في الرد على الحكماء الصوفية... الخ. (الـمُتَرْجِمُ)
هو الدعاء الثاني في الفصل السادس من الباب الأول لكتاب «مفاتيح الجِنان».قبل أن ينقل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ نص هذا الدعاء نقل قول المَجْلِسِيّ الذي اعتبر هذا الدعاء من أفضل الأدعية وأن الإمام عليَّاً (ع) أخذه عن الخضر وعلَّمه كُميل بن زياد!!
وعلينا أن نقول: ألستم تعتبرون عَلِيّاً (ع) أفضل من جميع الأنبياء ما عدا الرسول الأكرم ص، فكيف يُمكن لمن هو أعلم وأفضل أن يتعلّم دعاءً من الخضر الأدنى منه فضلاً وعلماً؟ أضف إلى ذلك أن وجود الخضر في زمن حضرة أمير المؤمنين علي ÷ كذبٌ لأن الله قال مُخاطباً رسوله ص: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ ٣٤﴾[الانبياء: ٣٤].
في هذا الدعاء يُصلِّي «الخضر» على محمد وآل محمد ويُسلّم عليهم! فإن كان المقصود أن الخضر كان حياً زمن رسول الله ص وآله ففي هذه الحالة -كما قلنا- هو كائن أسطوريّ ووهمي، وإن كان المقصود منه ذلك الشخص الذي أُمر بتعليم حضرة موسى (ع) (سورة الكهف، الآية 65 فما بعد) ففي هذه الحالة كيف يُصلّي ويُسلّم على نبيٍّ لم يُولد أجداده بعد؟!
والنقطة الأخرى أنه يقول في هذا الدعاء: "فَتَجاوَزْتُ بِما جَرى عَلَيَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ حُدُودِكَ، وَخالَفْتُ بَعْضَ أوامِرِكَ فَلَكَ الْحَمْدُ (اَلْحُجَّةُ) عَليَّ في جَميعِ ذلِكَ وَلا حُجَّةَ لي فيما جَرى عَلَيَّ فيهِ قَضاؤُكَ "!!
بناءً على النسخة الحاضرة يقول: اللهم إني تجاوزت حدودك وخالفت أوامرك فلك الحمد عليَّ في جميع ذلك !! أي أنه بدلاً من أن يقول: إنني أخطأت في جميع ذلك وليس لديَّ عذر مقبول وأنا نادم على ما بدر مني، يقول: لك عليَّ الحمدُ فيما فعلته، وكأنه يقول بعبارة أبسط: الحمد لِـلَّهِ على أنني عصيتك! ولا أظنُّ عاقلاً يقول مثل هذا الكلام، فما بالك بالخضر أو عَلِيٍّ (ع).
رحم الله «فرهاد ميرزا» ابن فتحعلي شاه الذي قال: إن كلمة «الحمد» هنا خطأ والصحيح أنها «الحُجَّة»، ولكن عند انتقال الخط الكوفي إلى خط النسخ اشتبه النُّسَّاخ في نقل الكلمة لأن كلمتي «الحمد» و «الحُجّة» متشابهتان في الخط الكوفي[156].
والحقيقة أننا يُمكننا أن نفهم من الجملة التي جاءت بعد هذه العبارة ومن مقارنتها بها، أن التوجيه الذي ذكره «فرهاد ميرزا» صحيح ومقبول. إن ما أراد الداعي قولَه في هذا الدعاء هنا: اللهم لك الحُجَّة في الحكم عليَّ في جميع الأعمال التي عصيتُك فيها وليس لديَّ أيُّ حُجَّة أو عذر لتبرئة نفسي.
وفي هذا الدعاء خطاب لِـلَّهِ تعالى بعبارة الفراق على طريقة الشعراء والصوفية وذلك في جملة: "فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ ؟" في حين أن الأنبياء والذين يتلقون معارفهم من الوحي الإلهي لا يجترئون على مثل هذا الكلام ولا يستخدمون عبارات الوصال والفراق بحق الله.
[156] مفاتيح الجنان، ص601.
هو أحد الأدعية الموضوعة والمُخترعة، وسنده معيب جداً[157]. أحد رواة هذا الدعاء «الحسن بن فضال» الواقفي[158]. وراويه الآخر «الحسن بن الجهم»[159] الذي روى الدعاء عن فرد مجهول. إضافةً إلى ذلك ليس من الواضح هل روى ذلك الفرد المجهول الدعاء عن «الحسن بن محبوب»[160] أم عن شخص آخر!! (هل هذا سند؟!).
متن الحديث أيضاً أوضح دليل على وضعه، لأنه يقول: إن الأئمة كتموا هذا الدعاء ولم يكونوا يُعلِّموه إلا لأنفسهم وشيعتهم! علاوةً على ذلك فقد ذكروا لهذا الدعاء ثوابات عجيبة غريبة وادَّعوا أن قارئه يموت شهيداً وتُكتب له كل يوم ألف ألف حسنة وتُرفع له ألف ألف درجة وتُمحى عنه ألف ألف سيئة ويستغفر له العرش والكرسي و...... الخ.
لنرَ الآن متن الدعاء: في هذا الدعاء، كما في دعاء يوم الجمعة الفاقد للسند (ص 26 والمنقول عن ملحقات الصحيفة السجادية أو عن الفصل 17 من مصباح الكفعمي)، رغم قول الداعي "كفى بك شهيداً"، إلا أن الداعي لم يلتزم بقوله هذا - اكتفائه بشهادة الله- بل قال: "وَأُشْهِدُ مَلَائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ وَحَمَلَةَ عَرْشِكَ وَسُكَّانَ سَمَاوَاتِكَ وَأَرْضِكَ وَجَمِيعَ خَلْقِك ".
فنسأل: هل يمكن أن يجعلَ الإمامُ الحيواناتِ شاهدةً عليه؟ وهل يُشهِدُ على نفسه الأشخاص الذين ماتوا ورحلوا عن الدنيا قبل سنين طِوال؟! كلا، لا يقول الإمام مثل هذا الكلام قطعاً. ثم هل يسمع جميع المخلوقين وسُكَّان السماوات والأرض والأنبياء والرسل إقراره الداعي ذاك كي يشهدوا له؟ إن كان الداعي يعتقد أن المذكورين سميعون بصيرون مثل الله فإن جُمَل دعائه غير صحيحة ومشوبة بالشرك ولا يعتقد مسلمٌ صادقٌ بمثل هذه العقيدة.
ثم دسَّ واضع الدعاء مذهبه في جمل الدعاء، والواقع أن الهدف الأساسي من وضع هذا الدعاء هو دسُّ واضعه مذهبَه فيه ونسبته ذلك إلى أهل البيت ووصفهم بأنهم «حُجّة الله»، رغم أن أولئك الكرام لم يكونوا يرضون بذلك بل يعتبرون مثل هذا القول في حقِّهم بدعةً! كما قال عَلِيٌّ: "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ". (نهج البلاغة، الخطبة 91). إذن الأئمة ليسوا حُجّة الله ولا أحد مُصطفىً مِنْ قِبَلِ الله سوى الأنبياء.
[157] راجعوا بحار الأنوار، ج 92، ص 408 فما بعد. [158] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول ...»، ص 122. [159] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول ...»، ص 173 فما بعد. [160] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول ...»، ص 319.
16هو الدعاء الرابع في الفصل السادس من «المفاتيح». ويُقال له أيضاً: دعاء «الشبُّور» بمعنى البوق! وربما كان من تلفيقات اليهود.
17ادَّعى الشيخ عبَّاس القُمِّيّ أن العلماء رووا هذا الدعاء بأسانيد مُعتبرة!! ولكنه لم يذكر لنا هذه الأسانيد المعتبرة (!!) كي نُقيِّمها ونعلم مدى صدق هذا الادِّعاء وصوابه. وسنذكر للقراء الكرام سند هذا الدعاء كما أورده المَجْلِسِيّ[161]. أحد رواة هذا الدعاء «أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَيَّاشٍ الجوهريُّ» الذي قال علماء الرجال عنه إنه ضعيف وأحاديثه لا يُوثق بها، وكان مختل العقل أو مُختلّ الدين وهو الذي روى الدعاء الخامس من أدعية شهر رجب[162] وهو دعاء خرافي وقبيح[163]. وقد روى «ابْنُ عَيَّاشٍ الجوهريُّ» دعاء السِّمات هذا عن «عبد العزيز بن أحمد بن محمد الحسني» المُهمل، عن «محمد بن علي بن الحسن بن يحيى الراشدي» المُهمل أيضاً. أي أن دعاء السِّمات رِوَايَةُ ضعيفٍ عن مُهملٍ عن مُهملٍ! كما روى هذا الدعاء أيضاً كذَّابان آخران هما «محمد بن سنان»[164]و«المُفضَّل بن عمر الجُعفي»[165].
إذاً، فليعلم القارئ مصدر المطالب الدينية التي جاءت في «مفاتيح الجِنان»!
جاء في حاشية «المصباح» للكفعمي منسوباً إلى حضرة الباقر (ع) أن قال بشأن هذا الدعاء: إذا كانت لك حاجةٌ فتوجَّه بهذا الدعاء إلى الله عز وجل، ولا تُظهرْه للسفهاء وللنساء والأطفال!
وحاشا لحضرة باقر العلوم (ع) أن يقول مثل هذا الكلام؟!
يشتمل هذا الدعاء على كلمات وعبارات مُبهمة ومشكلة، في حين أن الأدعية المأثورة عن النبيّ ص ليس فيها أي غموض أو تعقيد.
يقول واضع هذا الدعاء في نهايته: "اللَّهُمَّ بِحَقِّ هَذَا الدُّعَاءِ وَبِحَقِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهَا وَلَا تَأْوِيلَهَا وَلَا بَاطِنَهَا وَلَا ظَاهِرَهَا غَيْرُك !!".
وينبغي أن نقول: إن هذا القول مخالف للأحاديث التي ذكرها الكُلَيْنِيّ في الكافي من قبيل أن الإمام ليس ذاك الذي إذا سُئل يقول: لا أدري (باب 92، حديث 1) وأن الأئمة «لا يخفى عليهم الشيء » ونظائرها.
من هذا يتبيَّن أن واضع الدعاء لفَّق كلمات ثم ذكر هذه الجمل المشار إليها في آخر الدعاء ليصرف القارئ عن محاولة فهم المقصود من جمل الدعاء! في حين أنه يجب أن نسأل: لماذا يقرأ الإنسان دعاءً لا يفهم معناه؟ إن قراءة مثل هكذا دعاء لغو وباطل. وأساساً ما فائدة الدعاء الذي -حسب قولكم- لا يعلم حتى الإمام والنبيّ ظاهره؟ والعجيب، أنه رغم ما جاء في نص الدعاء من أن لا أحد يعلم معناه سوى الله، حاول المَجْلِسِيّ أن يشرحه ويُوضح معناه!!
الواقع، أن فريقاً من الكذابين والخرافيين لفَّقوا لنا أدعيةً من بنات أفكارهم، ثم جاء أشخاص بألقاب مثل: أعلم العلماء وخرِّيت علم الحديث و.... فأرادوا توضيحها وأن يتمحَّلوا لها التأويلات ليُبرِّروا كل ما فيها من خرافات ويُصوِّبوها!!
***
[161] بحار الأنوار، ج 87، ص 96 فما بعد. [162] ذكر المجلسي هذا الدعاء في بحار الأنوار، ج 95، ص 392-393. وذكره الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الفَصل الأوّل من فصول الباب الثاني، وهو فصل فضلِ شهر رَجَب وأعمالِه، في فقرة «الأعمال العامّة التي تؤدّى في جميع شهر رجب». [163] راجعوا ما سنذكره بشأنه في الفصل الأول من الباب الثاني من الكتاب الحالي، ص 238 -248 [164] عرَّفنا بحاله في كتاب «عرض أخبار الأصول ...»، الصفحة 304 إلى 308. [165] عرَّفنا بحاله في كتاب «عرض أخبار الأصول ...»، الصفحة 171 فما بعد.
سألني أحد إخواني في الله ممن قرأ الإصدار الأول لهذا الكتاب: ما الإشكال مثلاً في دعاء يوم الأحد أو دعاء «الجوشن الكبير» اللذَيْن وردا في «المفاتيح» واشتملا على مضامين جيدة جداً وليس فيها أي جمل شركية، ولماذا لا نقرؤهما؟
فأجبته قائلاً: أنا لا أقول لا تقرؤوا مثل هذه الأدعية، ولكن أقول لا تعتبروا هذه الأدعية مأمورٌ بها بالذات في الشرع (أي واردةً عن الله ورسوله).
لذلك أرى من الضروري أن أذكر هنا -في هذا الإصدار الجديد الثاني للكتاب - كلاماً حول الأدعية والأحاديث والآثار الدينية بشكل عام.
يشهد الله العليم القدير أنني لستُ أبداً ضدّ قراءة الأدعية التي لا تخالف جملها العقل أو القرآن، لكنني أرى من الضروري التذكير بنقطة مهمة، غالباً ما يسكت العلماء عن بيانها، وقد أشرت إليها في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 273)، وهي أنه إذا كان لدينا نص حديث أو دعاء خالٍ من أي إشكال من الناحية الشرعية فإن هذا وحده لا يكفي لنسبته إلى الشارع، في حين أن فقهاءنا يقولون في أغلب الأحوال: ليس لدينا دليل على مخالفة الحديث الفلاني للكتاب والسنة. أو يقولون: يمكننا أن نؤول هذا الحديث على نحو يتوافق مع سائر الأدلة. أو يقولون: يمكن الجمع بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى، وهكذا... وعلى هذا الأساس يقبلون الأحاديث والآثار بوصفها نصوصاً دينيةً، في حين أن عملهم هذا غير مُبَرَّر، لأنه لا بد من وجود أدِلَّة مُحْكَمَة لإسناد أي حديث أو أثر إلى الشارع ولا يجوز أن نعتقد أن كل كلام صحيح لا إشكال فيه يجوز نسبته إلى الشارع، وبعبارة أخرى إن إسناد شيء إلى الشريعة لا يكفي فيه أن يكون نَصُّهُ خالياً من أي عيب ومتوافقاً مع القرآن، بل لا بد من حصول العلم واليقين بصدوره الفعلي عن صاحب الشرع استناداً إلى أدلة كافية ومُحْكَمة تدل على ذلك. وكما قلنا في بحث موضوع «التسامح في أدلة السنن» ينبغي علينا قبل أن نحتاط في رفض شيء هو من الشرع، أن نحتاط في إسناد شيء ليس من الشرع إلى الشرع، وذلك لأننا في الحالة الأولى لسنا مكلَّفين أن نعتبر الحديث أو الأثر الذي لا يمتلك جميع اللوازم والمقتضيات المطلوبة لنسبته إلى الشرع، جزءاً من الشرع ثم نطلق على عملنا هذا اسم الاحتياط (لأن إتمام الحجة والإبلاغ الكامل هو من وظيفة الشارع)، ولكننا مأمورون قطعاً بالحذر والاحتياط من نسبة أمر أو نصٍّ إلى الشرع قبل أن نحصل على جميع لوازم وشروط انتسابه إلى الشرع فعلاً. (فتأمَّل جدَّاً).
ولهذا السبب فإننا نجيب الذين يقولون: ليس من المحال عقلاً أن يصدق الرواة الكذابون في بعض الأحوال، ويستنتجون أنه من الممكن والمحتمل للحديث الذي لا يتضمَّن أيَّ إشكال شرعي لكن راويه غير موثوق، أن يكون صادراً فعلاً عن الشارع وجزءاً من الشرع. نجيبهم قائلين: نعم، يمكن أن يكون هذا النص صادراً عن الشرع فعلاً، لكن هذا الاحتمال لا يوجب علينا تكليفاً شرعياً بنسبته إلى الشرع، بل يبقى تكليفنا على ما هو عليه من أنه لا يُسْمَح لنا أن نثبت صدور شيء (حديثاً أو دعاء أو غير ذلك) عن المشرِّع سبحانه وتعالى، قبل توفُّر جميع الشروط والأدلَّة اللازمة لإثبات الصدور الحقيقي لهذا الأمر أو الحديث أو النص عن الشارع.
وبعبارة أخرى إذا كان من الصحيح القول: إنّ كلام الشارع لا يمكن أن يكون خطأ أبداً، فإنه من غير الصحيح القول إن كل كلام صحيح يمكن نسبته إلى الشارع. (فتأمَّل).
بناءً على ذلك، لو قرأ أحد هذه الأذكار والأدعية التي لا تتضمن نصوصها أي إشكال شرعي، ليس انطلاقاً من ورودها بالذات عن الشرع بل لكونها داخلةٌ تحت عمومات الأمر بالدعاء وأنها من المباحات الشرعية، فلا إشكال في ذلك لأن قارئ هذه الأدعية لا ينسبها إلى الشرع، ونعلم أن الشرع بشكل عام أذن لنا بالذكر والدعاء والتضرع إلى الله، فيمكننا أن ندعوه بكل دعاء منضبط بضوابط الشرع وخالٍ من أي إشكال أو عيب في ألفاظه.
فإذا كان الأئِمَّة قد دعوا بتلك الأدعية دون أن تكون مرويَّةً عن رسول الله ص - كما هو حال أغلب الأدعية المذكورة في المفاتيح وأمثاله من الكتب - فإن قراءة أولئك الأئِمَّة الأجلاء عليهم السلام لتلك الأدعية لم يكن بمعنى ورودها في الشرع[166] بل بمعنى عملهم بالإذن الشرعي العام بالدعاء. وطالما لم تتوفر الأدلة الكافية والمحكمة لنسبة تلك الأدعية إلى الشارع المقدَّس فلا يجوز لنا أن ننسبها إليه.
[166] وذلك طبقاً لما رويناه عن عليٍّ (ع) من قوله: "السُنَّةُ ما سَنَّ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ والبِدْعَةُ مَا أُحْدِثَ مِنْ بَعْدِهِ ". (راجع ص34-37 من الكتاب الحالي).
هو الدعاء الخامس في الفصل السادس، وقد ورد دون سندٍ في كتاب «المصباح» للكفعمي و«مُهَجُ الدَّعَوَات» لابن طاووس و«بحار الأنوار» للمجلسي (ج 92، ص 396 فما بعد). يشتمل هذا الدعاء على أسماءٍ لِـلَّهِ، ولما قال الحق تعالى في القرآن: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلۡحِدُونَ فِيٓ أَسۡمَٰٓئِهِۦ﴾[الاعراف: ١٨٠]، كان من الواجب ان ندعو الله بأسمائه الحسنى، وهذا يدلُّ أن الأسماء الإلـهية يجب أن تؤخذ من طريق الوحي أي أنها توقيفيةٌ وموقوفةٌ على إعلام الوحي، لأن الله وحده يعلم أي اسم وأي صفة تليق بذاته المقدسة ولا يحق لأحد غير الله تعالى أن يضع له أسماءَ من عنده. والوحي خاص بالأنبياء. وليس هناك من دليل على وصول بعض الأسماء الواردة في هذا الدعاء عن طريق الوحي. فالقاعدة الكلية إذاً أننا يجب أن نتلقَّى الأسماء الإلهية الحسنى عن رسول الله ص ولا يمكن أن ننسب الأدعية التي جاءتنا عن غير رسول الله ص إلى الشرع. ودعاء المشلول أيضاً يخضع لهذه القاعدة.
هو الدعاء السادس في الفصل السادس الذي لم يذكروا له أي سند. ولا إشكال في نصه، غير أنهم ذكروا لقارئه ثوابات مغرقة وعجيبة، من جملتها قولهم إن "مَنْ دعا بهذا الدعاء وكان في حياته قد ارتكب الكبائر ثم مات من ليلته أو من يومه بعد ما دعا الله عزَّ وَ جلَّ بهذا الدعاء مات شهيداً و إن مات يا سلمان على غير توبة غَفَرَ اللهُ لهُ ذنوبَهُ بكرمِهِ وَعَفْوِه!!![167] ولعمري إن هذا الادّعاء يعني أن جميع أوامر الشرع ونواهيه أمور زائدة لا ضرورة لها! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
[167] السيد ابن طاووس، مهج الدعوات ومنهج العبادات، كتابخانه صناعي، ص124.
هو الدعاء السابع من الفصل السادس. وليس في متنه إشكالٌ، لكنهم اثبتوا لقارئه ثوابات عجيبة دون أن يذكروا سنداً لذلك. قال الشيخ عبَّاس القُمِّيّ نقلاً عن الكفعمي: "إنّ مَنْ دعا به في الأيّام البيض مِنْ شَهر رَمَضان غُفِرَتْ ذنوبُهُ وَلَوْ كانت عَدَد قطر المَطَر، وَوَرَق الشجر، وَرَمل البر... !!". كما قال الكفعمي أيضاً في حاشية «المصباح»: " إن النبي ص قال: من قرأ هذا الدعاء عشر مرات، فلو صارت البحارُ مداداً والأشجارُ أقلاماً والإنسُ والجِنُّ وملائكة السماوات كُتَّابَاً لفني المداد وتكسَّرت الأقلام ولم يقدروا أن يحصوا ثواب قارئه!!!
ليت الشيخ عباس أو السيد ابن طاووس أو الكفعمي..... استخدموا عقلهم أحياناً. اللهم ماذا فقد من وهبته العقل، وماذا يملك من حرمته العقل؟
هو الدعاء الثامن من الفصل السادس وقد سبق أن تكلمنا عنه (ص35). دس واضع هذا الدعاء فيه عقائده الخرافية وأراد أن يعرِّف بالأئمة الاثني عشر بوصفهم أئمةً منصوصاً عليهم مِنْ قِبَلِ الله، رغم أنه ليس لدينا حديث موثوق ومعتبر في نصِّ الله تعالى على إمامتهم!
وجاء في هذا الدعاء بشأن الإمام الثاني عشر: "بِبَقائِهِ بَقِيَتِ الدُّنْيا، وَبِيُمْنِهِ رُزِقَ الْوَرى، وَبِوُجُودِهِ ثَبتَتِ الأَرْضُ والسَّمَاء"!
وهذا القول افتراء على الله وغلوٌّ لأن الله كان قبل وجود الأئمة وحتى قبل النبيِّ ص يرزق مخلوقاته ويحفظ الأرض والسماء.
كما جاء في الدعاء: "أَشْهَدُ أَنَّ أَقْوالَهُمْ حُجَّةٌ وَامْتِثالَهُمْ فَريْضَةٌ وَطاعَتَهُمْ مَفْرُوضَةٌ"! ونسأل هل جَعْلُ الحجج بيدكم أيها الملفِّقون للأحاديث والأدعية؟ ألم تعلموا أن الله هو الذي ينبغي أن يعرِّف للناس حججه؟ فأين نجد في القرآن وصف الأئمة بأنهم «حجج الله» وأن طاعتهم واجبة؟ فلماذا لم يعرف الله لنا هذه الحجج في كتابه؟ وليس هذا فحسب بل قال إنه ليس بعد الأنبياء للناس حجَّةٌ (النساء: 165)، وقال علي (ع) أيضاً: «تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ » (نهج البلاغة الخطبة 91).
وذكر الراوي بعد هذا الدعاء الموضوع روايةً غير معتبرة أحد رواتها «إبراهيم بن إسحق النهاوندي» وراويها الآخر «محمد بن سليمان الديلمي»[168].
[168] عرّفنا في كتابنا «عرض أخبار الأصول....» ... بـ«إبراهيم بن إسحق» في الصفحة 109. وعرّفنا بـ«محمد بن سليمان الديلمي» في الصفحات 110 فما بعد، 714 و778.
هو الدعاء التاسع من الفصل السادس. روى الكفعمي هذا الدعاء في كتابه «المصباح» دون ذكر أي سند له. ثم أورده المجلسي في البحار ولم يذكر له سنداً أيضاً[169].
جاء في حديث هذا الدعاء الذي أورده المجلسي: "... نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ ص وَهُوَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ وَقَدِ اشْتَدَّتْ، وَعَلَيْهِ جَوْشَنٌ[170] ثَقِيلٌ آلَمَهُ فَدَعَا اللهَ تَعَالَى فَهَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رَبُّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ اخْلَعْ هَذَا الْجَوْشَنَ وَاقْرَأْ هَذَا الدُّعَاءَ فَهُوَ أَمَانٌ لَكَ وَلِأُمَّتِك...".
ونسأل: أولاً: في أي غزوة نزل هذا الدعاء؟
ثانياً: لم يُذكر في أي كتاب من كتب السيرة أن رسول الله ص لم يكن يلبس الدروع في الغزوات.
ثالثاً: استُشهد كثيرٌ من أصحاب النبي ص في الغزوات ولم يؤمِّن لهم هذا الدعاء الأمان.
وفي حديث هذا الدعاء أيضاً ذُكِرَت أمور عجيبةٌ من جملتها أنَّ "مَنْ قَرَأَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْ حَمَلَهُ، حَفِظَهُ اللهُ وَأَوْجَبَ الْجَنَّةَ عَلَيْهِ!...... وَأُعْطِيَ مِثْلَ ثَوَابِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى!!.............. وَمَنْ كَتَبَهُ فِي جَامٍ بِكَافُورٍ أَوْ مِسْكٍ ثُمَّ غَسَلَهُ وَرَشَّهُ عَلَى كَفَنِ مَيِّتٍ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي قَبْرِهِ أَلْفَ نُورٍ وَآمَنَهُ مِنْ هَوْلِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَرَفَعَ عَنْهُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَبَعَثَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَى قَبْرِهِ يُبَشِّرُونَهُ بِالْجَنَّةِ!!.......... وَمَنْ كَتَبَهُ عَلَى كَفَنِهِ اسْتَحْيَا اللهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَهُ بِالنَّارِ!!.
ونقول: أولاً: لا يجوز قياس الله تعالى على خلقه وأن نثبت له خجلاً وحياءً، قال تعالى: ﴿فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧٤﴾[النحل: ٧٤].
ثانياً: بناء على هذا الحديث يستطيع كل فاسق مجرمٍ أن يكتب أسماء الله على كفنه ليفرَّ من عقاب الله ومجازاته. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
ثالثاً: لا يجوز كتابة الأسماء الحسنى على الكفن أساساً، لأن الكفن سيتلوث بالقيح والدم ومحتويات أمعاء الميت وهذا مخالف للاحترام الواجب تجاه الله تعالى وأسمائه الحسنى. قال تعالى: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١﴾[الاعلى: ١].
رابعاً: قيل في شأن هذا الدعاء أيضاً: "وَمَنْ دَعَا بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً حَرَّمَ اللهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ!!".
ونقول: إن هذا الكلام لا يتفق مع تعاليم الإسلام، بل كل من اجتنب كبائر الذنوب والفواحش والمحرمات حرم الله جسده على النار، ومن ارتكبها فعليه أن يتوب ويُكفِّر عما فاته، لا أن يقرأ دعاءً ثلاثَ مَرَّاتٍ! (فتأمَّل).
قال مؤلِّف «مفاتيح الجنان» في تقديمه لهذا الدعاء:
"... وأمّا الدّعاء به في خصُوص ليالي القَدْر فلم يُذكَر في حديث ولكنّ العلاّمة المجلسي قدّس الله تعالى روحه قال في كتاب «زاد المعاد» في ضمن أعمال ليالي القدر: إنّ في بعض الروايات أنّه يدعى بدعاء «الجوشن الكبير» في كلٍّ من هذه الثّلاث ليالي، ويكفينا في المقام قوله الشّريف أحلّه الله دار السّلام!!"[171].
ونقول: لا شك أنه وضع هذه الروايات ودرجتها من الصحة مجهولان، وأن قول المجلسي ليس حجَّةً. ونسأل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ: هل يحق للمجلسي أن يُنْقِصَ من آداب الشرع وأعماله أو يزيد فيها؟ هل المجلسيُّ حجَّةٌ؟!
والأمر الآخر الذي لابد من ذكره في هذا المقام هو أن نص دعاء الجوشن الكبير لا عيب فيه ولا إشكال، ولكننا ينبغي أن نسأل: إن كنتم تؤمنون بهذا الدعاء وأمثاله فلماذا تخالفونه في أعمالكم؟ إن كنتم تعتبرون ما جاء في هذا الدعاء صحيحاً فعليكم أن تعتبروا أكثر عقائدكم باطلةً!
مثلاً جاء في البند 19 من الدعاء «يَا مَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِثْلَه ». مع أنكم تعتبرون الإمام مثلَ الله حاضراً ناظراً في كل مكان ومطلعاً على كل أمر!
وجاء في البند 21 من الدعاء: «يَا مَنْ سَتَرَ الْقَبِيحَ يَا مَنْ لَمْ يُؤَاخِذْ بِالْجَرِيرَةِ يَا مَنْ لَمْ يَهْتِكِ السِّتْر ». ولكنكم تقولون إن جميع الذنوب تُعرَض على رسول الله ص وعلى الأئِمَّة (الكافي، الباب 87)، وَمِنْ ثَمَّ فالله -حسب قولكم - ليس ستّاراً للعيوب، والعياذ بالله!!
ونقرأ في البند 31 من الدعاء: "يَا حَيّاً لَا يَمُوتُ...... يَا عَالِماً لَا يَجْهَل "، لكنكم تعتبرون الإمام حياً لا يموت وعالماً لا يجهل!
وجاء في البند 38 من الدعاء: "يَا مَنْ لَا مَفْزَعَ إِلَّا إِلَيْهِ..... يَا مَنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ، يَا مَنْ لَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ يَا مَنْ لَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ يَا مَنْ لَا يُرْجَى إِلَّا هُوَ .....". ولكنكم تفزعون - خلافاً لهذه الجمل - إلى حضرة عليٍّ (ع) وأبي الفضل وحضرة الرضا (ع) والمهدي (ع) وتستعينون بهم وترجونهم وتقولون: "يا علي مدد"! و"يا مهدي أدركني"، معتقدين أنهم يسمعون صوتكم وَيُلَبُّون نداءكم!
وقال في البند 90 من الدعاء: "يَا مَنْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا هُوَ، يَا مَنْ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ "، ولكنكم تعتبرون الإمام عالماً بالغيب وصارفاً للسوء وشافياً من الأمراض!
[169] بحار الأنوار، ج 91، ص 382 وما بعد. [170] قال ابن منظور في لسان العرب: "الجوْشَنُ اسم الحديد الذي يُلبَس من السلاح. والجَوْشَنُ: الدِّرْعُ، وقيل الجوْشَنُ من السلاح زَرَدٌ يُلبَسه الصدرُ". (الـمُتَرْجِمُ) [171] مفاتيح الجنان، (النسخة المُعَرَّبة)، ص 141-142 . (الـمُتَرْجِمُ)
هو الدعاء العاشر من الفصل السادس. وليس لهذا الدعاء سند إلى رسول الله ص ولا يمكن أن ننسب شيئاً إلى الشرع لمجرد نقل المَجْلِسِيّ له (بحار الأنوار، ج 91، ص 320) أو الكفعمي أو ابن طاووس.
قال الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في مقدمة هذا الدعاء في كتابه «المفاتيح»:
"قالَ الكفعمي في هامش كتاب البلد الأمين: هذا دُعاء رفيع الشّأن عظيم المنزلة دعا به الكاظم (عليه السلام) وقد همّ موسى الهادي العبّاسي بقتله؛ فَرَأى (عليه السلام) جدّه النّبي ص في المنام فأخبره بأنّ الله تعالى سَيقضى على عَدوّه".
أقول هذا الكلام مخالفٌ لأحاديث الباب 61 من «الكافي» التي تقول إن الإمام لا يرى الأخبار الغيبية في الرؤيا[172].
ويجدر بالذكر أن المَجْلِسِيَّ ذكر في «بحار الأنوار» (ج91، ص320) أن الإمام دعا بهذا الدعاء بعد أن رأى تلك الرؤيا، خلافاً لما ذكره الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في «المفاتيح» [والكفعمي في «البلد الأمين»]، اللذَيْن ذكرا أن الإمام قرأ الدعاء قبل أن يرى تلك الرؤيا، وأنه على إِثْر قراءته للدعاء رأى تلك الرؤيا.
[172] من المفيد في هذا الموضوع مراجعة كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، باب بَابُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدَّثِ، الحديث 3، ص 396-397.
هو الدعاء الحادي عشر والأخير من الفصل السادس. ولم يذكر له الشيخ عبَّاس القُمِّيّ سنداً سوى أن الشيخ [حسين] النوري ذكره في الصحيفة العلوية الثانية. ونحن لا نعتبر قول الشيخ النوري حجَّةً ونعلم أن ثمَّةَ خرافاتٍ كثيرةً في كتبه. ويكفي أنه كان يقول بوقوع التحريف في القرآن!! وهو القائل أيضاً "في كلمات الأرباب طلسمات وتسخيرات وشرح للغريب وذكروا له آثاراً عجيبةً"!! في حين أن أرباب الطلاسم كانوا أشخاصاً خرافيين.
رغم ذلك أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ هذا الدعاء في كتابه تسامحاً، مع أنّه لا يجوز التسامح في الأمور الشرعية، وقد أدّى هذا التسامح إلى كتابة آلاف الأوراق ونسبتها إلى الدين، وإلى تحميل دين الله أحمالاً ثقيلةً ما أنزل الله بها من سلطان، وإلى إيجاد الفِرَق ونشر البدع بين المسلمين. وقد تحدّثنا فيما سبق (ص 15) حول قاعدة «التسامح في أدلة السنن» المضرّة, فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ.
اعلم أن أهم مسألة في الإسلام هي بلا شك مسألة الشرك والتوحيد التي عليها مدار شقاء العباد أو سعادتهم الأبدية.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٤٨﴾[النساء : ٤٨].
وقال لنبيِّه الأكرم ص: ﴿وَلَقَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٦٥ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعۡبُدۡ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ٦٦﴾[الزمر: ٦٥، ٦٦].
ويدلُّ تقديم المفعول به (أي لفظ الجلالة) على الفعل في قوله تعالى: ﴿بَلِ ٱللَّهَ فَٱعۡبُدۡ﴾على الحصر، أي: اعبد الله وحده فقط ولا تعبد غيره.
وقال تعالى أيضاً بشأن الناس: ﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦﴾[يوسف: ١٠٥][173].
ولذلك يجب علينا أن نبذل كل اهتمامنا وننتبه كل الانتباه حتى نحفظ إيماننا من شوائب الشرك ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً[174]، ومن الضروري أن نحرّر أنفسنا في هذا المجال من قيود العادات والتقاليد المنتشرة في البيئة المحيطة بنا والآداب والرسوم التي جرى عليها آباؤنا وأجدادنا، والتي ليس عليها دليل شرعيٌّ محكَم، وأن لا نقبل في هذا المجال بأي كلام ليس له سندٌ حتى لو كان كلاماً لمشايخ مُعمَّمين، ولا نُخْدَع بالأحاديث الواهية غير المعتَبَرة (فتأمّل جداً).
ولما وصل كلامنا هنا إلى ذكر المشايخ المُعمَّمين أجد من الضروري أن أذكر هنا الآية القرآنية التالية إتماماً للحُجَّة، إذ حذَّرَتِ الآيةُ المسلمينَ وخاطبت المؤمنين قائلةً: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ﴾[التوبة: ٣٤][175].
من جملة المشكلات والانحرافات الدينية التي ابتُلي بها شعبنا وجرّتنا إلى ورطة الشرك مسألة التوسل وطلب الشفاعة، وبدلاً من أن يقوم علماؤنا بإرشاد الناس إلى الصواب في هذا الأمر ونهيهم عن مثل هذه الانحرافات، نجدهم يُشجِّعون الناس عليها، كي يبقى سوق الخرافات رائجاً ورزقهم منه مزدهراً!
إذا تدبَّر شخصٌ آيات القرآن الكريم دون تعصب وأحكام مُسبقة، سوف يرى أن جزءاً مُهمَّاً من آيات القرآن يتعلَّق بردِّ الشرك في العبادة. إن كتاب الله يؤكد في موضوع «التوحيد» على جانب «توحيد العبادة» أكثر من أيّ شيء آخر[176]. فيما يلي سنذكر بعض الأمور الضرورية لتوعية الناس حول مسألة «توحيد العبادة»:
أ) قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠﴾[غافر: ٦٠].
قال الطَّبْرَسِي في «مجمع البيان»: "وفي الآية دلالة على عظم قدر الدعاء عند الله تعالى وعلى فضل الانقطاع إليه". بناءً على ذلك فإن الدعاء عبادة[177]، والذي يتكبَّر عن التضرُّع إلى الله ودعائه يستحقُّ دخول النار، وبما أن المسلمَ أُمر بآية: ﴿وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ١١٠﴾[الكهف: ١١٠]، فقد حَرُم عليه أن يدعوَ غير الله. (فَتَأَمَّل جداً).
قال تعالى في الآية 60 من سورة غافر ادعوني أنا ولم يقل ادعوا أنبيائي وأوليائي، وأتى بجملةٍ شبه شرطيةٍ (=جواب الطلب) ليدل على أن تحقق مفاد الجملة التالية (جواب الطلب) مشروط ومنوط بتحقُّق جملة الطلب، أي أن شرط استجابة الدعاء، دعاء الله[178]. بناءً على ذلك، فمن يدعو غير الله لا يكون قد عمل بمفاد الجملة الأولى (جملة الطلب) وَمِنْ ثَمَّ فلن يتحقق في حقه مفاد جملة جواب الطلب، هذا فضلاً عن أن في دعائه غير الله مخالفة صريحة لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨... قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٠﴾[الجن: ١٨، ٢٠].
يقول أمير المؤمنين علي (ع) عن القرآن الكريم: "يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ويَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ "[179]. انطلاقاً من هذا الإرشاد القيّم جداً للإمام عَلِيٍّ (ع)، وبمُقارنة بعض آيات القرآن مع بعضها الآخر يُمكننا أن نُدرك بوضوح أن «الدعاء» يُعتبر في نظر القرآن من أبرز مصاديق «العبادة».
إضافةً إلى الآية 60 من سورة غافر التي تكلَّمنا عليها أعلاه، فإن القرآن استخدم في كثير من المواضع «الدعاء» في مكان «العبادة» واعتبر دعاء غير الله شركاً، فمثلاً قال في موضع من الكتاب: ﴿وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ ٢٠﴾[النحل: ٢٠]، وقال في موضع آخر: ﴿أَيُشۡرِكُونَ مَا لَا يَخۡلُقُ شَيۡٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ ١٩١﴾[الاعراف: ١٩١]، ويقول أيضاً: ﴿وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗ لَّا يَخۡلُقُونَ شَيۡٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ..﴾[الفرقان: ٣].
وإذا قال القرآن في موضع: ﴿قُلۡ أَنَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾[الانعام: ٧١]، أو قال: ﴿يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٢﴾[الحج : ١٢]، أو قال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦﴾[يونس : ١٠٦]؛ فإنه قال في موضع آخر: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ﴾[يونس : ١٨]، أو قال: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمۡ وَلَا يَضُرُّهُمۡۗ﴾[الفرقان: ٥٥].
وإذا قال القرآن في موضع: ﴿ٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾[ اعراف 29 وغافر: ٦٥]، أو قال: ﴿فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾[غافر: ١٤]؛ فإنه قال في موضع آخر: ﴿فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ٢﴾[الزمر: ٢]، وقال أيضاً: ﴿قُلۡ إِنِّيٓ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ١١﴾[الزمر: ١١]، وقال: ﴿قُلِ ٱللَّهَ أَعۡبُدُ مُخۡلِصٗا لَّهُۥ دِينِي ١٤﴾[الزمر: ١٤]، وقال: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾[البينة: ٥].
وإذا قال القرآن في موضع: ﴿فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨﴾[الجن: ١٨]؛ فقد قال في موضع آخر: ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ﴾[يوسف: ٤٠].
وإذا قال في موضع: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٠﴾[الجن: ٢٠]، فإنه قال في موضع آخر: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ﴾[النساء : ٣٦]، وقال أيضاً: ﴿يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗاۚ﴾[النور : ٥٥].
وإذا قال في موضع: ﴿وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ ١٣﴾[فاطر: ١٣]، فإنه قال في موضع آخر: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا﴾[النحل: ٧٣]، وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ لَكُمۡ رِزۡقٗا﴾[العنكبوت: ١٧].
بناءً على ذلك، فيجب على المسلم أن يدعو الله وحده[180]، ولا يدعو غيره[181].
ومما يُؤسف له بل يُثير العجب والدهشة أن أهل زماننا يدعون غير الله بِـحُجَجٍ وتبريرات مختلفة ويتوسلون إلى غير الله! وعلماء الدين ساكتون بل يُشجِّعون الناس على ذلك!!
18ب) وقال الله تعالى: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا ٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا ٥٧﴾[الاسراء: ٥٦، ٥٧].
ذمَّ الله تعالى في هذه الآيات الذين يدعون الشخصيات العظيمة والمُقرَّبة من الله طلباً لكشف الضُّرِّ عنهم أو تبديله[182]. يقول تعالى إن هؤلاء لا يملكون دفع الضرِّ عنكم أو تغيير أوضاعكم وتبديلها، وهذا الأمر ليس من مسؤوليتهم. بل أولئك المُقرَّبون -الذين تدعونَهم- هم أنفسهم يبحثون عن وسيلةٍ يستجلبون بها رحمة الله لهم وتنقذهم من عذابه، ومن الواضح أن مثل أولئك الأشخاص الذين يرجون رحمة ربِّهم ويخافون عذابه ليسوا بأيِّ وجه من الوجوه كائنات لا روح فيها كالأصنام والتماثيل، بل هم عباد عظماء صالحون مُقرَّبون من الله، ومع ذلك قال تعالى إن مثل أولئك الأشخاص لا يجوز دعاؤهم ولا فائدة من دعائهم. ولكن مع الأسف فإن الناس لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة ولا زالوا يدعون أئمة الدين الذين غادروا هذه الدنيا منذ أكثر من ألف عام وانتقلوا إلى عالم آخر بحُجج مُختلفة، أو تعصباً ولِجاجاً ويعتبرونهم «باب الحوائج»!!
بالطبع يقول المُتعصِّبون: لما كان الأنبياءُ والأئمَّةُ مُقرَّبين من الله فإن دعاءهم جائز.
لكن اللهَ تعالى اعتَبَرَ -كما لاحظنا في الآيتين 56 و57 من سورة الإسراء- أنَّ المُقَرَّبين منه عبادٌ له لا يملكون فِعْلَ شَيْءٍ، فلا يملكون دفع الضُّرِّ عنكم ولا تبديل أحوالكم، بل هم أنفسهم يبحثون عن وسيلة تكون سبباً لجلب رحمة الحق ودفع العذاب الإلهي عنهم، ولم يقل إنهم يدعون الوسيلة بل قال «يبتغون الوسيلة» أي يبحثون عنها ويطلبون الحصول عليها (فَتَأَمَّل).
أيُّ جواب سيُجيب به المُسترزقون بالدين ربَّهم تعالى يوم القيامة بعد هذه الآيات الواضحة؟ ألا يخافون يوم القيامة؟! في رأينا إن سبب بقاء مثل هذه الأعمال الشركية بين المسلمين رغم هذه الآيات الواضحة والصريحة في القرآن، هو تعصُّب العلماء ولجِاجهم والتبريرات المُخادعة التي يختلقونها وتشبُّثهم بأحاديث موضوعة وضعيفة.
ج) وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ فَٱدۡعُوهُمۡ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٩٤... وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَطِيعُونَ نَصۡرَكُمۡ وَلَآ أَنفُسَهُمۡ يَنصُرُونَ ١٩٧﴾[الاعراف: ١٩٤، ١٩٧]، وقال تعالى أيضاً: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ ثُمَّ رَزَقَكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡۖ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفۡعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيۡءٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٤٠﴾[الروم: ٤٠]، وقال سبحانه: ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧... وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ ٢٠ أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٢١... وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ ٧٣ فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧٤﴾[النحل: ١٧، 20، ٢١ ، 73، 74].
وقال سبحانه: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠ أَمِ ٱتَّخَذُوٓاْ ءَالِهَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ هُمۡ يُنشِرُونَ ٢١... أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡۖ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِيۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ ٢٤ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ ٢٥﴾[الانبياء: ١٩-21، 24- ٢٥]
في هذه الآيات يُبيِّن الله تعالى لنا أنه هو وحده مالك رقاب جميع الكائنات التي في الأرض أو السماوات -أعم من الملائكة والأنبياء وسائر المُقرَّبين- وأنه المُتصرِّف بهم وأنهم جميعاً يعبدون الله ليل نهار، فإن كنتم صادقين في حُبِّكم لهم واتِّباعكم لهم فعليكم أن تعبدوا الله وحده كما هم يفعلون، أي أن تجعلوا اللهَ معبودَكم، لا أولئك الأشخاص. وكما جاء في «تفسير نمونه» [183] فإن الآية 21 من سورة الأنبياء تُشير في الحقيقة إلى أن المعبود يجب أن يكون هو الخالق، خاصةً خالق الحياة التي تُشكِّل أوضح مظاهر الخلق. ويقول مؤلف «تفسير الميزان»[184] ذيل تفسيره للآية 24 من سورة الأنبياء[185] أيضاً: "إن ما في القرآن من الوحي النازل عليَّ وهو «ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ»، والوحي النازل على من سبقني من الأنبياء وهو «ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي»، في أمر عبادة الإله: يحصر الألوهية والعبادة فيه تعالى".
علاوةً على ذلك فإن الله تعالى يقول إن كان عملكم صحيحاً في تقديمكم صنوف العبادات لغير الله، فأْتُوا ببرهان على صحة عملكم هذا، وبيِّنوا أن الله وشريعته الإلهية أمرا بذلك. في الواقع إن شريعة هذا النبيّ والأنبياء السابقين لم تُجِزْ تقديم أي صنف من صنوف العبادة إلى أحد سوى الخالق، بل إننا أوحينا إلى جميع الأنبياء أن لا معبود بحق سوى الله، لذلك يجب أن يُعبد الله وحده فقط لا غير ولا يجوز أن نضع على حساب دين الله تلك الأعمال العبادية التي يُقدمها اليهود والنصارى لأئمة الدين وعُظمائه أو يُؤدِّيها المسلمون الخرافيون أيضاً لعظماء دينهم.
د) قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ شُرَكَآءَهُمۡ قَالُواْ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدۡعُواْ مِن دُونِكَۖ فَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلَ إِنَّكُمۡ لَكَٰذِبُونَ ٨٦ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَى ٱللَّهِ يَوۡمَئِذٍ ٱلسَّلَمَۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٨٧﴾[النحل: ٨٦، ٨٧]، وقال أيضاً:﴿وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ ٢٨ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ ٢٩ هُنَالِكَ تَبۡلُواْ كُلُّ نَفۡسٖ مَّآ أَسۡلَفَتۡۚ وَرُدُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوۡلَىٰهُمُ ٱلۡحَقِّۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٣٠﴾[يونس : ٢٨- ٣٠].
19تدل الآيات المذكورة أعلاه أن العابد والمعبود والداعي والمدعو والمُشرك والذين اتُّخِذوا شركاء لِـلَّهِ، كلهم سيُحضَرون أمام الله يوم القيامة. وفي المحكمة الإلهية في ذلك اليوم سيقول المعبودون لعابديهم والمَدعُوُّون لمن كانوا يدعونهم: إنكم لم تكونوا تدعوننا أو تعبدوننا كما تظنون بل كنتم تدعون وتعبدون معبودات غير واقعية وهميَّة ومُتخيَّلة، لأن العابد والمعبود كلاهما مخلوقان لِـلَّهِ ومحتاجان إليه بنفس الدرجة، لكن العابد كان يتصور أن لمعبوده صفات إلهية، وَمِنْ ثَمَّ فإنه كان في الواقع يعبد معبوداً لا وجود له في عالَم الواقع. ولهذا فسيقول المدعوون والمعبودون يوم القيامة لمن كانوا يدعونهم ويعبدونهم: لقد أخطأتم واشتبه عليكم الأمر، إذْ لم نكن نحن تلك المعبودات الخيالية الوهمية التي تصورتموها ولم نكن أبداً نمتلك تلك الصفات التي تخيلتموها لنا.
بناءً على ذلك فإن الذين يدعون الأئمة أو ذراريهم من الصالحين ويُقدِّمون لهم صنوف العبادة من نذر وطواف وخضوع وتذلُّل مُتخيِّلين أنهم أمام إمام حاضر وناظر وقاض للحاجات؛ قد صنعوا في ذهنهم كائناً خيالياً. في حين أن الإمام الحقيقي (أو سائر المعبودات) سيقولون لهم يوم القيامة: لم نكن نحن كما ظننتم وإننا بريئون من عملكم ونُشهِدُ اللهَ أننا لم نكن نعلم بعبادتكم لنا.
فإن قال شخص: إن المراد في الآية الأصنام التي لا حِسَّ لها، نقول له: أولاً: لم تأتِ في الآية كلمة «أصنام». ثانياً: كيف للأصنام الفاقدة للحس والشعور أن تتكلم يوم القيامة؟ بل الحقيقة أن معبودات المشركين لم تكن منحصرة بالأصنام. ثالثاً: لم يكن المشركون يُعظِّمون «الأصنام» ويتذللون أمامها على نحو الاستقلال بل كانوا يعتبرون «الصنم» تمثالاً ومُذكِّراً بالشخصيات العظيمة من الرجال الصالحين أو الملائكة، ولذلك فيوم القيامة يتكلم أولئك الصالحون والملائكة لا الأخشاب والأحجار، كما قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِي هَٰٓؤُلَآءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ١٧ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا ١٨ فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِيعُونَ صَرۡفٗا وَلَا نَصۡرٗاۚ وَمَن يَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابٗا كَبِيرٗا ١٩ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا ٢٠﴾[الفرقان: ١٧- ٢٠].
ومن جملة الآيات التي يتمسكون بها كي يجعلوا العوام يظنون أن نواهي القرآن عن دعاء غير الله تختص بالأصنام فقط، الآية 98 من سورة الأنبياء[186]. وبهذه المناسبة أتذكر أنه في إحدى جلسات تفسير القرآن التي كنت أعقدها في منزلي، حضر مرَّةً عالمُ دينٍ (شيخٍ) شابٍّ لا أدري هل كان حضوره بهدف تخريب الجلسة أم كان باحثاً عن الحقيقة فعلاً. وفي وسط الجلسة نهض وقال بصوت عال اعتراضاً على كلامي: إنَّ استنادَك إلى الآيات التي نهى الله فيها عن دعاء غير الله وادِّعاءَك أن هذه الآيات تنهى عن دعاء الأنبياء والأئمة، غير صحيح لأن الآيات كانت تُخاطب مشركي مكة الذين كانوا وثنيين يعبدون الأصنام فبأيِّ دليل جعلت هذه الآيات تشمل غير الأصنام؟ ثم إن القرآن يقول: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ ٩٨﴾[الانبياء: ٩٨]فهل تعتقد أن حضرة عيسى ومريم والأئمة والصالحين أيضاً سيدخلون جهنم وسيُعذِّبهم الله؟
فقلت له: سبحان الله! إنك تعترض على كلامي بمثل ما اعترض المشركون لأن أحد المشركين قد أشكل على النَّبِيّ الأَكْرَم ص هذا الإشكال ذاته![187]
ثانياً: ليس استنادنا مقصوراً على تلك الآية فقط، بل إن آيات عديدة في القرآن إضافة إلى الحقائق التاريخية كلها تؤيد كلامنا في أن نهيَ الله عن دعاء غيره يشمل دعاء غير الأصنام أيضاً.
ثالثاً: ثم لماذا لم تقرأ الآية التي بعدها التي استخدم القرآن فيها كلمة «هَؤُلاء» واستعمل صيغة الجمع المُذَكَّر «وَرَدُوْا» الخاص بالعقلاء.
رابعاً: إن الآية التي جاءت بعد آيتين من الآية التي ذكرتها (الآية 101) أزالت إشكالك. ألم تقرأ تفاسير الشيعة لهذه الآيات؟!
وللأسف انجرَّت الجلسة في ذلك اليوم إلى جدل وتشنج ولغط بين أصدقاء ذلك الشيخ الشاب وبين أصدقائنا ولم يُؤدِّ ذلك إلى نتيجة مفيدة، لكن من المناسب هنا أن أُبيّن معنى الآية المذكورة وأذكر بعض التوضيحات بشأنها:
يقول تعالى: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ ٩٨ لَوۡ كَانَ هَٰٓؤُلَآءِ ءَالِهَةٗ مَّا وَرَدُوهَاۖ وَكُلّٞ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٩٩... إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ ١٠١﴾[الانبياء: ٩٨ و 99 ١٠١].
قال أغلب المُفسِّرين، ومن جملتهم الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي ذيل الآية 101 من سورة الأنبياء: إن المقصود من قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ﴾[الانبياء: ١٠١]حضرة عيسى وعُزير ومريم والملائكة الذين عبدهم الناس خلافاً لإرادتهم ودون أن يرضوا بذلك، وهذه الآية استثنت هؤلاء من مفاد الآية 98.
قال الشيخ الطوسي: "وقال قوم: المُراد بقوله ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾[الانبياء: ٩٨]الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة غير الله، فأطاعوهم، فكأنهم عبدوهم، كما قال: ﴿يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَ﴾[مريم: ٤٤] أي لا تطعه"[188].
وقال العلامة الطباطبائي في تفسير «الميزان»:
"والمراد بقوله: ﴿وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾[الانبياء: ٩٨] ولم يقل: ومن تعبدون - مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بَعْدُ: ﴿مَّا وَرَدُوهَا﴾[الانبياء: ٩٩]- الأصنام والتماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء والصلحاء والملائكة كما قيل، ويدل على ذلك قوله بَعْدُ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ ١٠١﴾[الانبياء: ١٠١]. والظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار وفيها القضاء بدخولهم في النار وخلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة واستدلال على بطلان عبادة الأصنام واتخاذهم آلهة من دون الله".
وقال في تفسير الآيتين 22 و23 من سورة الصافات[189] بعد أن اعتبر الآيتين مشابهتين للآية 98 من سورة الأنبياء: "و يمكن أن يكون المراد بلفظة "ما" ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة والنماردة، وأما الملائكة المعبودون والمسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله تعالى: "﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ ١٠١﴾[الانبياء: ١٠١]".
وجاء في «تفسير نمونه» ذيل الآية 101 من سورة الأنبياء:
"وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين، إلاّ أنّ البعض احتمل أن تكون إشارة إلى من عُبِد من دون الله كالمسيح ومريم (عليهما السلام)، الذين عُبِدوا دون إرادتهم، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول: ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيح (عليه السلام)، فإنّ القرآن يُبيّن هذه الجملة كاستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبداً.
وذكر بعض المُفسّرين سبباً لنزول هذه الآية، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظم ص نفس هذا السؤال، فنزلت الآية تجيبهم".
وشأن النزول الذي أشار إليه «تفسير نمونه» هو ما ورد في تفسير السيد «گازر»[190] الذي قال: "كان سبب نزول هذه الآية أن رسول الله ص ورد يوماً المسجد الحرام فرأى صناديد قريش الذين وضعوا في الحطيم 360 صنماً وكانوا يسجدون لها. جلس رسول الله ص قريباً منهم وأخذ بمُحاورتهم. فكلَّم النضرُ بن الحارث رسولَ الله ص فأفحمه النبيُّ ص وألزمه الحُجَّة. فتلا عليهم رسول الله ص قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ ٩٨﴾[الانبياء: ٩٨] فضاق الأمر عليهم وقاموا. فرأوا عبد الله بن الزِّبَعْرِيّ فقالوا: لقد قال محمَّدٌّ اليوم كيت وكيت، وقد أحزننا ذلك. فقال: لو كنتُ حاضراً لأفحمتُهُ وخصمته، فذهبوا وأحضروا رسول الله ص. فقال له ابنُ الزِّبَعْرِيّ: يا محمد! أأنت تقول: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ...﴾؟ قال: أجل. فقال: هذه الآية عليك. فقال النبيّ: لماذا؟ فقال: لأنها تشمل العُزير الذي عبده اليهود وعيسى الذي عبدته النصارى والملائكة التي عبدها بنو مليح من العرب. فقال رسول الله ص: إن معبوداتهم هي الشياطين التي دعتهم إلى عبادة أولئك الذين ذكرتهم[191]، ولم يكن أولئك المعبودون راضون بذلك[192]. فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتۡ لَهُم مِّنَّا ٱلۡحُسۡنَىٰٓ﴾[الانبياء: ١٠١][193].
لقد أوضح المُفسِّرون أن حرف «ما» الذي جاء في مثل هذه الآيات أو في آيات مثل قوله تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا ٥﴾[الشمس: ٥]أو حرف «ما» في سورة الكافرون، معناها «الشيء». وكلمة «الشيء» إذا كانت تُفيد العموم فإن اعتراض أمثال «ابن الزِّبَعْرِيّ» والمُغرضين من أمثاله ليس له محل، لأن الآيات ذات العلاقة (أي الآية 17 من سورة الفرقان، والآية 98 من سورة الأنبياء، والآيتان 23 و24 من سورة الصافات) خُصِّصت بالدلائل العقلية والنقلية المُستقلة فخرجَ من عمومها الملائكةُ والأنبياءُ والصالحون الذين عُبِدوا خلافاً لإرادتهم ودون رضاهم، فوعدهم الله الحُسنى. بناءً على ذلك فلا وجه لاعتراض أمثال «ابن الزِّبَعْرِيّ».
فإن قيل استناداً إلى سبب نزول الآية: كيف يُمكن أن يقول النبيُّ ص إن المقصود من الآية هم «الشياطين»، مع أن الشياطين هم من زمرة ذوي العقول، وحرف «ما» لا يشمل العقلاء؟ فنقول: إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأصنام والتماثيل بحدِّ ذاتها كانت محترمة أيضاً بسبب انتسابها إلى الأنبياء والصالحين والملائكة و..... لذلك كان استخدام حرف «ما» للإشارة إلى الأصنام مناسباً أكثر، ولكن يجب أن ننتبه إلى أنه قد تمَّ استخدام كلمة «هؤلاء» وفعل الجمع «وردوا» وهذه الألفاظ مناسبة أكثر للشياطين ومن يحملون صفات الشياطين من أمثال فرعون ونمرود، ولهذا السبب أيضاً فُسِّرت كلمة «هؤلاء» في الآية 99 من سورة الأنبياء، في تفسير «مجمع البيان»، بالأصنام والشياطين[194].
على ضوء ما ذُكر أعلاه نأتي الآن إلى توضيح الآية موضح البحث ونظائرها:
لو تدبَّرنا القرآن وتأمَّلناه دون تعصُّب وأحكام مُسبقة لرأينا أن هذا الموضوع قد تمَّ توضيحه بشكل كافٍ في كتاب الله. ولا مكان لمثل هذه المُغالطات وأن الخرافيين لا قصد لهم من هذه الإشكالات سوى خداع العوام وربما خداع أنفسهم أيضاً.
من الواضح تماماً أن أهم عوامل التفرق في الأديان والانحراف عن دين الله وأكثرها شيوعاً هو عبادة الشخصيات التي تحدث أحياناً بشكل مباشر تجاه شخصيات مُعيَّنة أو تحدث أحياناً بشكل غير مباشر بتعظيم المقابر وتقديسها أو تعظيم مظاهرها وتماثيلها وتعظيم الأشياء المُتعلِّقة بها وتقديسها. ولكننا نعلم -كما لاحظنا فيما ذكرناه أعلاه- أنه سيتم يوم القيامة إحضار العابدين والمعبودات التي عبدوها من دون الله، والداعين والمدعوِّين سوى الله. وستكون المعبودات والمدعوون يوم القيامة على قسمين:
الأول: الذين عُبِدوا دون رضا منهم، ولما علموا يوم القيامة بأن هناك من عبدهم تبرؤوا من ذلك وكذَّبوا عابديهم (سورة يونس: 28 - 30، وسورة النحل: 86 - 87، وسورة الفرقان: 17 - 19).
الثاني: المُطاعون من أئمَّة الضلالة ومن السادة المُتكبِّرين والطواغيت الذين لم يكونوا يعترضون على عبادة الناس لهم واستسلامهم لهم. وهؤلاء يُقِرُّون بضلالهم يوم القيامة[195] (الصافات: 32) ويُعذَّبون مع أتباعهم الذين قلَّدوهم وأطاعوهم. (سورة الأعراف: 38- 39، وسورة القصص: 62 - 64، وسورة الأحزاب: 67، وسورة الصافات: 22 - 34).
وبالطبع فإن مظاهر وتماثيل كلا الفريقين ستكون حَطَبَاً لجهنم. والمقصود من رمي التماثيل والأصنام الفاقدة للحس والشعور في جهنم، كما قال المُفسِّرون، -ومن جملتهم الطبرسي في «مجمع البيان» ومؤلفي «تفسير نمونه» - تشديد الحسرة والحزن على المشركين وتوبيخهم عندما يرون أنهم يحترقون بألسنة لهب النار التي تتصاعد من أصنامهم وتماثيل معبوداتهم.
هـ) قال تعالى: ﴿...وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ ١٣ إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ ١٤... قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا فَهُمۡ عَلَىٰ بَيِّنَتٖ مِّنۡهُۚ بَلۡ إِن يَعِدُ ٱلظَّٰلِمُونَ بَعۡضُهُم بَعۡضًا إِلَّا غُرُورًا ٤٠﴾[فاطر: ١٣، ١٤ ، 40].
وقال تعالى أيضاً: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ لَهُمۡ شِرۡكٞ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِۖ ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦﴾[الاحقاف: ٤-٦].
وصرَّح الله تعالى قائلاً: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا لَهُمۡ فِيهِمَا مِن شِرۡكٖ وَمَا لَهُۥ مِنۡهُم مِّن ظَهِيرٖ ٢٢﴾[سبا: ٢٢]. وقال كذلك: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ ٧٣﴾[الحج : ٧٣].
20أيها القارئ الكريم! تدبَّر هذه الآيات المذكورة وتأمَّلَها جيداً. المقصود من عبارة « مِن دُونِ ٱللَّهِ » في هذه الآيات، كما هو ظاهر، ما سوى الله أو ما هو أدنى من الله، إذاً لا تجوز عبادة أيِّ كائن ليس في الوحي دليل صحيح على وجوب عبادته سواءً كان نبياً أم إماماً أم مُقَرَّباً لأنَّ كلَّ هؤلاء ينطبق عليهم أنهم: ﴿عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡۖ﴾[الاعراف: ١٩٤][196]. فاستناداً إلى الآيات التي ذكرناها لا يجوز أن نُخدع بقول من يقول: إن الأنبياء والأئمة والصالحين، نتيجة لطاعتهم وعباداتهم الكثيرة، يبقون على صلة بالدنيا بعد موتهم ويُمكنهم أن يصنعوا الكرامات وكيت وكيت، وأنهم، باختصار، مُطَّلعون على من يُناديهم، ويستعين بهم!!
ويجب أن نقول في الردِّ على مثل هذا الادِّعاء: أولاً: ليس على ادِّعائكم هذا أيُّ دليل أو سند من القرآن. ثانياً: كيف ستُجيبون اللهَ يوم القيامة الذي قال لكم لا تدعوا غير الله، وقال إن كل من دعوتموه غير الله فهو عبد مخلوق مثلكم ولا يستطيع خلق شيء. أي أن كل من كان مخلوقاً ولم يكن خالقاً ولم يكن بيده خلق العباد ورزقهم وإحياؤهم وإماتتهم، لا يجوز دعاؤه. وقال كذلك إن الذين تدعونهم أمواتٌ غير أحياء ولا يعلمون أيَّان يُبعثون.
و) وقال تعالى أيضاً: ﴿رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ١٤ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ١٥﴾[الكهف: ١٤، ١٥]. وقال كذلك: ﴿ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٣٩ مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٤٠﴾[يوسف: ٣٩، ٤٠].
في هذه الآيات تصريح بأن دعاء غير الله - والمقصود بالطَّبع هو الدعاء الذي يستلزم فرض صفات إلهية للمدعوّ[197]- لابُدَّ أن يستند إلى دليل من الشرع. ولم يُنزل الله دليلاً على جواز هذا العمل أصلاً. وبما أن الله تعالى أمر أن لا نعبد إلا إياه، وقال لنا في الوقت ذاته إن الدعاء عبادة -كما مرَّ معنا في البند أ-، فالنتيجة هي أنه تعالى أمرنا أن لا ندعو إلا إياه، وَمِنْ ثَمَّ فلابُدَّ أن نجتنب تماماً وبشدَّة دعاء غيره سبحانه وتعالى.
في الآيات الأخيرة قال يوسف ÷ إن معبوداتكم التي تلجؤون إليها وتعتبرونها باب حوائجكم، مخلوقةٌ كلُّها، وَمِنْ ثَمَّ فهي لا تستحق العبادة، ولكنكم تدعونها كآلهة ومعبودات وتعبدونها. لقد وضع آباؤكم وأجدادكم تلك الألقاب والعناوين للأوثان واتبعتموهم في ذلك تقليداً منكم لهم؛ في حين أنه لا دليل على ذلك في كتاب الله. إن الله الرحيم لا يقبل أن يخضع عبده أمام مخلوق مهما كان ذا مقام عالٍ ويتذلل له ويخضع أمامه خضوعاً تاماً. (فَتَأَمَّل جداً)
إذاً، لقد ذمَّ القرآن الكريم في الآيات المذكورة الذين يعبدون غير الله استناداً إلى ظنونهم ودون حُجَّة من الله وبيَّن أن دعاء غير الله بمنزلة عبادة غير الله، وحكمُه حكمُها، ودعاء غير الله والاستمداد من غير الله -ذلك الدعاء والاستمداد اللذَيْن يستلزمان فرض صفات إلهية للمدعوّ- هو بمثابة إضفاء صفات إلهية على غير الله!!
21والمسألة المُهِمَّة الأخرى التي يخدع المشايخ بها العوام في الغالب، هي ما ذكرناه سابقاً من أنهم يسعون إلى حصر النهي في الآيات المذكورة أعلاه بـ«الأصنام»، ولكننا أوضحنا أن المقصود من عبارة «دون الله» العقلاء والشخصيات العظيمة الصالحة والمُقرَّبون من الله الذين يُحبُّهم الناس ويتوجَّهون إليهم، بدليل أنه قد أُشير إليهم في كثير من الآيات بالاسم الموصول «مَنْ» الخاص بالعقلاء[198] -لا بالخشب والحجر والمعادن- لأنه من الواضح أن المشركين الذين كانوا يدعون الأصنام كانوا يفعلون ذلك لكون تلك الأصنام تماثيل ومظاهر تُذكِّرهم بالعظماء والأولياء والمُقرَّبين والصالحين أو الملائكة أو.....، فكانوا في الحقيقة يدعون أولئك الشخصيات لا الأخشاب والأحجار بحدِّ ذاتها على نحو الاستقلال. وبناءً على تصريح القرآن فإن الذين يدعوهم المشركون كانوا أشخاصاً عارفين بالله وعابدين له وَيَسْعَوْنَ إلى التقرُّب من الحق تعالى ويبتغون وسيلةً تُقَرِّبهم مِنَ اللهِ (الإسراء: 57) ولا شك أن مثل أولئك الأشخاص كانوا رجالاً صالحين ولم يكونوا أخشاباً وأحجاراً ومعادن. فالأصنام كانت موضع توجه واهتمام وتقديس بوصفها مرآة وآلة لتلك الشخصيات العظيمة، وحرمة الأصنام وتقديسها مِنْ قِبَلِ المشركين منشؤهما في الواقع تقديس المشركين واحترامهم وتعظيمهم لتلك الشخصيات التي تُمَثِّلُها الأصنام. وخلاصة الكلام، أن توجه المشركين واهتمامهم الحقيقي كان في الواقع تجاه تلك الشخصيات العظيمة كما يفعل البوذيون والهندوس الذين يُعظِّمون ويُكرِّمون تماثيل «بوذا» أو «كريشنا» بوصفها مُشابهة لهما ومُذكِّرة بهما، أي بسبب نوع من الانتساب إليهما لا أنهم يُعظِّمون الأخشاب أو الأحجار التي صُنعت منها تلك الأصنام، وإلا لما كان هناك من داعٍ أن يتجشَّم المشركون عناءَ نحت الأخشاب والأحجار وصُنعها على أشكال مُحدَّدة كشكل «بوذا» أو «وُدّ» أو «سُوَاع» أو.... بل كان بإمكانهم أن يُكرِّموا ويُعظِّموا الأخشاب والأحجار وحدها[199].
كل من لديه اطَّلاع على تاريخ الجزيرة العربية يعلم أن «اللات» و«العُزّى» و«مَناة» كانت تماثيل لملائكة (النجم: 19- 28)، وأنه -كما ذكر «هشام بن محمد الكلبي»[200] في كتابه «الأصنام»-، و«الصدوق» في كتابه «علل الشرائع» (الفقرة 3)، والطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» وسائر علماء التفسير ذيل الآية 23 من سورة نوح[201]: إن «ودّ» و «سُواع» و «يغوث» و....الخ، كَانُوا أفراداً صالحين وأولياءَ يَعْبُدُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فلما ماتوا اتَّبع مُريدوهم سيرتهم وسُنَّتهم في عبادة الله وطاعته ولكن بالتدريج ومع مرور الزمن وعلى إثر الابتعاد عن زمن الأنبياء، صار الناس في عباداتهم يتوجَّهون إليهم أيضاً، ثمّ وسوس لهم الشيطان ووسوست لهم أنفسهم أن يصنعوا على صورهم تماثيل بحُجّة أن هذه الصور تُذكِّرهم بهم وبمُجاهداتهم وتكون سبباً في حثِّهم وتحريضهم على العبادة[202]. فكان الناس يأتون لرؤية تلك التماثيل ويُعظِّمونها ويُكرِّمونها ويطوفون حولها أو كانوا يتوجَّهون إلى قبور أولئك الأفراد الصالحين ويُعظِّمونها وبهذا ابتعدوا عن التوحيد ونهج أنبياء الله.
22اعترف أحد المُتعصِّبين المُدافعين عن الخرافات قائلاً: "لقد أثبت الباحثون المسلمون الكبار اليوم استناداً إلى دراسة كثير من الآيات والأحاديث والنصوص التاريخية وتحليلها أن شرك كثير من الوثنيين (إن لم نقل جميعهم) كان شركاً في العبادة لا شركاً في الذات. أي أنهم كانوا يؤمنون أن الله ذاتٌ واحدةٌ وأن لا خالق ولا رازق إلا هو، ولكنهم كانوا يعتبرون الأصنام والأوثان كائنات تُقرِّبهم من الله وأنهم إن أرضوها فإنهم سينالون رضا الله أيضاً ببركة شفاعتها لهم عنده، ونصوص آيات القرآن التي نزلت في تلك البيئة تشهد بهذه الحقيقة.
﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٦١ ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ٦٢﴾[العنكبوت: ٦١، ٦٢].
فهاتان الآيتان تدلَّان على أن العرب في عصر الرسالة لم يكونوا يؤمنون بخالق ولا رازق غير الله، ولكنهم رغم ذلك كانوا يعبدون 360 صنماً ويخضعون أمامها، وسبيل الجمع بين هاتين العقيدتين لم يكن سوى أن شركهم كان شركاً في العبادة ولم يكن شركاً في الذات والربوبية..... وبعبارة أخرى كان هناك فرق في نظرهم بين «الله» و«الإله»، فكلمة «الله» اسم علم لِـلَّهِ الواحد الفرد. في حين أن لكلمة «الإله» مفهوماً عاماً يعني المعبود، ولذلك كنا نُشاهد حول الكعبة 360 معبوداً، وكل هذه المعبودات كانت في نظرهم «إله» ولم تكن «الله»، ولذلك أمرهم النبيُّ أن يقولوا: لا «إله» -أي لا معبود- إلا «الله» وحده نفسه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ﴾، فلا تعبدوا أحداً سواه. وإذا رجعتم إلى الآيات: 25 من سورة لقمان، و 38 من سورة الزمر، و 87 من سورة الزخرف ازدادت هذه الحقيقة وضوحاً لكم. بناءً على ذلك فإن وجود كلمة «الله» بين العرب الجاهليين ليس دليلاً على أنهم كانوا مُوحِّدين..... إن دراسة عقائد الشرك والوثنية في ذلك العصر وتحليلها تُعطينا النتائج التالية:
1- كان أهل الجزيرة العربية يؤمنون بالله بوصفه مبدأ الوجود وكانت كلمة «الله» شائعةً جداً بينهم وكانوا يعتقدون في الغالب أن الأصنام مظاهر تستحقُّ التقديس والعبادة وكانوا يعتبرونها «آلهة» (= معبودات) لا خالقة للكون والوجود[203]، وكانوا يُنكرون رسالة الأنبياء ويُنكرون المعاد «أي القيامة» ولذا لم يكن نبيُّ الإسلام ص بحاجة إلى إثبات الصانع لهم وكان كفاح الإسلام مُنصبَّاً في أغلبه على إثبات ضرورة توحيد المعبود ونفي الأصنام التي كانوا يعتبرونها شريكةً لِـلَّهِ بصور مختلفةَ! وهناك آيات عديدة في القرآن تُوضِّح هذا المعنى وهو أن الناس في ذلك الزمن كانوا يؤمنون بشكل ما بالله تعالى، كآية: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٦١﴾[العنكبوت: ٦١].
وكانوا يُبرِّرون عبادتهم للأصنام بعدة أقوال منها:
أ) نحن لسنا أهلاً أن نعبد الله بعظمته وعليائه بشكل مباشر ودون واسطة، فهذه الأصنام يُمكنها أن تكون الواسطة بيننا وبين الله[204]. يقول القرآن على لسان هذا الفريق من المشركين: ﴿مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ﴾[الزمر: ٣]. و: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ﴾[يونس: ١٨]"[205].
ولهذا السبب نرى أن الآية 23 من سورة نوح لم تقل عن تلك الأصنام: «أصنامكم» بل قالت: «آلهتكم»، ذلك لأن الواقع أن الأفراد الصالحين المذكورين هم الذين كانوا موضع التجليل والتوجُّه ولم تكن تلك الأصنام [المنحوتة على أشكالهم] سوى مرآة وآلة للتوجه، وإلا فمن البديهي أن الأخشاب والأحجار بحدِّ ذاتها لم تكن موضع توجه وإجلالٍ وتعظيم[206]. علاوة على ذلك، فقد استخدم القرآن عنوان «دون الله» وهو لفظ عام يشمل الجماد وغير الجماد وذي الشعور وغير ذي الشعور[207].
ولتوضيح المُراد وبيانه، ضرب الله تعالى في الآيات التي أوردناها سابقاً من سورة الحج، مَثَلاً فقال: لو اجتمع جميع المخلوقين وتعاونوا كي يخلقوا ذباباً فإنهم لن يستطيعوا فعل ذلك؛ فكيف تدعون مثل هؤلاء العاجزين وتطلبون منهم الغوث والعون؟! ومن الواضح تماماً أنه ليس المقصود من عبارة «دون الله» في الآية: الصنم الحجري والخشبي، بدليل أن القرآن استعمل في الإشارة إلى من هم «دون الله» ضميرَ «الذين» وضمائر الجمع الخاصة بالعقلاء (ذوي الشعور). أضِف إلى ذلك أن الأنبياء والمقربين - بإجماع المسلمين - لا يستطيعون خلق ذبابة وليس لهم أي مشاركة في خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات، بل حتى المشركون كانوا يُقِرُّون بهذا الأمر. فبِحُكْم هذه الآيات إذاً، لا يجوز دعاؤهم ونداؤهم، فمن يدعوهم ويناديهم لرفع البلاء وكشف الضُّرّ منحرف عن «التوحيد» وليس موحِّداً.
في الآيات (17 و20 و21 و73 و74) من سورة النحل يقول الله تعالى لا تُساووا بين من لا يخلق ومن يخلق. لا يجوز أن تتوجَّهوا في طلب حوائجكم وأدعيتكم إلى من لا يخلق ولا يقدر على الخلق. والخالق تعالى يعلم سرَّكم وجهركم وَمِنْ ثَمَّ فتعلّق أملكم بغير الخالق الذي لا يعلم شيئاً عن باطنكم ولا يعلم صدقكم من كذبكم ليس عملاً مُبرَّراً ولا معقولاً. وتدلُّ الآيتان 20 و21 من سورة النحل[208] أنه لا يجوز دعاء غير الخالق، الذي يموت ولا يعلم متى يُبعث، ومن المعلوم أن الأنبياء والأولياء جميعهم كانوا كذلك[209]. بناءً على ذلك فإن دعاءهم مُخالف للتوحيد. والآية 73 [210] تشمل كل معبود غير الله سواءً كان ذا روح أم جماداً. وتشمل هذه الآية العقلاء أيضاً بدليل كلمة «لَا يَسْتَطِيعُونَ » التي لا تُستعمل في حق الجمادات التي لا تعقل.
إذاً، بناءً على صريح القرآن الذي أمر النبيَّ أن يقول: ﴿قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا ٢١﴾[الجن: ٢١]، وأن يقول: ﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ﴾[الاعراف: ١٨٨]، فحتى النبيّ ص لا يجوز أن يُدعَى، سواءً قبل رحيله عن الدنيا أو بعد وفاته ورحيله. ومقصودنا من الدعاء بالطبع -كما قلنا مراراً- ذلك الدعاء الذي يستلزم افتراض صفات فوق بشرية للمدعوِّ (أي للنبيّ ص].
وتدل الآية 74 [211] من سورة النحل أنه لا يجوز أن نُشبِّهَ اللهَ المُتعال بالخلق أو نضرب له الأمثال بآرائنا، لأن الله وحده لا مثيل له، فالذين شبَّهوا اللهَ بالمَلِكِ -كما كان يفعل مشركو صدر الإسلام- وقالوا إننا بسبب ما نحن عليه من سواد الوجه وكثرة الذنوب لا نستطيع أن نتصل بالله مباشرةً، كما لا يستطيع أيُّ فرد من الرعية أن يلتقيَ بالمَلِكِ أو برئيس البلاد مباشرةً. ولكي يجعلوا للأنبياء والأولياء تدخُّلاً في عمل الله، قالوا لا بُدَّ لنا من التوجُّه نحو من لهم جاهٌ ومنزلةٌ عند الله وقربٌ منه فهم يستطيعون بما لديهم من القرب والمنزلة أن يتوسطوا لنا ويشفعوا لنا كي يُحقِّق المَلِكُ لنا ما نطلبه. وبهذا القياس نجعل المُقرَّبين من الله شُفعاءَنا في قضاء الحوائج وغُفران الذنوب وأمثالها، كي يطلبوا من الله لنا قضاء حوائجنا أو غُفران ذنوبنا[212]، أقول: إن من قالوا بهذا التشبيه تنكَّبُوا الصواب وأخطؤوا في تمثيلهم وأثبتوا جهلهم بالله، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: قال تعالى: ﴿فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧٤﴾[النحل: ٧٤]فالله تعالى هو نفسه يذكر في الموارد اللازمة، أمثلةً مناسبةً ولكنه لم يذكر مثل هذا التمثيل، أما أنتم فذكرتم هذا التمثيل المُخالف لنهي القرآن من عند أنفسكم ودون أيِّ دليلٍ أو بيِّنةٍ شرعيّةٍ!
ثانياً: تشبيهكم ومثالكم غير مناسب إطلاقاً لأن الله تعالى يختلف عن المَلِكِ أو رئيس البلاد اختلافاً كبيراً:
1- المَلِكُ ووزراؤه ومُقرَّبوه من جنس واحد، أما الله فليس من جنس الشفعاء.
2- المَلِكُ لا علم له بقلوب الرعية ولا يعرف الصادق من الكاذب، لكن الله تعالى عليم بذات الصدور.
3- المَلِكُ ليس حاضراً مع رعيِّته وناظراً لهم في كل مكان وزمان، بل هو بعيد عنهم، أما الله تعالى فلا يغيب العباد لحظةً عن نظره وعلمه، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد. إضافةً إلى ذلك لو قال سلطانٌ لرعيِّته: راجعوني متى ما كانت لديكم حاجة وأنا دائماً بقربكم. هل يجوز أن تتجاهل رعيَّته هذا الأمر وتُعرض عنه، وتقول للملك: علينا أن نرجع أولاً إلى وزرائك وموظفي بلاطك؟ كلا بالطبع.
4- المَلِكُ يحتاج إلى الوزراء والموظفين ولا يُمكنه أن يحكم دونهم، أما الله فهو غنيٌّ عن العالَمين.
5- يُمكن أن يكون المَلِكُ أقلَّ رحمةً وعفواً من الوزراء والموظفين، أما الله تعالى فلا يُمكن أن يكون أحد أرحم منه لأنه ﴿أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ﴾[الاعراف: ١٥١]فهو أرحم من جميع مخلوقاته وأكثر منهم عفواً وغُفراناً.
6- لا يستطيع المَلِكُ أن يُنجز أكثر من عمل في زمن واحد أو أن يسمع أكثر من صوت في وقت واحد، ولا أن يُجيب أكثر من شخص في آنٍ واحد، أما الله تعالى فليس كذلك بل هو كما وصفه أمير المؤمنين علي ÷: "وَإِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ وَمَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَجَان " (نهج البلاغة، الخطبة 195)، "لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ ولا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ ولا يَحْوِيهِ مَكَانٌ " (نهج البلاغة، الخطبة 178)[213].
علاوةً على ذلك إن كنتم تعتقدون أن النبيَّ والإمام هم بالنسبة إلى الله مثل الموظفين والوزراء بالنسبة إلى المَلِكِ فلماذا نقرأ في «دعاء المشلول» في «مفاتيح الجنان»: "يا مَنْ. .... لَمْ يَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَلا كانَ مَعَهُ وَزيرٌ، وَلاَ اتَّخَذَ مَعَهُ مُشيراً، وَلاَ احْتاجَ إلى ظَهير ". ولماذا نقرأ في البند 99 من دعاء «الجوشن الكبير»: "يا مَنْ لا شَريكَ لَهُ وَلا وَزيرَ "!
23للأسف إن شعبنا يضفي على غير الله الصفات الخاصة بالله وحده!! فمثلاً تجد أن الذين يطوفون حول قبر الإمام أو أحد أحفاده[214] يُخاطبون صاحب القبر جميعاً في آنٍ واحد، ولا يقول أحدهم للآخر اصبر لا تتكلم حتى أنهي كلامي فأنا الآن أُكلِّم الإمام أو روح الإمام! أو لا يصبر أحد حتى يُنهي الآخر كلامه فيبدأ هو بعرض حاجته، بل الجميع يتكلمون في آنٍ واحد ويُخاطبون الإمام أو صاحب القبر!! وهذا معناه أنهم يؤمنون أن صفة الله «لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنِ شَأْنٍ » ثابتة لغير الله (صاحب القبر) أيضاً!!!
والناس لدينا يدعون الإمام أو الوليَّ المُقرَّب في كل مكان سواءً كان الداعي في جوار قبر أم في جوار منزل أم في الشارع [أم فوق جبل أم في عرض البحر]، في النهار أو الليل أو مُنتصف الليل، في السفر أو الحضر وفي أيِّ حالة كانت، ويعتقدون أن دعاءهم مسموع وأن الإمام أو الوليّ سيتوسط لهم ويشفع لهم عند الله[215]!! وهذا بلا شك ولا ريب إضفاءٌ لصفات الله تعالى [وهي اللامحدودية المكانية والزمانية والحضور والمعية مع كل شيء في كل مكان وزمان] على غير الله!!!
ويُخاطب الناس لدينا الإمام الميت أو أحد أحفاده قائلين: اشفِ لي ابني أو حُلَّ لي مشكلتي الفلانية وقس على هذا. كأن الله أوكل إلى الأئمة فعل ذلك! مع أن الله تعالى لم يتخذ لنفسه شريكاً في أيِّ أمر من الأمور ومن جملتها استجابة أدعية العباد واستغاثاتهم.
قال سبحانه: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ﴾[الزمر: ٣]، وقال تعالى أيضاً: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبُِّٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾[يونس: ١٨].
يُشير اسم الإشارة «هؤلاء» وكذلك يرجع ضمير «هم» في كلمة «نعبدهم» وضمير الواو في كلمة «يُقرِّبونا» كلها إلى الأولياء الذين يدعوهم الناس ويرون فيهم مرجعهم في طلب الحوائج ومعبودهم، أي أن المدعوين كانوا من العقلاء وذوي الشعور. وكانوا الأولياء والصالحين أو الملائكة الذين يتوجَّه إليهم المشركون في طلب حوائجهم وفي أدعيتهم ويدعونهم لكي يُقرِّبوهم من الله ويشفعوا لهم عنده، ويقولون: نحن لسنا أهلاً أن نتكلَّم مع الله مباشرةً لأننا مُذنبون ووجوهنا سوداء يملؤنا الخزي والعار، لذا فإننا بحاجة إلى أن نتجه إلى أولئك الأولياء والملائكة ونتذلَّل لهم ونخضع لهم ونُعظِّمهم كي يشفعوا لنا عند الله. وهذا كشأن الناس في زماننا الذين يعتقدون أن كل من قام بتعظيم قبور الأنبياء والأولياء وتكريمها فإن أصحاب تلك القبور سيشفعون له عند الله، ويقولون: نحن لا نعبدهم لكن لما كانت وجوهنا سوداء مليئة بالخزي والعار، ولسنا أهلاً للاتِّصال مباشرة بالله ومُناجاته أو طلب شيء منه، فإننا نتجه إلى النبيّ والأئمة ونجعلهم واسطة بيننا وبين الله كي يشفعوا لنا عنده[216]!!
لإبطال كل هذه الخرافات والحُجج قال تعالى إن الله لا يعلم وجود مثل هذا الشيء في السماوات والأرض والشيء الذي لا يعلمه الله معناه أنه شيء ليس له وجود له أصلاً لهذا لا يتعلَّق علم الله به، لذا يسأل الله في الآية: أتريدون أن تُخبروا الله عن شيء لا يعلمه في السماوات والأرض؟!!! لو كان لمثل هؤلاء الوسطاء والشفعاء وجود لأخبر الله عباده عنهم بلا ريب ولعرَّفهم لعباده في كتابه ولم يترك عباده جاهلين بهم. (فَتَأَمَّل جداً).
علاوةً على ذلك فإن الله تعالى قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: ١٨٦]، فالله، خلافاً للملوك ولسائر المخلوقات التي ليست قريبة من كل فرد من العباد، قريبٌ منا في كل لحظة وآن بل أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو معنا أينما كُنَّا. بناءً على ذلك فلا مُبَرِّر إطلاقاً لتوسيط شخص ليس أقرب إلينا من الله. ولا يوجد أحدٌ من المخلوقات حتى الأنبياء والأولياء أقربُ إلينا من حبل الوريد ولا أحدٌ عليمٌ بذات صدورنا. ولهذا السبب قال تعالى ادعوني ولم يقل ادعوا عبادي المُقرَّبين وذلك لأننا عندما ندعو ذاتاً هي أقرب إلينا من أيِّ شيء آخر وعليمةً ببواطننا وأرحمَ بنا من أيِّ كائن آخر، لا نكون بحاجة بأيِّ وجه من الوجوه إلى واسطةٍ أو شفيعٍ. (فَتَأَمَّل)
ولذلك قال الله تعالى بكل صراحة إتماماً للحُجَّة على العباد: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَٰطِلُ﴾[لقمان: ٣٠].
24ومن ناحية أخرى قال تعالى لنبيِّه: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾[الروم: ٥٢]، وقال أيضاً: ﴿وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢ إِنۡ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ٢٣﴾[فاطر: ٢٢، ٢٣].
بناءً على الآيتين الأخيرتين من سورة فاطر لا يستوي الأحياء والأموات أي أن الأموات ليسوا كالأحياء حتى ولو كانوا أنبياء أو صُالحين أو أولياء أو مُقرَّبين، لأنهم بعد رحيلهم عن الدنيا يتمتعون بحياة أخرويَّة لا حياة دنيويّة، وأساساً إن كل مُستمع -ما عدا الله عزَّ وجلّ- حتى ولو كان من الأنبياء والصالحين إنما يستمع بواسطة آلة ويرى بواسطة آلة فلما رحلوا عن الدنيا وتعطلت أعضاء حواسهم (الآذان والأعين.... الخ) انقطعت صلتهم عن الدنيا[217]. بناءً على ذلك فإن ذلك الفريق من المسلمين الذي اغترَّ بخيالات واهية وخرافات موروثة وجاء إلى قبر نبيّ أو وليّ أو حفيد إمام وأخذ يتضرع إليه ويدعوه ويسأله ويُكلِّمه ويطلب منه إذن الدخول إلى حضرته ويُخاطبه بقراءة نص زيارة خاصَّة ويطلب منه تلبية حوائجه ورفع مشكلاته ويظن أن صاحب القبر يسمعه، يقوم بعمل مُخالف تماماً لتعاليم القرآن. (فَتَأَمَّل جداً)
وفي الآية 52 من سورة الروم[218] تمَّ استخدام حرف التأكيد «إِنَّ» وبدون استثناء استخدم الله لفظ «المَوْتَى» الذي هو لفظ جمع جاء في سياق النفي مما يُفيد العموم ويدل على أن الموتى جميعاً بلا استثناء لا يرون المرئيات ولا يسمعون المسموعات، وحتى رسول الله ص لا يُمكنه رغم مقامه العالي الرفيع أن يُسمع الموتى فكيف يُمكن لزيد وعمرو أن يُسمعوا الموتى؟!!
جايى كه عقـــاب پر بـريزد از پشــــه لاغــــــرى چـــــه خيزد؟!
إذا كان ريش النسر يتساقط ما عسى أن تفعله البعوضة الضعيفة
فالذي يذهب إلى قبور الأنبياء والأئمة والشخصيات الدينية العظيمة ويقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا..... أَشْهَدُ أَنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامِي وَتَرُدُّ جَوَابِي وَتَرَى مَقَامِي "[219]!! يشهد على أمر مُخالف للعقل ومُخالف للقرآن وينبغي أن يعلم أنه في شريعة الإسلام شهادة المرء على أمر ليس له به علم صحيح ولم يره بعينه أو يسمعه بأذنه حرام وإثم[220]. (فَتَأَمَّل)
يقول بعض المُدافعين عن الخرافات إن المقصود من «المَوْتَى » في الآية 80 من سورة النمل وفي الآية 52 من سورة الروم موتى القلوب أي الكفار الذين عميت بصائرهم وماتت قلوبهم فشبَّههم الله تعالى بالأموات الحقيقيين، فالمراد من هذه الآية أن النبيّ لا يستطيع أن يُسْمِع كلامَ اللهِ للكُفَّار.
فنقول: إن كلامكم هذا يُثبت كلامنا بشكل أفضل لأن الله شبَّه الكفار والمُعاندين بِـ «الموتى الحقيقيين » و«وجه الشَّبه» في هذا التشبيه هو: عدم القدرة على سماع الكلام لدى «المُشَبَّه» و«المُشّبَّه به»، وكما تعلمون يجب أن يكون «وجه الشَّبه» في «المُشَبَّه به» (الموتى) أقوى منه في «المُشَبَّه» (الكفار)، وَمِنْ ثَمَّ فيجب أن يكون عدم سماع الأموات أمراً مُسلَّماً به وقطعياً كي يُشبِّه الله الكفار والمُعاندين بهم، إضافةً إلى ذلك فقد صرَّح القرآن أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص لا يُسمع من في القبور. (فاطر: 22)
25ز) قال الله تعالى مُخاطباً فريقاً من أهل جهنم: ﴿ذَٰلِكُم بِأَنَّهُۥٓ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُۥ كَفَرۡتُمۡ وَإِن يُشۡرَكۡ بِهِۦ تُؤۡمِنُواْۚ فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِيِّ ٱلۡكَبِيرِ ١٢﴾[غافر: ١٢].
إذا قال شخص للناس لا تدعوا أحداً غير الله حتى على سبيل أن تطلبوا منه أن يتوسط لكم ويشفع لكم عند الله، اعترضوا على كلامه ورفضوه!! وكان عليهم أن يعلموا أن الله اعتبر مثل هذه الحالة نوعاً من عدم الإيمان بالآخرة فقال: ﴿أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَۚ قُلۡ أَوَلَوۡ كَانُواْ لَا يَمۡلِكُونَ شَيۡٔٗا وَلَا يَعۡقِلُونَ ٤٣ قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٤٤ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُ ٱشۡمَأَزَّتۡ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ٤٥ قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ عَٰلِمَ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَيۡنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٤٦﴾[الزمر: ٤٣، ٤٦].
كما نُلاحظ في الآيات أعلاه، فإن سبب عذاب أهل جهنم وشقاءهم هو أنهم عندما كانوا يجدون شخصاً يدعو الله وحده في الدنيا ولا يدعو أحداً غيره، كانوا يشمئزون منه، أما إذا دعا الله ودعا أئمة الدين والصالحين معه، قبلوا ذلك منه وصدَّقوا عمله!! كما نجد في زماننا أنهم يُنادون دائماً غير الله في المجالس والمحافل التي تُقام باسم عبادة الله، فيقولون مثلاً: يا محمد، يا أبا الفضل، يا حسين، يا صاحب الزمان، ويعتبرون ذلك عبادة لِـلَّهِ ويغترُّون بها ويغتبطون بها!! في حين أن الله تعالى قال: ﴿أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥ﴾[الزمر: ٣٦]، فهذه الآية جاءت على سبيل الاستفهام الإنكاري والتوبيخي في مقام إثبات كفاية الخالق، ودلالتها على هذا الأمر أقوى وأشد من دلالة الجملة الخبرية[221].
إن النقطة المُهمّة التي لا يجوز أن نغفل عنها هي أن القرآن (الزمر: 45) اعتبر الحالة المذكورة دليلاً على عدم الإيمان بالآخرة. ولما كان المشايخ يجعلون هذا الأمر بحدّ ذاته حُجَّةً لادِّعائهم أنه بما أن الشيعة يؤمنون بالآخرة فلا تشملهم هذه الآية بل معنى الآية يقتصر على المشركين الذين لم يكونوا يؤمنون بالآخرة!! لذلك أرى من الضروري أن ألفت نظر القُرَّاء الكرام بشكل مؤكد إلى هذه النقطة: وهي مجيء عبارة «مِنْ دُونِهِ » في الآية (يعني من دون الله) لذلك فإذا كان هناك من يدَّعي الإسلام ويعمل مثل من ذَكَرَتْهُم الآية، فهو في نظر القرآن لا يُؤمن بالآخرة ذلك الإيمان الذي يرضاه الله عزّ وجلّ. وبالله عليكم أليس حال كثير من الناس اليوم مُشابهاً لحال من ذكرتهم الآية؟!
إن آخرة الخرافيين مليئة بالوسطاء والشفعاء ولكن الآخرة التي بيَّنها القرآن: أولاً: الشفيع فيها لا يختاره الناس بل الله يأذن له، والشفاعة أساساً ليست سوى أمر محدود واستثنائي. ثانياً: تلك الشفاعة لا تُنال بواسطة مدح أئمة الدين الصالحين وتملُّقهم أو لطم الصدور وضرب البدن بالسلاسل أو أداء أعمال عبادية لغير الله. (فَتَأَمَّل)
أذكر أنني قلت مرّةً لشيخ مُتعصِّب حول هذه الآية: إن الأمر لا يخلو من حالتين إما أن عقيدتي في «توحيد العبادة» صحيحة وأنه لا يجوز دعاء غير الله ولا يجوز مُناداة الأنبياء والأئمة ودعاؤهم، أو أن عقيدتي غير صحيحة. فلو كنت تؤمن حقيقةً بالآخرة وتخاف الحساب يوم الجزاء، فعليك أن تحتمل على الأقل واحد بالمئة أن يكون دعاء غير الله الذي جاء كل هذا الذم له والنهي عنه في القرآن الكريم إثماً وخطيئةً يُحاسب عليها الإنسان يوم القيامة، وأنك ستُسأل في ذلك اليوم العظيم: لماذا كنت تدعو الأئمة؟ أليسوا غير الله؟ متى قال لكم عَلِيٌّ (ع) أو أبو الفضل ادعوني أنا أيضاً حتى دعوتهما واستعنت بهما، إضافةً إلى دعائك الله؟! متى دعا عَلِيٌّ في أدعيته أحداً غير الله أو جعل روح النبيّ واسطة وشفيعاً بينه وبين الله حتى اتَّبعته أنت بقيامك بمثل هذا العمل؟! أين ذكر الله لك أن لا تُؤدِّ أعمالك العبادية إليه مباشرة كالدعاء والنذر والطواف بل قدم هذه العبادات إلى واسطة ذي منزلة لديّ؟! أو إذا أردت أن تطلب مني شيئاً فاطلبه من خلال وساطة واسطة مُقرَّبة؟ أين قال القرآن إن أولاد الأنبياء أو أتباعهم كانوا يستعينون بأنبيائهم بعد وفاتهم ورحيلهم عن الدنيا، ويطلبون منهم المدد ويسألونهم أن يطلبوا من الله أن يغفر لهم؟!!
أما لو كانت عقيدتي غير صحيحة ولم يكن دعاء غير الله ممنوعاً ولا حراماً فهل تحتمل حتى نصف بالألف أن تُحاسب يوم القيامة وأن تُسأل: لماذا اعتبرت الله وحده كافياً لك؟ (الزمر: 36) أو تُسأل: لماذا اعتبرت الله وحده حاضراً ناظراً وسميعاً في كل مكان؟ ولماذا لم تكن تدعو الوسطاء والشفعاء بل تدعو الله وحده مباشرة؟!!!
لا شك أن الذي يؤمن بالآخرة إيماناً صادقاً حقيقياً يحتاط ولا يدعو غير الله لأن احتمال الخطر والضرر والشقاء الأخروي عند دعاء غير الله -بما في ذلك دعاء الأنبياء والأئمة- أقوى بكثير من خطر عدم دعائهم.
صحيح أن الله قال عن المشركين: ﴿وَإِذَا ذَكَرۡتَ رَبَّكَ فِي ٱلۡقُرۡءَانِ وَحۡدَهُۥ وَلَّوۡاْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِمۡ نُفُورٗا ٤٦﴾[الاسراء: ٤٦]، لكن يجب على الذين يدَّعون الإسلام أن يأخذوا العبرة من هذه الآية ولا يعتبرونها قاصرة على مشركي عصر النبيّ وأن يسعوا أن لا يكونوا مثل أولئك! (فَتَأَمَّل). إن الفرق بين كلامي وكلامك أنني أقول: ادعوا الله وحده في طلب الحوائج وطلب المغفرة و....، أما أنتم فتُعارضون هذا الكلام وتقولون: إضافةً إلى الله ادعوا غير الله أيضاً، مع أن القرآن قال مراراً وتكراراً «ادعوا الله» ولم يقل أبداً «ادعوا النبيّ أو الإمام»، وقال عن عباد الله الصالحين: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [السجدة: 16]، ولم يقل: «يدعون نبيَّهم أو إمامهم»، بل قال: ﴿فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨﴾[الجن: ١٨].
***
نأمل أن تكون الآيات القرآنية الكريمة التي أوردناها في الصفحات السابقة سبباً لتنبُّه القراء المحترمين وأن يتدبروها ويتأملوا فيها جيداً فلا يخسروا ببساطة نعمة التوحيد العظيمة لاسيما «توحيد العبادة» ولا ينسوني من صالح دعائهم.
أختم هذا الفصل بكلام رواه الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن أمير المؤمنين علي ÷ رغم أن الشيخ عبَّاس في نظرنا لم يعمل بمفاده، لعلّ هذا الحديث أيضاً يُفيد في وعي القراء وتنبُّههم أكثر، قال الإمام:
"ما لي أرى الناس إذا قُرِّبَ إليهم الطعام ليلاً تكلَّفوا إنارة المصابيح ليُبصروا ما يدخلون بطونهم، ولا يهتمون بغذاء النفس بأن يُنيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في اعتقاداتهم وأعمالهم؟!"[222].
***
[173] راجعوا في تفسير الآيات الثلاث المذكورة أعلاه ما ذكرناه في تفسير «تابشى از قرآن» [أي شعاع من القرآن]، تأليف كاتب هذه السطور. [174] قال رسول الله (ص): "الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة". لذا يجب على المؤمن أن ينتبه بشدة إلى حفظِ إيمانه من أن يختلط بالشرك. [175] ينبغي أن ننتبه إلى أن كلمة «الأحبار» تعني مُطلق علماء الدين. ولذلك نجد أن ابن عباس كان يُطلق عليه لقب «حِبْر الأمة»، فالحبر ليس مقصوراً على الأساقفة والآباء المسيحيين أو كهنة اليهود وعلماء دينهم. والراهب أيضاً مفرد كلمة «الرهبان» التي تعني الزُهَّاد الذين يسلكون طريق العُزلة والرهبانية ويُكرِّسون حياتهم للعبادة ورعاية أحكام الشرع ولا يلتفتون إلى الدنيا والأمور الدنيوية وغالباً ما يعيشون في أديرة أو صوامع أو زوايا يتعبدون الله فيها. ويُطلق اللفظ أيضاً على المُتَّقين الورعين من الرهبان. ولكنني لما كنت أعلم أن الخرافيين والمُتحجِّجين سيناقشون هذا التفسير للآية فإنني سأذكر التفسير المشهور لدى عامة الناس وأوضح الآية طبقاً لذلك التفسير : تقول الآية يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من علماء الدين اليهود ورهبان النصارى ليأكلون أموال الناس بغير وجه حق ويصدون الناس عن سلوك سبيل الله. ينبغي أن ننتبه إلى أنه لا يُمكن أن نحصر معنى الآية بذمِّ علماء اليهود والنصارى وزُهَّادهم لأن المُخاطَبين في الآية هم المسلمون إذ بدأت الآية بقوله تعالى: «يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ». فالآية تريد أن تلفت أنظار المؤمنين إلى أنه لا يجوز أخذ العقائد وأحكام الشريعة من أشخاص لمجرَّد أنهم من العلماء والأحبار والزُّهَّاد، بل لا بُدّ من أن يُطالب العلماء والزُهّاد بالدليل الشرعي على أقوالهم. هذا هو المعنى المقصود. وإلا فإن مُجرّد إخبار المسلمين بأن علماء اليهود ورهبان النصارى يصدون الناس عن سلوك سبيل الله ويأكلون أموال الناس بالباطل أمر لا علاقة للمسلمين به إذ إن هؤلاء لا يأكلون أموال المسلمين، علاوةً على أنه عندئذ لا حاجة إلى قيد «كثيراً» لأن اليهود والنصارى -ليس كثيراً منهم فقط- بل جميعهم يُعارضون الإسلام ويصدون الناس عن اتِّباعه. (فَتَأَمَّل) في الواقع إن الآية تريد أن تُحذر المسلمين من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى وهو قبولهم لأقوال أحبارهم ورهبانهم دون دليل، وذلك لأن ما هو سيء لليهود والنصارى سيء أيضاً للمسلمين ولا يجوز للمسلم أن يقبل كلام أي شخص حتى لو كان عالماً أو زاهداً ما لم يستند كلامه إلى دليلٍ شرعيٍّ وحُجّةٍ قاطعة. وليس المراد من جملة « لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ» أنهم كانوا يأخذون أموال الناس بالجبر والإكراه، بل المُراد أنهم كانوا يأكلون أموال الناس بعناوين شرعية وبحُجّة العمل بحكم من أحكام الدين، كما يفعل كثير من العلماء والروحانيين في زماننا الذين يسترزقون من أموال الناس باسم الدين ويأخذون من الناس أموالاً باسم الحقوق الشرعية وسهم الإمام وخُمس غير الغنائم الحربية الذي لم يُشرَّع في الإسلام أصلاً، ويعتبرون ذلك من فروع الدين، ولا يولون الزكاة التي أكَّد القرآن عليها مراراً وتكراراً ذلك الاهتمام الواجب والذي تستحقه ويحصرونها بأموال محدودة!! وذلك لأن الزكاة بتصريح القرآن يجب إنفاقها على الفقراء والمساكين ومصالح المسلمين العامة ولا تختص بالعلماء العباد والزهاد. فالمسلمون أيضاً ابتُلوا بطاعة مشايخهم المُعمَّمين وقبول أقوالهم لمُجرَّد أن العالم الفلاني قال ذلك دون أن يُحققوا في صحة قوله وأدلته. وإذا تساءل شخص حول جملة «وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ» مُتعجِّباً كيف يُمكن لعلماء الدين والزهاد أن يصدوا الناس عن سبيل الله؟ فإني ألفت نظره إلى أنه من الواضح أن مثل هؤلاء الأفراد لا يقولون للناس صراحةً: لا تسلكوا سبيل الله، لأنهم حسب الظاهر يتمسكون بالدين والشريعة ويعتبرون أنفسهم من الدعاة إليها والمُروِّجين لها، لكنهم عملياً يتركون الدين الواقعي ويشتغلون بالدعوة إلى أمور باسم الدين يقومون بترويجها بين الناس مع أنها ليست من الدين. فمثلاً يُصوِّرون دين الإسلام -الذي هو دين التحقيق وطلب الدليل والبرهان- بأنه دين يأمر الناس بتقليد العلماء. وبدلاً من الجهاد في سبيل الله يُعلِّمون الناس البكاء والعويل والنياحة ولطم الصدور وضرب الأجسام بالسلاسل وقراءة الأشعار والمدائح. لقد أنشؤوا إلى جانب المساجد أبنية باسم «الحسينية» و«المهدية» و«الفاطمية» وسكت العلماء عن ذلك، فبدلاً من التوحيد والتوجه إلى الله وحده، علَّموا الناس التوجه إلى الأنبياء وإلى أئمة الدين الصالحين وقراءة الأدعية الشركية مثل دعاء الندبة ودعاء التوسل!! وشجعوهم على تملّق أولياء الله والتزلف لهم بالمدائح مع أنهم انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء [وليسوا بحاجة إلى تلك المدائح]. وللأسف يظنُّ الناس أن كل من وضع على رأسه عمامة وتلقَّب بألقاب فخمة مثل: ثقة الإسلام أو المرجع الكبير أو آية الله العظمى .....، فإن كل ما يقوله موافق للقرآن، ويظنون أيضاً أن المشايخ خُدَّامٌ مُخلصون للدين ودُعاةٌ صادقون إلى حقائق الإسلام لكن الواقع غير ذلك، فلقد أمضيتُ سنوات طويلة من عمري في الحوزات العلمية في قم والنجف ومشهد، أدرس فيها العلوم الشرعية بين علماء الدين وطُلاب الشريعة وتعرَّفْتُ على نقاط ضعفهم وقوتهم عن كثب. وسآتي هنا فقط بأقوال بعض علماء الدين الذين نالواكثيراً من الثناء والمدح والتقدير بعد الثورة. آمل أن تُوقظ هذه الأقوال القراء الأعزاء وتُوعيهم وما ذلك على الله بعزيز. القول الأول أنقله عن صاحب تفسير «الميزان» [محمد حسين الطباطبائي] الذي قاله في تفسيره للآيات من 15 إلى 19 من سورة المائدة إذ قال: "وذلك أنك إن تبصَّرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نُظِّمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً، حتى أنه يُمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول، فيأتي آخرها، ثم يتضلَّع بها ثم يجتهد ويتمهّر فيها وهو لم يقرأ القرآن، و لم يمسّ مصحفاً قط......الخ". وكتب الأستاذ «مرتضى مطهري» أيضاً حول ترك الناس للقرآن وهجره يقول: "إن كان علم الشخص علمه بالقرآن أي كان من أهل تدبر القرآن وكان عالماً بشكل كامل بتفسير القرآن، كم يا تُرى سينال احتراماً بين الناس؟ لا شيء! ولكنه إذا كان عالماً بكفاية الآخوند مُلَّا كاظم الخراساني، فإنه سيُعتبر شخصاً محترماً وفاضلاً وذا شخصية جليلة! فالقرآن أصبح مهجوراً بيننا وكل ما أصابنا من شقاء وبلاء فهو بسبب إعراضنا عن القرآن. كان أحد علمائنا الأفاضِل يقول: ذهبتُ إلى لقاء آية الله الخوئي -سلَّمه الله تعالى- وقلتُ له: لماذا تركت درس التفسير الذي بدأت به سابقاً؟ ... فأجاب قائلاً: إن هناك عوائق ومشكلات في درس التفسير..... فقلتُ له: إن العلامة الطباطبائي واصل درس التفسير في قم بل كرّس معظم وقته لهذا الأمر فماذا حصل؟ فقال: لقد ضحَّى السيد الطباطبائي. أي أن السيد الطباطبائي ضحَّى بنفسه وسقطت شخصيته من الناحية الاجتماعية. وحقَّاً ما قال! العجيب أنه في أكثر مراكزنا الدينية أهميةً، عندما يصرف الإنسان عمره على القرآن يُبتَلى بمئات المشاكل والمصاعب، فتجده يخسر كل شيء: الرزق، المعاش، الشخصية والاحترام. أما لو صرف عمره في دراسة كتب مثل «الكفاية» فإنه ينال كل شيء. ولذلك يوجد آلاف الأشخاص الذين يعرفون «الكفاية» أربعة أضعاف، أي يعرفون الكفاية والردِّ عليها وردِّ ردِّها والردِّ على ردِّ ردِّها!! ولكن لا يوجد شخصان يعرفان القرآن بشكل جيد!!!كل من سألته عن تفسير آية قال لك: يجب الرجوع إلى التفاسير .....الخ". (ده گفتار، مقالة رهبرى نسل جوان) [أي كتاب: المقالات العشرة، مقالة زعامة جيل الشباب]. القول الثاني سأذكره نقلاً عن مُنظمة «فدائيان إسلام» أتباع المرحوم السيد «مجتبى مير لوحي» (أي نوّاب صفوي)، الذين كنتُ قريباً منهم جداً في أيام شبابي. قالوا في كتاب «راهنماى حقايق» [أي المُرشد إلى الحقائق] مُخاطِبين المشايخ ذوي الألقاب الكبيرة الذي يَبْدُون أنهم شخصيات عظيمة الفضل في نظر العامة: "إنك بذلت من الجهود للوصول إلى المنصب والرئاسة ما لم تبذل واحداً على الألف منه في كل عمرك لحفظ الإسلام. أقسم بالله أنك لو شعرت بأي خطر على منصبك ومقامك الدنيوي ستكون مستعداً للقيام بكل تكفير أو تفسيق، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار ببنيان الإسلام المُقدّس، فلا يهمك أن يتم حرق وإبادة حصيلة مصائب الأنبياء ومحمد وآل محمد ونتيجة الدم المُقدّس لحضرة سيد الشهداء عليه السلام فلذة كبد النبيّ صطالما لم تشعر أن في ذلك خطراً على شخصيتك ومقامك!!". (وعلى من يريد التفصيل أن يرجع إلى الكتاب المذكور). وكتب الأستاذ «مرتضى المطهري» حول طريقة عيش عدد من الشيوخ يقول: "إن شيوخ الشيعة ..... مضطرون إلى مراعاة ذوق عوام الناس وعقيدتهم، وأن يُحافظوا على حُسن ظن الناس بهم. وأغلب مفاسد علماء الدين الشيعة منشؤها هذا الأمر بالذات ..... إن مما يبعث على الأسف الشديد هو أن الناس يرون بأمّ أعينهم أولاد بعض مراجع التقليد الكبار وأحفادهم ومن يلوذ بهم من حواشيهم، يتصرفون بأموال المرجعية بلا نظم ولا حساب ويختلسون من أموال علماء الدين ويصرفونها بكل إسراف خلال سنين مديدة ولا ينتهي هذا الأمر ....الخ". فاعتبروا يا أولي الأبصار. (يُمكن لمن أراد التفصيل أن يرجع إلى كتاب «ده گفتار» أي المقالات العشرة، مقالة المشكلة الأساسية في مؤسسة علماء الدين). [176] من المفيد الرجوع في هذا الموضوع إلى تفسير «تابشي از قرآن» أي شعاع من القرآن. [177] ورد في الأحاديث أن «الدعاء مخّ العبادة». انظر ما قاله الطَّبْرَسِي، في «مجمع البيان» ذيل الآية 60 من سورة غافر، إذ نقل أحاديث نذكرها فيما يلي: قال النبيُّ (ص): «الدعاء هو العبادة». وقال الإمام الباقر (ع): «أفضل العبادة الدعاء». وقال الإمام الصادق (ع) عن الدعاء: «هي العبادة الكبرى». [178] نتعجَّب من المشايخ الذين كلما رأوا حديثاً أو أثراً ليس في صالح رواج دكانهم تحاشوا ذكره إلا قليلاً! ومن جملة ذلك أنني نادراً ما رأيت أحداً يُشير خلال تفسيره للآية 60 من سورة غافر إلى ما قاله الإمام السجاد (ع) في البند 15 من الدعاء رقم 45 في الصحيفة السجادية حين قال: "وَقُلْتَ: (ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً". (وراجعوا أيضاً وسائل الشيعة، ج 4، ص 1083- 1084). أو إلى ما جاء في البند 13 من الدعاء رقم 46 من الصحيفة السجادية الذي يقول: "خَابَ الْوَافِدُونَ عَلَى غَيْرِكَ، وَخَسِرَ الْمُتَعَرِّضُونَ إلاَّ لَكَ، وَضَاعَ الْمُلِمُّونَ إلاّ بِكَ ". [179] نهج البلاغة، الخطبة 133. [180] المقصود هو ذلك النوع من الدعاء الذي يستلزم افتراض صفات إلهية للمَدْعُوِّ. [181] كما جاء في «مفاتيح الجنان» (في فضيلة وأعمال شهر رمضان المبارك، دعاء أبي حمزة الثمالي) أن حضرة السجاد (ع) قال: "وَالْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي لَا أَدْعُو غَيْرَهُ وَلَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لِي دُعَائِي". وروي أيضاً في «الصحيفة السجادية» أنه دعا قائلاً: "لاَ يَشْرَكُكَ أَحَدٌ فِي رَجَائِي، وَلاَ يَتَّفِقُ أَحَدٌ مَعَكَ فِي دُعَائِي". (وكان من دعائه عليه السلام متفزعاً إلى الله عز وجل). وقال أيضاً: "فَلاَ أَدْعُو سِوَاكَ، وَلاَ أَرْجُو غَيْرَكَ". (دعاؤه في التضرع). وروي عن عَلِيٍّ (ع) أنه قال في دعائه: "وَرَبِّيَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَلَا أَدْعُو مَعَهُ إِلَهاً آخَر". (الصحيفة العلوية، دعاؤه في اليوم الرابع والعشرين من الشهر). وقال الإمام الصادق (ع) أيضاً: "لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُشْرِكاً حَتَّى يُصَلِّيَ لِغَيْرِ اللهِ أَوْ يَذْبَحَ لِغَيْرِ اللهِ أَوْ يَدْعُوَ لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ". (خصال الصدوق، الحديث 341). [182] جاء في حاشية كتاب «مفاتيح الجنان» ذاته (وفيها كتاب «الباقيات الصالحات» للشيخ عباس القُمِّيّ ذاته، في قسم «أدعية العافية» نقلاً عن كتاب «عدَّة الداعي») عن الإمام الصادق÷أنه قال: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَيَّرْتَ أَقْوَاماً فَقُلْتَ: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا﴾ فَيَامَنْ لَا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرِّي وَلَا تَحْوِيلَهُ عَنِّي أَحَدٌ غَيْرُه .... الخ". وكذلك نقرأ في البند 90 من دعاء الجوشن الكبير: "يَا مَنْ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُوَ ". [183] «تفسير نمونه» تفسير كامل للقرآن بالفارسية يقع في 20 جزءاً، ألَّفه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، أحد مراجع الشيعة الإمامية المعاصرين في قم، الذي لا يزال على قيد الحياة. وتُرجِم إلى العربية باسم: «الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْزَل» في 20 مجلداً أيضاً. (الـمُتَرْجِمُ) [184] هو السيد محمد حسين الطباطبائي، من علماء الشيعة الإمامية في القرن العشرين، توفى سنة 1412هـ./1992م. كان ذا مشرب فلسفي عرفاني، وترك عدداً من الكتب في الفلسفة وغيرها، ومن أبرز مؤلفاته تفسيره «الميزان» بالعربية في 20 مجلداً، وتُرجم كله إلى الفارسية أيضاً. (الـمُتَرْجِمُ) [185] أي قوله تعالى: ﴿ هَٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِيَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِي﴾[الانبياء: ٢٤](الـمُتَرْجِمُ) [186] أي قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ ٩٨﴾[الانبياء: ٩٨]. (الـمُتَرْجِمُ) [187] للاطِّلاع على هذا الإشكال الذي استشكله المشرك «ابن الزبعري» راجعوا ما سنذكره بعد صفحتين. [188] الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، الطبعة الحجرية، ج 2، ص 295. [189] أي قوله تعالى: ﴿ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزۡوَٰجَهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٢٢ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهۡدُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡجَحِيمِ ٢٣﴾[الصافات : ٢٢، ٢٣]. (الـمُتَرْجِمُ) [190] السيد گازر هو حسب رأي فريق من المحققين: السيد الشيخ أبو المحاسن بن الحسن الجرجاني، من علماء الإمامية ومتكلميهم في القرن التاسع أو العاشر الهجري، ومؤلف نصف تفسير: «جلاء الأذهان وجلاء الأحزان» بالفارسية. (الـمُتَرْجِمُ) [191] كما تدل على هذه الحقيقة: الآيةُ 41 من سورة سبأ [أي قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمۖ بَلۡ كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٱلۡجِنَّۖ أَكۡثَرُهُم بِهِم مُّؤۡمِنُونَ ٤١﴾]. [192] كما تُشير الآية 18 من سورة الفرقان إلى هذا الموضوع. [وهي قوله تعالى: ﴿قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ مَا كَانَ يَنۢبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُواْ قَوۡمَۢا بُورٗا ١٨﴾. [193] جلاء الأذهان وجلاء الأحزان، [تفسير كامل بالفارسية في 11 جزءاً]، أبو المحاسن الحسين بن الحسن الجرجاني، باهتمام مير جلال الدين الحسيني الأرموي، ج6، ص 163 -164. [194] راجعوا على سبيل المثال تفسير «مقتنيات الدرر» للسيد الحائري الطهراني، دار الكتب الإسلامية، (طهران)، ج 7، 198 - 199 . [195] من الواضح تماماً أن الأشخاص من أمثال: العزير وعيسى ومريم عليهم السلام الذين عُبِدوا، ليسوا ممن يعتبرون أنفسهم ضالين يوم القيامة، بل هم يتبرؤون ممن عبدهم ودعاهم ويكذِّبون من فعل ذلك ويعترضون على فعله. وسنوضح هذه النقطة بتفصيل أكبر لاحقاً في الكتاب الحالي. [196] خاصة أنهم قد رحلوا عن الدنيا ولم يعد لهم آذانٌ يسمعون بها أصوات هذا العالَم، ولذا فإن دعاءهم ونداءهم لغو محض. [197] روى الشيخ الحر العاملي رواية جاء فيها أن الإمام قال: "مَا جَاءَكُمْ عَنَّا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَخْلُوقِينَ فَاجْحَدُوهُ وَلَا تَرُدُّوهُ إِلَيْنَا " («إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات»، ج 7، ص 468). أقول (الـمُتَرْجِمُ): ورواه المجلسي في بحار الأنوار، ج 25، ص 364. [198] صرّح العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ذيل تفسيره للآية 98 من سورة الأنبياء أن الله تعالى ذَكَرَ في أغلب كلامه الأصنام بألفاظ خاصة بذوي العقول. (تفسير الميزان، ج 14، ص 327). [199] وعلى النحو ذاته نجد الناس في زماننا لا يعتبرون الذهب أو الفضة أو الألمنيوم بحد ذاتها أشياء ذات قداسة أو مُحترمة أو قابلة للتَبَرَّكُ بها، لكن بمجرد أن تُستخدم تلك المعادن في بناء ضريح إمام أو عبدٍ صالحٍ من ذريَّته، يعتبرونها مقدَّسَةً و يَتَبَرَّكُون بها -لانتسابها إلى ذلك الإمام أو أحد ذريته- فتجدهم يقبِّلونها، ويضعون جباههم عليها، ويمسحون أيديهم بها ثم يمسحون أيديهم برؤوسهم ووجوههم!! ويرى العلماء هذه الأفعال ولا يعترضون عليها! (فتأمَّل) [200] ابن الكلبي: هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي الكوفي الشيعي المعروف بابن الكلبي (ت 204هـ) نسَّابَة ومؤرِّخ وراوِيَة، ألَّف عديداً من الكتب، منها كتابه «الأصنام» الذي يُعتبَر من المراجع المهمَّة للتعرف على ديانة العرب زمن الجاهلة وإبَّان ظهور الإسلام. (الـمُتَرْجِمُ) [201] أي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّٗا وَلَا سُوَاعٗا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرٗا ٢٣﴾ [نوح: ٢٣]. (الـمُتَرْجِمُ) [202] "عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صكَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص: أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ!". الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحهما والنسائي وابن ماجه في سننهما، وانظره في التاج الجامع للأصول، ج1، ص243-244. وَرُوِيَ عَنِ النبيّ الأكرم ص أيضاً أنه قال: "قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ والنَّصَارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ". (كتاب «المصنَّف» للشيخ عبد الرزاق الصنعاني، ج5، ص 431 الحديث 9754. و ج6، ص 53، الحديث 9987. و «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق، ج1، ص 178، الحديث 532. و مسند الإمام زيد، مكتبة الحياة، ص 177. وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ج1، باب 3، الأحاديث 13 إلى 29. كما رُوي الحديث المذكور في موطأ مالك و صحيح البخاري وسنن الترمذي وسنن أبي داود ومسند أحمد بن حنبل. [203] صرَّح العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير «الميزان»، ذيل الآية 19 من سورة الأنبياء أن المشركين الوثنيين الذين كانوا يعتقدون أن الآلهة تُشارك الله في التدبير وفي لزوم عبادتها، ولكنهم لم يكونوا يعتبرون أحداً شريكاً لِـلَّهِ في المُلْك. [204] حول هذا التشبيه الذي يقول به المشركون راجعوا الفقرة هـ في هذا الفصل من الكتاب الحالي. [205] الشيخ جعفر السبحاني، «راز بزرگ رسالت» [أي سر الرسالة العظيم]، انتشارات مكتبة المسجد الجامع في طهران، الصفحات: 233 و 234 و 243 و 244. [206] روى الشيخ عبَّاس القُمِّيّ: "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ص مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ. فَأُخْرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ (ع) وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ! فَقَالَ ص: قَاتَلَهُمُ اللهُ أَمَا واللهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ". (بحار الأنوار، ج 21، ص 106). [207] لابد أن ننتبه إلى عموم النهي القرآني. إن اعتراض القرآن على المشركين كان فحواه: لماذا تتعاملون مع ما هو «من دون الله» التعامل الذي يليق بالله فقط؟! ولم يكن اعتراض القرآن أنه لماذا تتشبثون بفلان (أ) وتجعلونه واسطةً بينكم وبين الله، ولا تتمسكون بفلان (ب) ليكون هو الواسطة بينكم وبين الله؟! [أقول (الـمُتَرْجِمُ): يعني أن الاعتراض القرآني هو على أصل اتخاذ الشفعاء والوسطاء من الأساس، لا على هوية الشفيع أو الوسيط. فتأمَّل]. [208] أي قوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ ٢٠ أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٢١﴾[النحل: ٢٠، ٢١]. [209] أجمع المسلمون على أن الرسول الأكرم ص تُوفي ورحل عن هذه الدنيا وأنه لم يكن يعلم متى تقوم الساعة كما بيَّنت ذلك آيات القرآن الصريحة (الأعراف: 187)، وكما قال الإمام السجاد (ع) أيضاً: "أَيْنَ السَّلَفُ الْمَاضُونَ وَالْأَهْلُون وَالْأَقْرَبُونَ وَالأَوَّلُون وَالآخِرُون وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ طَحَنَتْهُمْ واللهُ الْمَنُونُ وَتَوَالَتْ عَلَيْهِمُ السِّنُونَ وَفَقَدَتْهُمُ الْعُيُونُ وَإِنَّا إِلَيْهِمْ صَائِرُونَ فَإِنَّا لِـلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُون". (منتهى الآمال، الشيخ عبَّاس القُمِّيّ، ج 2، ص 20 وَ21). [210] أي قوله تعالى ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ ٧٣﴾[النحل: ٧٣]. [211] أي قوله تعالى: ﴿فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧٤﴾[النحل: ٧٤]. [212] قارنوا بين هذا القول وبين ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني عن قول مشركي مكة في الصفحة 109 من الكتاب الحالي. [213] وجاء في مفاتيح الجنان في دعاء الجوشن الكبير (البند 99) "يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ يَا مَنْ لَا يَمْنَعُهُ فِعْلٌ عَنْ فِعْلٍ يَا مَنْ لَا يُلْهِيهِ قَوْلٌ عَنْ قَوْلٍ يَا مَنْ لَا يُغَلِّطُهُ سُؤَالٌ عَنْ سُؤَالٍ ". كما يروي الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في ص 15 من كليات مفاتيح الجنان (ص 48 من المفاتيح المعربة) في التعقيبات العامة للصلوات اليومية دعاءً عن الصحيفة العلوية فيه: "يا مَنْ لا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَيا مَنْ لا يُغَلِّطُهُ السّائِلُونَ ...". ونقرأ في الدعاء الخامس من أدعية الأسحار في شهر رمضان -كما جاء في كتاب «مفاتيح الجنان»، ص 197 - 198 (ص 277 من المفاتيح المعربة): "يَا مَنْ...... لَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْأَصْوَاتُ وَلَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ". [214] ينبغي أن ننتبه إلى أن الطواف صنف من صنوف العبادات، ولا يجوز تقديم العبادات مثل الطواف والدعاء والنذر و..... إلى غير الله تعالى. ومن ثَمَّ فلا يجوز الطواف حول غير الكعبة دون دليل شرعيّ صحيح. (فَتَأَمَّل). ومن المناسب هنا أن أذكر حديثاً رواه أحمد الطبرسي في كتابه «الاحتجاج» عن النَّبِيّ الأَكْرَم ص أنه لما جاءه المشركون يُجادلونه حول أصنامهم وقالوا مُبرِّرين لعبادتهم الأصنام: ...... إِنَّ هَذِهِ [أي الأصنام] صُوَرُ أَقْوَامٍ سَلَفُوا كَانُوا مُطِيعِينَ لِـلَّهِ قَبْلَنَا فَمَثَّلْنَا صُوَرَهُمْ وَعَبَدْنَاهَا تَعْظِيماً لِـلَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَفَاتَنَا ذَلِكَ فَصَوَّرْنَا صُورَتَهُ فَسَجَدْنَا لَهُ تَقَرُّباً إِلَى اللهِ تَعَالَى كَمَا تَقَرَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ لآِدَمَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَكَمَا أُمِرْتُمْ بِالسُّجُودِ بِزَعْمِكُمْ إِلَى جِهَةِ مَكَّةَ [الكَعْبَةَ] فَفَعَلْتُمْ ثُمَّ نَصَبْتُمْ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ بِأَيْدِيكُمْ مَحَارِيبَ سَجَدْتُمْ إِلَيْهَا وَقَصَدْتُمُ الْكَعْبَةَ لَا مَحَارِيبَكُمْ وَقَصْدُكُمْ بِالْكَعْبَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا إِلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص: أَخْطَأْتُمُ الطَّرِيقَ وَضَلَلْتُمْ ..... أَخْبِرُونَا عَنْكُمْ إِذَا عَبَدْتُمْ صُوَرَ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَسَجَدْتُمْ لَهُ وَصَلَّيْتُمْ فَوَضَعْتُمُ الْوُجُوهَ الْكَرِيمَةَ عَلَى التُّرَابِ بِالسُّجُودِ لَهَا فَمَا الَّذِي أَبْقَيْتُمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ يَلْزَمُ تَعْظِيمُهُ وَعِبَادَتُهُ أَنْ لَا يُسَاوَى بِهِ عَبْدُهُ؟ أَرَأَيْتُمْ مَلِكاً أَوْ عَظِيماً إِذَا سَاوَيْتُمُوهُ بِعَبِيدِهِ فِي التَّعْظِيمِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ أَيَكُونُ فِي ذَلِكَ وَضْعٌ مِنَ الْكَبِيرِ كَمَا يَكُونُ زِيَادَةٌ فِي تَعْظِيمِ الصَّغِيرِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَفَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ مِنْ حَيْثُ تُعَظِّمُونَ اللهَ بِتَعْظِيمِ صُوَرِ عِبَادِهِ الْمُطِيعِينَ لَهُ تَزِرُونَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ فَسَكَتَ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ قَالُوا سَنَنْظُرُ فِي أُمُورِنَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ص لِلْفَرِيقِ الثَّالِثِ: لَقَدْ ضَرَبْتُمْ لَنَا مَثَلًا وَشَبَّهْتُمُونَا بِأَنْفُسِكُمْ وَلَا سَوَاءَ وَذَلِكَ لِأَنَّا عِبَادُ اللهِ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، نَأْتَمِرُ لَهُ فِيمَا أَمَرَنَا، وَنَنْزَجِرُ عَمَّا زَجَرَنَا، وَنَعْبُدُهُ مِنْ حَيْثُ يُرِيدُهُ مِنَّا، فَإِذَا أَمَرَنَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَطَعْنَاهُ وَلَمْ نَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَأْذَنْ لَنَا، لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ أَرَادَ مِنَّا الْأَوَّلَ وَهُوَ يَكْرَهُ الثَّانِيَ وَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمَّا أَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَطَعْنَا ثُمَّ أَمَرَنَا بِعِبَادَتِهِ بِالتَّوَجُّهِ نَحْوَهَا فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ الَّتِي نَكُونُ بِهَا فَأَطَعْنَا فَلَمْ نَخْرُجْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ. وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ لآِدَمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالسُّجُودِ لِصُورَتِهِ الَّتِي هِيَ غَيْرُهُ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَقِيسُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّكُمْ لا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ يَكْرَهُ مَا تَفْعَلُونَ إِذْ لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ص: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَذِنَ لَكُمْ رَجُلٌ فِي دُخُولِ دَارِهِ يَوْماً بِعَيْنِهِ أَلَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا دَاراً لَهُ أُخْرَى مِثْلَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ وَهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ ثَوْباً مِنْ ثِيَابِهِ أَوْ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ أَوْ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّهِ أَلَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ تَأْخُذُوهُ أَخَذْتُمْ آخَرَ مِثْلَهُ. قَالُوا: لَا. لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَنَا فِي الثَّانِي كَمَا أَذِنَ لَنَا فِي الْأَوَّلِ. قَالَ: فَأَخْبِرُونِي اللهُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُتَقَدَّمَ عَلَى مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ بَعْضُ الْمَمْلُوكِينَ. قَالُوا: بَلِ اللهُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. قَالَ: فَلِمَ فَعَلْتُمْ وَمَتَى أَمَرَكُمْ أَنْ تَسْجُدُوا لِهَذِهِ الصُّوَرِ؟ قَالَ فَقَالَ الْقَوْمُ: سَنَنْظُرُ فِي أُمُورِنَا وَسَكَتُوا". (أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي (ت القرن 6 هـ؟)، الاحتجاج على أهل اللجاج، مطبعة النعمان، تعليقات محمد باقر الخراسان، ج 1، ص 22 فما بعد). [215] قال أمير المؤمنين علي÷عن الله عز وجل: اسْتَنْجِحُوهُ وَاطْلُبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَمْنِحُوهُ فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَلَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ وَإِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ وَمَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَجَان". (نهج البلاغة، الخطبة 195). وقال أيضاً: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ ولا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ لأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً والْمُسْتَصْحَبُ لا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً ". (نهج البلاغة، الخطبة 46). بناءً على ذلك فإن الله وحده حاضر ناظر في كل مكان وكل حين وليس أحد كذلك إلا الله. [216] قارنوا بين هذا القول وبين ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني عن قول مشركي مكة في الصفحة 109 من الكتاب الحالي. [217] لقد بيَّن لنا القرآن أنه لما أمات الله نبيّاً مئة عام ثم بعثه انقطعت صلة ذلك النبيّ خلال تلك الفترة بالدنيا فلما بُعث لم يكن يعلم بما جرى في الفترة التي كان ميتاً فيها ولا بمُدَّتها. (البقرة: 259). [218] أي قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٥٢﴾[الروم: ٥٢]. [219] مستدرك الوسائل، ج10، ص 345 نقلاً عن كتاب «عدَّة الداعي» لابن فهد الحِلِّي. وانظر بحار الأنوار، ج97، ص 295، نقلاً عن الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس، و ج 97، ص 375 في زيارة أمير المؤمنين التي روها المجلسي بقوله: "الشَّيْخُ الْمُفِيدُ وَالشَّهِيدُ وَالسَّيِّدُ بْنُ طَاووُسٍ فِي كِتَابِ الْإِقْبَال..." وذكر الزيارة. وهذه العبارة موجودة في كثير من الزيارات. (الـمُتَرْجِمُ) [220] يُشير إلى قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ٣٦﴾[الاسراء: ٣٦](الـمُتَرْجِمُ) [221] جاء في البند 93 من دعاء «الجوشن الكبير» في «مفاتيح الجنان»: "يا كافياً من كل شيء". [222] منتهى الآمال، الشيخ عبَّاس القُمِّيّ، ج 2، ص 13. والرواية في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 20، ص 261.
لفَّق المُتعصِّبون وتُجَّار الخرافات، للأسف، أقوالاً وأدلةً، قائمةً على السفسطة وأنواع المُغالطات، لتبرير أفكارهم وأعمالهم الخرافية، حتى أنهم استفادوا من بعض آيات القرآن الكريمة بشكل خاطئ كي يُبرِّروا أعمالهم ويُضفوا عليها الشرعية.
وسنذكر فيما يلي بعض أقوالهم ونُثبت بالاستناد إلى آيات القرآن بُطلان جميع ادِّعاءاتهم، لعلّ ذلك يكون سبباً في يقظة إخواننا في الإيمان. إن شاء الله تعالى.
من جملة مُغالطات المشايخ التي يذكرونها ليُضفوا المشروعية على دعائهم الأنبياء والأئمة والأولياء وندائهم لهم، قولهم: رغم أن القرآن اعتبر الدعاء والنداء عبادة [سورة الجن: 18] ولكن ليس كل دعاء عبادة وإلا للزم أن نقول إن الأنبياء أيضاً كانوا يعبدون غير الله!! مثلاً نقول: إن نوح كان يعبد قومه أو الرسول الأكرم كان يعبد أصحابه!!! لأن القرآن نقل عن نوح ÷ أنه قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا ٥ فَلَمۡ يَزِدۡهُمۡ دُعَآءِيٓ إِلَّا فِرَارٗا ٦ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ﴾[نوح: ٥- ٧] ]. أو قال القرآن عن النبيّ: ﴿وَٱلرَّسُولُ يَدۡعُوكُمۡ فِيٓ أُخۡرَىٰكُمۡ﴾[ال عمران: ١٥٣]. فهل يُمكن القول إن نوحاً كان يعبد قومه؟ بناءً على ذلك ليس الدعاء عبادة دائماً بل الدعاء بقيد «الاعتقاد بإلهية المدعوّ واستقلاله في التأثير» هو العبادة فقط.
وأقول: إن الفرق بين الدعاء والنداء العُرفيين أي المُقيَّدين والمحدودَين وبين الدعاء والنداء العباديين أي الدعاء غير المُقيَّد، أظهر من الشمس وكل طفل يُدرك الفرق بينهما. ومع ذلك فقد أكدنا مراراً في الصفحات الماضية أن موضوعنا يتعلّق بطريقة الدعاء والنداء. موضوعنا هو حول ذلك النداء والدعاء الذي يستلزم بالضرورة فرض صفات غير محدودة وغير مُقيَّدة للمدعوّ، ومن الواضح أن الدعاء المُقيَّد والعرفي أمر خارج عن موضوعنا تماماً والآيات التي يتشبثون بها (كالآيتين المذكورتين أعلاه ونظائرهما) هي بلا أيّ شُبهة وبوضوح كامل من مصاديق الدعاء والنداء العُرفيين المُقيَّدين اللذين لا علاقة لهما بموضوع بحثنا إطلاقاً. نحن نقول -كما مرّ في الصفحات السابقة- استناداً إلى آيات عديدة في القرآن: إن الدعاء غير المُقيَّد وغير المحدود هو في حدِّ ذاته عبادة، وقد اعتبر القرآن هذا العمل بحدِّ ذاته ودون قيود إضافية عبادة، وَمِنْ ثَمَّ فإن مثل هذا الدعاء لا يجوز التوجّه به إلى غير الله ولا يجوز أن يُضيف أحد من عند نفسه قيوداً لهذا العمل حتى يُعتبر «عبادة»! (فَتَأَمَّل) ولقد لفَّق الخرافيون لتوصيف الشرك والتوحيد مُغالطات من عند أنفسهم سوف نتعرَّض لها في الصفحات القادمة.
من جملة المُغالطات التي يقولونها للعوام: إن الحدّ الفاصل بين الشرك والتوحيد هو الاعتقاد باستقلال أو عدم استقلال كائن غير الله.
26كتب شابٌّ جاهل بالقرآن -هداه الله تعالى- (ومن الواضح أنه مرعوب من علماء قم الخرافيين ونظائرهم ومخدوع بهم)، دون أن يتدبر القرآن بشكل كافٍ يقول: "إن الاعتقاد باستقلال كائن غير الله بالأفعال والاعتقاد بعدم استقلاله في أفعاله عن الله، هما المعياران الصحيحان للـ «الشرك» و «التوحيد». فالشرك عبارة عن الاعتقاد باستقلال أحد غير الله في التأثير والفاعلية، والتوحيد في مرتبة الأفعال هو الاعتقاد بانحصار الاستقلال في الفاعلية في ذات الله تبارك وتعالى المُقدّس وحده...... والشرك في الأفعال..... هو أن يعتقد الإنسان بـ «التأثير الاستقلالي» لكائن غير الله في عالَم الإيجاد والخلق والتدبير، واعتباره شريكاً مُستقلاً لِـلَّهِ ومُماثلاً له أي ندَّاً له في تلك الأفعال. ومعنى التأثير الاستقلالي أن يكون ذلك الكائن الذي هو غير الله، غير مُحتاج لِـلَّهِ في التأثير وفي أفعال التدبير التي يقوم بها بأي نحو من الأنحاء بل يكون مُستقلَّاً في التدبير والإرادة والعمل ومُكتفياً ذاتيَّاً. وهذا الاستقلال في التأثير والأفعال لا فرق فيه بين أن يتم على نحو «الاشتراك والمعيّة» مع الله، أو على نحو «التفويض» أي أن يكون الله قد فوَّض إليه وأوكل إليه أمور خلق العالَم...... إن تفويض أمور خلق الكون إلى غير الله معناه أن الله بعد أن خلق المخلوقات تنحَّى جانباً عن عمل تدبيرهم وإدارة أمورهم كالإحياء والإماتة والرزق والإعزاز والإذلال، وأوكل كل هذه الأمور إلى أحد من مخلوقاته أو جماعة منهم...... وقد كان هناك فريق يعتقد بمثل هذه العقيدة، أُطلق عليهم الغُلاة وسُمُّوا أيضاً بالمُفوِّضة، فكانوا يؤمنون بأن الله -والعياذ بالله- أوكل إلى الأئمة كل أعمال خلق المخلوقات ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم وشفائهم وحلِّ مشكلاتهم. بينما اعتزل هو وتنحَّى جانباً. تعالى الله عما يقول الجاهلون عُلوّاً كبيراً[223]. وكلا الاعتقادين (الاشتراك والتفويض) هما في نظر المُوحِّدين الحقيقيين اعتقاد شركيٌّ وباطل وهو علاوةً على كونه منهي عنه شرعاً، يستحيل عقلاً"[224].
27لاحظوا كيف يخدع هذا الكاتب العوام بخلطه بين الجزء والكل، أي أنه عدَّ جزءاً من الشرك كل الشرك فحصر الشرك كله بالقول بالاستقلال في الأفعال لأحد غير الله!!! من الواضح أن القول بالاستقلال في الأفعال لأحد غير الله شرك صارخٌ بلا أيّ شُبهة، ولكن الشرك لا ينحصر بذلك، بل دائرة الشرك أوسع من هذا التعريف بكثير، والقرآن الكريم اعتبر أموراً أخرى أيضاً شركاً. (كل جوزة كروية وليست كل كرة جوزة!)
أمر الله تعالى أهل الكتاب أن لا يعبدوا أحداً إلا الله وأن لا يُشركوا به شيئاً (سورة آل عمران: 64)، وبيَّن لهم أنه لم يأمرهم ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّۧنَ أَرۡبَابًا﴾[ال عمران: ٨٠]. ومن الواضح أن اليهود والنصارى لم يكونوا يعبدون الأصنام الحجرية ولم يكونوا يعتقدون أن لحضرة عيسى (ع) وحضرة مريم (ع) أو الملائكة استقلالٌ وجوديٌّ عن الله، بل كانوا يقومون نحو أولئك الأشخاص العُظماء بأعمال اعتبرها القرآن عبادة وشركاً. (فَتَأَمَّل جداً)
28ويعلم المُطَّلعون على تاريخ الجزيرة العربية في صدر الإسلام جيداً أن أغلب المشركين المُعاصرين للنبيّ الأكرم ص أن خلق الكائنات والإحياء والإماتة وتدبير أمور العالَم ورزق الخلائق هو فعل الله وأن المالك الحقيقي للأرض ولكل الكائنات بما في ذلك الملائكة هو الله وحده، كما قال تعالى: ﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٣١ فَذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ ٣٢﴾[يونس : ٣١، ٣٢].
وقال أيضاً: ﴿قُل لِّمَنِ ٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٤ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٨٥ قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبۡعِ وَرَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ٨٦ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ ٨٧ قُلۡ مَنۢ بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨٨ سَيَقُولُونَ لِلَّهِۚ قُلۡ فَأَنَّىٰ تُسۡحَرُونَ ٨٩﴾[المؤمنون : ٨٤، ٨٩]، وقال كذلك: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٦١...وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ٦٣﴾[العنكبوت: ٦١- ٦٣].
وقال تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٥ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ ٢٦﴾[لقمان: ٢٥، ٢٦].
وقال أيضاً: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ ٣٨﴾[الزمر: ٣٨].
وقال كذلك: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٨٧﴾[الزخرف: ٨٧].
بل حتى أنهم كانوا يطلبون الإماتة وإنزال العذاب من الله مباشرةً ويقولون: ﴿ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلۡحَقَّ مِنۡ عِندِكَ فَأَمۡطِرۡ عَلَيۡنَا حِجَارَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئۡتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٖ ٣٢﴾[الانفال: ٣٢].
29وفي الظروف العصيبة جداً عندما يعجز كل أحد عن فعل أيّ شيء، كحالة المشركين عندما يكونون وسطَ البحر تتقاذفهم الأمواج ويُشرفون على الهلاك أو يضلون الطريق في الصحراء ويظنون الهلاك، كانوا يدعون الله مباشرةً دون وسائط، مخلصين له الدين، ولا يدعون أحداً غير الله في مثل تلك الأوضاع، كما قال تعالى: ﴿قُلۡ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ تَدۡعُونَهُۥ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةٗ لَّئِنۡ أَنجَىٰنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ٦٣ قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبٖ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ ٦٤﴾[الانعام: ٦٣، ٦٤].
وقال: ﴿وَلَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًاۚ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ ٥٢ وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجَۡٔرُونَ ٥٣ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنكُم بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ ٥٤﴾[النحل: ٥٢، ٥٤].
وقال: ﴿رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزۡجِي لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ فِي ٱلۡبَحۡرِ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٦٦ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُۖ فَلَمَّا نَجَّىٰكُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ أَعۡرَضۡتُمۡۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ كَفُورًا ٦٧﴾[الاسراء: ٦٦، ٦٧]. وقال: ﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ يُشۡرِكُونَ ٦٥﴾[العنكبوت: ٦٥]. وقال: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ﴾ [لقمان: ٣٢].
وذكر القرآن أن الوالدَين المشركَين كانا يدعوان الله كي يرزقهما ابناً سالماً صحيحاً فيقولان: ﴿دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنۡ ءَاتَيۡتَنَا صَٰلِحٗا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٨٩ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٩٠﴾[الاعراف: ١٨٩، ١٩٠].
ففي هذه الآيات نُلاحظ أن مشركي العرب لم يكونوا يعتبرون معبوداتهم واجبة الوجود ولا خالقةً ولا رازقةً ولا مدبِّرةً لأمور العالَم أو مالكةً للأرض والسموات ولجميع الكائنات في الدنيا أو أن بيدها إماتة العباد وعذابهم بل حتى لم يكونوا يعتبرون آلهتهم مُنْزِلَةً للمطر من السماء بل يعتبرون كل تلك الأمور خاصَّةً بالله وحده، وفي الظروف العصيبة والصعبة جداً كانوا يدعون الله وحده، وحتى لو سألتهم: هل تستطيع معبوداتكم إذا أراد الله بِعَبْدٍ ضرَّاً أو أراد به نفعاً أن تمنع الله من فعل ذلك؟ لأجابوا بالنفي وأقرُّوا أن الحكم والتصرُّف في كل شيء هو لِـلَّهِ وحده، فلم يكونوا يعتقدون أن معبوداتهم مستقلّة بالذات عن الله ومُماثلة له في المُلك والتصرّف، كل ما في الأمر أنهم كانوا يخضعون لتلك المعبودات ويتذلَّلون لها ويُقدِّمون لها صنوف العبادات من قبيل الطواف بها والنذر لها وتقديم الأضاحي والقرابين لها ودعائها وتعظيمها وتمجيدها و..... ظاِّنين أنها وسيلةً تُقرِّبهم من الله، ولم يكونوا يعتبرونها مستقلّة عن الله. كما قال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢ ۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٨﴾[الاحقاف: ٢٨].
30ولهذا السبب لم يدعُ النَّبِيّ الأَكْرَم ص المشركين إلى شعار «لا خالق إلا الله» أو «لا رازقَ إلا الله» أو «لا مُدَبِّر إلا الله» أو «لا مُحيي ولا مُميت إلا الله» ونظائرها، بل دعاهم إلى الإسلام من خلال الإقرار بكلمة «لا إله إلا الله» أي لا معبود حقَّ إلا الله[225]. ذلك لأنهم كانوا يقومون بالأعمال العبادية تجاه غير الله على أمل الشفاعة وكان نزاع الإسلام وجهاده الأساسي مع المشركين حول هذا الموضوع لا حول استقلالية المعبودات عن الله. ولذلك فقد صرَّح القرآن ذاته بأن المشركين كانوا يعتبرون معبوداتهم واسطةً بينهم وبين الله وشفيعةً لهم عند الله[226]. ولم يكونوا يعتقدون باستقلالها عن الله لأنهم لو كانوا يعتقدون أنها مستقلة لما كان من الضروري أن يتوجَّهوا إليها بالأعمال العبادية لأجل أن تتوسط لهم عند الله وتُقرِّبهم منه [سورة يونس: 18، والزمر: 3]، بل كانوا يرجعون إليها على نحو الاستقلال طالما أنها قادرة على أن تضر وتنفع وتُحيي وتُميت وتستجيب بذاتها لطلباتهم.
وذكر المرحوم الطبرسي في تفسيره «مجمع البيان» أن مشركي الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم: "لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ، إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ، تمْلِكهُ ومَا مَلَكَ !"[227].
بل أكثر من ذلك، فقد ذكر القرآن لنا أن المشركين كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو ذاته الذي أراد منهم عبادة غيره: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾[النحل: ٣٥، ٣٦]. وكانوا يقولون: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُم﴾[الزخرف: ٢٠][228]. وقد ردَّ الله ادِّعاءَهم هذا وقال ليس الأمر على ما تقولون وأنا لم آمر أبداً بعبادة سواي ولم أسمح بذلك بل أرسلتُ في كلِّ أمَّةٍ رسولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.
31لقد لاحظنا إذن في هذه الآية وفي الآيات التي ذكرناها في الصفحات السابقة أن جهاد القرآن للمشركين كان أغلبه حول موضوع عبادتهم غير الله، ولتقرير عدم جواز عبادة أحد سوى الله، ولم يكن حول استقلال غير الله عن الله أو عدم استقلاله! وكان اعتراض القرآن على المشركين يتلخَّص في تقريعهم على عبادتهم غير الله دون أن يكون عندهم من الله في ذلك دليل صحيح، وأن اللهَ لم يُجِز أبداً عبادة أحدٍ سواه لا في الإسلام ولا في أيِّ دين من الأديان [الكهف: 15، ويوسف: 39 - 40]، وأن المشركين كانوا يُمارسون ذلك الشرك في العبادة دون أي دليلٍ أو حُجَّةٍ أتتهم من الله.
32إضافةً إلى ذلك، يجب على الخرافيين بدلاً من أن يضعوا ملاكاً للشرك والتوحيد من بنات أفكارهم، أن يتدبَّروا كتاب الله ويتأملوا آياته ليُدركوا أن القرآن انتقد في موارد مختلفة الناس على اتِّخاذهم غير الله آلهةً وأرباباً دون أن يعتقدوا باستقلال تلك الآلهة والأرباب عن الله. ومن جملة ذلك قوله تعالى: ﴿أَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾[الفرقان: ٤٣]، وتُشبهها الآية 23 من سورة الجاثية]، وقال: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣١﴾[التوبة: ٣١][229].
في هذه الآيات يُبيِّن الله تعالى أن من الناس من يتَّخذُ هوى نفسه بمثابة «إله» له (أي معبود له يخضع له ويطيعه في كل شيء)، وبعضهم يتَّخذ علماء دينه «أرباباً». ومن البديهي أن أولئك الناس لم يكونوا يعتبرون أهواء أنفسهم أو علماءهم موجودات مستقلة عن الله أو خالقة للسماوات والأرض ومُتصرِّفة فيها بلا مُنازع!
ويقول القرآن أيضاً: ﴿وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ ٨٠﴾[ال عمران: ٨٠]، ويقول كذلك: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾[ال عمران: ٦٤]. وقال الله تعالى أيضاً لعيسى بن مريم: ﴿... ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾؟ [المائدة: ١١٦]، ولا شك أن أولئك الناس لم يكونوا يعتبرون بني جنسهم ولا حتى الملائكة والأنبياء بما في ذلك حضرة مريم وحضرة عيسى عليهما السلام مستقلِّين عن الله ومُتصرِّفين في الكون بلا مُنازع، بل كانوا يعتبرونهم عباداً أعزاء ومُقرَّبين عند الله، ولكنهم كانوا لا يُفرِّقون بين حالتهم وهم أحياء وحالتهم بعد الموت والرحيل عن الدنيا، فيدعونهم بعد موتهم لقضاء حوائجهم ورفع مشكلاتهم.
وقال تعالى في كتابه: ﴿لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَ﴾[يس: ٦٠]، وقصَّ علينا كلام إبراهيم مع أبيه فقال: ﴿يَٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا ٤٤﴾[مريم: ٤٤]، ومن البديهي أن لا أحد كان يعتبر الشيطان خالقاً للسماوات والأرض وموجوداً مستقلاً عن الله. وقال تعالى مُخاطباً المسلمين: ﴿وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ﴾[الانعام: ١٢١] أي لو أطعتم هؤلاء المشركين المُجادلين المُعاندين فإنكم مشركون. ومن الواضح تماماً أن لا أحد كان يعتقد أن المُجادلين المُعاندين مستقلون عن الله ومُتصرِّفون في الكون بلا مُنازع! (فَتَأَمَّل جداً).
يعتبرُ القرآنُ - من حيث المبدأ - الطاعةَ المُطلقةَ لكائنٍ أو شخصٍ عبادةً له، فنجده يقصُّ علينا قول فرعون وآله: ﴿وَقَوۡمُهُمَا لَنَا عَٰبِدُونَ﴾[المؤمنون : ٤٧]أي أنهم مُطيعون لنا طاعةً محضةً.
وذكر الله لنا في كتابه أن أتباع حضرة موسى لما عبروا نهر النيل[230] صادفوا قوماً يعبدون أصناماً لهم[231] فقالوا لموسى: ﴿ٱجۡعَل لَّنَآ إِلَٰهٗا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةٞ﴾[الاعراف: ١٣٨]. ومن البديهي أنهم كانوا يعلمون أن الإله الذي طلبوا من موسى أن يجعله لهم، لن يكون واجب الوجود وخالق السماوات والأرض ومستقلاً بالذات عن الله، ومُتصرِّفاً في الوجود بلا مُنازع!
أو عندما أخذ السامريُّ منهم الذهب وصنع لهم منه عجلاً له خوار وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى [سورة طه: 88] فإنهم كانوا يعلمون أن ذلك العجل الذهبيّ لم يكن واجب الوجود ولا خالقاً للموجودات ولا رازقاً للعباد ولا مُستقلاً بالذات عن الله، بل أرادوا أن يكون لهم -مثلما كان لأولئك القوم الذين كانوا يعكُفون على أصنام لهم- صنمٌ أو معبودٌ أو شيءٌ ملموسٌ يتوجهون إليه ويُعظِّمونه ويُقدِّسونه ويتواضعون أمامه ويتوسَّلون إليه لقضاء حوائجهم ويجعلونه واسطة وشفيعاً لهم يُؤدون إليه طقوس العبادة[232]!
وينبغي أن ننتبه إلى أن أتباع موسى طلبوا منه ذلك الطلب، ولو جعل موسى لهم واسطةً ومعبوداً لكان هذا المعبود مُتَّصفاً بصفة «كونه لِـلَّهِ أو من الله» -على حدّ قول المُطَهَّرِي-، لأن الشارع هو الذي عيَّنه وجعله، لكن نبيّ الله حضرة موسى (ع) خالف رغبتهم هذه واعتبرها طلباً جاهلاً وباطلاً، وهذا يدلُّ على أن الشارع لا يقبل في أمر التوجه إلى الله والسعي إلى رضاه وطلب الحوائج منه وجود واسطة مطلقاً. (فَتَأَمَّل جداً)
بناءً على ذلك تُلاحظون أن مناط الشرك والتوحيد في القرآن أوسع بكثير مما يدَّعيه الخرافيون. ولذلك فإذا حصر أحدهم الشرك بأنه اعتبار غير الله «الله» وقال: "الشرك هو أن نُؤَلِّهَ شخصاً أو كائناً ونعتبرهُ الله أو أن نعبد شخصاً أو كائناً باعتباره الله أو أن نطلب من شخصٍ أو كائنٍ شيئاً باعتبار أنه مُستقلٌّ في التأثير عن الله وأنه الله"[233]، إن لم نقل إن صاحب هذا الكلام كان يريد خداع العامة فيُمكننا أن نقول بكل اطمئنان: إنه كان جاهلاً بالقرآن وبتاريخ جزيرة العرب.
[223] من الواضح تماماً أن موضوع اختيار الله العُزلة وتنحّيه جانباً بعد أن أوكل الأمور المذكورة أعلاه إلى غيره، أو عدم اختياره العزلة وعدم تنحِّيهِ جانباً، لا تأثير له إطلاقاً في كون هذه العقيدة عقيدة شركية. [224] كتاب «نقد وتحليلى پيرامون وهّابيگرى»، همايون همتى، [أي نقد وتحليل حول الوهابية، تأليف همايون همتي]، مركز چاپ ونشر سازمان تبليغات اسلامى، الطبعة الأولى، 1367 هـ. ش. ص 194 و155 حتى 157. [225] استناداً إلى الآية 30 من سورة لقمان [أي قوله تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ٣٠﴾[لقمان: ٣٠]يتبيّن أن الخبر المحذوف لـ «لا النافية للجنس» هو كلمة «حقّ». [226] راجعوا ما ذكره الشيخ جعفر السبحاني حول اعتقادات المشركين في ص109 من الكتاب الحالي. [227] تفسير مجمع البيان، ذيل الآية 28 و29 من سورة الروم. أقول (المترجم): وذكر ذلك أيضاً جميع المفسرين كالبغوي والقرطبي والبقاعي وابن كثير وابن الجوزي والسيوطي في الدر المنثور.. الخ. [228] وقد كان المشركون في موارد أخرى أيضاً ينسبون أعمالهم القبيحة والفاسدة إلى الله ويدَّعون أنه هو الذي أمرهم بها وسمح لهم بفعلها، فعلى سبيل المثال لما كانوا يطوفون حول الكعبة عراةً كانوا يقولون: إن آباءنا كانوا يفعلون ذلك والله أمرنا بذلك [الأعراف: 28] (راجعوا ما ذكره الطبرسي في «مجمع البيان» ذيل تفسيره لهذه الآية)، ولم يكونوا يقولون إن موجوداً مُستقلاً غير الله قد أجاز لهم مثل ذلك العمل! [229] لحسن الحظ اتَّفق الشيعة والسنة حول تفسير هذه الآية، راجعوا ما جاء في كتاب «صحيح الكافي» للأستاذ الشيخ محمد باقر البِهْبُودِيّ، ج 1، الحديث 23 و 409. وكتاب «وسائل الشيعة»، ج 18، ص 96 و97، الأحاديث 33390 و 33393 و 33394. وجاء هذا أيضاً في مصادر غير الشيعة: فقد "روى الترمذي (وحسَّنه) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وان جرير من طرق متعددة عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقرأ في سورة براءة: ﴿ ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾، قال فقلتُ: إنهم لم يعبدوهم؟! فقال: «بلى! إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلُّوا لهم الحرام، فاتَّبعوهم: فذلك عبادتهم إياهم...». (نقلاً عن تفسير «في ظلال القرآن»، سيد قطب، ج 4، ص 202 و203)، وراجعوا أيضاً كتاب «تصحيح الاعتقاد» للشيخ المفيد، مع تعليقات الشهرستاني، منشورات الرضي، ص 57. [230] هكذا قال المصنِّف رحمه الله، والصحيح أنهم عبروا خليج السويس وليس نهر النيل. (الـمُتَرْجِمُ) [231] وردت في الآية الكريمة هنا كلمة «يعكُفون»، ومن اللازم أن نُذكِّر بأن العكُوف معناه التوجه الكامل نحو الشيء على سبيل التعظيم والتكريم وكلمة «العاكف» تُطلق على الذي يُقيم في مسجد أو معبد بقصد العبادة. [232] في الإسلام يُعتبر الحلف بغير الله شرك. وقد قال رسول اللهص: "مَنْ حَلَفَ بشيء من دون اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ [أو قال: ألا هو مشرك]" (مصنف عبد الرزاق، ج 8، الحديث 15926). وروى أستاذ الشيخ عبَّاس القُمِّيّ ومُعلِّمه [أي الميرزا حسين نوري الطَّبْرَسِي] أن النبيّ ص قال: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فَقَدْ أَشْرَكَ [وفي بعض الروايات:«فقد كفر بالله»]" (مستدرك الوسائل، الطبعة الحجرية، ج 3، ص 51 و 54). ويوجد ما يُشبه هذه الروايات في كتب أهل السنة ومن جملتها أن رجلاً أقسم بالكعبة فقيل له: إن النبيّ ص قال: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ " (التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، ج 3، ص 75). [233] روح الله الموسوي الخميني، كشف الأسرار، بازار نوروز خان، اول بازار كاشفي، نشر ظفر، ص 40.
نَقَلَ الكاتبُ الشابُّ مُغالطةً أخرى عن المرحوم «المُطَهَّرِي» فقال:
"هل الحدُّ الفاصل بين التوحيد والشرك هو الاعتقاد بقدرة كائن ما وبتأثيره فوق الطبيعي؟ أي أن الاعتقادَ بأن موجوداً ما - ملاكاً أم إنساناً (مثلاً نبيّاً أو إماماً)- يملك قدراتٍ خارقةٍ تتجاوز قوانين الطبيعة، شركٌ، أما الاعتقاد بقدرته وتأثيره ضمن الحدّ الطبيعي والمُتعارف عليه فليس شركاً. وكذلك الاعتقاد بقدرة إنسان رحل عن الدنيا وتأثيره شركٌ لأن الميت جماد والجماد من ناحية قوانين الطبيعة لا شعور له ولا قدرة له ولا إرادة، فالاعتقاد بإدراك الميت، والسلام عليه وتعظيمه واحترامه ودعائه وندائه وطلب الحوائج منه شركٌ، لأنه يستلزم الاعتقاد بقوة خارقة للطبيعة لغير الله. كذلك الاعتقاد بالتأثيرات الخفية والمجهولة للأشياء كالاعتقاد بتأثير تربة خاصة في شفاء الأمراض أو تأثير مكان خاص في استجابة الدعاء شركٌ لأنه يستلزم الاعتقاد بامتلاك شيء ما لقوة خارقة للطبيعة أي فوق قوانين الطبيعة، لأن كل ما هو طبيعيّ فهو قابل للمعرفة وللاختبار وللحسِّ واللمس. وعلى هذا فالاعتقاد بمُطلق التأثيرات للأشياء ليس شركاً (كما ظنَّ الأشاعرة) أما الاعتقاد بامتلاك أشياء لتأثيرات ما فوق طبيعية فهو شرك. فالكون ينقسم إلى قسمين: الطبيعة وما وراء الطبيعة، فما وراء الطبيعة إقليم خاصٌّ بالله، والطبيعة مجال خاص بالمخلوق أو مشترك بين الله ومخلوقاته. فهناك سلسلة من الأعمال ذات جانب ما وراء طبيعي مثل الإحياء والإماتة والرزق وأمثالها. والبقية، أعمال عادية طبيعية. الأعمال ما وراء الطبيعية إقليم خاص بالله، وبقية الأعمال إقليم مخلوقاته. هذا من ناحية التوحيد النظري.
أما من ناحية التوحيد العملي فإن كل نوع من التوجه المعنوي إلى غير الله، يعني التوجه الذي لا يكون من طريق وجه المُتَوَجِّه ولسانه وصورته وأذنيه الظاهرتين بل يتوجه المُتَوَجِّه عبر إيجاد نوع من الصلة القلبيَّة والمعنويَّة بينه وبين الطرف المُقابل فيدعوه ويستجلب انتباهه إليه ويتوسَّل به ويطلب منه الإجابة، كلها شرك وعبادة لغير الله، لأن العبادة ليست سوى هذه الأشياء، وعبادة غير الله غير جائزة بحكم العقل وضرورة الشرع وتستلزم الخروج من الإسلام. إضافةً إلى ذلك فإن القيام بمثل هذه الطقوس، فضلاً عن أنه يُعدُّ أداء لطقوس عبادية إلى غير الله، فإنه يستلزم الاعتقاد بقوة ما وراء طبيعية للشخص الذي يتم التوجه إليه (النبيّ أو الإمام)..... إنهم دون أن يشعروا يؤمنون بنوع من الاستقلال الذاتيّ في الأشياء، ولهذا يعتبرون أن لعب دور ما فوق حدّ العوامل الطبيعية العادية يستلزم الاعتقاد بأن من يقوم بهذا الدور قطب مستقل وقدرة في مقابل الله غافلين عن أن التأثير ما فوق الطبيعي للكائن الذي ينتمي إلى إرادة الحق بكل وجوده ولا يوجد لديه أيُّ جانب مستقل عن الله، مثله مثل تأثيره الطبيعي، قبل أن يستند إلى ذاته يستند إلى الله تعالى، فذلك الكائن ليس سوى مجرى لمرور فيض الحقّ تعالى إلى الأشياء. هل الاعتقاد بأن جبريل واسطة لفيض الوحي والعلم، وأن ميكائيل واسطة لفيض الرزق وأن إسرافيل واسطة للإحياء وأن مَلَك الموت واسطة لقبض الأرواح، شركٌ؟
من ناحية توحيد الخالقية تُعتبر هذه النظرية أسوأ نوع من أنواع الشرك، لأنها تُؤمن بنوع من تقسيم العمل بين الخالق والمخلوق: فالأعمال ما وراء الطبيعية هي حقل العمل الخاص بالله، والأعمال الطبيعية هي حقل العمل الخاص بالمخلوقات أو المشترك بين الله ومخلوقاته. إن القول بحقل خاص للمخلوق عين الشرك في الفاعلية. كما أن القول بحقل مشترك بين الله والناس نوع آخر من الشرك في الفاعلية.
خلافاً للتصور الشائع، فإن الوهَّابية ليست نظرية ضد الإمامة فحسب بل هي قبل أن تكون ضد الإمامة ضد التوحيد وضد الإنسان. هي ضد التوحيد لأنها تؤمن بتقسيم الأعمال بين الخالق والمخلوق، إضافةً إلى إيمانها بنوع من الشرك الذاتيّ الخفيّ الذي تمّ توضيحه، وهي ضد الإنسان من ناحية أنها لا تُدرك ملكات الإنسان وطاقاته واستعداداته، هذا الإنسان الذي جعله الله أعلى رتبةً من الملائكة وجعله بنص القرآن المجيد خليفة الله وأَمر الملائكة بالسجود له، بل تَنْزِلُ تلك النظرية بالإنسان إلى مرتبة الحيوان الطبيعي. علاوةً على ذلك فإن التفرقة والتفكيك بين الميت والحيّ على نحو يُعتَقَدُ فيه أن الأموات ليسوا أحياء حتى في العالَم الآخر وأن شخصية الإنسان كلها هي بدنه الذي يظهر بشكل جماد، تفكير ماديٌّ ومُناقضٌ للتفكير الإلهيّ..... والتفكيك والتفرقة بين الأثر المجهول والخفيّ وغير المعروف والآثار المعروفة واعتبار الأول تأثيراً ما وراء طبيعياً خلافاً للثاني نوع آخر من الشرك..... الحقيقة هي أن الحدّ الفاصل بين التوحيد والشرك، في العلاقة بين الله والإنسان والعالَم هو «من الله» و «إلى الله». الحدّ الفاصل بين التوحيد والشرك في التوحيد النظريّ «إنا لِـلَّهِ». فكل حقيقة وموجود طالما تعرَّفنا إليه بوصفه أنه لِـلَّهِ أي أن هويته وذاته وأفعاله مُستمدة من الله فقد تعرَّفنا إليه بشكل صحيح ومُطابق للواقع وبنظرة توحيدية، سواءً كان لذلك الشيء أثر أو عدة آثار أو لم يكن له ذلك، وسواءً كان لتلك الآثار جوانب ما فوق طبيعية أو لم يكن لها ذلك. لأن الله ليس إلهَ ما وراء الطبيعة أو إلهَ السماوات أو إلهَ الملكوت والجبروت فقط، بل هو إله الكون كله. فهو قريب من الطبيعة ومعها وقيُّوماً عليها بقدر ما هو كذلك بالنسبة إلى ما وراء الطبيعة، فامتلاك موجود ما لجانب ما وراء طبيعي لا يجعل منه ممتلكاً لجانب إلهيّ. وقد سبق أن قلنا إن العالَم في التصور أو النظرة الكونية الإسلامية ذو ماهيَّة «لِلَّـهِيَّة» أو «مِنَ اللـهِيَّة». لقد نسب القرآن الكريم في آيات مُتعددة أعمالاً خارقةً ومعجزةً كإحياء الموتى وشفاء الأعمى من الولادة، إلى بعض الأنبياء لكنه أضاف إلى تلك النسبة كلمة «بإذنه» فهذه الكلمة تُعبِّر عن ماهيّة «لِلَّـهِيَّة أو مِنَ اللـهِيَّة» لتلك الأعمال حتى لا يظنّ أحد أن الأنبياء مُستقلون بأنفسهم عن الله؛ فالحدُّ الفاصل بين التوحيد النظري والشرك النظري هو الانتماء إلى الله وعدم الاستقلال عنه (التوحيد) أو عدم الانتماء إلى الله واستقلال موجود عنه (الشرك)234]. إن الاعتقاد بوجود موجود لا يكون وجوده مُلْكاً لِـلَّهِ ومنتمياً إلى الله شِرْكٌ. والاعتقاد بتأثير موجود لا يكون تأثيره لِـلَّهِ ومن الله شِرْكٌ أيضاً سواءً كان هذا التأثير ما فوق طبيعي كخلق جميع السماوات والأرض أو كان أثراً صغيراً ضئيل الأهمية كقلب ورقةِ شجرةٍ رأساً على عقب.
أما الحدود الفاصلة بين التوحيد والشرك في التوحيد العملي فهي: ﴿إِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾، فالتوجُّه والالتفات إلى كلِّ موجود سواءً كان توجُّهاً ظاهرياً أم معنوياً، طالما كان على نحو التوجُّه إلى طريقٍ لأجل الذهاب من خلاله نحو الله أي على نحو التوجه إلى وسيلة لا التوجه إلى غاية ومقصد، فهو توجه إلى الله. إن التوجه إلى الطريق في كل حركة وسير وسفر، منشؤه كون الطريق طريقاً فحسب، ومنشأ التوجه إلى العلامات والإشارات والأسهم واللافتات الموضوعة في الطريق هو أن لا يضيع السائر والمسافر ويبتعد عن المقصد والهدف لأنَّ تلك العلامات والإشارات والأسهم تشير نحو المقصد وتُساعد على الذهاب إلى جهته.
إن الأنبياء والأولياء طُرُقُ الله: «أَنْتُمُ السَّبِيلُ الْأَعْظَمُ وَالصِّرَاطُ الْأَقْوَم». إنهم علامات ودلائل السير إلى الله و «أَعْلَاماً لِعِبَادِهِ وَمَنَاراً فِي بِلَادِهِ وَأَدِلَّاءَ عَلَى صِرَاطِه»، وهم الهُداة والمُرشدون نحو الحق «الدُّعَاةِ إِلَى اللهِ وَالْأَدِلَّاءِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ».
فليست المسألة أن التوسل والزيارة ودعاء الأولياء وانتظار الأعمال ما فوق الطبيعية منهم شرك. بل المسألة شيءٌ آخر: أولاً: يجب أن نعلم هل ترقَّى الأنبياء والأولياء في مراتب الصعود إلى درجات القُرب الإلهي حتى أصبحوا موضعاً للمواهب الإلهية أم لا؟ إن ما يُستفاد من القرآن الكريم أن الله أنعم على بعض عباده بمثل هذه المقامات والدرجات". انتهى من كتاب «مقدمة على التصور الإسلامي للعالَم» لمرتضى المطهري، القسم الثاني، التصور التوحيدي للعالَم، فصل مراتب ودرجات الشرك، ص 115 فما بعد.
والآن نقول: حقاً إن ما ذُكر أعلاه من أوضح مظاهر التشويش والتهويل والمغالطة والتلاعب بعقول الدهماء وخداع العوام، وهو كلام ينطوي على مغالطات وإشكالات عديدة جداً:
أولاً: كما لاحظنا، لقد تمّ تكرار الإشكال السابق (القول بأن الاعتقاد بأن ما سوى الله يتمتع باستقلال ذاتي هو فقط الشرك، والاعتقاد بأن كل ما سوى الله تابع لِـلَّهِ ولا يمتلك استقلالاً ذاتياً هو التوحيد)، وقد أوضحنا في المبحث السابق أن الشرك لا ينحصر بالاعتقاد بوجود كائن غير الله مستقل ذاتياً عنه بل هو أعم من ذلك، بل الجزء الأعظم من محاربة الشرك في القرآن الكريم هي محاربة مشركين لم يكونوا يعتقدون أن معبوداتهم مستقلة عن الله.
ثانياً: إن المُوحدين لا يقولون إن «الكون منقَسِمٌ إلى قسمين: الطبيعة وما وراء الطبيعة...... الخ»، كما لا يعتقدون بـ «نوع من تقسيم العمل بين الخالق والمخلوق». وكما ذكرنا في التنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 141 فما بعد)، يقول المُوحِّدون: إنه لا شك أن كل حَوْلٍ وَقُوَّةٍ وكلَّ تأثير في عالَم الوجود هو من الله ويستند إلى إرادته وإذنه، ولا يمتلك أي كائن سوى الله في الوجود أيَّ حَوْلٍ ولا قُوَّةٍ من عند نفسه وعلى نحو ذاتيّ مستقل عن الله، ولا فرق في هذا الأمر أبداً بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، لكن التفاوت هو في «الإذن الإلهي» نفسه الذي هو على نوعين: إذن عام وإذن خاص. وبعبارة أخرى يقول المُوحِّدون: إن الله تعالى أعطى لعباده إذناً عاماً بميزان محدود، وكلُّ شخص، سواءً كان من العوام أم من الخواص، يُدرك حدود هذا الإذن العام ومجاله، إن حدود هذا الإذن هي حدود الاستطاعة والحرية الإنسانية ذاتها التي هي منشأ مسؤولية الإنسان، وبعبارة أخرى تتمتَّع الكائنات ضمن هذه الحدود بالفيض وبالاستطاعة التي وهبهم الحق تعالى إياها، أما خارج هذه الحدود ففيض الله على الإنسان مسدود. وبعبارة أخرى: ليس هناك أيّ دليل على أن الله أذن لبعض المخلوقين بأن يفعلوا كل ما يريدون فعله!! فبغضِّ النظر عن الإشكالات العقلية لمثل هذا الادِّعاء، لم يأْذَن الشرع لنا بادِّعاء مثل هذا الادِّعاء. وهذه العقيدة -أي الاعتقاد بأن الله أَذِنَ لبعض المخلوقين أن يفعلوا ما يشاؤون- تُشبه عقيدة المُفوّضة التي بيّنا بطلانها في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 144 فما بعد)[235].
في الواقع إنكم تقولون: إن الله أَذِنَ لبعض عباده -ومن جملتهم الأنبياء والأئمة- أن يقوموا بجميع الأعمال أو بمعظمها «من قبيل إحياء الموتى وشفاء الأكمه (الذي يولد أعمى)... الخ»!! أما المُوحِّدون فيقولون: إنه لا دليل في القرآن على أن الله أذن بفعل مثل هذه الأعمال حتى لعباده المُقرّبين الخاصين -بما في ذلك الأنبياء والأئمة- وخلافاً لادِّعاء المرحوم المطهري، لا ينسب القرآن الكريم الأعمال المُعجزة الخارقة كإحياء الميت وشفاء الأكمه ونظائرها- على المعنى الذي تقولونه ويُعجبكم- إلى بعض الأنبياء.
كتب المُطَهَّريُّ يقول: "إن ما يُستفاد من القرآن الكريم أن الله أنعم على بعض عباده بمثل هذه المقامات والدرجات". ولكن المُوحِّدين يقولون: لا أحد يُنكر قرب الأنبياء والأئمة من الله ورفعة مقامهم وعُلوِّ شأنهم ووصولهم إلى أعلى درجات الفلاح، ونحن نؤمن بذلك من صميم قلبنا، أما إذا كان قصدكم من عُلوِّ مقامهم ومن درجاتهم الرفيعة أن لهم تدخلاً في صنع المعجزات وأنهم واسطة في إجابة دعاء العباد حتى بعد رحيلهم عن الدنيا -كما سنرى في الصفحات القادمة- فإن هذا الأمر لا يُستفاد من القرآن بأيّ وجه من الوجوه.
أما ما ذكرتموه من أن الحدّ الفاصل بين التوحيد النظري والشرك النظري هو الاعتقاد بأنَّ كُلَّ شيءٍ تابعٍ لِـلَّهِ، فلا أحد يُنكر ذلك، كل ما في الأمر أن هذا القول يُبيِّن أحد مصاديق الشرك فقط لا كلَّ مصاديقه.
33ثالثاً: من جملة الآيات التي يتم تفسيرها، أكثر من جميع الآيات الأخرى، على نحو خاطئ، والاستفادة منها بشكل غير صحيح خداعاً للعوام، الآيات المُتعلقة بمعجزات حضرة عيسى (ع) (سورة آل عمران: 49، وسورة المائدة: 110). ولقد ذكرنا إيضاحات كافية حول هذه الآيات في التنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 138فما بعد)، فلا داعي لتكرارها هنا، لكننا نُذكِّر فقط بأننا قلنا هناك: إن مصدر الوحي والمعجزة واحد، والذي يُرسل الوحي هو الذي يصنع المعجزة، ودرجة تدخل النبيّ وشخصيته وإرادته وقوته المعنوية (الروحية) في المعجزات هي نفس درجة تدخله في الوحي. وبعبارة أخرى: إذا كانت لإرادة الرسول وقوته الباطنية الروحية تدخل في الوحي فإن لها تدخل في المعجزة أيضاً وإلا فلا.
ونقول هنا إتماماً للحُجّة على الخرافيين وإكمالاً لها: أنتم تعتقدون "إنه ببركة العبودية للحق يصل الإنسان ليس إلى السيطرة التامَّة على بدنه فحسب، بل إن سيطرته وإرادته تنفذان إلى عالَم الطبيعة الذي يُصبِحُ مطيعاً للإنسان فيملك الإنسانُ في ظلّ القدرة والطاقة التي اكتسبها نتيجة تقرّبه من الله التصرُّفَ في عالَم الطبيعة ويكون منشأً لسلسلةٍ من المعجزات والكرامات، وفي الحقيقة يُصبح قادراً على التصرُّف في الكون والسيطرة عليه"[236].
ونحن نسأل: هل كان للرسول الأكرم ص أيُّ تدخُّل في المعجزة التي أتى بها، أي في نزول آيات القرآن الكريم عليه؟ من البديهي أن من له علم بالقرآن لا يُجيب عن هذا السؤال بالإيجاب لما يلي:
أ) قبل نزول الآيات الأولى من سورة العلق لم يكن النبيُّ الأميّ قد أدّى بعدُ عباداته وعبوديته على النحو الذي يستوجب عروجه إلى أعلى مدارج الكمالات المعنوية والروحية التي تجعله - حسب قولكم- يمتلك القدرة على التصرف في أمور العالَم، كي يكون له تدخل في إظهار معجزة القرآن. ولهذا نرى أن القرآن الكريم خاطب النبيّ قائلاً: ﴿مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ﴾[الشورى: ٥٢].
ولو كان للنبيّ تدخُّلٌ في نزول القرآن لما كان هناك من ضرورة إلى أن يُكرِّر بين شفتيه وبصوت خافت الآيات التي تُوحَى إليه خشية نسيانها، إلى درجة أن الله تعالى نهاه عن تلاوة الآيات قبل انقضاء وحيها إليه واكتماله (سورة طه: 114[237]، والقيامة: الآيات 16 إلى 18[238]).
ولو كان للرسول الأكرم ص نوعٌ من التدخُّل والدَّوْر في نزول القرآن لما سمح لبعض المنافقين -قبل نزول الآية 43 من سورة التوبة- بعدم الخروج معه إلى غزوة تبوك قبل أن يتأكَّد من صحة ادِّعاءاتهم وأعذارهم، أو لما عمل ما يستوجب نزول الآية 37 من سورة الأحزاب عليه أو الآية الأولى من سورة التحريم. ويوجد نماذج عديدة لمثل هذه الأمور في القرآن ومن جملتها انقطاع الوحي عنه مدة 12 يوماً على الأقل رغم ميل النبيّ ص وشوقه الشديد إلى الوحي[239]، وكل هذه النماذج من الآيات تُثبت حقيقة أن الرسول الأكرم ص لم يكن له أيُّ تدخُّل أو دورٌ في ظهور معجزة القرآن. بناءً على ذلك، فإن سائر الأنبياء أيضاً لا دخل لهم في ظهور معجزاتهم وصنعها. (فَتَأَمَّل)
ب) عندما تكلَّم عيسى في المهد وعندما نال يحيى النُّبُّوة والحكمة في الطفولة والصبا لم يكونا قد قطعا بعد مدارج الكمال المعنوي والروحي الرفيعة العالية، كي يكون ذلك سبباً لظهور معجزاتهما. كما أن تعجُّب حضرة مريم من ولادتها لابن دون أب[240] يدلُّ بوضوح على أن لم يكن لها أيّ تدخُّلٌ أو دور في صنع معجزة ولادة عيسى (ع) من غير أب[241].
ج) خلافاً لادِّعاء الخرافيين، لا يُستفاد من كتاب الله أن الأنبياء كان لهم تدخُّلٌ في ظهور المعجزات، لأن القرآن يُصرّح بأن الرسول الأكرم ص كان يميل بشدة إلى ظهور معجزات على يديه تحمل قومه على الإيمان، حرصاً منه على إيمان قومه ورغبةً منه في إسلامهم ونجاتهم إذْ كان يُحزنه إعراض قومه عن دعوة الحق ويأسف ويغتمُّ لذلك حتى يكاد يُهلك نفسه[242]، ولكن خلافاً لميله الشديد لم تكن تظهر على يديه أيّ معجزة عندما لم تكن حكمة الله تقتضي ذلك. لهذا السبب عندما كان يُقال عن النبيّ ص: ﴿وَقَالُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ﴾[الانعام: ٣٧]، كان القرآن يُجيب عن ذلك قائلاً: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةٗ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٧﴾[الانعام: ٣٧]، أو عندما كان يُقال: ﴿لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ﴾كان القرآن يُجيب في الآية ذاتها: ﴿فَقُلۡ إِنَّمَا ٱلۡغَيۡبُ لِلَّهِ فَٱنتَظِرُوٓاْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ ٱلۡمُنتَظِرِينَ ٢٠﴾[يونس : ٢٠][243] ويقول أيضاً: ﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٞ﴾[الرعد: ٧]. أو عندما يُقال: ﴿وَقَالُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَٰتٞ مِّن رَّبِّهِۦ﴾[العنكبوت: ٥٠] كان القرآن يُجيب في الآية ذاتها: ﴿قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٥٠﴾[العنكبوت: ٥٠] [244].
ويقول للنبيّ: ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ﴾[الانعام: ٥٠]. ويقول: ﴿قُلۡ... مَا عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦٓۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ... قُل لَّوۡ أَنَّ عِندِي مَا تَسۡتَعۡجِلُونَ بِهِۦ لَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۗ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِٱلظَّٰلِمِينَ ٥٨﴾[الانعام: ٥٧، ٥٨] (أي أنني لو كنت أمتلك القدرة على إهلاككم لاستفدت منها في القضاء عليكم أو هزيمتكم).
د) قال المرحوم المطهري حول معجزات الأنبياء:
"لقد أعطى الله تعالى أصحاب المعجزات نوعاً من القدرة والإرادة يستطيعون بها أن يتصرَّفوا في الكائنات بإذن الله وأمره، فيُحوّلوا العصا إلى ثعبان، ويجعلوا الأعمى بصيراً، وحتى يُحيوا الميت، ويُخبروا عن الغيب..... الخ"[245].
أما المُوحِّدون فيقولون مُتعلّمين من القرآن ومن أقوال الأئمة[246]: إن الأنبياء -بمن فيهم حضرة عيسى (ع)- على الرغم من عُلوِّ مقامهم وعروجهم إلى أعلى درجات القرب من الحق، لا دخل لهم في ظهور المعجزات، لأنهم كانوا بشراً مخلوقين جاؤوا إلى الدنيا يوماً ورحلوا عن الدنيا في يوم آخر ولم يكونوا قادرين على التغلُّب على حاجتهم إلى الهواء والتنفُّس وحاجتهم إلى الطعام وبالطبع حاجتهم إلى دفع فضلات الطعام عن أبدانهم و.....، وكانوا يحتاجون إلى النوم، ولم يكونوا مُنزّهين عن النسيان في غير أحكام الشريعة ومسائلها (سورة الكهف: 24 و61 و73) ويتعبون (سورة الكهف: 62) وكانوا يمرضون [247]. إذن لم يكن الأنبياء مُسيطرين على أجسامهم وحاكمين على الطبيعة ومُحيين للأموات، ولم يُفوّض الله تعالى لأولئك الشخصيات ذات المقام الرفيع -بمن فيهم حضرة موسى وعيسى عليهما السلام- القدرة على تحويل العصا إلى ثعبان أو إحياء الموتى وشفاء الأعمى و..... بل كانت المُعجزات تظهر على أيديهم بإذن الله الخاص وبإرادته، تأييداً للأنبياء وإثباتاً لصدق ادِّعاءاتهم. ولو كان الله قد فوّض إلى الأنبياء أنفسهم القدرة على إحياء الموتى أو جعل العصا ثعباناً أو..... وكانت نفوس أولئك الأجلاء الكرام تتمتَّع بمثل تلك القدرة، لَمَا تساءل أحد الأنبياء في نفسه، عندما مرّ على قريةٍ خاويةٍ على عروشها قد مات أهلها، كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها؟ [سورة البقرة: 259]، وَلَمَا سألَ حضرةُ إبراهيم (ع) اللهَ عزّ وجلّ أن يُريه كيف يُحيي الموتى كي يطمئنَّ قلبُهُ [سورة البقرة: 260]، وَلَمَا خاف حضرة موسى (ع) قطعاً من تحول العصا إلى ثعبان مبين وولَّى هارباً منه [سورة القصص: 31] ولما قال لفرعون: ﴿قَالَ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَآ أَنزَلَ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[الاسراء: ١٠٢].
34ولو كان النبيّ الأكرم ص مُسيطراً على أرواح الآخرين وضمائرهم ومُسخِّراً لها لاستطاع أن يهدي من أحبّ، أما القرآن فيقول خلاف ذلك، إذ يقول للنبيّ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦﴾[القصص: ٥٦]. ولهذا السبب لمَّا كان الناس يُطالبون الأنبياء بمعجزة ويقولون: ﴿فَأۡتُونَا بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ﴾[ابراهيم: ١٠] كان الأنبياء يُجيبونهم قائلين: ﴿إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأۡتِيَكُم بِسُلۡطَٰنٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾[ابراهيم: ١١].
هـ) إحدى القضايا التي يُحاول بعضهم أن يحمل الآيات المُتعلّقة بحضرة سليمان (ع) عليها، تأثُّراً بأكاذيب «الكافي» (الحديث 5 من الباب 93 فيه) ونظائره، أو تأثراً بأباطيل الصوفية والعرفاء (كالأمور التي جاءت في كتاب «تذكرة الأولياء» لفريد الدين العطار النيشابوري وكتاب «حدائق الأنس» للجامي)، هي قولهم إن كان هناك من يستطيع أن يأتي بعرش ملكة سبأ من أرض اليمن إلى حضرة سليمان في فلسطين في أقل من طرفة عين، فلماذا لا تمتلك نفوس الأنبياء والأئمة مثل تلك القدرة على صنع أعمال معجزة كتحويل العصا إلى ثعبان وإحياء الموتى مثلاً؟! ثم إن الله تعالى أوكل إلى سليمان تعيين جهة الرياح وسخّر الرياح له فما الإشكال في أن يتصرف الأنبياء والأئمة في الطبيعة وأمور العالَم بإذن الله؟
وسنقوم ههنا -أداءً لواجبنا الديني وبهدف توعية الناس إلى الحقيقة- ببيان حقيقة هذا الأمر، بالاستناد إلى آيات القرآن الكريم المباركة، والله المستعان:
لقد صرّح القرآن الكريم أن حضرة سليمان (ع) كان لديه -إضافةً إلى العمال من البشر- عمَّالاً من الجن يعملون في خدمته [سورة النمل: 17] وكان كل فريق منهم يقوم بأعمال خارقة للعادة لم تكن مُستطاعة للبشر في ذلك الزمن. فكان بعضهم يغوص إلى أعماق البحار وبعضهم يصنع له أبنية عجيبة كبناء قصر فناؤه من الزجاج [سورة النمل: 44]، وبعضهم ﴿يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ﴾[سبا: ١٣]... الخ، وهكذا.....
ولم يكن أولئك العمال مُسخِّرين لقوة سليمان النفسية بل قال تعالى: ﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٣٧ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٣٨﴾[ص : ٣٦، ٣٨]، أي أن تسخير الشياطين والجن وتقييدهم في الأصفاد كي لا يخرجوا عن طاعة سليمان وأوامره، كل ذلك كان من فعل الله، وكانوا يعملون له بإذن الله، فإذا زاغ بعضهم عن أمر الله وأراد أن يتفلَّت من طاعة سليمان أذاقه الله من عذاب السعير. [سورة سبأ: 12][248].
كما لم تكن الرياح مسخَّرةً لنفس سليمان بل قال الله إنه بعد أن نجح سليمان في امتحانين إلهيين وَحَمِدَ اللهَ وأناب إلى الحق، سخَّر تعالى له -نتيجة ذلك- الريح تجري بأمره [سورة ص: 31 حتى 36] وأن غُدُوَّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحَهَا شَهْرٌ (أي أنه كان يُسيّر الريح مسيرة شهر صباحاً ويُسيّرها مسيرة شهر مساءً في الجهة المُخالفة لجهة مسيرها في الصباح)، أي أنه كما سخَّر الله تعالى النار فجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم (ع) وقال: ﴿قُلۡنَا يَٰنَارُ كُونِي بَرۡدٗا وَسَلَٰمًا عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ ٦٩﴾[الانبياء: ٦٩]، وكما ألان اللهُ تعالى الحديدَ لداود (ع) في زمنه كما قال: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ ١٠﴾[سبا: ١٠]، وكما أمر الطيور والجبال أمراً تكوينياً أن تُردِّد مع داود (ع) تسبيحه لِـلَّهِ [سورة الأنبياء: 79، وسورة سبأ: 10][249]، كذلك، وعلى نفس المنوال سخَّر الله تعالى بقدرته اللامحدودة الرياح لسليمان أي أمرها أن تطيع سليمان، لا أنه جعل في نفس سليمان قُدْرَةً روحيةً على تسخير الرياح.
والعجيب أن بعض المشايخ كأنهم لم يقرؤوا القرآن أو قرؤوه وتجاهلوا تماماً بعض آياته، فقد قال القرآن مراراً: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣﴾[ابراهيم: ٣٢- ٣٣]. أو قال: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[لقمان: ٢٠].
فهل هناك عاقلٌ يقول إن ما في السماوات والأرض مُسخّرٌ لنا فرداً فرداً بولايتنا التكوينية؟!! فكيف يُمكننا أن نقول استناداً إلى الآية 81 من سورة الأنبياء إن سليمان كانت له ولاية تكوينية على الرياح؟!!
وقد ذكرنا توضيحات كافية في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 538 - 539) حول الآيات 38 إلى 41 من سورة النمل المباركة، فلا نُكرِّر ذلك هنا، لكننا نُذكِّر أنه خلافاً لما يدّعيه الخرافيون، تُبيِّن آيات القرآن بوضوح حقيقة أن نبيّ الله حضرة سليمان لم يكن لديه ولاية تكوينية ولم يقم بإحضار عرش ملكة سبأ بقدرته النفسية وقوته الروحية المعنوية - التي يقولون إنها فُوِّضت إليه ووُهبت له بإذن الله- بل طلب ممن كانوا يعملون في خدمته بأمر الله ويقومون بأعمال خارقة للعادة، أن يُحضروا له عرشها. يُمكننا أن نفهم من آيات القرآن أنه كان في استطاعة أكثر من شخص في مجلس سليمان أن يأتي له بعرشها بصورة غير عادية وبسرعات مختلفة بالطبع، لذلك طلب سليمان (ع) من أهل مجلسه أن يأتوا بعرشها وقال لهم: أيّكم يأتيني بعرشها قبل أن تأتي هي إلينا: قَالَ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ﴾ [سورة النمل: 38]. ولا دليل لدينا على أن الذي أتى بالعرش كان إنساناً، (والبيِّنة على المُدَّعي). أما لو أصررتم -استناداً إلى الروايات- على أنه كان إنساناً يُدعى «آصف بن برخيا» أو «بلخيا» أو «أسطوم» أو.....، ففي هذه الصورة أياً كان ذلك الشخص، فإنه -طبقاً للمستندات ذاتها التي ذكرها الشيخ الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان» - قد ذكر اسم الله الأعظم ودعا به فاستُجيب دعاؤه وأُحضر عرش بلقيس إلى مجلس سليمان بإرادة الله[250]. خاصةً أن سليمان (ع) قال بعد أن رأى العرش حاضراً أمامه: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي﴾ [النمل: 40]، فبناءً على ذلك لا مكان لادّعاء امتلاك الأنبياء والأئمة للولاية التكوينية.
ولكننا نعتقد أن الذي أتى بعرش بلقيس كان كائناً غير بشري مُطَّلعاً على بعض ما في اللوح المحفوظ وكان في استطاعته أن ينقل شيئاً من مكان إلى آخر في أقل زمن ممكن. ولا يُمكننا أن نُلفِّق من عندنا بأنه كانت لديه ولاية تكوينية وأنه كان يتصرف في عالَم الخليقة وأن أرواح الآخرين وضمائرهم كانت تحت سيطرته ومُسخَّرةً له!!
35وينبغي أن ننتبه إلى أن الحقَّ تعالى ذمَّ في الآية 73 من سورة الحج[251] الذين يعبدون غير الله دون دليل شرعي، ثم قال مُستخدماً حرف «لن» [252]-ودون أن يستثني أحداً من هذا النفي- أنه لو اجتمع جميع الذين عُبدوا من دون الله -بما في ذلك بعض الأنبياء كحضرة عيسى[253] والأئمة والملائكة و...[254]- وتكاتفوا وتعاونوا مع بعضهم، لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابةً ولا أن يستعيدوا شيئاً سلبتهم الذبابة إياه، إذن كيف يُمكن أن يقول تعالى في سورة آل عمران إنه منح حضرة المسيح (ع) القدرة الروحية على إحياء الموتى أو شفاء الأكمه (الأعمى من الولادة) أو أنه أعطى سليمان القدرة الروحية على تعيين جهة الرياح؟!
إن قيل عن الجزء الأول من الآية إن المقصود هو أنهم لن يستطيعوا الخلق على نحو مُستقل عن الله، فينبغي أن ننتبه إلى أن الجزء الثاني من الآية يدل على أن المقصود يعمُّ الخلق المُستقل عن الله والخلق المُفوَّض من قبل الله، لأنه إذا فُوِّض إلى مخلوق القدرة على الخلق فإنه يمتلك عندئذ مراتب ما دون الخلق وبالطبع يستطيع أن يستعيد ما سلبه الذباب منه. (فتأمَّل)
أما بشأن الآية 49 من سورة آل عمران المباركة فينبغي أن ننتبه إلى بضعة نقاط مهمة فيها كي يتفق ما نذكره بشأنها مع سائر آيات القرآن:
النقطة الأولى: يقول القرآن الكريم: ﴿و إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ﴾ [العنكبوت: ٥٠]أي أن المعجزات عند الله وحده. ويقول أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾[رعد 38 - غافر: ٧٨].
النقطة الثانية: لو قلنا إن عيسى خلق الطير بالقدرة التي وهبه الله إياها ففي هذه الحالة كان يكفيه أن يقول: «أخلق طيراً بإذن الله» ولما كانت هناك ضرورة إلى جملة: ﴿مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا﴾[ال عمران: ٤٩]. (فتأمَّل جداً دون العصبية). ولكن وجود هذه الجملة يُبيِّن أن للمعجزة نسبتين:
الأولى: نسبتها إلى الله تعالى الموجِد والمُكوِّن لها، كما بيَّنا ذلك في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 138 فما بعد)، والله تعالى ذاته قال عن المعجزات: ﴿وَكُنَّا فَٰعِلِينَ﴾[الانبياء: ٧٩]، وَمِنْ ثَمَّ فنسبة المعجزة إلى الله نسبة حقيقية.
والنسبة الثانية: هي ارتباط المعجزة بادِّعاء الأنبياء وهي أيضاً نسبة حقيقيَّة صحيحة لأن الله تعالى حقَّق تحويل التمثال الطيني للطير إلى طير حقيقي أو حقق شفاء الأعمى من الولادة أو الأبرص أو تحوَّل العصا إلى ثعبان استجابةً لطلب النبي أو دعائه أو توجهه، تصديقاً لادِّعائه النبوة وتأييداً له، وبهذا الاعتبار كانت المعجزة خاصة بالنبي أو منسوبة إلى النبي ومُؤيّدةً له.
النقطة الثالثة: لما كان تفسير القرآن بالقرآن من أوثق الطرق وأكثرها صحةً لفهم آيات القرآن، سنتَّبِعُ هذا المنهج في تفسيرنا للآيات المُتعلّقة بمعجزات عيسى (ع) وسنستند في توضيحنا للآية 49 من سورة آل عمران إلى الآية 110 من سورة المائدة[255] التي نزلت بعد سورة آل عمران وفسَّرت الآية 49 منها وأوضحت المقصود منها.
من الضروري أن ننتبه إلى أن الآية 49 من سورة آل عمران نقلت لنا قول حضرة عيسى (ع) الذي خاطب به قومه في مقام إظهار المعجزات، وفي مثل هذا المقام لا ضرورة لذكر بعض التفاصيل. أما الآية 110 من سورة المائدة فقد نقلت لنا خطاب الله تعالى لعيسى (ع) في مقام تذكيره بفضل الله تعالى عليه ورحمة الله إيَّاه، ولذلك ذكرت التفاصيل، ولهذا السبب -خلافاً للآية 49 من سورة آل عمران التي جاء فيها ضمير «هـ» المُذكّر وفعل المُذكّر «فيكون» الذي يرجع إلى «الطير»- استخدمت الآية 110 من سورة المائدة ضمير المُؤنَّث «ها» وفعل المُؤنّث «فتكون» الذي يرجع إلى كلمة «هيئة» ويدل على أن عيسى (ع) إنما خلق «هيئة» الطير من الطين بالإذن الإلهي العام الذي يتمتَّع به الآخرون أيضاً، ثم نفخ في هذه الهيئة، فتحولت تلك الهيئة والصورة المذكورة إلى طير بإذن الله الخاص، وعلى هذا فالآية بيَّنت وجود تفاوت بين هذين الفعلين، خاصةً أنها ذكرت قيد ﴿بِإِذۡنِي﴾ [المائدة: 110] بعد جملة: ﴿وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي﴾[المائدة: ١١٠]وقبل جملة: ﴿تَنفُخُ فِيهَا﴾[المائدة: 110]. في حين أنه لا شُبهة بأن جميع الناس -إضافةً إلى عيسى- كانوا قادرين على ذلك العمل. فهذ القيد يُبيِّن أنه حتى موعد إظهار تلك المعجزة وزمنه لم يكن متروكاً لعيسى ولا بيده بل منوطاً بالإذن الإلهي وموكولاً إليه، وكان عيسى (ع) مُجازاً بإظهار تلك المعجزة بعد الإذن والإعلام الإلهيين له بذلك، فإذن لم يكلِ الله تعالى له القدرة على صنع مثل هذه المعجزة بقدرة الله.
36وفي هذه الآية ذاتها لم يستخدم الله تعالى بشأن إحياء الأموات تعبير «تُحْيي الْمَوْتَى» بل استعمل تعبير «تُخْرِجُ الْمَوْتَى » الذي يُبيِّن معنى «أُحيي» الذي ورد في الآية 49 من سورة آل عمران، ويدل على أن عيسى كان يُخرج الموتى لأجل أن يتم إحياؤهم، أما الإحياء فلم يكن من فعله[256]، خاصةً أن عيسى (ع) قال في الآية المذكورة من سورة آل عمران: ﴿وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾[ال عمران: ٤٩]، ولكنه لم يُبيِّن كيفية ذلك الإحياء، فلم يقل في مُتابعة كلامه مثلاً: «بالدعاء» أو «بمسح اليد على الميت» أو «بالتوجه إلى الله»..... كما لم يقل: «بالقدرة التي أعطانيها الله»، بل قال: «بإذن الله» التي تعني في الأمور التكوينية «بإرادة الله»، كما جاء في قوله تعالى ﴿وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦ﴾[الاعراف: ٥٨]، وقوله تعالى: ﴿تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذۡنِ رَبِّهَا﴾[ابراهيم: ٢٥]، وقوله تعالى: ﴿وَيُمۡسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦٓ﴾[الحج : ٦٥]. بناءً على ذلك، يتبيَّن أن الله هو الموجد والخالق والصانع للمعجزة المنسوبة إلى النبيّ[257].
ثم إنه لو وهب الله تعالى القدرة على إحياء الموتى إلى غيره لما قال أبو الأنبياء وخليل الرحمن حضرة إبراهيم (ع): ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِي﴾[البقرة: ٢٦٠]. وأساساً لو أن القدرة على صنع المعجزات كانت قد أُعطيت للأنبياء لقال حواريو المسيح (ع): هل تستطيع أن تُنزل علينا أنتَ مائدةً من السماء بدلاً من قولهم: ﴿هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾[المائدة: ١١٢]؛ فهذا يُبيِّن أن الحواريين لم يكونوا يعتبرون إيجادَ المعجزة أمراً مُستطاعاً للنبيّ ذاته. (فتأمَّل). ولهذا السبب دعا عيسى (ع) ربَّه كي يُنزل عليهم مائدةً من السماء فأجابه تعالى قائلاً: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡ﴾[المائدة: ١١٥].
بناءً على ذلك ينبغي أن نعلم أن ظهور سائر المعجزات كان على هذا المنوال أيضاً.
علاوةً على ذلك، فقد صرَّح الله تعالى، إتماماً للحُجَّة، أنه لا يُفوِّض إلى أحد ولا يهب أحداً صفاتٍ تُوجب مُشابهته لِـلَّهِ كإحياء الموتى وشفاء المرضى من غير وسيلة، وتبديل ماهيّة الأشياء (كتبديل العصا ثعباناً أو إخراج الناقة من الجبل و....) وتدبير أمور حياة الناس، والحضور في كل مكان، والسمع غير المحدود و..... فقال تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلٗا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِيهِ سَوَآءٞ تَخَافُونَهُمۡ كَخِيفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ٢٨ بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٖ﴾[الروم: ٢٨، ٢٩].
جاء في تفسير «مجمع البيان»:
"كانت تلبية قريش: «لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ، لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما مَلَكَ»، فأنزل الله تعالى الآية ردَّاً عليهم وإنكاراً لقولهم.... أي أنكم إذا لم ترضوا في عبيدكم أن يكونوا شركاء لكم في أموالكم وأملاككم فكيف ترضون لِرَبِّكم أن يكون له شركاء في العبادة؟....... ثم قال سبحانه مُبيِّناً لهم أنهم إنَّما اتَّبعوا أهواءهم فيما أشركوا به «بل اتَّبع الذين ظلموا» أي أشركوا بالله «أهواءهم» في الشرك «بغير علم» يعلمونه جاءهم من الله...."[258].
37إن التدبُّر في المثال الذي ذكرَتْهُ الآيةُ الكريمةُ يُبيِّن بوضوح أن الآية تعمُّ أكثر من الوجه الاستقلالي للشرك لأنها تقول: كما أنكم لا تُعطون لعبيدكم ذلك القدر من المال والممتلكات الذي يجعلهم مُساوين لكم ومُشابهين لكم، رغم أنَّ مُساواة العبد لمولاه منشؤها المال الذي يُعطيه المولى للعبد وليس للعبد من ذات نفسه مالاً ولا ملكاً، ويستطيع المولى أن يسحب من عبده ما أعطاه إياه فالله تعالى لا يُعطي لعبيده مثل هذه القدرات[259].
النقطة الرابعة: أما قول المُطَهَّرِيّ إن «الإنسان خليفة الله بنصِّ القرآن المجيد» فهو قول غير صحيح، وهو ينسِبُ في الواقع أكاذيب الباب 70 من «الكافي» وأباطيل العرفاء والصوفية التي لا دليل عليها، إلى القرآن الكريم. راجعوا بشأن الزعم أن الإنسان خليفة الله ما ذكرناه في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 436). وليت المرحوم المُطَهَّرِيّ أبدى مزيداً من الدقة والإنصاف فقال: الإنسان خليفة الله «بحسب ظاهر القرآن» بدلاً من قوله «بنصِّ القرآن المجيد»، رغم أن ذلك القول أيضاً غير صحيح إلا أنه أقلّ بُعداً عن الدقَّة والإنصاف من العبارة التي استخدمها.
أما قوله: إن عقيدة المُوَحِّدين مضادَّة للإنسان إذ تَنْزِلُ به إلى مرتبة الحيوان الطبيعي، فهو قولٌ ناشئٌ من تعصبه للخرافات الحوزوية، وإلا فبُطلان هذا القول أوضح من أن يعجز عن إدراكه.
فليت شعري! أإذا قلنا: إن الإنسان يُمكنه أن يصل إلى أعلى درجات الفلاح ولكن في الوقت ذاته لا يستطيع -حتى لو كان نبياً- أن يُحيي الميت أو يشفي الأعمى من الولادة أو يُحوِّل العصا ثعباناً أو يَسْمَع جميع الأصوات والنداءات في زمن واحد، نكون قد نزلنا بمرتبة الإنسان إلى مستوى الحيوان الطبيعي؟!! هل الوصول إلى أسمى الفضائل الأخلاقية وأعلى درجات المعرفة الإنسانية والسيطرة على النفس وكسب أهلية نيل رضوان الله و...... شيء قليل ولا يُوجب ارتقاء الإنسان عن درجة الحيوانية؟ في رأيكم يا سماحة الشيخ هل كان أولئك الصحابة الذين تبدي محبَّتك لهم مثل جعفر الطيار وأبي ذرّ الغفاري وعمَّار بن ياسر وشهداء بدر وأُحد و..... رضي الله عنهم -الذين لم يكونوا يُحيون الموتى ولم تكن الريح مُسخَّرةً لإرادتهم- مُجرَّد حيوانات طبيعية؟!! أنصِف القول، هل عقيدتنا ضد الإنسان أم عقيدتكم؟
النقطة الخامسة: نسأل الشيخ المُطَهَّرِيّ: لماذا لا تستند إلى القرآن لإثبات مقصدك وما ترمي إليه، ولماذا لم تأتِ بآية واحدة من كتاب الله كشاهد يدعم كلامك؟ بل اقتصرت على التشبُّث بجمل مأخوذة من «الزيارة الجامعة» الفاقدة للاعتبار[260] مع أن الاستناد إليها، على الأقل في مثل هذا المقام، لا يصحُّ.
إضافةً إلى ذلك فنحن لم نقل إن الأنبياء والأئمة -عليهم السلام- ليسوا أولياء لِـلَّهِ، أو ليسوا هادين مُرشدين إلى الحق ودعاةً إلى الله وأدلاءَ على مرضاة الله، بل كل ما نقوله هو أنه لا يُمكننا أن نستنتج من كونهم هُداةً ومُرشدين، جواز دعائهم في كل مكان وزمان وفي كل حال من الأحوال وجواز الطواف حول مراقدهم وجواز اعتبارهم مُطَّلعين على أحوالنا سامعين لأدعيتنا حتى بعد رحيلهم عن الدنيا! (فَتَأَمَّل).
النقطة السادسة: لو صدقتم والتزمتم بقولكم إنه يجب النظر والتوجه إلى الأنبياء والأولياء بوصفهم طريقاً نسلكه نحو الحق لا غاية بحدِّ ذاتها، فإننا نتفق معكم تماماً في هذا الكلام، ونُؤيدكم فيه من كل قلبنا، لأننا نُصرُّ أننا يجب أن نتَّبع تعاليم أولئك الكرام الأجلاء ونتأسَّى بأفعالهم في حياتنا.
لكننا نسألكم بالله عليكم اصدقونا القول: ما هي التعاليم الباقية التي تركها لنا أمثال «السيد نصر الدين» أو «الإمام زاده صالح» في طهران أو «شاهچراغ» في شيراز أو «حضرة المعصومة» في قم -ونظائرهم الكثيرين ممن لا توجد بلدة ولا قرية ولا صقع في إيران يخلو من مزاراتهم!!- التي تستفيدون منها الآن للسلوك نحو الحق تبارك وتعالى؟
إنكم تصرفون أموال المسلمين دون مُجوِّز شرعي على بناء القباب والأضرحة وتزيين قبور أولئك الصالحين[261]، وتحثُّون المسلمين على زيارة قبورهم وقراءة نصوص الزيارات عندها والطواف حول مراقدهم والنذر لهم وطلب الشفاعة منهم[262]، وتُؤمنون بثوابات عظيمة لزيارة قبورهم، وتعتقدون بصفات فوق بشرية ليس للأئمة فحسب بل حتى لوكلائهم ونُوَّابهم!!
يوصي الشيخ عبَّاس القُمِّيّ الناسَ، نقلاً عن كتاب «تحفة الزائر» للمجلسي وكتاب «مفاتيح النجاة» للسبزواري[263]، فيقول:
"إِذَا كَانَ لَكَ حَاجَةٌ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاكْتُبْ رُقْعَةً عَلَى بَرَكَةِ اللهِ وَاطْرَحْهَا عَلَى قَبْرٍ مِنْ قُبُورِ الْأَئِمَّةِ إِنْ شِئْتَ أَوْ فَشُدَّهَا وَاخْتِمْهَا وَاعْجِنْ طِيناً نَظِيفاً وَاجْعَلْهَا فِيهِ وَاطْرَحْهَا فِي نَهَرٍ جَارٍ أَوْ بِئْرٍ عَمِيقَةٍ أَوْ غَدِيرِ مَاءٍ فَإِنَّهَا تَصِلُ إِلَى السَّيِّدِ (ع) وَهُوَ يَتَوَلَّى قَضَاءَ حَاجَتِكَ بِنَفْسِهِ!! وَاللهُ بِكَرَمِهِ، لَا تُخَيِّبُ أَمَلَكَ. تَكْتُبُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كَتَبْتُ إِلَيْكَ يَا مَوْلَايَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْكَ- مُسْتَغِيثاً وَشَكَوْتُ مَا نَزَلَ بِي مُسْتَجِيراً بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ بِكَ مِنْ أَمْرٍ قَدْ دَهَمَنِي..... فلجأت فيه إليك وتوكلت في المسألة لِـلَّهِ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عليه وعليك....... الخ ".
وأقول: ليت شعري! إن لم تكن هذه الأمور شركاً فما هو الشرك إذن؟!
ثم يواصل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ كلامه قائلاً:
"ثُمَّ تَصْعَدُ النَّهْرَ أَوِ الْغَدِيرَ وَتَعْتَمِدُ بِهِ بَعْضَ الْأَبْوَابِ إِمَّا «عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ الْعَمْرِيَّ» أَوْ وَلَدَهُ «مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ» أَوِ «الْحُسَيْنَ بْنَ رَوْحٍ» أَوْ «عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ» فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَبْوَابَ الْإِمَامِ (ع) فَتُنَادِي بِأَحَدِهِمْ وَتَقُولُ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَشْهَدُ أَنَّ وَفَاتَكَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأَنْتَ حَيٌّ عِنْدَ اللهِ مَرْزُوقٌ.......... وَهَذِهِ رُقْعَتِي وَحَاجَتِي إِلَى مَوْلَانَا (ع) فَسَلِّمْهَا إِلَيْهِ فَأَنْتَ الثِّقَةُ الْأَمِينُ ثُمَّ ارْمِ بِهَا فِي النَّهَرِ وَكَأَنَّكَ تُخَيَّلُ لَكَ أَنَّكَ تُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهَا تَصِلُ وَتُقْضَى الْحَاجَةُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى..... فَيُعْلَم بذلك أن مائدة إحسان وجود إمام الزمان - صلوات الله عليه - وجوده وكرمه وفضله وَنِعَمِهِ مبسوطةٌ في كل قطر من أقطار الأرض، لكل مضطرب ضعيف، وضائع منهك، ومتحير جاهل تائه، وأن بابه مفتوح، وجادَّته مشرعة، مع صدق الاضطرار والحاجة، والعزم مع صفاء الطويَّة وإخلاص السريرة، فمن كان جاهلاً جرَّعه من شراب علمه، أو تائهاً أخذ بيده إلى سواء سبيله، أو مريضاً ألبسه لبوس عافيته....... والمقصود في هذا المقام هو أن صاحب الزمان -صلوات الله عليه- حاضر بين العباد، وناظر في أحوال الرعيَّة، وقادر على كشف البلايا، وعالم بالأسرار والخفايا.... الخ"[264].
ويُواصل كلامه حتى يصل إلى القول:
"نعم، إن إجابة المضطر لا تصدر إلا عن الله تعالى أو عن خلفائه!!!"[265].
ويُعَرِّفُ الشيخُ عبَّاس القُمِّيُّ قراء كتابه «الباقيات الصالحات» (حاشية مفاتيح الجنان، ص 248 فما بعد) بصلاةٍ باسم «الاسْتِغَاثَةُ بحضرة البتول» فيقول:
".... فَإِذَا سَلَّمْتَ [من الصلاة المذكورة] كَبِّرِ اللهَ ثَلَاثاً وَسَبِّحْ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ (ع) ثُمَّ اسْجُدْ وَ قُلْ مِائَةَ مَرَّةٍ: «يَا مَوْلَاتِي فَاطِمَةُ أَغِيثِينِي» ثُمَّ ضَعْ خَدَّكَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَرْضِ وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُدْ إِلَى السُّجُودِ وَقُلْ ذَلِكَ مِائَةَ مَرَّةٍ وَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَاذْكُرْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ اللهَ يَقْضِيهَا"[266].
أو ينقل عن كتاب «مكارم الأخلاق» للطَّبْرَسِي تُهمةً مفتراة على الإمام المظلوم حضرة الصادق (ع) أنه قَالَ:
"إِذَا كَانَتْ لِأَحَدِكُمُ اسْتِغَاثَةٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ يَا رَسُولَ اللهِ! يَا عَلِيُّ يَا سَيِّدَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ! بِكُمَا أَسْتَغِيثُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ! أَسْتَغِيثُ بِكُمَا. يَا غَوْثَاهُ بِاللهِ وَبِمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، وَتَعُدُّ الْأَئِمَّةَ (ع)، بِكُمْ أَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّكَ تُغَاثُ مِنْ سَاعَتِكَ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى؟!!"[267].
أو يقول: إن إمام الزمان قال «للحسن بن مثلة الجمكراني»[268]: "صلاة ركعتين في مَسْجِدِ جَمْكَرَان تعدل صلاة ركعتين في جوف الكعبة!!".
أو يذكر زيارة «هانئ بن عروة» (ص 404)[269] أو زيارة «النواب الأربعة» ويعتبرها من وظائف زوَّار الكاظمين، وأن على الزائر مخاطبتهم قائلاً: "بِكَ إِلَيْهِمْ [أي إلى الأئمَّة] تَوَجُّهِي، وَبِهِمْ إِلَى اللهِ تَوَسُّلِي" (ص 492 -493)[270].
يا للعجب! ألم يسمع الشيخ عبَّاس القُمِّيّ آية:﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨﴾[الجن: ١٨]؟! ألم يقرأ قول الإمام الرضا (ع) الوارد في تفسير «مجمع البيان» للشيخ الطَّبْرَسِيّ ذيل تفسير هذه الآية ؟!
ونسأل الشيخ المُطَهَّرِيّ: أليست الصفات التي تُثبتها للإمام صفاتٍ إلهيةً؟ هل يسمع وكلاء الإمام ونُوَّابه أو هانئ ابن عروة أيضاً كل نداء ودعاء بعد موتهم؟! هل كَتَبَ المَجْلِسِيُّ أو الشيخُ عبَّاس القُمِّيّ تلك الأمور بقصد أن يتوجه الناس إلى الأنبياء والأولياء بوصفهم مُجرَّد طريق يسلكونه للوصول إلى الحق تبارك وتعالى لا بوصفهم غاية بحدِّ ذاتها؟!!
ونسأل المُطَهَّرِيّ أيضاً: هل أستاذك الذي قال في كتابه:
"إذ للإمام مقامات معنوية مستقلة عن وظيفة الحكومة. وهي مقام الخلافة الكلية الإلهية التي ورد ذكرها على لسان الأئمة (ع) أحياناً، والتي تكون بموجبها جميع ذرَّات الوجود خاضعة أمام "ولي الأمر"!!!...... وفي الأساس فإن الرسول الأكرم ص والأئمة (ع) - وبحسب رواياتنا[271]- كانوا أنواراً في ظل العرش قبل هذا العالم، وهم يتميزون عن سائر الناس في انعقاد النطفة والطينة[272]....."[273].
هل كان قصده أن يتوجَّه الناس إلى الأنبياء والأولياء بوصفهم طريقاً للذهاب نحو الحقِّ تعالى وليس بوصفهم غايةً؟!!
ورغم أنَّ أَكْل الترابَ ليس جائزاً، والإسلام ليس فيه أيُّ حكم شرعيٍّ مُخالفٍ للصحة، فهل العلماء الذين يُجيزون أكل تُربة حضرة الحسين (ع) بقصد الشفاء، قصدهم فقط أن يتوجَّه الناس إلى الأنبياء والأولياء بوصفهم مُجرَّد طريق للذهاب إلى الحقِّ تعالى وليس التوجّه إليهم كغاية وهدف؟!
هل ألَّف آية الله العظمى (!) السيد «أبو الفضل النبوي» القُمِّيّ كتابه «أمراء هستي» [أي أمراء الكون] بهدف أن يتوجَّه قراؤه إلى الأنبياء والأولياء بوصفهم طريقاً للذهاب نحو الحق تعالى فحسب لا التوجّه إليهم كغاية وهدف؟!!
هل شعبنا الذي يُقسم أفراده ليل نهار في الأزقة والأسواق بأبي الفضل العباس أو بالإمام الحسين أو بحضرة الرضا أو بـ.....، كما كان أهل الجاهلية يُقسمون بأصنامهم ويقولون:
وباللات والعُزَّى ومن دان دينها وبالله، إن اللهَ منهنَّ أكبرُ!
وعدم نهيكم إياهم عن ذلك، هو لأجل أن يتوجَّ الناسُ إلى الأنبياء والأئمة بوصفهم مُجرَّد طريق للسير نحو الحق تعالى لا بوصفهم هدفاً وغايةً؟!!
هل كان ما ذكره الشيخُ الطوسيُّ المُلقَّب بشيخ الطائفة في كتابه «مصباح المُتهجّد» (باهتمام أنصاري الزنجاني، ص 278) والعلامةُ المَجْلِسِيُّ في كتابه «زاد المعاد» (كتابفروشي إسلامية، ص 526) من دعاء بعد صلاة جعفر الطيار يقول فيه الداعي: "يَا مُحَمَّدُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ يَا رَسُولَ اللهِ! يَا عَلِيُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَنَا عَبْدُكُمَا..."، كان بهدف أن يتوجَّه الناس إلى الأنبياء والأئمة بوصفهم طريقاً نحو الحق تعالى لا بوصفهم هدفاً وغايةً؟!!
هل مجيء أفراد شعبنا من مناطق بعيدة لزيارة مراقد أئمة الدين ومسحهم أيديهم على أضرحتهم ثم فركهم رؤوسهم ووجوههم بالضريح ونذرهم لأصحاب تلك القبور وبسطهم الموائد لهم وذبحهم القرابين لهم، وعدم نهيكم إياهم عن مثل هذه الأفعال، هو لأجل أن يتجَّه الناس إلى الأنبياء والأئمة بوصفهم طريقاً نحو الحق تعالى لا بوصفهم هدفاً وغايةً؟!! في حين أنكم تعلمون أن المشركين، ومن جملتهم قريش، كانوا يذهبون لزيارة «العُزَّى» ويُقدِّمون لها الهدايا ويذبحون لها القرابين. (راجعوا كتاب «الأصنام» لهشام بن محمد الكلبي، ص 18 و 33).
هل جاهد رسول الله ص كل ذلك الجهاد وتحمَّل كل تلك المصاعب والمرارات كي يترك الناس أصنامهم والأعمال التي كانوا يقومون بها نحو الأصنام تقرُّباً بها إلى الله، ليقوموا بالأعمال ذاتها تجاه مرقده ومرقد أعزَّائه من آل بيته الكرام؟!! هل هذا هو معنى التوحيد؟!
هل تُصرف كل هذه الأموال الباهظة والمبالغ الكبيرة التي كان ينبغي إنفاقها على بناء المستشفيات والمدارس وشق الطرق ومساعدة المسلمين المرضى والمحرومين وعلى الأعمال ذات النفع العام، لكنها تُنفق على تجديد بناء قبور أئمة الدين وتزيينها، وأنتم لا تنهون الناس عن ذلك بل تُشجِّعونهم على فعله، هو بهدف أن يتوجَّه الناس إلى الأنبياء والأئمة بوصفهم طريقاً نحو الحق تعالى لا بوصفهم هدفاً وغايةً؟!!
38ومن المناسب أن أذكر هنا نموذجاً واحداً فقط -كمثال- على التبذير المُخالف للشرع، فقد خصَّصَتْ جريدة «اطلاعات» في سبعة أيام متتالية خلال شهر آبان عام 1344 هجرية شمسية[274] قسماً للأخبار المُتعلّقة بضريح حضرة أبو الفضل، سأذكر منها الخبرين التاليين: "تمَّ بناء الضريح المُطهّر لحضرة أبي الفضل العباس (ع) بأمر من آية الله السيد محسن الحكيم وبأيدي الفنانين الأصفهانيين ذوي الخبرة. وسيتم حمله ونقله يوم غد ضمن مراسم جليلة من أصفهان إلى كربلاء. ذكر مراسلنا في مدينة أصفهان في تقرير له أنه قد تمَّ استهلاك ما مجموعه سبع مثاقيل من الذهب (= 35 كيلوغرام) وأربعين ألف مثقال من الفضة (= 2000 كيلوغرام) في صناعة هذا الضريح.... الخ". (جريدة اطِّلاعات، 23 آبان 1344، العدد 11832).
والخبر الثاني يقول: "تمَّ نقل الضريح المُطهَّر لأبي الفضل العباس (ع).... من ميدان نقش جهان. وكان أمام قافلة الضريح السيد إمام جمعة أصفهان..... وكان الناس يذبحون القرابين من الإبل أو البقر أو الغنم أمام الضريح المُطهَّر لحضرة أبي الفضل. وأصبحت مدينة أصفهان شبه معطلة، وقام الناس بربط قطع قماش أو مناديل أو أقراط أو أطواق على الأقمشة الخضراء التي لُفَّت بها الشاحنات الحاملة للضريح..... وكان مُرافقو تلك القافلة المُقدَّسة 300 شخص من النساء والرجال كان خمسون شخصاً منهم مُلتزمون بنقل الضريح المُطهَّر على نفقة صاحب الجلالة وليّ العهد رضا البهلوي..... الخ". (جريد اطِّلاعات، 25 آبان 1344، العدد رقم 11834).
كَتَبَ أخونا العالم الأستاذ «قلمداران» رحمه الله في مُقدّمة كتابه «الزكاة» (ص 15 و 16) نقلاً عن العدد 8271 من جريدة «كيهان» يقول: "لقد تمَّ تركيب أكثر الثريات في العالَم أناقة وجمالاً في حرم حضرة الرضا..... وكان عدد الثريات 95 ثريا تمَّ شراؤها بحوالي 20 مليون تومان. وهذه الثريَّات أُضيفت بالطبع إلى الثريَّات التي كانت من قبل وقيمتها لا تقل عن قيمة الثريَّات السابقة".
ثم أردف قائلاً: "أما حساب سائر الأشياء والزينات والموقوفات فحدّث ولا حرج، ومن هذا يُمكنك أن تُدرك مدى ابتعاد الناس عن الإسلام". فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ .
أحد علماء زماننا المشهورين سيِّدٌ يُدعى «محمد رضا الحكيمي» كثيراً ما يتشدَّق بالاهتمام بالمحرومين والفقراء والضعفاء، ولكنني لم أسمع منه حتى الآن أيَّ اعتراض على مثل هذه الأعمال ولم أسمع أنه نهى مرَّةً واحدةً الناسَ عن القيام بمثل هذا الإسراف والتبذير.
النقطة السابعة: سنجيب عن افترائه الذي قال فيه: "فإن التفرقة والتفكيك بين الميت والحيّ على نحو يُعتَقَدُ فيه أن الأموات ليسوا أحياء حتى في العالَم الآخر وأن شخصية الإنسان كلها هي بدنه الذي يظهر بشكل جماد، تفكير ماديٌّ ومُناقضٌ للتفكير الإلهيّ". في الفقرة الرابعة. وليس المُطَهَّرِيُّ وحدَه بالطبع الذي يفتري هذا الافتراء، بل أستاذه أيضاً كتب في أحد كتبه يقول:
"إن قصد هذه الأقلام الدموية المسمومة من خدمة الدين هو أن نعتبر خُدَّام الدين وخُدَّام شريعة مليار مسلم، وأئمة الدين والشريعة والمُضحّين، والشهداء في سبيل الله الذين هم -بحكم الفلاسفة القطعيّ في جميع عصور الدنيا وبتصريح كتاب الله- أحياء خالدون، جمادات وأبدان مُتحلِّلة مُتفسِّخة ونتعامل معهم باحتقار وتصغير وننساهم.... الخ!!!" [275]
إن لم نقل إن هذا الكلام كذب، فهو بلا أيّ شُبهة -كما سنرى في الصفحات القادمة- مصداقٌ بارزٌ للقول بلا علم، لأنه لا يوجد مُوحِّدٌ واحدٌ يعتبر أولئك الشخصيات العظيمة الجليلة جمادات بالية بعد وفاتها، والله يعلم أننا لا نُريد أبداً أن نتعامل معهم باحتقار وتصغير لشأنهم[276]، بل عقيدة المُوحِّدين هي أن يتذكِّر الناس دائماً أولئك الأجلاء الكرام ويُحبُّوهم، وأن يتعلَّمَ المؤمنون سنن الأنبياء والأولياء وسيرتهم وأقوالهم وأفعالهم، ويجعلوهم أُسوةً لهم في أعمالهم وسلوكهم. إن كلام المُوحِّدين مخالف لما يزعمه أولئك عنهم وسيأتي بيان ذلك في الصفحات القادمة.
[234] لقد بيَّنّا بُطلان هذا القول وتهافته وضعفه في الصفحات من 123 إلى 132 من الكتاب الحالي. [235] لقد اعتبر ذلك الكاتب الشاب في كتابه المذكور عقيدة المُفوضة عقيدة شركية وباطلة. ارجعوا إلى الصفحة 122 من الكتاب الحالي. [236] الشيخ جعفر السبحاني، «نيروى معنوى پيامباران»، نشر قدر، ص 26. والكلام الذي تمّ بيانه على النحو المكور أعلاه هو الخُرافة التي أُطلِق عليها اسم «الولاية التكوينية». وقد أوضحت بطلان هذه الفكرة أو العقيدة في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 141). كما ألفتُ كتابي «درسى از ولايت» (درس حول الولاية) بشكل خاص للردِّ على هذه الخرافة وإثبات بطلانها. [237] نصّ الآية الكريمة التي يشر إليه المؤلِّف: ﴿وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا ١١٤﴾[طه: ١١٤]. (الـمُتَرْجِمُ) [238] ونص الآيات: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩﴾ [القيامة: ١٦- ١٩] (الـمُتَرْجِمُ) [239] راجعوا تفسير مجمع البيان، تفسير سورة الضحى المباركة. [240] الذي يدل عليه قوله تعالى على لسانها: ﴿قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ﴾[سورة آل عمران: الآية 47. و مثله أيضاً سورة مريم: الآية 20] (الـمُتَرْجِمُ) [241] ويُشار إلى أن زكريا (ع) أيضاً تعجَّب من إمكانية ولادة امرأته العاقر فقال: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞ﴾[ال عمران: ٤٠]وقال: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا ٨﴾[مريم: ٨]؛ مما يدلُّ على أنه لم يكن هو صانع تلك المعجزة وإلا لما تساءل عن إمكانية حدوثها ولا استغرب منها! (الـمُتَرْجِمُ) [242] يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦﴾[الكهف: ٦](الـمُتَرْجِمُ). [243] لو كانت القدرة على إيجاد المعجزة قد حصلت في نفس النبيّ -حتى بإذن الله- لما كان هناك معنى للانتظار ولقام النبيّ بإيجاد معجزة بالقدرة التي اكتسبتها نفسه المطهرة من جانب الله، أو لقال: سآتي بالمعجزة عندما أرى المصلحة في ذلك ولم يقل: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي لمل جعل نفسه في زمرة المنتظرين مع مخالفيه. كما لم يكن هناك من داعٍ إلى أن يقول تعالى له: «إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ» (فَتَأَمَّل). [244] جاء في تفسير «جمع البيان» حول هذه الآية: "«قل» يا محمد لهم «إنما الآيات عند الله» ينزلها ويظهرها بحسب ما يعلم من مصالح عباده وينزل على كل نبي منها ما هو أصلح له ولأمته ولذلك لم تتفق آيات الأنبياء كلها وإنما جاء كل نبي بفن منها «وإنما أنا نذير مبين» أي منذر مخوف من معصية الله مظهر طريق الحق والباطل وقد فعل الله سبحانه ما يشهد بصدقي من المعجزات.". [245] مرتضى المطهَّري، كتاب «ولاءها و ولايتها»، أي الولاءات والولايات، نشر دار التبليغ الإسلامية، قم، القطع الصغير، ص98. [246] قال المَجْلِسِيُّ حول معجزات حضرة المسيح (ع): "وَفِي قَوْلِ أَئِمَّتِنَا (ع): إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ خَلْقَ تَقْدِيرٍ لَا خَلْقَ تَكْوِينٍ، وَخَلْقُ عِيسَى -عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ هُوَ خَلْقُ تَقْدِيرٍ أَيْضاً، وَمُكَوِّنُ الطَّيْرِ وَخَالِقُهُ فِي الْحَقِيقَةِ اللهُ عَزَّ وَجَل". (بحار الأنوار، ج 4، ص 207). وقال حضرة الإمام الرضا (ع) أيضاً: ".... لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ (أي من عليٍّ عليه السلام) الْفَقْرُ وَالْفَاقَةُ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَاتُهُ وَشَارَكَهُ فِيهَا الضُّعَفَاءُ الْمُحْتَاجُونَ لَا تَكُونُ الْمُعْجِزَاتُ فِعْلَهُ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِنَّمَا كَانَتْ فِعْلَ الْقَادِرِ الَّذِي لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ لَا فِعْلَ الْمُحْدَثِ الْمُحْتَاجِ الْمُشَارِكِ لِلضُّعَفَاءِ فِي صِفَاتِ الضَّعْف". (الاحتجاج على أهل اللجاج، أحمد بن علي الطَّبْرسي، تعليقات محمد باقر الخراسان، النجف، مطبعة النعمان، ج 2، ص 234)، وَنقله عنه المَجْلِسِيُّ أيضاً في بحار الأنوار، ج 25، ص 276. [247] كما قال حضرة إبراهيم (ع): ﴿ وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ ٨٠﴾[الشعراء: 80]. كما ابتُلي عليّ (ع) بمرض في عينيه. كما مرض الرسول الأكرم ص في آخر أيام عمره المبارك. فالكائن الذي صفاته محدودة والذي يفقد سلامة بدنه بمرض من الأمراض كيف يُمكنه أن يتقبل صفات واجب الوجود؟ راجعوا أيضاً كلام الشيخ الصدوق عن الإمام، الذي أوردناه في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 133. [248] من المفيد الرجوع هنا إلى تفسير «مجمع البيان» الآية 12 من سورة سبأ. [249] فاعل المعجزات في كلا الآيتين هو الله كما تُصرّح الآيات. ولاحظوا أيضاً مقطع الآية 79 من سورة الأنبياء الذي يقول: ﴿وَكُنَّا فَٰعِلِينَ﴾[الأنبياء: 79]، فهل يُمكن أن يكون هناك بيان أوضح من هذا؟ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا؟ [250] جاء في الأدعية المروية عن حضرة عليّ (ع) أنه كان يقول في دعائه اللهَ عزّ وجلّ: "وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي سَأَلَكَ بِهِ عَبْدُكَ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ فَأَتَيْتَهُ بِالْعَرْشِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُه ". (الصحيفة العلوية، دعاؤه في اليوم الخامس عشر من الشهر). [251] وهي قوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ ٧٣﴾[الحج: ٧٣]. (الـمُتَرْجِمُ) [252] يُستخدم هذا الحرف غالباً بمعنى النفي الأبدي، وقد جاء بهذا المعنى أيضاً في الآية 143 من سورة الأعراف. [253] لاحظوا أن عوام النصارى يدعون عيسى وأمه عندما يُواجهون مشكلات ومصاعب. [254] لا يُمكننا أن نقول: إن المقصود من عبارة «من دون الله» في الآية المذكورة أعلاه «الأصنام» لأن القرآن استخدم اسم الموصول «الذين» وضمير الجمع «الواو» وضمير «هم» بحق «من دون الله» وهي كلها حروف وضمائر خاصة بالعقلاء ذوي الشعور ولا تُستخدم بحق الجمادات. [255] ونص المُراد منها: ﴿... وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِي﴾ [المائدة: ١١٠] . [256] يقول الشيخ الطوسي، في تفسيره «التِّبْيان»، في تفسير الآية 49 من سورة آل عمران والآية 110 من سورة المائدة: "وإنما قيَّد قولَه: ﴿ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا﴾ بقيد «بِإِذْنِ اللهِ" ولم يقيد قوله: ﴿أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ﴾بذكر «إذن الله» لينبِّه بذكر الإذن أنه من فعل الله دون عيسى. وأما التصوير والنفخ، ففعله، لأنه مما يدخل تحت مقدور القدر، وليس كذلك انقلاب الجماد حيواناً فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه تعالى. وقوله: ﴿وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾على وجه المجاز إضافةً إلى نفسه، وحقيقته: ادعوا الله بإحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون بإذنه". انتهى. وقال الشيخ الطوسي أيضاً في تفسير شفاء الأكمه والأبرص: "قوله ﴿وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِي﴾: معناه إنك تدعوني حتى أبرئ الأكمه، وهو الذي خُلِق أعْمَى......... وقوله: «وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي»":أي اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى عند دعائك وأخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء. وإنما نسبه إلى عيسى لما بينا من أنه كان بدعائه.". انتهى. (التِّبْيان، الطبعة الحجرية في خط أبو القاسم خوشنويس، ص 317 و582). [257] راجعوا أيضاً كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 146-147. [258] تفسير «مجمع البيان»، ذيل الآية 28 و29 من سورة الروم. (بتقديم وتأخير وتلخيص (الـمُتَرْجِمُ)). [259] لا شك أن ممكن الوجود والمخلوق لا يُمكن أن يتَّصف بصفات واجب الوجود. «أين التراب وربُّ الأرباب»؟ [260] بشأن عدم صحة هذه الزيارة راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» (زيارة المزارات وأدعية الزيارات) ص 98 حتى 101، وص 350 حتى 356. [261] حول هذه المسألة، من المفيدة جداً بل من الضروري قراءة كتاب «زيارت و زيارتنامه» (زيارة المزارات وأدعية الزيارات) للمرحوم قلمداران. [262] من الطريف أن الشيخ عباس القمي ذاته يعترف أن هناك خلاف بشأن موضع قبر «أبو الحسن علي بن جعفر العُريضي» الذي يذهب قومنا فوجاً فوجاً إلى زيارة قبره، فقد اختلفوا هل دُفن في قم أم في قرية «العُرَيْض» التي تبعد مسافة فرسخ عن المدينة المُنورة وكان يسكن فيها هو وذرِّيته (منتهى الآمال، ج 2، ص 164). ورغم أن اسم ولد واحد من أولاد حضرة الكاظم (ع) كان «حمزة»، لكن الشيخ عباس القمي يقول بشأن «أبو القاسم حمزة بن موسى»: إن قبره في «شاه عبد العظيم» (في مدينة ريّ). ثم يقول في صفحة تالية: إن قبر المذكور "معروف في بلدة اصطخر من أعمال شيراز وهو مشهور هناك ويزوره القاصي والداني..... وفي قرية ترشيز أيضاً هناك من يعتقد أن ثمة مقبرة للإمام زاده حمزة". ثم يقول في الصفحة ذاتها: "ويوجد في مدينة قم الطيبة مزار معروف باسم شاه زاده حمزة ..... وله فناء وقبة وضريح، ويدل كلام صاحب «تاريخ قم» أن ذلك الشخص الجليل هو حمزة بن موسى (ع) ذاته". (منتهى الآمال، ج 2، ص 234 وَ235). فليت شعري! كيف يكون لإنسان واحد ثلاثة قبور في أماكن مختلفة؟! وإذا كان هذا حال قبر ابنٍ مباشرٍ لأحد الأئمَّة فما بالك بقبور الأحفاد والذريّة! للأسف إن عوام الناس لا ينتبهون إلى هذه المسائل وحيث ما وجدوا قُبَّةً وضريحاً هُرِعوا إلى زيارة صاحبه وتأمَّلوا الثواب من ذلك!! حتى أنهم يجعلون من موضع ما مزاراً لمُجرَّد رؤية شخص مناماً في ذلك، كما قال الشيخ عباس القمي: "أُقعد أحمد بن قاسم وابتُلي بمرض شديد وأصاب الجدري عينيه فأتلفهما ولما أدركته الوفاة دُفن في مقبرة قديمة في مالون..... فرأى بعض الصالحين في قم مناماً سنة 371 أن الذي يسكن في هذه التربة هو رجل فاضل جداً وأن لمن زاره ثواب عظيم وأجر جزيل، فقاموا بتجديد بناء قبره وتحديثه واستأنف الناس زيارته. وقال جماعة من الثقاة إن كثيراً ممن كانوا مُبتلين بأمراض قديمة أو كان في عضو من أعضاء جسمهم بلاء ونقص شُفوا من عللهم عندما ذهبوا إلى قبره وطلبوا الشفاء، ببركة روحه الشريفة!!!". (منتهى الآمال، ج 2، ص 165). وللأسف إن العوام لا يسألون أنفسهم كيف يُمكن للناس أن ينالوا الشفاء بواسطة من لم يستطع أن يشفي عيني نفسه؟! كما أنهم لا يتساءلون من أين عرفوا أن لزيارة قبره أجراً وثواباً عظيمين؟ ولا يتساءلون هل الأحلام والمنامات حُجَّة شرعية؟! [263] كتاب «مفاتيح النجاة» هو بالفارسية في الأدعية المأثورة، ومؤلفه هو المولى المحقق الفقيه محمد باقر السبزواري (توفي 1090 هـ. ق.) صاحب كتاب ذخيرة المعاد. (الـمُتَرْجِمُ) [264] منتهى الآمال، ج 2، ص 491 و492. أو النسخة المعرَّبة لكتاب «منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل»، للشيخ عباس القمي، تعريب الأستاذ نادر التقي، بيروت، الدار الإسلامية، 1994م-1414هـ.، باب رقعة الحاجة، ج 2، ص 652 - 653. (الـمُتَرْجِمُ) [265] قارن قول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ هذا الذي لا يعتبر إجابة المُضطرين خاصة بالله تعالى بهذه الآية من القرآن التي قال تعالى فيها: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ ...أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِ﴾ [النمل: 62]. [266] ورواها المَجْلِسِيُّ في بحار الأنوار، ج 91، ص 31. (الـمُتَرْجِمُ) [267] ورواها المَجْلِسِيُّ في بحار الأنوار، ج 88، ص 357. (الـمُتَرْجِمُ) [268] للتعرُّف على حاله راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] تأليف المرحوم الأستاذ حيدر علي قلمداران، الصفحة 167. [269] ص 522 من النسخة المُعرَّبة لمفاتيح الجنان. [270] ص 620 من النسخة المُعرَّبة لمفاتيح الجنان. [271] لماذا لا يستند إلى آية من القرآن؟! الجواب واضح وهو أنه ليس في القرآن أثر لمثل هذه العقائد. [272] قارنوا هذه الأقوال بآيات القرآن الكريم التي يقول الله تعالى فيها لنبيِّه: ﴿قُلۡ مَا كُنتُ بِدۡعٗا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡ ..﴾[الأحقاف: 9]، ويقول: ﴿قَالَتۡ لَهُمۡ رُسُلُهُمۡ إِن نَّحۡنُ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ﴾[إبراهيم: 11]. ويجب أن ننتبه إلى أن الأنبياء أيَّدوا ذلك المقطع من كلام مُخالفيهم الذين كانوا يقولون: ﴿إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا﴾[إبراهيم: 10]. (فَتَأَمَّل) وقال الله تعالى في القرآن للنبيّ الأكرم (ع) أيضاً: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ﴾[الكهف: 110، وفصلت: 6]. [273] روح الله الموسوي الخميني، ولاية الفقيه، انتشارات أمير كبير، بالتعاون مع معرض الكتاب في قم، ص 67 و68. [274] يوافق سنة 1965 ميلادية. (الـمُتَرْجِمُ) [275] روح الله الموسوي الخميني، كشف الأسرار، نشر ظفر، ص 40. [276] يشهد الله أنني أشك أن يكون حبّه للنبيّ الأكرم ص بمقدار حبّي له.
من الآيات الأخرى التي يستغلَّها الخرافيون ويُسيئون تفسيرها الآية 154 من سورة البقرة والآية 149 من سورة آل عمران، ويقولون: إن الأنبياء والصالحين والشهداء أحياء عند ربِّهم يُرزقون فكيف تقولون إنهملا يسمعون نداءنا؟! ثم يُصوِّرون أن المُوحّدين يعتبرون أن الأنبياء والشهداء هلكوا وبادوا بعد موتهم وأصبحوا جمادات لا شعور لها!! في حين أنهم يكذبون في ذلك! إذ الواقع أننا نقول إن الأنبياء والشهداء وسائر الصالحين ليسوا أحياءً في هذه الدنيا الفانية، وقد تخلَّوا عن ذلك القالب الدنيوي وانتقلوا إلى عالَم البقاء وهم أحياء في عالَم رحمة الحق تعالى الذي يُعبِّر القرآن عنه بعبارة: ﴿عِندَ رَبِّهِم﴾وهم هناك أحياء يُرزقون في ذلك العالَم، كما قال تعالى: ﴿لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡ﴾[الانعام: ١٢٧]. لذلك فإنهم عندما يَرِدُون إلى عالَم آخر يتمتعون بحياة أخروية متناسبة معه وتنقطع صلتهم بهذه الدنيا كما انقطعت صلتهم عن قالبهم (جسمهم) الدنيوي. أضف إلى ذلك أن حياة الأنبياء والشهداء والأولياء لا تستلزم علمهم بما في ضمائر الناس ولا تستلزم حضورهم في كل مكان وزمان وذلك لأنهم لما كانوا في الدنيا لم يكونوا عالمين بكل شيء ولا حاضرين في كل مكان[277]. (فَتَأَمَّل).
وقد بيَّن القرآن الكريم أنهم فرحون بما آتاهم الله من رزق في ذلك العالَم [سورة آل عمران: 17]، في حين أنهم لو كانوا في الدنيا وكانوا مُطَّلعين على ما يجري فيها من الظلم والمآسي التي يُعاني منها أتباعهم لتبدَّل فرحهم إلى حزن وغمٍّ.
وقال الله تعالى أن حضرة عيسى (ع) سيُجيب يوم القيامة عن السؤال الإلهي بما يلي: ﴿وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧﴾[المائدة: ١١٧].
بناءً على ذلك، وبتصريح القرآن، يذهب الأنبياء بعد وفاتهم إلى عالَم البقاء وتنقطع صلتهم عن دنيانا فلا يبقى لهم علم بها، كما حصل للنبيّ الذي أخبرنا القرآن بأن الله توفَّاه ثم بعثه بعد مئة عام فكان ذلك النبيّ عندما بُعث جاهلاً بما جرى في الدنيا خلال فترة وفاته وجاهلاً بمُدّة موته. [سورة البقرة: 259].
بناءً على ذلك فقد تبيَّن أن قول المُطَهَّرِيّ: "فإن التفرقة والتفكيك بين الميت والحيّ على نحو يُعتَقَدُ فيه أن الأموات ليسوا أحياء حتى في العالَم الآخر وأن شخصية الإنسان كلها هي بدنه الذي يظهر بشكل جماد، تفكير ماديٌّ ومُناقضٌ للتفكير الإلهيّ" كذبٌ افُتري على المُوحِّدين[278]، وإلا فلا يوجد مُوحّد في الدنيا يقول: إن الأنبياء والشهداء ليسوا أحياءً حتى في عالَمٍ آخر، بل يقول الموحِّدون: إن الأنبياء والشهداء، بعد رحيلهم عن الدنيا، لا تبقَى لهم صلةٌ بها، وإن علمهم وإدراكهم ليسا مطلقين بل محدودان بعالَم البقاء ولا يشملا عالَم الفناء (فَتَأَمَّل).
[277] راجعوا كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات 130 إلى 134. [278] كرَّر الكاتب الشاب في كتابه هذا الافتراء ذاته أيضاً فقال: "لما كان الوهَّابيُّون لا يعتقدون بتجرّد الروح وبقائها بعد الموت، تصوَّروا أن أرواح الأنبياء والأولياء والصالحين أيضاً تهلك مع هلاك بدنهم وتنعدم بموتهم وَمِنْ ثَمَّ اعتقدوا أن طلب الآثار والخواص والقيام بعمل ما من كائن لم يعد له وجود أمر مخالف للعقل!". (نقد و تحليلي پيرامون وهّابيگري) (نقد وتحليل حول الوهَّابيَّة، ص 208). ولكن هذا الادِّعاء -كما لاحظنا- كاذبٌ ولا يوجد مسلمٌ يقول إن الروح تنعدم، بل يقول المُوحِّدون: إن الروح تنتقل إلى عالَم آخر وتنقطع صلتها عن الدنيا الفانية، ونحن لا نستطيع أن نتصل بها ونُسمعها أصواتنا. راجعوا ما قلناه في الكتاب الحالي (ص 116 فما بعد) في توضيح الآية 52 من سورة الروم والآيتين 22 و23 من سورة فاطر. إضافةً إلى ذلك يتضح أن ما قاله من أن: "الروح ..... لا تموت أبداً ولا تتلاشى بموت البدن بل تزدهر وتُصبح أقوى وأكثر علماً بعد تحرُّرها من قالب البدن وقفص الجسم" (الكتاب السابق ذاته ص 209). هو كلام زائد ولا داعي له لأن بقاء الروح لا خلاف عليه بين المؤمنين بالأديان الإلهية. ثانياً: لأن ما قاله يصدق على أرواح الصالحين ولكن بالنسبة إلى أرواح غير الصالحين لا بُدَّ أن نقول: إن أرواحهم لا تزول بالموت ولكنها لا تزدهر ولا تقوى بعد الموت بل تذبل وتغتمُّ وتضيق. ثالثاً: النقطة الأهم بشأن أرواح الصالحين أن علينا أن ننتبه إلى أن ازدهارها وزيادة قدرتها وعلمها بعد تحرُّرها من قفص البدن ليس ازدهاراً وقدرةً وعلماً غير محدود، بل تبقى ضمن العالَم الآخر ولا تشمل سعتها وعلمها العالَم الفاني الذي تحرَّرت منه بل ازدهار أرواح أولئك الأجلاء الكرام وعروجها ومعرفتها تكون في عالَم البقاء وعالَم البرزخ وعند رحمة الربِّ ودار السلام و ..... . وعلى أيِّ حال لا يُمكننا أن نستنتج من هذا الكلام أننا نستطيع أن نتصل بتلك الأرواح ولا أن نُسْمِعَهَا كلامَنَا. (فَتَأَمَّل). ولا تفيد أدلة الفلسفة الإسلامية أيضاً وفلسفة المُلَّا صدرا (يعني الفيلسوف صدر الدين الشيرازي) التي يفتخر بها هذا الشاب كثيراً -ومباحث النفس فيها صعبة وقويَّة ومن الواضح أنه مرعوب منها - أن الروح تصبح مطلقة غير مُقَيَّدة بأيّ حدود بعد مفارقتها القالب الجسمي المادي! (فَتَأَمَّل).
من الآيات الأخرى التي يُسيء الخرافيون الاستفادة منها بهدف خداع العامة: الآية 17 من سورة الأنفال المباركة والتي ينقلونها بشكل ناقص دائماً[279]. فمثلاً هذا الشاب الخرافي ذاته كتب مُتأسِّياً بمشايخه يقول:
"يقول القرآن: ﴿وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾[الانفال: ١٧]. فكما نلاحظ، تُثبت جملة: «إِذْ رَمَيْتَ» الرمي لرسول الله ص، في حين تنفي جملة: «مَا رَمَيْتَ» الرمي عن حضرته. وجملة: ﴿ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ تُثبت ذلك الرمي عينه لِـلَّهِ. أي أنه في الوقت ذاته الذي تُثبت الآية فيه الفعل للإنسان تنفي عنه الاستقلال فيه وتُبيِّن أن الله تعالى هو الفاعل «المستقل وبالذات» لذلك الفعل عينه"!![280].
لقد تكلَّم هذا الشاب كلاماً يدل على عدم خبرته وقلّة حذاقته وذكر الآية مُبتدئةً بواو العطف التي تدلُّ على أن الآيةَ معطوفةٌ على الآية التي قبلها. لذا سنأتي بالآية المقصودة ثم نُوضِّح الأمر بشأنها: ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١٧ ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٨﴾[الانفال: ١٧، ١٨].
أولاً: لا خلاف بين المسلمين في أن سورة الأنفال، ومن جملتها هاتين الآيتين، نزلت في غزوة بدر، وتتعلَّق تماماً بوقائع تلك الغزوة. كما لا خلاف أنه قد حدثت معجزات في تلك الغزوة ومنها أن النبيّ قبض حفنة من التراب بيده ورمى بها في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» فهبّت عاصفة رملية في تلك اللحظة ورمت بالحصى والرمل والتراب في أعين جميع المشركين فاستفاد أصحاب النبيّ ص من هذه الفرصة وحملوا حملةً واحدةً عليهم فقتلوا فريقاً منهم وأسروا فريقاً آخر[281]. لهذا السبب قال تعالى في الآية 18: ﴿ذَٰلِكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيۡدِ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٨﴾[الانفال: ١٨]أي أن الله هو الذي أضْعَفَ الكافرين ونصركم عليهم.
ثانياً: كانت العاصفة الرملية معجزة إلهية، وقد أثبتنا سابقاً (ص 136 فما بعد) أن المعجزة من صُنع الله وأن الأنبياء لا دخل لهم في ظهورها، وما قلناه حول معجزات الأنبياء، ومن جملتها معجزات حضرة المسيح (ع)، يصدق في هذا المورد وينطبق عليه. أي أنه كما أن صُنع تمثال الطير الطيني كان من عمل عيسى (ع) الذي قام به بالإذن الإلهي العام في حين أن تحوّل التمثال إلى طير حقيقي كان فعل الله المباشر الذي تحقق تأييداً لنبوة المسيح، كذلك كان رمي قبضة التراب في غزوة بدر من عمل رسول الله ص الذي تمَّ بالإذن الإلهي العام، في حين أن هبوب العاصفة الرملية وإدخالها الرمل في أعين جميع المشركين كان فعل الله المُتعال تأييداً للنبيّ وإمداداً له[282].
ثالثاً: إن مفعول فعل «رَمَى» محذوف، فبأيِّ دليل تقول: إن القرآن نسب لِـلَّهِ «الرمي» عينه الذي نفاه عن النبيّ؟! (والبيِّنة على المُدَّعي). إنك لم تُقدِّم لنا سوى الادِّعاء!! ونحن نقول بالنظر إلى كون سورة الأنفال مُبَيِّنة لمسائل غزوة بدر فهي مرتبطة تماماً بحوادث تلك الغزوة، وقد حدَّدت للمؤمنين وأوضحت لهم المسائل التي تمَّت الإشارة إليها في تلك الغزوة بشكل كامل، وكان المؤمنون مُطَّلعون على وقائع غزوة بدر بشكل مباشر (كانوا شهود عيان لها) لذلك لم تكن هناك حاجة لذكر المفعول به لفعل «رَمَى» لشدّة وضوحه، وبالطبع كل من كان مُطَّلعاً على تاريخ غزوة بدر وحوادثها يفهم أن المفعول به لفعل «رَمَيْتَ» هو «التراب الذي نثره النبيّ في وجوه المشركين»، والمفعول به لفعل «مَا رَمَيْتَ» ولفعل «رَمَى» هو «عاصفة الحصى والرمل».
ودليلنا الآخر على أن عاصفة الرمل المذكورة كانت عمل الله المباشر هو أن الله نسب إلى نفسه فقط تأييد المؤمنين ونُصرتهم في غزوة بدر حين قال: ﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةٞۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٢٣﴾[ال عمران: ١٢٣]. وقال بشأن غزوة الخندق: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩﴾[الاحزاب : ٩].
لاحظوا أن الله تعالى قد نسب هبوب الريح وإرسال الجنود غير المرئيين في هذه الآية إلى ذاته، فلا يُمكنكم أن تدَّعوا أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص كان له دخل في ذلك ولو على نحو غير مستقل عن الله. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا كان إيجاد الريح أو العاصفة في غزوة الخندق عملَ الله المباشر ولكنه لم يكن كذلك في غزوة بدر؟!!
رابعاً: صدر الآية الكريمة [أي قوله تعالى: ﴿فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡ﴾] أثبت الأمر ذاته لأصحاب النبيّ والمؤمنين، وأنتم تتفقون معنا بأن الصحابة لم يكونوا يتمتَّعون بولاية تكوينية، والجملة التي تستشهدون بها [أي جملة: (وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ]] معطوفةٌ على جملة (فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡ] أي أن الآية نفت -حسب قولكم- عن أصحاب النبيّ الفعل الذي نسبته في البداية لهم، وحتى أنها ذكرت مفعول الفعل؟ فهل يُمكن القول في هذا المورد أن الآية كانت ترمي إلى نفي الاستقلال عن المؤمنين؟! وهل كان هناك أحد يدَّعي أن أصحاب النبيّ مستقلون بالذات في أفعالهم عن الله حتى نزلت هذه الآية لتنفي مثل هذه العقيدة؟! كل ما تقولونه بشأن هذه الجملة ينطبق أيضاً على الجملة المعطوفة عليها.
ذكر علماء السيرة والتفسير والتاريخ أنه إضافةً إلى أن المسلمين كانوا يوم بدر أقلَّ عُدّةً وعدداً بمقدار كبيرٍ من المشركين، أن المشركين وصلوا إلى بئر بدر قبل المسلمين واستولوا على الماء فاضطر المسلمون إلى النزول في هضبة ذات حصى وكان السير فيها صعباً بسبب رخاوة الرمل وكانت حوافر المواشي تنغرس فيها فَعَسُرَ السير عليهم، كما أنهم عانوا من العطش بسبب قلّة الماء، وكان بعضهم أيضاً بحاجة إلى الغسل والاغتسال، فأثَّرت هذه الظروف غير المتكافئة تأثيراً سيئاً على معنويات المسلمين. في هذه الأوضاع العصيبة غلب على المسلمين النعاس في الليل فكان ذلك سبباً في طمأنينتهم وراحة نفوسهم وفي الوقت ذاته لم يكن نومهم ثقيلاً جداً على نحو يجعلهم غافلين عن العدو الغادر فيُبيّتهم في الليل، كما أنزل الله مطراً فجعل الأرض صلبةً تحت أقدام المسلمين وأزال عنهم العطش وطهَّرهم ورفع من معنوياتهم، كما قذف الله في قلوب عدوِّهم الرعب وأمر الملائكة بأن يُثبِّتوا قلوب المؤمنين. وعندما وقعت المواجهة بعد أن رمى النبيُّ بقبضةٍ من التراب نحو وجوه المشركين، أثار الله عاصفةً في وجوه المشركين ملأت أعينهم وأنوفهم بالرمل[283].
استناداً إلى الأمور التي ذُكرت أعلاه يقول القرآن لا تظنوا أنكم انتصرتم على العدو وقتلتموه بقدرتكم وسعيكم الناشئان من الإذن الإلهي العام -الذي يتمتع به المؤمن والكافر- بل نصركم هذا نتيجة للمدد والإعجاز الإلهيين. بناءً على ذلك فإن القرآن لم ينفِ عن المؤمنين ولا عن النبيّ ذلك القتل أو الرمي اللذان نسبهما إليهم ولم يسلبهما عنهم وينسبهما لِـلَّهِ بل قال: إن هذا النصر قبل أن يكون ناتجاً عن عملكم وسعيكم هو نتيجة للمدد والإعجاز الإلهيين اللذين تحقَّقا لتأييد نهضة النبيّ كي تعلموا أن الله مُؤيّد لنبيّه وناصر له.
ولما كان ذلك الكاتب الشاب مُعجباً بعلماء قم ومفتوناً بهم نقل جملاً من تفسير «الميزان» فقال:
"فإنها [أي الآيات 16 إلى 18 من سورة الأنفال] تَعُدُّ مِنَنَ الله عليهم من إنزال الملائكة وإمدادهم بهم وتغشية النعاس إياهم وإمطار السماء عليهم وما أوحي إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: "فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ"[284].
بناءً على ذلك يتضح أن إسناد الفعل إلى المؤمنين أو إلى النَّبِيّ الأَكْرَم ص كان باعتبار ظاهر الأمور، ونفي الفعل وسلبه عنهم وإسناده إلى الله تعالى باعتبار الأمر الواقعي وحقيقة ما جرى، ولا علاقة لذلك باستقلال أشخاص سوى الله عن الله أو عدم استقلالهم عن الله.
[279] وهذا العمل يدل على أنهم لا يبحثون عن الحقيقة وأنهم اتَّخذوا قرارهم من قبل وأصدروا حكمهم قبل دراسة الآية. [280] «نقد و تحليلى پيرامون وهّابيگرى» (نقد وتحليل حول الوهَّابيَّة)، مركز الطباعة والنشر التابع لمنظمة التبليغ الإسلامية، ص 163. [281] نقل هذه الواقعة علماء السيرة مثل ابن هشام، ونقلها المُفسِّرون كما نقلتها أيضاً كتب أسباب النزول. [282] بالنسبة إلى موضوع السبب في نسبة القرآن بعضَ المعجزات أحياناً إلى غير الله، كقوله مثلاً على لسان عيسى (ع): ﴿وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ ...﴾[ال عمران: ٤٩] راجعوا كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 146-147، والكتاب الحالي ص 144 فما بعد. [283] لم تتفق آراء العلماء حول مشاركة الملائكة المباشرة في غزوة بدر، فقد ذهب بعضهم إلى أن مشاركة الملائكة لم تكن أكثر من تثبيت قلوب المؤمنين! وإذْ لم أرغب في التكلم وحدي دون الإتيان بكلام الخصم، لم أتكلم عن مشاركة الملائكة المباشرة، لكن رأيي الشخصي يتفق مع رأي ذلك الفريق من العلماء الذي يرى أن الملائكة تدخلوا بشكل مباشر في المعركة، وذلك استناداً إلى أخبار عديدة وردت في هذا الشأن في الكتب الموثوقة (راجعوا كتاب خيانت در گزارش تاريخ [أي الخيانة في رواية التاريخ]، انتشارات چاپخش، الطبعة الأولى، الجزء الأول، ص 200 إلى 203). ولو تأملنا القرآن للاحظنا أن الآية 12 من سورة الأنفال جاءت متابعةً للآيات التي كانت تُعدِّد أنواع المدد الإلهي الذي منَّ الله به على المجاهدين يوم بدر، وأهمُّ نقطة هنا هي أن الأمرين الإلـهيين الصادرين في نهاية الآية 12 [أي قوله تعالى: ﴿ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ﴾] كانا ذا خصوصية خاصة لا تتناسب مع المؤمنين لأن إنجاز الأمر الثاني لم يكن في وُسع المؤمنين أبداً وقد قال الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾[البقرة: 286]، إذْ من الواضح تماماً أن المطلوب من المؤمنين كان مواجهة العدو المهاجم وقتاله وقتل أفراده على أكثر تقدير، لا فرق في ذلك بين أن يضرب المجاهد صدر العدو بسيفه أو كتف العدو أو بطنه أو يرميه بسهم بقوسه، فهذا يُحقِّق المطلوب، ومن ناحية المبدأ فإن ظروف المعركة سريعة التغيُّر إلى حدّ لا يُمكن أن يتم من قبل تحديد عضو العدو الذي على المجاهدين أن يستهدفوه بسيوفهم، ومن ناحية المبدأ أيضاً نادراً ما يحصل أن يقطع الإنسان بنان (أي رؤوس أصابع) عدوِّه الذي يستخدمه العدو عادةً للإمساك بسلاحه ويُحرِّكه في كل اتِّجاه بشكل دائم، إلا إذا كان المُخاطَب بمثل هذا الطلب يتمتع بقدرة فوق بشرية. (فَتَأَمَّل) علاوةً على ذلك فإن الآية رقم 14 تُخاطب الكفار والآية رقم 15 تُخاطب المؤمنين مبتدئة بعبارة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وليس ثمَّة أيُّ قرينة قبل ذلك تدلُّ على أن المُخاطَبين هم المؤمنون. بناءً على ذلك لا يُمكننا أن نقول دون دليل قوي وصحيح أن الآية 12 التي أولها خطابٌ للملائكة بلا أيّ شُبهة، ذيلُها خطابٌ للمؤمنين! ولذلك فالذين يعتبرون أن الأمرين الصادرين في الجزء الأخير من الآية 12 مُوجَّهان للمؤمنين يقولون كلاماً مخالفاً لظاهر الآية. أضف إلى ذلك أنه لو انحصر عمل الملائكة بتثبيت المؤمنين لما كان هناك من ضرورة لذكر عدد الملائكة (سورة آل عمران: 124، والأنفال: 9) ولا لذكر صفتهم بأنهم «مُسَوِّمِينَ» [آل عمران: 125]. (فَتَأَمَّل). فهذا دليل آخر أيضاً يثبت مشاركة الملائكة المباشرة في المعركة، في حين أنه في معركة الأحزاب لم يُذكر عدد الملائكة لأنهم لم يُشاركوا بشكل مباشر في تلك المعركة. بناءً على ذلك فإن معنى الآية 17 من سورة الأنفال واضح جداً ولا حاجة إلى تلفيقات العُرفاء والصوفية لأن الآية الكريمة تقول: لا تعتبروا هذا النصر ناتجاً عن جهادكم وسعيكم وحسب بل هذا النصر غير العادي كان نتيجةً للمدد الإلهي المباشر وتدخل القوى الغيبية التي أرسلها الله لمساعدتكم. [284] يُمكنكم أيضاً أن تُراجعوا في هذا الصدد سائر كتب التفسير مثل تفسير «مجمع البيان» أو «تفسير نمونه».
40يسأل هذا الكاتب الشاب قائلاً:
"أليس الاستمداد من الأرواح في حال حياتها، كالاستمداد من النبيّ أثناء حياته الدنيوية أو الإمام أثناء حياته شركاً؟! أليس الاستمداد من العالم والطبيب والمُتخصِّص والمزارع والصانع شركاً؟ إن كان شركاً فلماذا تطلبون المدد والعون منهم؟ كفُّوا عن طلب المدد والعون في عالَم الطبيعة وفي الحياة الدنيا من أيّ شخص، وبالنتيجة موتوا بعد لحظات جميعاً وعودوا إلى ديار العَدم وموطنكم الأصلي!
وإن لم يكن ذلك الاستمداد شركاً فما الفرق بين الاستمداد من النبيّ أثناء حياته والاستمداد من روحه بعد وفاته؟! ما الفرق بين الاستمداد من الطبيب الجرّاح وطلب العون منه لإجراء عمليّة الزائدة الدوديّة والاستمداد من جبريل؟![285]
يقولون: هذه الأمور ليست شركاً وتلك شرك لأن أرواحهم غير مرئية ولا تظهر لنا، والخلاصة الاستمداد من الأسباب الطبيعية والمادية ليس شركاً ولكن الاستمداد من الأمور المعنوية والروحانية شرك، الاستمداد من المادة الكثيفة ليس شركاً، ولكن الاستمداد من النفوس العلية المُجرَّدة القدسية شركٌ!"[286].
41من الواضح تماماً من الجمل المذكورة أن هذا الكاتب الشاب لم يُدرك عقيدة المُوحِّدين أو أنه تجاهلها كي يستطيع أن يُخمد نار عصبيَّته وغضبه، وإلا فإن كلام المُوحِّدين وقولهم واضح جداً. إنهم -خلافاً لادِّعاء هذا الشاب- لا يقولون إن الاستمداد من الحيّ ليس شركاً والاستمداد من الميّت شركٌ، بل يقولون: إن الأصل في الموضوع الذي نحن فيه هو «طريقة الدعاء والاستمداد» وليس حياة المدعوِّ أو موته، بناءً على ذلك لو أننا دعونا شخصاً حيّاً على نحو غير مشروط وغير مُقيّد ويستلزم فرض صفات إلهية له نكون قد ارتكبنا الشرك قطعاً ويقيناً[287]. (فاسمع دون العصبية).
إضافةً إلى ذلك يقول المُوحِّدون: إن دعاء الميت ليس معقولاً وليس هناك ما يُبرِّر دعاء روح لا نملك القدرة على الاتِّصال بها لأننا بذلك نكون قد تركنا الله القريب المُجيب الرحيم والسميع البصير ودعونا روحاً لا نملك وسيلة الوصول إليها، ولهذا السبب يقول المُوحِّدون: إنه لا يجوز دعاء الأموات -ولو كانوا من الأنبياء والأولياء- والاستمداد منهم وذلك لأنهم في زمن حياتهم لم يكونوا أشخاصاً غير مُتحيِّزين في مكان ولا كانوا عالمين بما يجري في كل مكان ولا سميعين لكل الأصوات. وهم خلافاً للذات الإلهية الحاضرة الناظرة في كل مكان والبصيرة والسميعة بدون آلة والتي تختصُّ وحدها بهذه الصفة[288]، يُبصرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويفقدون حواسَّهم وأعينهم وآذانهم بالموت، والأهمُّ من ذلك أنهم ينتقلون إلى عالَم آخر ولا تبقى لهم صلة بعالَمنا. في هذه الحالة لو دعوناهم -كما قلنا في هذا الكتاب ص 103و 106- فإننا نكون قد افترضنا -شئنا أم أبينا- صفات إلهية لهم.
من المفيد هنا أن أنقل بعض المطالب من الكتاب القيّم «أرمغان يزد» [أي هدية مدينة يزد] تأليف أخينا الفاضل جناب السيد «جلال جلالي قوچاني»[289]:
"لقد خلق الله تعالى وسائل وأسباباً طبيعية لتسيير حياة المجتمعات البشرية، وأمر الناس إما من خلال الإلهام والفطرة أو من خلال ما أنزله من شرائع، أن يستفيدوا من تلك الأسباب والوسائل عندما يحتاجون إليها وكلَّفهم أن يسعوا إلى تلبية طلباتهم وقضاء حاجاتهم من خلال طريقة مُعيَّنة ووسيلة محدّدة خاصَّةٍ بكل حاجة (أي بصورة مُقيّدة ومشروطة). كما قال تعالى: ﴿وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَا﴾[البقرة: ١٨٩]. كناية عن أنه يجب الدخول في كل عمل من بابه. وقال رسول الله ص: «أبى الله أن تجري الأمور إلا بأسبابها».
بناءً على ذلك إذا مرض شخص فعليه أن يستفيد من تعليمات الطبيب ويأخذ ما يصفه له من دواء، كي تتحسَّن صحته بالإذن الإلهي العام. والذي يعطش عليه أن يشرب الماء والذي يجوع عليه أن يتناول الطعام والذي يريد الحصول على الحصاد عليه أن يبذر البذور في الأرض والذي يريد العزَّة عليه أن يكون قنوعاً والذي يطلب العلم الحقيقي عليه أن يُروِّض نفسه ويدرس ويتعلَّم وأن يحصل على رزقه من الطريق الحلال ومئات من أمثال هذه الأمور.
ويجب على المسلمين أن يُساعدوا بعضهم بعضاً في المصائب والمُلمَّات وأن يُعين بعضهم بعضاً عند الضرورة. في مثل هذه الموارد لا مانع من الاستفادة من الأسباب الطبيعية ومن الاستعانة بالأشخاص العاديين وهذا الاستمداد وهذه الاستعانة ليست شركاً وليس هذا فحسب بل هي واجب وفريضة دينية، فمثلاً إذا هجم حيوان مفترس على إنسان أو وقع سقف منزل فوق رأس إنسان أو وقع إنسان في وسط حفرة أو بئر وكان هناك على مسافة قريبة منه أشخاصاً غافلين عما حلّ به من مُصاب فيجب على الإنسان المُبتلى بحكم الشرع والعقل أن يستغيث بمن حوله ويطلب العون والمدد منهم كما يجب عليهم أن يغيثوه ويهبّوا إلى نجدته ويُعينوه على الخلاص مما فيه.
أحياناً لا تكون الاستعانة والاستغاثة ضرورية جداً فعندئذ لا تكون واجبةً وإن لم يكن في الاستعانة والاستغاثة في مثل هذه الحالة أيضاً أيُّ مذمَّة أو حرج. قال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): "مَنْ شَكَا الْحَاجَةَ إِلَى مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا شَكَاهَا إِلَى اللهِ وَمَنْ شَكَاهَا إِلَى كَافِرٍ فَكَأَنَّمَا شَكَا الله". (نهج البلاغة، قسم الكلمات القصار، رقم 467).
لا تُعتبر الاستعانة وطلب المدد من الأشخاص والتوسُّل بالأشياء لتحقيق المطلوب في الحالات التي يستعين فيها الإنسان بعوامل ظاهرية وطبيعية وعادية يُمكنه الوصول إليها، حراماً ولا شركاً، ولا علاقة لذلك بمضمون قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾. بناءً على ذلك فما يقوله بعض الأشخاص الجاهلين أو المُتجاهلين في نقدهم لنا بأنه لو استعنَّا بالطبيب أو توقَّعنا من الدواء شفاء المريض أو نادينا ابننا أو أخينا أو جارنا المؤمن وطلبنا منه العون نكون قد أشركنا لأننا استعنَّا بغير الله، أو ما قاله المؤلف المحترم لكتاب «تفسير آية الكرسي»[290] مُنتقداً لنا بأنه لو وقع رجل في بئر أو سقط سقف المنزل على رأسه فمن الواجب عليه أن يستغيث بالناس ويطلب العون منهم، ولو بقي ساكتاً تحت الأنقاض أو في وسط البئر لكان مسؤولاً عن هلاك نفسه وآثماً لذلك؟ ليس له أيّ علاقة بموضوع نقاشنا، لأننا نحن أيضاً نقول: إنه يجب على الإنسان في كل تلك الحالات التي ذكروها أن يستعين بمن حوله وأن يطلب من الطبيب والدواء الشفاء وهذه الأعمال ليست شركاً بل هي واجبة على المسلم ولا تتنافى مع مضمون قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾، وذلك لأننا لا نستعين بأولئك الأشخاص على نحو غير مُقيّد بشروط عالَم الطبيعة التي قرَّرها الله، بل لا نحتمل أصلاً أن يكون أولئك الذين نستعين بهم قادرين على فعل أمور فوق طبيعية وغير محدودة بحدود عالَم الطبيعة، والاستعانة بغير الله والاستغاثة به إنما تكون شركاً عندما تنقطع الأسباب ولا يكون في مقدور الإنسان الاستفادة من العوامل الظاهرية والأسباب الطبيعية التي جعلها الله تحت تصرُّف جميع البشر، أي عندما يُصبح الإنسان مضطرا[291]، كالذي يعطش وهو في بادية قفر أو في صحراء لوط، أو يمرض ولا تغْنِي عنه مراجعة الأطبَّاء، وكالذي انقطعت به السبُل ولم يُسعفه أيّ شيء من العوامل الطبيعية فلجأ إلى عالَم ما فوق الطبيعة أو عالَم الغيب، هنا يجب عليه أن يدعو الله وحده فقط وأن يستعين به وحده فقط، لا عندما يسقط في بئر ويكون حوله مئة شخص من معارفه وجيرانه يُمكنهم أن يهبّوا لإنقاذه، فكل إنسان يعلم أنه في الحالة الأخيرة يجب على الإنسان أن يصرخ ويستغيث كي يُخبر جميع من حوله ليأتوا لإنقاذه لأنه عندما تكون الأسباب الطبيعية الموهوبة من الله مُتاحة فإن الاستعانة بها أو توقع عونها لا يستلزم إضفاء أيّ صفات مطلقة على تلك الوسائط والأسباب المذكورة -والمقصود بالصفات المطلقة الصفات الخاصة بالحق تعالى-. أما لو فُقدت الأسباب الطبيعية أو كانت خارج متناول اليد ومع ذلك طلبنا المدد منها أو توقعنا عونها لنا نكون بذلك -علمنا أو لم نعلم وشئنا أم أبينا- قد أضفينا على تلك الوسائط واعتقدنا فيها امتلاك صفات مختصة بالله تعالى ومنحصرة به، أيّ أننا في الحقيقة نكون قد اعتبرنا تلك الوسائط معيناً بلا شرط ولا قيد تماماً كما نعتبر إعانة الحق تعالى لنا غير مشروطة ولا مُقيّدة بأيّ قيد من قيود قوانين الطبيعة. فمثلاً لو سقط سقف بيت على رأس صاحبه في مدينة مشهد فصرخ أهل البيت مُستنجدين بمن حولهم ممن يسكن على مسافة يُمكن لصوت الإنسان عادة أن يصلها فليس في عملهم هذا أيُّ علاقة بالشرك بل عملهم عمل مشروع تماماً لأن استمدادهم عمل عادي طبيعي وبعبارة أخرى هو استمداد محدود بقوانين عالَم الطبيعة ومُقيَّد بها، أما لو استعان أولئك الأشخاص ذاتهم بأبناء عماتهم وأحفاد أعمامهم الساكنين في «نيشابور»، كان ذلك شركاً قطعاً، أو لو استعانوا بالأفراد الموجودين حول منزلهم أنفسهم بمُناداتهم بصوت خافت لا يُمكن في الحالة الطبيعية أن يسمعه الموجودون في جوار ذلك البيت، أو لو توقع المصابون أن يتمكن الموجودون خارج المنزل المنهار من مساعدتهم دون أن يستفيدوا من أيِّ وسيلة كالمجارف والرافعات وغيرها ويُنقذوهم، يكونوا قد أشركوا قطعاً لأن هذا الأمر بحدِّ ذاته -أرادوا أو لم يُريدوا- اعترافٌ عمليٌّ بأن ما يقومون به ليس لغواً ولا باطلاً وأن أولئك الناس عندهم قدرةٌ على سماع صوتهم ولو كان خافتاً والقدرة على إمدادهم على نحو خارج عن قوانين الطبيعة أي أنهم يتوقعون أن يكون سمعهم غير مُقيَّد بفاصلة مكانية معيَّنة أو حدٍّ خاصٍّ من حدود قوة السمع، وأن مساعدتهم لا تستلزم الاستفادة من الوسائل الطبيعية! أو لو استعان مريض بطبيب يقف إلى جواره وطلب منه المداواة والشفاء لم يكن عمله هذه متعارضاً مع كونه إنساناً مُوحِّداً. أما لو استعان مريض في «طهران» بطبيب مقيم في «كرج» دون أن يتصل به هاتفياً أو لاسلكياً وتوقع أن يستطيع ذلك الشخص شفاءه دون معاينة ولا استخدام للطرق الطبية المعروفة يكون قد انحرف قطعاً عن صراط التوحيد المستقيم لأن إمداد جميع الموجودات -غير الله- في عالَم الطبيعة أو عالَم الشهادة، أو نفعهم أو ضرّهم، محدود ومُقيَّد بشروط عديدة.
والخلاصة أن الاستعانة بحدِّ ذاتها وتأمّل العون أو خوف الضرر من كائن ما ليس ملاكاً للشرك والتوحيد. بل الاستعانة والتأمّل من غير الله على نحو فوق طبيعي -وهو ما نُعبِّر عنه بعالَم الغيب- والاستعانة والأمل غير المُقيَّدين بأيّ شرط من شروط العالَم المادي (أي كيفية الدعاء والنداء والاستعانة والاستغاثة) هي ملاك الشرك والتوحيد، حتى لو تمَّت تلك الاستعانة والاستغاثة من غير الله أي من الملائكة أو الأنبياء العظام أو الأئمة وأولياء الله، لأن المعين غير المُقيَّد وغير المشروط هو صفة مختصة بالحق تبارك وتعالى وحده لا غير[292].
كتب هذا الأخ الكريم يقول: إن تأمّل آية ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ يُعطينا ثلاثة مفاهيم:
الأول: هو مفهوم «المُستعين» أي الأشخاص الذين يطلبون العون، وهم عباد الله الذين يستعينون به.
الثاني: مفهوم «المستعان به» أي الشخص الذي يتمُّ طلب العون منه وهو الله المُخاطَب بكلمة «إِيَّاكَ».
الثالث: مفهوم «وسيلة الاستعانة» أي العمل الذي يتمُّ القيام به ومن خلاله يُطلب العون من الله وذلك كالصلاة والصيام والجهاد والدعاء والصبر. فمثلاً في هذه الآية ذاتها من سورة الفاتحة «وسيلة الاستعانة» هي الصلاة ذاتها ودعاؤنا فيها وقولنا: ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦﴾[الفاتحة: ٥، ٦]. و «المُستعان بهِ» هناالذي هو الله المُخاطَب بكلمة «إِيَّاكَ». ولما كان «المُستعان بهِ» هنا في موقع «المفعول به» وقُدِّم على الفعل والفاعل أي كلمة «نَسْتَعِينُ»، أفاد ذلك من الناحية اللغوية البيانية معنى الحصر والقصر، وانطلاقاً من تقدّم المفعول به على الفعل والفاعل الذي يُفيد الحصر، واستناداً إلى أن الاستعانة جاءت بعد إعلان انحصار العبادة بعبادة الله تعالى وحده «إِيَّاكَ نَعْبُدُ »، وكان ذكر الاستعانة هنا -كما قلنا- من باب ذكر الخاص بعد العام لذلك نستنتج أن الاستعانة التي يُعلِّمنا إيَّاها القرآن تُعتبر من أعلى مصاديق العبادة وأكثرها أهمّية، والاستعانة التي تُعتبر عبادة هي الاستعانة بلا قيد ولا شرط[293]. وخلاصة الكلام، أن معنى الآية هو أننا نعتبر الله وحده فقط «مُستعاناً به» بنحو غير مشروط وغير مُقيّد ونستعين به وحده على هذا النحو.
أما الوسيلة التي نستعين بواسطتها أي العمل أو الطريقة التي نطلب بواسطتها العون من الله فهو ما نُطلق عليه «وسيلة الاستعانة». ولـ«وسيلة الاستعانة» مصاديق عديدة في عالَم الخارج، فعندما يتوجّه العباد إلى الله ويستعينون به وحده ولا يستعينون بغيره، من الأفضل لهم أن لا يتوجّهوا إلى ساحته القُدسيّة بيد خالية بل ليكن بيدهم وسيلة وهي القيام بعمل صالح قبل أن يطلبوا حاجتهم من الله كأن يتصدقوا بمال أو يُصلّوا ركعتين[294] أو يدعوا بدعاء ما، أو يجعلوا الله ذاته «وسيلتهم المُستعان بها». وعندئذ يطلبون العون من حضرة «المُستعان بهِ» أي الله سبحانه وتعالى..... الخ.
ويُضيف هذا الفاضل المحترم قائلاً: "أحد علماء الشيعة الكبار لم يقبل بقصر «المُستعان بهِ» على الله وحده فقط في جميع الأمور، وقال: في العبادة فقط تكون الاستعانة مقصورة على الله ومحدودة به، وهذا عندما نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ﴾
ومن الممكن أن يقول أهل التفويض: نحن مستقلون في العبادة ودليل هذا المُدَّعى آية ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ﴾، فلرفع هذه الشبهة قال القرآن مباشرة: ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾أي إننا نستعين بك ونطلب القوة منك على العبادة. والحاصل أن ذلك العالِم يُقرُّ بأن «المُستعان بهِ» هو الله وحده فقط ولكن ليس في جميع الحالات بل في رأيه إن قصر الاستعانة على الاستعانة بالله وحده هو في موضوع عبادته، أما في الأعمال الأخرى غير العبادة فيُمكن طلب العون من غير الله (من المخلوقات أو من الأفعال). وقد استدلَّ على ادِّعائه هذا بثلاثة آيات:
الأولى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ﴾[البقرة: ٤٥].
الثانية: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰ﴾[المائدة: ٢].
الثالثة: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾[الكهف: ٩٥]وهو قول ذي القرنين الذي طلب العون من الناس. (نقلاً عن البيان في تفسير القرآن).
ينبغي أن ننتبه إلى أن هذا العالم المحترم لم يُفَرِّق بين عالَم الشهادة (أي عالَم الطبيعة) وعالَم الغيب (أي عالَم ما فوق الطبيعة) وخلط بين الاثنين، كما أنه غفل عن التفاوت والفرق بين الاستعانة المُقيَّدة والاستعانة غير المُقيَّدة وغير المشروطة التي هي من مصاديق العبادة، لأنه استند إلى آيات واستشهد بها رغم أن الآية الأولى لا تُفيده فيما يرمي إليه، والآيتان الثانية والثالثة أيضاً لا علاقة لهما ببحثنا ونقاشنا حول الاستعانة غير المُقيَّدة وغير المشروطة. لأن «الصبر والصلاة» في الآية الأولى من سنخ الأفعال وكل واحد منها «وسيلة استعانة» لا «مُستعانٌ بهِ» و «المفعول به» لفعل «اسْتَعينوا» هو الله[295]، ففي هذه الآية المستعان به هو الله والآية الكريمة تُؤيّد قولنا بأن المستعان به غير المُقيّد وغير المشروط هو الله وحده. وكما قلنا يُمكن أن تكون «وسيلة الاستعانة» أي وسيلة الذهاب نحو باب الله: إما أسماء الله وصفاته أو فعلٌ صالحٌ، وقد ذكرنا أن وسيلة الاستعانة في الاستعانة العبادية لا تنحصر بالله ولكنها وسيلة مشروطة وأحد شروطها إذن الله بها وسماحه لنا بها. لقد سمح الله تعالى ذاته لنا أن ندعوه مباشرة ونتضرَّع إليه ونستعين به مباشرة ومن دون واسطة فقال: ﴿أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ ٦﴾[فصلت: ٦]، وقال: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ﴾[غافر: ٦٠]، وقال﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[البقرة: ١٨٦]والآن نقول: لو لم يأذن الله تعالى لنا بدعائه بصورة مباشرة وقال مثلاً لا تأتوا إليَّ مباشرة بل ارجعوا إلى الوسطاء والشفعاء الذين عيَّنتُهم لكم، في هذه الحالة لا يجوز لنا أن نُقبل على الله ونتوجّه إليه مباشرةً. أما موضوع أننا لا نستطيع أن نجعل أحداً غير الله «مُستعاناً بهِ» على نحو غير مشروط وغير مُقيّد ولو جعلنا أحداً غير الله «مُستعاناً بهِ» على نحو غير مشروط نكون قد اعتبرناه مثل الله، فمثلاً لو استغثنا بالجنِّ أو وطلبنا العون والمدد من الملائكة أو من الأنبياء العظام أو الأئمة ذوي المقام الرفيع أو..... على نحو غير مشروط، واعتقدنا أنه حتى استعانة الآخرين المُتزامنة مع استعانتنا من «المُستعان بهِ» ذاته، لا تمنع من استعانتنا به، فإن هذا العمل يدلُّ بنحو تلقائي -شعرنا أم لم نشعر- على أننا نعتبر إعانة «المُستعان بهِ» المذكور مثل إعانة الحق تبارك وتعالى أي مدداً وإعانةً مطلقة من كل قيد، أي أننا -نعوذ بالله- نكون قد جعلنا لِـلَّهِ شريكاً!!
ومن شروط الاستعانة الأخرى أن يكون «المُستعان بهِ» حيّاً مُدركاً زمن استعانتنا به. ومن الواضح تماماً أن الله وحده هو المُدرك والعليم والسميع والبصير والخبير في كل لحظة وآن ودون أيّ قيد أو شرط زماني أو مكاني، أما غير الله فلا يمتلك هذه الصفة على نحو مطلق غير محدود. وبالطبع لو كان النبيُّ أو الإمام حيّاً ودعاهما الداعي مُراعياً كل القيود والشروط كأن يكون بينه وبين النبيّ مسافة مُعيَّنة يُمكن من خلالها أن يسمع صوت الداعي، وأن يكون النبيُّ مُستيقظاً ولا يوجد آخرون يدعونه في الوقت ذاته وأن يسمح للداعي بأن يعرض عليه حاجته و..... في هذه الحالة لو طلبنا من النبيّ (أو الإمام) أن يجعل اللهَ بالنيابة عنا «مُستعاناً به» ويطلب حاجتنا منه ففي هذه الحالة نكون قد جعلنا النبيّ (أو الإمام) «مُستعاناً به» على نحو مُقيَّد ومشروط كي يجعل اللهَ تعالى لأجلنا «مُستعاناً به» على نحو مطلق ويطلب منه قضاء حاجتنا؛ لا يكون في مثل هذه الاستعانة أيُّ إشكال أو مانع شرعيّ. أما الآن وقد صار النبيُّ (أو الإمام) خارج متناول أيدينا -لأنه لم يعد في هذا العالَم الدنيوي ولم يعد يعيش حياة دنيوية بل انتقل إلى عالَم آخر وحياة أخروية- فلو دعونا النبيّ (أو الإمام) فانطلاقاً من أننا في هذه الحالة نكون مُعتقدين ضمنياً بأن من ندعوه مُجرَّد من أيّ حدود زمانية ومكانية لأننا نستطيع أن ندعوه متى شئنا في كل لحظة وفي أيّ مكان وزمان -في حين أنه في زمن الحياة الدنيوية لأولئك الأجلاء كنا لا ندعوهم إلا عندما نكون بقُربهم وعندما يكونون مُستيقظين ومُنتبهين لنا- نكون قد جعلنا النبيّ (أو الإمام) «مُستعاناً به» بدون أيّ قيد أو شرط[296]، في حين أننا نعلم أن «المُستعان به» المُجرَّد من كل قيد وشرط وكل حدٍّ من الحدود هو الله وحده فقط وهو وحده الذي يُمكن أن يكون «وسيلة الاستعانة» و «المُستعان به» في الوقت ذاته.
ينبغي أن ننتبه إلى أننا عندما ندعو الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء للتقرُّب إلى الله أو لطلب المغفرة أو لنيل حاجة خاصة من حاجاتنا، لا يكون أولئك المدعوّون «وسيلة الاستعانة» بل «وسيلة الاستعانة» في هذه الحالة تكون دعاؤنا ونداؤنا ومُخاطبتنا لهم ويكونون هم «المُستعان به» بالنسبة إلينا! هذا في حين أن «وسائل الاستعانة» التي عرَّفنا القرآن عليها لم يكن أيُّ فرد من أفرادها شخصاً عاقلاً مُدركاً بل كانت تلك الوسائل من سنخ الأفعال والأعمال أي من سنخ المعاني، فمثلاً الذي يجعل وسيلة طلبه العون من الله أسماءَ الله وصفاتِه الحسنى فيذكرها في دعائه [سورة الأعراف: 180] أو يتصدَّق بماله أو يصوم أو يحُجّ ليستجلب رضا الحق تعالى ويتقرّب بذلك إليه، تكون أعماله هذه كلها «وسائل الاستعانة» وليست «المُستعان به».
أما الآية الثانية والثالثة فكلاهما يتعلّق بعالَم الشهادة (= عالَم الطبيعة) والمُخاطَب في الآية الثانية هم عامّة المؤمنين الذين يجب أن يُعينوا بعضهم بعضاً في أعمال البرِّ والتقوى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى). من البديهي أن هذه الإعانة والتعاون مُقيّدة ومشروطة بعالَم الشهادة (= عالَم الطبيعة) ولا أحد من المؤمنين يتوقع من إخوانه إعانة فوق طبيعية وخارقة للعادة. وَمِنْ ثَمَّ فالآية الثانية لا علاقة لها بموضوع نقاشنا.
في الآية الثالثة التي طلب «ذو القَرْنَيْن» فيها المساعدة من الناس أي أن الناس كانوا هم «المُستعان به»، قد يتبادر إلى الذهن أن «المُستعان به» لا ينحصر بالله وحده؟ ولكن يجب أن ننتبه إلى أن الإعانة التي طُلبت في الآية تدخل ضمن مجال عالَم الشهادة (= عالَم الطبيعة) والمُخاطَبون بطلب العون هم المؤمنون، والآية لا علاقة لها بعالَم الغيب (فوق الطبيعة)، و «ذو القَرْنَيْن» طلب من الناس الحاضرين أمامه بصورة طبيعية أن يضعوا تحت تصرّفه قواهم طبقاً لإرشاده لهم ويتعاونوا معه ويخدموه، ولم يطلب منهم أيَّ شيء فوق طبيعي أو غير مُقيّد بقيود عالَم الطبيعة، فهذا لا يتنافى مع انحصار «المُستعان به» بالله وحده، لأننا كما قلنا عندما نطلب معونةً فوق طبيعية وغير مُقيَّدة ولا مشروطة ونكون مُضطرين وفاقدين لجميع الوسائل والأسباب ولهذا السبب نلجأ إلى عالَم الغيب، (وفي الواقع نتَّجِه إلى العبادة) يجب أن نستعين بالله وحده، وهنا يكون «المُستعان به» هو الله وحده لا غيره. ودليلنا على ما نقول -إضافة إلى آية ﴿إِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾، آيات أخرى مثل: ﴿وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾[يوسف: ١٨]، ففي هذه الآية كما نُلاحظ لما لم أُسقط بيد يعقوب (ع) ولم يعد له من وسيلة أمام أبنائه لمعرفة مصير ابنه يوسف جعل الله تعالى وحده «المُستعان به» في حين أنه لو كان يعلم أن ابنَه مرميٌّ في البئر لكان واجباً عليه عقلاً وشرعاً أن يُهرع كفرد مُتديِّن إلى إنقاذ ابنه من غياهب الجب.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَرَبُّنَا ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ١١٢﴾[الانبياء: ١١٢]، ففي هذه الآية لما شعر الأنبياء بعجزهم عن فعل أيِّ شيءٍ بصورة عادية وطبيعية لمُواجهة مُحاربيهم جعلوا اللهَ وحده «المُستعان به» لهم.
في الآيات المذكورة أعلاه كان «المُستعان به» خبراً، وعندما يأتي الخبر مُحلّى بالألف واللام يدل على معنى الحصر والعهد، ففي تلك الآيات الثلاث كلها لا بُدَّ من طلب كلِّ معونة غير مُقيَّدة وغير مشروط بشروط عالَم الطبيعة ومُرتبطة بعالَم الغيب (= عالَم فوق الطبيعة) من الله وحده فقط وبشكل مباشر لأنه هو فقط يكون «المُستعان به» في هذه الحالة[297].
أما «وسيلة الاستعانة» أو بعبارة أخرى وسيلة الذهاب إلى باب الله لطلب العون فينبغي أن تكون من سنخ الأفعال أو أسماء الله وصفاته. كما قال موسى (ع) لقومه: ﴿ٱسۡتَعِينُواْ بِٱللَّهِ[298]﴾[الاعراف: ١٢٨]. أو بالصوم والصدقة ومئات العبادات والأعمال الصالحة الأخرى، ولا يُمكن لأيِّ إنسان في هذه الحالة أن يكون «وسيلة الاستعانة»[299]. أما عندما نتوسَّل ونستعين بالأسباب المحدودة الظاهريَّة -أي بما هو داخل ضمن مجال عالَم الطبيعة الذي هو عالَم الحدود- فإننا مُجازون بالاستعانة بالناس كما قال القرآن الكريم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٤﴾[الانفال: ٦٤]، فهنا الله «مُستعانٌ به» غير مُقيَّد وغير مشروط وإعانته مدد غيبيّ، والمؤمنون «مُستعانٌ به» مُقيَّد ومشروط ومدد ظاهريّ حصل على استطاعته من الله في حدود الإذن الإلهيّ العام. ". (إلى هنا انتهى كلام الجلالي).
النقطة المهمّة الأخرى التي ينبغي أن نُنبِّه إليها فيما يتعلّق بمُغالطة الخرافيين وخداعهم بشأن موضوع دعاء غير الله في الأمور العُرفية هي أن كل إنسان طالب للحق ومُنصف يُدرك الفرق بين الدعاء العُرفي والدعاء العبادي. كل إنسان يفهم بوضوح أنه عندما يُنادي طبيباً ويقول له: عالجني من ألمي هذا أو يقول للخبَّاز: أعطني خبزاً أو للصانع: أصلح سيارتي، لا يُقبِّل الباب والجدران عند وروده إلى عيادة الطبيب أو ورشة الصانع ولا يضع جبينه عليها ولا يقرأ صفحةً تتضمن نصّ زيارة خاصة ولا يطوف حول الطبيب أو الخبَّاز أو الصانع ولا يرجع إلى الوراء ووجهه مُتَّجه إلى الأمام لحظة الخروج من عندهم ولا يأخذ من غبار منضدة الطبيب أو ورشة الإصلاح حفنةً ليتبرَّك بها ولا يمسح بها رأسه ووجهه ولا يقول لشخص آخر يذهب إلى ذلك الطبيب أو الصانع: زر نيابةً عني، ولا يعتقد أنه إذا كان جُنُباً (أو كانت المرأة حائضاً) فلا يجوز له الذهاب إلى زيارتهم، ولا يعتبر أنهم يعلمون كل لغات العالَم ويفهمون أي لغةٍ يكلمهم بها الناس ولا أنهم يسمعون في آنٍ واحد أصوات ورغبات جميع من يرجع إليهم ويفهمونها. بل الكل يعلم أن الطبيب والخبّاز والصانع بشر محدودون وناقصون مثلهم مثل من يلجأ إليهم، ولو قصَّر الطبيب أو الخبَّاز أو الصانع في إجابة طلبهم غضبوا عليه أو تركوه وذهبوا إلى طبيب أو خبَّاز أو صانع آخر، كما أنهم يدعونهم من مسافة مُحدّدة ولو كانوا نائمين أو مرضى أو مشغولين مع شخص آخر لما دعوهم كما أنهم لا يعتبرونهم عالمين بما في ضميرهم كما لا يطلبون من الطبيب إصلاح السيارة ولا من الصانع علاج المرض لأنهم يعلمون أن الصانع لا يقدر على علاج المرض ولا الطبيب يستطيع على إصلاح السيارة، بل يعلمون أن الداعي وطالب العون نفسه لو درس الطبَّ لأصبح كالطبيب المدعوّ أو لو تعلَّم الصنعة لأصبح كالصانع المدعوّ. وفي الحقيقة لا يعتبرون أنهم يتمتعون بحالة خاصة وقدرة خاصة وهبهم الله إياها بل يعتبرون أن استطاعتهم محدودة بحدود الإذن الإلهي العام الذي يتمتع به جميع العباد ويؤمنون أن هناك تفاوت وفرق بين حالتهم أثناء حياتهم وحالتهم بعد موتهم. أما عندما يدعو الإنسان النبيّ أو الإمام أو حضرة مريم أو حضرة عيسى (ع) أو الملائكة و...... فلا يظنُّ فيهم مثل تلك الأمور ولا يُراعي في دعائهم أيَّاً من تلك الحالات المذكورة أعلاه[300]. (فَتَأَمَّل).
ولا ينحصر هذا الموضوع بالطبع بكون الله أو غير الله مُعيناً والفرق العظيم بينهما، بل يصدُق أيضاً في موارد أخرى، ولكن في الموارد الأخرى تفاوت المسألة واضح لجميع الناس وضوحاً تاماً، ولكن الخرافيين يُصوِّرون المسألة خداعاً للعوام وكأنهم لا يُدركون الفرق بين كون الله مُعيناً وكون غيره مُعيناً، في حين أن هذه المسألة أيضاً مثلها مثل سائر المسائل ومحكومة بالحكم ذاته، فمثلاً غير الله أيضاً سميع وبصير، أو بتصريح القرآن الكريم غير الله أيضاً مُحي ورؤوف ورحيم وخبير [سورة المائدة: 32، التوبة: 128، الفرقان: 59]، ولكن أين سمع الله وكونه خبيراً من سمع غير الله وكونه خبيراً؟!! غير الله سميع وخبير بشكل محدود وناقص، أما الله تعالى فهو سميع وخبير وبصير و...... بشكل كامل ومطلق وغير محدود. ولا يخفى على أيِّ عاقل هذا التفاوت بين الأمرين.
أحد المُدافعين عن الخرافات المُضلِّلين للعوام، رغم أنه لم يكن جاهلاً بأحوال المشركين في عصر الجاهلية وعقائدهم، بل بيَّنها في كتابه الموسوم بـ «راز بزرگ رسالت»[301] [أي سر الرسالة العظيم]، كتب في كتاب آخر له إضلالاً للناس يقول:
"كان الوثنيُّون طبقاً لصريح الآية الثالثة من سورة الزمر يعبدون الوسطاء إلى حدّ أنهم تركوا عبادة الله وأصبحوا لا يعبدون سوى الواسطة؛ في حين أن المُتوسِّلين بالمُقرَّبين من ساحة الله وذوي الجاه والمنزلة لديه يعبدون اللهَ وحدَه فقط ولا يعبدون غيره، ويعتبرون أولئك المُقَرَّبين عباداً صالحين لِـلَّهِ نالوا قُرباً ومنزلةً عظيمةً لديه نتيجة عبوديَّتهم الخالصة لِـلَّهِ لا أكثر من ذلك. في هذه الحالة فإن الآية تهدف إلى تحريم التقرُّب إلى الله من خلال «عبادة» أشخاص ومخلوقات خلقها الله لا التقرُّب إلى الله من خلال «تَوَسُّط» أولئك الصالحين أو مقامهم ومنزلتهم"!![302]
أولاً: استناداً إلى ما ذكره هذا المؤلِّف في كتابه «راز بزرگ رسالت» [سرّ الرسالة العظيم]، يتبيَّن أن قوله هنا: "كان الوثنيُّون يعبدون الوسطاء إلى حدّ أنهم تركوا عبادة الله وأصبحوا لا يعبدون سوى الواسطة" كَذِبٌ. كما أن القرآن -كما رأينا في الصفحات الماضية[303]- لا يدعم هذا الكلام. لقد ذمَّ القرآن الكريم المُشركين بسبب إخلاصهم الدين ودعائهم اللهَ وحدَه في حالة اليأس والاضطرار فقط، فإذا نجوا من تلك الحالة عادوا إلى الشرك بالله [سورة الأنعام: 40 و41 و 63 و64، الأعراف: 89 حتى 194، النحل: 53 و54، الإسراء: 67، العنكبوت: 65، الزمر: 8]. في الواقع كان الإشكال في عمل المشركين هو أدائهم الأعمال العبادية لغير الله أيضاً لا أنهم كانوا لا يعبدون الله. ولهذا السبب أُطلق عليهم «المشركون» أي أنهم يعتبرون غير الله مشاركاً أو شريكاً لِـلَّهِ في الأعمال العبادية وفي اتِّصافه بصفات الله.
ثانياً: يجب على المُتوسِّلين -حسب قولكم- وهم في رأينا مسلمون جاهلون بالقرآن، أن يعلموا أن للشرك والتوحيد من وجهة نظر القرآن -كما أوضحنا سابقاً[304]-معنى أوسع بكثير مما يقوله الخرافيون، ومن أبرز نماذج الإشراك بالله الاعتقاد بصفات إلهية ولا محدودة لكائن غير الله أو القيام بعمل يستلزم حُكْماً مثل هذا الاعتقاد بحق كائن غير الله.
بناءً على ذلك لو أن العوام خُدعوا بأقوال أمثال هذا الكاتب المُخادع واقتنعوا بقوله: "المُتوسِّلون.... يعبدون الله وحده فقط ولا يعبدون غيره، ويعتبرون غير الله عباداً صالحين لِـلَّهِ نالوا قُرباً ومنزلةً عظيمةً لديه لا أكثر..."، فإن هذا لن يكون كافياً لنجاتهم من الشرك بل عليهم أن يُراقبوا أنفسهم فلا يقوموا بأعمال تجاه أولئك العباد الصالحين الكرام تستلزم -شعروا أم لم يشعروا- فرض صفات غير مُقيَّدة ولا محدودة لهم، ولا يعتقدوا في قلوبهم بمثل هذه الصفات في حق أولئك الصالحين الأعزَّاء. (فَتَأَمَّل جداً)
إضافةً إلى ذلك، فإن عبارة «مِنْ دُونِ الله» شاملة وعامة وتشمل الأصنام وغير الأصنام -بما في ذلك عباد الله الصالحين- ولا دليل لدينا على أن القرآن منع اعتبار الأصنام فقط مُقرِّبةً إلى الله وسمح لنا أن نجعل عباد الله الصالحين «مُقَرِّبين» أو «مُستعاناً بهم» دون أيَّ قيد أو شرط، خاصةً أننا نعلم أن المشركين لم يكونوا يعتبرون الأخشاب والأحجار بحدِّ ذاتها مُقرِّبةً إلى الله بل الأشخاص الذين تُمثِّلهم تلك التماثيل هي التي كانوا يعتبرونها تُقرِّبهم إلى الله وشفيعةً لهم عند الله[305]. ولكن للأسف كَتَمَ الكاتب المُتعصِّبُ هذه الحقائق هنا!! رغم أنه قرأ كتاب «الأصنام» للكلبي وعرف أن المشركين كانوا يطوفون حول أصنامهم وشُفعائهم وينذرون لهم النذور ويذبحون باسمهم ولأجلهم الأضاحي ويحلفون بأسمائهم، ومسلمو زماننا أيضاً ينذرون لعباد الله الصالحين وكما يُقال يبسطون الموائد باسمهم ولأجلهم، ويحلفون بأسمائهم، ويطوفون حول قبورهم كي يتوسطوا لهم عند الله ويشفعوا لهم عنده!! بناءً على ذلك فإن موضوع بحثنا مع الذين يتَّخذون الوسائط يدور حول طريقة «التوسُّط» لأن كثيراً من اتِّخاذ الوسائط -كما لاحظنا في الصفحات السابقة- من مصاديق الشرك. (فَتَأَمَّل)
ويقول ذلك الكاتب نفسه [أي الشيخ جعفر السُّبْحاني]:
"في موضوع «التقرُّب» لا بُدَّ من ثلاثة أمور: 1- المُتَقَرِّبُ. 2- المُتَقَرَّبُ إليه. 3- المُقَرِّبُ أو وسيلةُ التقرُّب. فالمُتَقَرِّبُ: هو عابد الصنم. والمُتَقَرَّبُ إليه: هو الله. و وسيلةُ التقرُّبِ: هي القيام بعبادة عباد الله. مثل هذا التوسيط والتوسُّل الذي تكون وسيلة التقرُّب فيه هي عبادة غير الله: حَرَامٌ.
في هذه الحالة ما علاقة مفاد الآية الثالثة من سورة الزمر بموضوع بحثنا الذي هو التوسُّل بالصالحين، حيث لا يعبد المُتوسِّلون أحداً سوى الله[306]، وبدلاً من التقرُّب إلى الله من خلال عبادة غير الله، يتقرَّبون إليه من خلال توسيط الصالحين، وتوسيط مقامهم ومنزلتهم"؟!!! [307]
أولاً: كما لاحظتم في الصفحات الماضية لم يكن المشركون يفعلون شيئاً سوى ذلك، وطبقاً لتصريح القرآن كان هدفهم من الأعمال التي يقومون بها تجاه معبوداتهم هو «التقرُّب إلى اللهِ زُلْفَى» من خلال وساطة تلك المعبودات لهم عند الله وشفاعتها لهم عنده. ولم يكن المشركون -كما بيَّنا مراراً وتكراراً- يعبدون الأخشاب والأحجار والمعادن بحدِّ ذاتها بل كانوا يعتبرون أوثانهم تماثيل ومُذكِّرةً بعباد الله الصالحين أو بالملائكة وَمَظْهَرَاً لها.
ثانياً: ينبغي أن ننتبه إلى أن نقاش الموحدين معكم هو أيضاً حول أنه لا بد أن تكون «وسيلة الاستعانة» أو «وسيلة التقرُّب» أو ما أطلقتم عليه «المُقَرِّب» قد عيَّنه الله تعالى ذاته لنا وسمح لنا باتِّخاذه وسيلةً وعرَّفَنَا في كتابه بأنه وسيلةٌ تُقَرِّبُنا إليه. ولهذا السبب رَفَضَ اللهُ تعالى في القرآن الكريم وجود الوسائط والشفعاء الذين يسعى الناس إلى الحصول على شفاعتهم من خلال القيام بأعمال تستلزم افتراض صفات غير مقيَّدة ولا محدودة لهم[308]، واعتبر ذلك شركاً. سورة يونس: 18][309].
ثالثاً: خصوصية «مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ» التي أثبتها القرآن للشفعاء والمعبودات التي كان يعبدها المشركون، أثبت مثلها تماماً للرسول الأكرم ص حين أمره تعالى أن يقول: ﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا﴾[الاعراف:١٨٨، یونس 49]، كما قال للنصارى عن عيسى بن مريم (ع) أنه: ﴿لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا﴾[المائدة: ٧٦].
والكذب الآخر الذي ارتكبه الكاتب قولُه:
"إن المشركين كانوا يعتبرون أوثانهم مؤثرة في الكون على نحو مُستقل عن الله وذات تصرُّف مُستقل بشكل كامل في تدبير العالَم ومالكة لمقام الشفاعة..... في حين أن الإنسان المُوحِّد لا يعتقد أبداً بمثل هذه العقيدة في حق الصالحين"[310].
ونقول:
أولاً: لم يكن المشركون -كما أوضحنا من قبل (ص 124)- يعتبرون معبوداتهم مؤثرة مستقلة عن الله ولا مُتصرِّفة مستقلة بشكل مطلق في العالَم ولا كانوا يعتبرونها مالكةً لمقام الشفاعة المستقلة، ولا مالكةً للشفاعة، بل كانوا يُؤدُّون لمعبوداتهم ولتماثيل تلك المعبودات أعمالاً عبادية (كالطواف والنذر و.....) على أمل أن تشفع لهم تلك المعبودات عند الله، وفي الحقيقة كان الباعثُ والدافعُ لهم لأداء الأعمال العبادية لغير الله أملَهم بأن تشفع لهم تلك الشخصيات (الملائكة أو غيرها) عند الله.
ثانياً: إن كل عاقل ومُنصف يُدرك بوضوح أن الشفاعة في جوهرها عمل ارتباطيّ يحتاج إلى التعلّق بذات هي المشفوع عنده، أي أن أحد طرفي الشفاعة هو الله دائماً، والشفيع يطلب من الله الغفران للمشفوع له. ولذلك فليست الشفاعة مثل صفة الخلق والرزق و...... التي يُمكن لشخص أن يقول بشأنها: إن فلان يخلق كما يخلقُ الله أو فلانا يرزق كما يرزق الله وهكذا......، ولكن لا يمكن القول بشأن الشفاعة: إن المشركين كانوا يعتقدون أن أوثانهم تملك الشفاعة مثلما يملكها الله! (فَتَأَمَّل).
أضف إلى ذلك أن المشركين -كما مرَّ معنا في الصفحات الماضية (ص 96، 128، 146)- لم يكونوا يدَّعون بأيِّ وجه من الوجوه أن معبوداتهم لا تحتاج للحصول على الإذن بالشفاعة من الله بل تقدر على الشفاعة بشكل مستقل!! بل كان الإشكال في عملهم أنهم يُؤَدُّون الأعمال العبادية لها دون دليل شرعي صحيح ويدَّعون أن الله إذِنَ لهم بذلك! وإلا فإنهم كانوا يعتبرون الله خالق العالَم ومُدبِّره ومُحيي المخلوقات ومُميتها و.....، كل ما في الأمر أنهم كانوا يعتقدون أن معبوداتهم تتوسط لهم عند الله وتشفع لهم عنده [سورة يونس: 18] كي يعفوَ اللهُ عنهم أو يُنعمَ عليهم بما يطلبونه، وكان المشركون أنفسهم يعترفون أن الأعمال العبادية التي يُؤدُّونها للأصنام إنما يُؤدُّونها لكي تُقرِّبهم من الله وتجلب لهم رضا الله عنهم وإنعام الله عليهم. [سورة الزمر: 3].
وكانت اعتراض رسول الله ص على المشركين يتلخَّص بقوله لهم إن الشفاعة هي لِـلَّهِ وحده، وإن الله هو الذي ينبغي أن يأذن لشخص بالشفاعة ويُعلمه بذلك ويأمره أن يشفع للعبد الفلاني. فخطؤكم أيها المشركون أنكم اعتقدتم بشفعاء لم يأذن الله لهم بالشفاعة لكم، ولم يعلمهم بأمره بالشفاعة لمن يستشفع بهم. وكذلك يظن مسلمو زماننا في بعض الأشخاص أنهم شفعاء لهم دون أن يمتلكوا أيَّ دليل شرعي صحيح ومُتقن على كونهم شفعاء لهم، هذا إضافةً إلى إضفائهم صفات غير محدودة علي أولئك الشفعاء وأدائهم الأعمال العبادية لهم كطوافهم مثلاً حول قبورهم، ونذرهم الشموع لقبورهم والحلف بأسمائهم وطلب الحاجات منهم على نحو غير مُقيَّد بقوانين الطبيعة وطلب الشفاعة منهم......الخ، ورغم أن الكاتب المُتعصّب لا يُنكر أن أقلية من أهل الجزيرة العربية على الأقل كانت في الجاهلية تعبد الملائكة أو المسيح (أي تؤدي لهم أعمالاً عباديةً) إلا أنه تحجَّج قائلاً:
"لم يثبت أن عبادة المسيحيين للمسيح هي لأجل أن يتقرَّبوا بواسطته إلى الله ، لأنه يعتبرون المسيحَ: اللهَ أو جزءاً من الله، ولا يعتبرونه كائناً منفصلاً عن الله حتى تُطرح قضية التقرّب بواسطته إلى الله"!![311]
هذا في حين أنه يعلم أن القرآن الكريم قال إن الله تعالى سيقول لعيسى (ع) يوم القيامة: ﴿وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ [= معبودَين اثنين] مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾[المائدة: ١١٦]وأن المسيح سيُجيب بأنه: ﴿مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡ﴾[المائدة: ١١٧]. فَعُلِـمَ أن المسحيين الذين لم يكونوا يعتبرون حضرة مريم (ع) جزءاً من الله كانوا يُؤدُّون أعمالاً تجاهها اعتبرها الله عبادةً منهم لها واعتبر أنهم اتَّخذوها إلهاً أيضاً.
ولقد سبق أن قلتُ قبل سنوات عديدة من تأليف هذا الكاتب اللجوج لكتابه «التوسل والاستمداد من الأرواح المقدسة» في تفسيري «تابشى از قرآن» [شعاع من القرآن]، ذيل الآية 116 من سورة المائدة أن بعض الكُتَّاب اعترضوا بأنه لم يعتبر أحد حضرة عيسى وأمَّه إلهين حتى يقول الله يوم القيامة مُعاتباً: ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ [= معبودَين اثنين] مِن دُونِ ٱللَّهِ﴾[المائدة: ١١٦](وقوله: إلهين، أي مرجعين في حوائجكم).
وقلت: إن هذا الإشكال ناشئ من تصوّر أن كلمة «إلهين» تعني: «اللهين» أي من تصوّر أن «إله» تعني «الله»! وغَفَلَ صاحب هذا الإشكال أو تغافل عن أن «إله» لا تعني «الله»، بل هي أعمُّ من ذلك وهي مشتقة من مادة «أَلِهَ يَأْلَهُ » التي تعني: «مَنْ يُقْصَدْ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج » وتأتي بمعنى مُطلق «المعبود». فالإله معناه «المألوه» (اسم مفعول) وهي كلمة قابلة للجمع وجمعها «آلهة»، في حين أن «الله» لا جمع لها. ولا شك في أن النصارى كانوا يتوجَّهون في قضاء حوائجهم وفي الشدائد والمُلمَّات نحو عيسى ومريم المُتخيَّلين في ذهنهم ويدعونهما بصورة غير مشروطة ولا مُقيَّدة. ألا ترى أن النصارى في جميع الكنائس والمستشفيات في أمريكا وأوربا يطلبون من هاتين الشخصيتين الجليلتين شفاء المرضى دون أيّ حدود أو قيود؟ (وهذا يُشْبِه ما يفعله مسلمو زماننا تجاه حضرة الزهراء أو حضرة الإمام الرضا (ع)) ويخضعون ويتذلَّلون أمام تمثاليهما وصورهما؟!
42ويتشبَّث كثير من الكُتَّاب الخرافيين لخداع العوام بقضيَّة هي التالية:
«إِنَّ عُمَرَ بن الْخطابِ كَانَ إِذا قحطوا استسقى بِالْعَبَّاسِ بن عبد الْمطلب، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نتوسَّل إِلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتُسْقِينَا، وَإِنَّا نتوسل إِلَيْك بعمِّ نَبِيِّنَا فاسقنا، فَيُسْقَوْن». (صحيح البخاري، ج 2، باب صلاة الاستسقاء). وهذا الحديث أحد الدلائل على التوسُّل بالأفراد المُقرَّبين من الله"[312].
ونحن أيضاً نُذكِّر بأن الشيخ الصدوق روى هذا الخبر الذي يُفيد أن عمر كان يخرج مع العباس لأجل الاستسقاء[313]. ورُويت هذه الواقعة أيضاً في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 256.
اللهم إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ العَصَبِيَّة. حقاً إنه مما يُثير العجب الأعمال التي يقوم بها العلماء المُتعصّبون أو المسترزقون بالدين لخداع العامة! فتراهم مُستعدُّون لجعل الليل نهاراً كي يصلوا إلى مرادهم!! رغم أن الحديث المذكور أعلاه ليس في صالح ما يدَّعونه إطلاقاً رغم ذلك لا يتورَّعون عن الاستناد إليه وتصوير دلالته بشكل مقلوب رأساً على عقب:
أولاً: لا يوجد في القرآن الكريم أدنى دليل على التوسُّل بروح نبيّ بعد وفاته، أو أن الأنبياء بعد وفاتهم يبقون على اتصال بهذه الدنيا وارتباط بأهلها.
ثانياً: من هذا الخبر يتضح تماماً أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يفرِّقون بين الحيّ والميِّت -حتى لو كان نبيَّ الله- ولذلك لم يتوسَّلوا بروح رسول الله ص بعد وفاته ورحيله عن الدنيا ولم يُخاطبوه[314]، ورغم أن عُمَر وأصحابه كانوا في المدينة إلا أنهم -كما يدل على ذلك نصُّ الحديث بوضوح- دعوا الله تعالى مباشرةً بدلاً من أن يذهبوا إلى قبر النبيّ الكريم ويُخاطبوه. (فَتَأَمَّل جداً).
ثالثاً: لم يدعُ عمر جناب العباس من مسافة عدّة كيلومترات بل دعاه من مسافة متعارف عليها وأتى به معه إلى المُصلّى. (فَتَأَمَّل)
رابعاً: عمل عمر في هذه الحادثة بالطريقة ذاتها التي ذكرها فقهاء الإسلام -على حدِّ قول الشيخ سبحاني- الذين قالوا: يُستحبُّ في صلاة الاستسقاء: الصوم والسير بتواضع وخشوع، واصطحاب الأطفال والشيوخ الهرمين والعجائز إلى صلاة الاستسقاء لاستجلاب رحمة الله بأكبر قدر ممكن[315].
بناءً على ذلك فقد قام عمر وأصحابه بعد اصطحابهم عمّ النبيّ لأداء صلاة الاستسقاء بدعاء الله وكان قصدهم أن يقولوا: اللهم لما كان نبيُّنا بيننا كنا نطلب منك الغيث ببركة حضوره بيننا، أما الآن وقد حُرمنا من حضور النبيّ بيننا، فإن عمّ النبيّ -وكان حينها شيخاً مُسنّاً- بيننا فارحمنا لأجله وأنزل علينا الغيث. ومن البديهي أنه لا مانع من ذكر الصالحين المُسنِّين أو الأطفال الأبرياء المعصومين عند التوجّه إلى الله بالدعاء والضراعة استجلاباً لرحمته، وأن نسأل الله أن يرحمنا لأجلهم أو أن نطلب من الصالحين أن يدعوا الله لنا. وهذا الأمر خارج عن موضوع بحثنا تماماً[316].إن موضوع بحثنا يتعلّق بأنه هل يجوز شرعاً أن نتوسّل بالأرواح الطيبة للأنبياء والأولياء ونعتبرهم قادرين على سماع أدعيتنا وأن نطلب منهم أن يتوسطوا بيننا وبين الله ويشفعوا لنا عنده؟![317].
43خامساً: يا مُدَّعي اتِّباع أهل البيت، لو تمسَّكتم هنا بعمل عُمَر -الذي لا يُؤيّد ادِّعاءكم بأيّ وجه من الوجوه- فلماذا لا تذكرون كلام الإمام الباقر (ع) الذي روى عن جدّه عَلِيٍّ (ع) أنه قال: "كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَقَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ: أَمَّا الْأَمَانُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اللهِ ص وَأَمَّا الْأَمَانُ الْبَاقِي فَالِاسْتِغْفَارُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ ٣٣﴾[الانفال: ٣٣]". (نهج البلاغة، الحكمة رقم 88).
كما نلاحظ يُصرَّح عَلِيٌّ (ع) أن الرسول الأكرم ص -وجميع الأنبياء- لم يعد بيننا بعد رحيله عن الدنيا. فبأيّ دليل تقولون: إننا نستطيع الوصول إلى الأنبياء والأئمة والتحدث إليهم بعد انتقالهم عن الدنيا؟ لو كان التوسّل بالنبيّ بعد وفاته جائزاً وسبباً لدفع العذاب وجلب الخير لقال أمير المؤمنين (ع): توسلوا بروح نبيّكم فهو بينكم وهو أمان من عذاب الله.
يتشبَّثون المُسترزقون بالدين بالطبع، لخشيتهم من خُلوِّ المزارات وكساد دُكَّانهم، بأنواع الحيل. ومن جملتها أنهم عندما يعجزون عن إثبات الولاية التكوينية للأنبياء والأئمة يقولون: حتى لو لم يُعطَ الأنبياء والأولياء القدرة على صُنع المعجزات والخوارق ورفع مشكلات الناس وشفاء المرضى ودفع الشرّ عنهم، فإنهم ببركة مقامهم الرفيع والعالي عند الله، مُطَّلعون على أدعية الناس وطلباتهم أو يقولون: إن الملائكة توصل إليهم أدعية الناس وطلباتهم، وَمِنْ ثَمَّ فإن زيارة قبورهم والطواف حولها تهدف إلى التقرُّب من الله وطلب الشفاعة منهم فليس دعاؤهم من الأماكن البعيدة والقريبة والنذر لأولئك الأجلاء الكرام والتبرّك بأضرحتهم عملاً عبثياً!!
لكن ادِّعاءهم هذا لا دليل عليه ولا يُؤيّده القرآن. فالملائكة لا تنزل وتعرج بناءً على رغباتنا [مريم: 64، الأنبياء: 27 و28][318] حتى يكون من الواجب عليهم أن يوصلوا رسالتنا وكلامنا إلى النبيّ أو الإمام كلما دعونا النبيَّ أو أحدَ الأئمَّة في جوار قبورهم أو من مكان بعيد!! وليت شعري! أين ذَكَرَ اللهُ في القرآن أنه بعد وفاة الأنبياء والأولياء، خصَّصَ اللهُ ملائكةً وظيفتها إيصال أخبار الناس وأدعيتهم ونداءاتهم إلى أولئك الكرام؟!
ولحسن الحظ لا خلاف بين المسلمين في عدم جواز دعاء الملائكة، فلم نُشاهد لدى أيّ فرقة من فرق المسلمين أحداً يقول: يا جبريل اشفع لي عند الله أو أوصل رغبتي إلى الإمام الفلاني أو حفيد الإمام الفلاني!! لأن الجميع يعلم أن الملائكة في حال دائمة من العروج والنزول ولا يُمكنهم أن يكونوا في أكثر من مكان في وقتٍ واحدٍ، والله وحده فقط المُحيط بكل مكان وبكل شيء على نحو التساوي والتزامن. بناءً على ذلك إذا دعا أحدهم أولئك الملائكة دون قيد أو شرط يكون قد نسب إليهم بلسان حاله صفةً إلهية ووقع في حبائل الشرك. (فَتَأَمَّل).
44أضف إلى ذلك أن الله أوضح لنا في القرآن أن الأنبياء أثناء حياتهم الدنيوية لم يكونوا مُطَّلعين على الأعمال الخفيّة لمُعاصريهم ولا عالمين بما في صدور معاصريهم، فما بالك بأن يعلموا ذلك بعد رحيلهم عن الدنيا وانتقالهم من دار الفناء إلى عالَم البقاء. وكان قدماء الشيعة يعتبرون مثل هذه العقيدة باطلة ويعدُّونها من عقائد الحشوية[319].
وقال القرآن الكريم للنبيّ الأكرم ص: إن بعض الناس الذين يُعجبك قولهم في الحياة الدنيا، باطنهم مخالف لظاهرهم [البقرة: 204 و205] أو قال: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡ﴾[التوبة: ١٠١]. أو بيَّن لنا أنه عندما أخبر الهدهد سليمانَ (ع) الخبرَ لم يكن سليمان يعلم صدق الهدهد من كذبه لذلك قال له: ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٢٧﴾؟ [النمل : ٢٧]. ولما نزلت آيات اللعان وقام الرجل والمرأة باللعان طبقاً لآيات القرآن، قال لهما النَّبِيّ الأَكْرَم ص: أما أنتما فقد عرفتما أني لا أعلم الغيب. حسابكما على الله، أحدكما كاذب. وقال مرَّةً للرجل ومرَّةً للمرأة: إن كذبت (أو كذبتِ) فتب إلى الله[320].
45وطبقاً لما رواه المَجْلِسِيّ قال النبيّ ص: "لَيَخْتَلِجَنَّ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِي دُونِي وَأَنَا عَلَى الْحَوْضِ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأُنَادِي يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي (أَصْحَابِي أَصْحَابِي) فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَك" [321]. بناءً على ذلك لم يكن النبيّ يدري بعد رحيله عن الدنيا ما أحدثه قومه من بعده. فالنبيّ الذي لا يعلم ما صنيع العبد الفلاني كيف يُمكن أن يشفع له في المحكمة الإلهية ويُدافع عنه؟! إن الله وحده العليم بظاهر العباد وباطنهم وبسرّهم وعلانيّتهم وهو القائل: ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ﴾[البقرة: ٢٥٥]، ولا أحد سوى الله يمتلك مثل هذا العلم. بناءً على ذلك ما مِن نبيٍّ ولا ملاكٍ يعلَمُ مَنْ مِنَ العباد ستتعلّق به إرادة الله، ولأجل مَنْ سيأذن الله بالشفاعة؟ فتعيين الشفيع لِمُقِصِّرٍ مُعيَّنٍ مُستَحِقٍّ للشفاعة، يعود إلى الله وحده وبيده سبحانه وتعالى وحده لا بيد العباد، لأن الشفعاء أيضاً خائفون من هيبة الله وجلاله ولا يلتفتون إلى توجّهنا إليهم: ﴿وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ﴾[الانبياء: ٢٨]. لأنهم يعلمون ونعلم أنه ليس كل ما يريده الإنسان يتحقق له بل: ﴿فَلِلَّهِ ٱلۡأٓخِرَةُ وَٱلۡأُولَىٰ ٢٥ ۞وَكَم مِّن مَّلَكٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيًۡٔا إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ أَن يَأۡذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرۡضَىٰٓ ٢٦﴾[النجم : ٢٥، ٢٦] (فَتَأَمَّل).
وكان حضرة عَلِيٍّ (ع) يعتبر الاطِّلاع على الأعمال الخفيّة للعباد وعلى ما في صدورهم خاصاً بالله تعالى وحده الذي "لَا شَهِيدَ (شاهد) غَيْرُهُ وَلَا وَكِيلَ دُونَه "[322]. وقال عن الاطِّلاع على المستقبل أيضاً: "قَدْ أَقْلَقَنِي مَا أُبْهِمَ عَلَيَّ مِنْ مَصِيرِ عَاقِبَتِي"[323] وَمِنْ ثَمَّ فلم يكن يعلم الغيب.
والأنبياء بعد رحيلهم عن الدنيا لا تبقى لهم صلةٌ بهذا العالم الفاني. ولذلك فالنبيّ الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه لم يكن يعلم المدّة التي بقي ميتاً خلالها [البقرة: 259]، وعيسى (ع) يقول: ﴿وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡ﴾[المائدة: ١١٧]. وعندما بعث الله أصحاب الكهف من نومهم العميق لم يعرفوا المدّة التي قضوها نائمين ولا كانوا يعلمون أن دقيانوس الملك قد مات وأن أوضاع المنطقة قد تبدلت [الكهف: 19]. ولم يكن نوح (ع) يعلم أن ابنه لن ينجو من الطوفان، لكنه عرف بعد غرقه أن جملة: «سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ » شملت ابنه أيضاً لذلك اتّجه إلى ربّه قائلاً: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٤٥﴾[هود: ٤٥]فجاءه الجواب: ﴿قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖ﴾[هود: ٤٦]أي أنه غرق بسبب أعماله السيئة فَعُلِمَ أن نوح (ع) لم يكن يعلم الغيب.
ولم يكن حضرة إبراهيم (ع) يعلم أنه سيكون له ولد باسم إسحاق (ع) وحفيد باسم يعقوب (ع) لذا لما دخلت عليه الملائكة ولم يعرفهم وذبح لهم عجلاً وقدَّمه لهم (ولو كان يعلم الغيب لَعَلِمَ منذ البداية أنهم من الملائكة وأنهم لا يأكلون الطعام وَلَمَا أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً وَلَمَا طبخ لهم العجل وقدّمه لهم من الأساس)، فلما بشَّرته الملائكة بمجيء ابن له تعجب قائلاً: ﴿قَالَ أَبَشَّرۡتُمُونِي عَلَىٰٓ أَن مَّسَّنِيَ ٱلۡكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ٥٤؟!﴾فأجابوه قائلين: ﴿قَالُواْ بَشَّرۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡقَٰنِطِينَ ٥٥﴾[الحجر: ٥٤، ٥٥]. ولم يكن يعلم حقيقة المهمة التي أُرسل بها أولئك الملائكة لذلك سألهم قائلاً: ﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٧ ؟؟﴾فقالوا: ﴿إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٥٨﴾ [الحجر: ٥٧، ٥٨] فسألهم إبراهيم مُتعجباً: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطٗا﴾أي كيف سينزل العذاب على أهل القرية وفيهم لوط؟! فأجابته الملائكة: ﴿قَالُواْ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَن فِيهَاۖ لَنُنَجِّيَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٢﴾ [العنكبوت: ٣٢]. ولو كان إبراهيم يعلم أن الملائكة ستُنجِّي لوطاً قبل إنزال العذاب الإلهي بأهل قرية سدوم لما سألهم كيف سينزل العذاب على أهل القرية وفيهم لوط؟!
ولم يكن زكريا (ع) يعلم أنه سيُصبح أباً لولد لذا لما بُشِّر بغلام اسمه يحيى قال مُتعجِّباً: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا وَقَدۡ بَلَغۡتُ مِنَ ٱلۡكِبَرِ عِتِيّٗا ٨؟!﴾[مريم: ٨].
ولم يكن لوط (ع) يعلم الغيب فلم يعرف الملائكة الذين جاؤوا لعذاب قومه وكان يتصوّر أنهم بشر فخاف أن يتعرّض لهم قومه بسوء، وحتى بعد أن علم أن قومه لن ينصرفوا عن الرغبة بالتعرّض لضيوفه قال: ﴿لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ ٨٠﴾[هود: ٨٠] في تلك اللحظة كشف الملائكة عن حقيقة أنفسهم وقالوا له: ﴿يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ ٨١﴾[هود: ٨٠، ٨١] وقالوا له: ﴿لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٣﴾[العنكبوت: ٣٣].
كما لم يكن لموسى (ع) -الذي كان من أولي العزم من الرسل- علم بذلك المَلِك الظالم الذي يأخذ كل سفينة لا عيب فيها غَصْباً، ولا كان له علم بالوالدين الصالحين لذلك الغلام الذي قُتل أمامه، ولا بالكنز الذي كان تحت الجدار [الكهف: 67 حتى 82]. ولو كان موسى (ع) يعلم الغيب لما اعترض على رفيقه في السفر في تلك الموارد.
ونبيّ الإسلام ص أيضاً رأى في السنة السادسة للهجرة رؤيا في منامه بأنه يدخل المسجد الحرام وأنه يُؤدّي مناسك الحج، فانطلق برفقة عدد من أصحابه -زاد عددهم عن الألف- ومن جملتهم عَلِيٌّ (ع) إلى مكة المكرمة ظانّاً أن حُلُمَهُ سيتحقق هذا العام، ولم يَدْرِ أن حُلُمَهُ لن يتحقق هذه السنةَ بل سيتحقق في السنة التالية أي السنة السابعة للهجرة. وقُرْبَ مكَّة واجه صدَّ المشركين له عن البيت الحرام في مكان يُدعى «الحُديبية»، فأرسل عثمان للتفاوض مع أهل مكة ليسمحوا له بدخولها، فحال المشركون بين عثمان وبين عودته إلى النبيّ ولما طال غياب عثمان وأُشيع أنه قُتل، استعدّ رسول الله ص وأصحابه للدفاع وقال ص: لن أبرح المكان حتى أُنهي هذا الأمر، وأخذ البيعة من المسلمين تحت الشجرة فبايعوه جميعاً على القتال والثبات، وأقسموا أن يُدافعوا عن الإسلام حتى آخر قطرة من دمائهم فيما عُرف بـ «بيعة الرِّضوان» [سورة الفتح: 18] إلى أن عاد عثمان وانتهت تلك الأحداث بعقد الهدنة التي عُرفت بصلح الحُديبية. فهذه القصة -المُتفق عليها- تُبيِّن أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص وعليّاً (ع): أولاً: لم يكونا يعلمان أن الرؤية التي رآها رسول الله ص لن تتحقَّق في تلك السنة بل في السنة التي تليها. ثانياً: لم يكن النَّبِيّ الأَكْرَمص يعلم، قبل عودة عثمان السبب في تأخر غيابه والسبب في احتفاظ المشركين به[324].
وعندما دنا الشهيد الجليل جناب «مسلم بن عقيل» الذي كان نائب حضرة سيد الشهداء (ع) ومُمثّله الخاص، من الشهادة قال: وصيّتي أن تكتبوا للإمام الحسين (ع) أن لا يأتي إلى الكوفة لأنني قد كتبت له رسالةً من قبل قلت له فيها: إن أهل الكوفة معه ومُستعدّون لنُصرته فرأى الحسين أن الحُجّة تمّت عليه وانطلق نحو الكوفة، في حين أنه قد تبيّن لي الآن أن الواقع ليس كذلك ولم أجد الفرصة كي أُخبره عن تغيّر الأوضاع وعن ادِّعاء أهل الكوفة الكاذب[325].
لاحظوا كيف أن نائب الإمام الحسين وابن عمّه كان يعتقد أن الإمام لا اطِّلاع له على وضع الكوفة المُستجدّ وحال أهلها، وأنه لا يسمع صوته. ولو كان يسمع صوت نائبه ومبعوثه لما كان هناك من ضرورة لكتابة رسالة له! فكيف تدَّعون أن الإمام بعد رحيله عن الدنيا مُطَّلع على أحوال أهلها وأقوالهم؟!! ولقد ذكرنا أموراً مهمة حول العلم بالغيب في الباب الثاني من الفصل الثالث من هذا الكتاب فَلْتُرَاجَعْ ثَمَّةَ.
***
ومن الأقوال الأخرى المضللة التي كثيراً ما يستندون إليها على نحو خاطئ ويذكرونها غالباً في كتبهم أو يقولونها من على منابرهم، قولهم إنه قد ورد في كتب السيرة والحديث أنه بعد أن رمى النبي ص جثامين قتلى المشركين يوم بدر في القليب (بِئْرٍ لم تُطْوَ) خاطبهم ص قائلاً: "قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ؟!". ويقولون لو لم يكن الأموات يسمعون أصوات الأحياء لَمَا خاطب النبيُّ ص أولئك الأموات.
وللأسف فإنهم ينقلون الحَدَث السابق ناقصاً ومبتوراً دائماً ولم أر أحداً من الخرافيين حتى الآن ينقل تلك الحادثة بصورتها الكاملة. وسننقل هنا - إيقاظاً للقراء الكرام - ذلك الحَدَث بصورته الكاملة استناداً إلى كتب السيرة والحديث الموثوقة كي نبطل خداع تجار الخرافات وتضليلهم.
المعروف أن كتاب «السيرة النبوية» لابن هشام أوثق كُتب السيرة و أشهرها. كَتَبَ ابن هشام في سيرته، وكتب ابن كثير أيضاً - وكتابه «السيرة النبوية» مشهور جداً كذلك - في فصل «غزوة بدر العُظمى» يقولان:
"عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ص بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ، طُرِحُوا فِيهِ.......... وَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ص فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقًّا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ص لَقَدْ عَلِمُوا[326].
وجاء في «السيرة الحلبيَّة»:
"عن عائشة أنها أنكرت قوله ص: لقد سمعوا ما قلتُ، وقالَتْ: إنما قال: لقد عَلِمُوا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي ص -أي بقوله في حقِّ أهل القليب ما أنتم بأسمع منهم-: الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الذي أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الحَقُّ[327]. أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قَرَأَتْ -أي محتجةً على ذلك- قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ [النمل: 80]، وقوله تعالى: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢﴾[فاطر: ٢٢]"[328]
وقد نقل ابن كثير في سيرته النبوية في فصل «غزوة بدر العُظمى» والبخاري[329] ومُسْلِم[330] والنَّسَائي[331] وابن أبي الحديد الشارح الشهير لكتاب «نهج البلاغة» هذا الخبر.
قال ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة:
"فلما توافَوْا في القليب وقد كان رسول الله ص يطوف عليهم وهم مصرعون، جعل أبو بكر يخبره بهم رجلاً رجلاً ورسول الله ص يحمد الله ويشكره ويقول الحمد لِـلَّهِ الذي أنجز لي ما وعدني، فقد وعدني إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلاً رجلاً يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا أمية بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. بِئْسَ القَوْمُ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، فقالوا: يا رسول الله، أتنادي قوماً قد ماتوا؟! فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ. وقال ابن إسحاق في كتاب المغازي أَنَّ عَائشَة كانت تَروي هَذا الخَبر وتقول: فالناس يقولون إن رسول الله ص قال: لقد سمعوا ما قلت لهم وليس كذلك، إنما قال: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ"[332].
تلاحظون أن هذا الحديث يبيِّنُ كل الأحاديث الأخرى ويوضِّحُها، فينبغي أن نفهم سائر الأحاديث على ضوء هذا الحديث؛ إذ إنه لما نُقِل إلينا هذا الحديث عبر الأفواه من شخص إلى آخر ومن حافظة إلى أخرى تعرض إلى بعض التبديل والتغيير، لذلك بينت عائشة حقيقة الحادثة كي تمنع الخطأ الذي قد يعتري الآخرين في نقلهم للخبر، وكانت عائشة تعيش في بيت النبي وكان أبوها أحد الشهود العيان للواقعة، لذا كانت أقدر على معرفة ما جرى كمَّاً وكيفاً. وفي هذه الواقعة بالذات لم يكن بقية الرواة يتمتَّعون بما تمتَّعت به عائشة من معرفة دقيقة لوقائع الحادثة لأنها سمعت ذلك مباشرةً من أبيها أو من زوجها النبي ص أو من كليهما. أضِفْ إلى ذلك أنها استدلت على صحة نقلها لما جرى بعموم آيتين من القرآن الكريم وهو أمر لا ينبغي الغفلة عنه.
وكتب ابن كثير في وقائع السنة الثانية للهجرة في فصل «غزوة بدر العُظمى» أيضاً يقول:
"ذُكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبيّ ص أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، فقالت: إنما قال رسول الله ص: إنه لَيُعَذَّبُ بخطيئته وذنبه وإن أهله لَيَبْكُون عليه الآن. قالت: وذلك مثل قوله إن رسول الله ص قام على القَليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال، قال إنهم ليَسمعون ما أقول، وإنما قال: إنَّهم الآن ليعلمون إنما كُنت أَقول لهم حَقٌّ. ثُمَّ قرأت: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ [النمل: 80]، ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢﴾[فاطر: ٢٢]".
بناءً على ما أوردناه من أقوال أرباب السِّيَر والحديث والتاريخ، تتَّضِحُ تماماً حقيقة ما جرى، فالاستناد إلى الأحاديث المخالفة لما أوردناه ليس مقبولاً، أما الذين يُصِرُّون على التشبُّث بأحاديث غير موجَّهة، كتمسُّكهم بالحديث رقم(3976) في البخاري، فينبغي أن نعلم ما يلي:
أولاً: هؤلاء يتجاهلون الأحاديث التي أتينا بها أعلاه، ويقرؤون كما يقول المثل: «لا إله» ولا يكملون الجملة فلا يقرؤون «إلا الله»!!
ثانياً: حتى لو فرضنا أن النبيّ خاطب المقتولين، فمن الواضح -كما يقول علماء البلاغة أيضاً- أن الخطاب لا يستلزم بالضرورة إسماع المُخاطَب الكلام بل في كثير من الحالات يكون خطاب المتكلِّم من باب «لسان الحال» أو «حديث النفس»؛ كما نجد أن الله ذكر لنا أنَّ كُلَّاً من نَبِيِّ الله صالح ونَبِيِّ الله شُعيب عليهما السلام بعد أن أهلك اللهُ قومه بالرجفة: ﴿فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ يَٰقَوۡمِ لَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُمۡ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحۡتُ لَكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ ٧٩﴾[الاعراف: ٧٩ و 93].
ولو كان المراد هنا إسماع الهالكين الميتين لما كان هناك من داعٍ إلى أن يبدأ الله الجملة بقوله: «فَتَوَلَّىٰ عَنۡهُمۡ وَقَالَ». وعلى قول أخينا الفاضل جناب السيد مصطفى الطباطبائي -حفظه الله- حتى المُلحدون الماديُّون الذين لا يعتقدون ببقاء الروح يستفيدون في كلامهم من هذا الفن البلاغي ويُخاطبون به الأموات الراحلين. فعلى سبيل المثال يخاطبون «لينين» في قبره قائلين: "يا لينين ليهنأ بالك فنحن على الدرب سنُواصل كفاحك في سبيل تحكيم المحرومين في الأرض"!! ولا شك أنهم لا يعتقدون أن لينين يسمع صوتهم، ولا يُمكن حمل مثل هذه الجملة على اعتقادهم بأن لينين يسمع الأصوات بعد موته! (فَتَأَمَّل).
وروى الترمذي وابن ماجه والدارمي عن النَّبِيّ الأَكْرَم ص أنه وقف على منطقة في مكة تُدعى «الـحَزْوَرَة»، ونظر إلى مكة فقال "واللهِ إِنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ". ومن البديهي أنه لا يُمكن الاستدلال بهذا الخطاب على أن النبيّ كان يعتبر مكة أو البيت الحرام سامعاً لكلامه بل كل مُنصف يفهم أن كلام النبيّ هذا هو من باب حديث النفس. كما رُوي أن عمر بن الخطاب خاطب الحجر الأسود قائلاً: "وَاللهِ إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللهِ ص يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك". ومن الواضح أن هذا الكلام لا يعني أن عمر كان يعتقد أن الحجر الأسود كان يسمع كلامه. يا تُرى هل كان الإمام السجاد الذي خاطب القمر (الصحيفة السجادىة، الدعاء 43) يعتقد أن القمر يسمع كلامه؟!
نحن المسلمون نقول في ختام صلاتنا -حتى عندما نُصلّي فُرادى-: السَّلاَمُ عليْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه. ولا شك أن المسلمين لا يعلمون أنني الآن في زاوية غرفتي أُنهي صلاتي بهذا السلام وأدعو لهم بالرحمة والبركات. كما أننا أنا وأنتم لا نعتقد أن المسلمين يسمعون صوتنا، ولهذا السبب لا نتوقع أن نتلقى ردّاً على سلامنا، بل هذا التسليم هو نوع من الكلام الذي يدخل تحت فنون الخطاب والبلاغة العربية ويُستفاد منه لهدف آخر، فالمقصود أن يشعر المسلم في جميع الأحوال أنه جزء من جماعة المسلمين فيذكرهم حتى لو كان وحده، ولا يغفل عن صلته وارتباطه بهم فيدعو لهم وكأنهم إلى جانبه. وهذا الموضوع ينطبق أيضاً على صيغ الجمع في قراءة سورة الحمد في صلواتنا الفردية. ودليلنا على أن خطاب كلاً من حضرة صالح وحضرة شُعيب عليهما السلام لقومه إنما كان من باب «لسان الحال وحديث النفس»؛ إضافةً إلى وجود حرف العطف «الفاء» قبل فعل «تولّى» -والذي يدل على أن ذلك الخطاب صدر بعد هلاك قوم كل منهما- أن صالح وشُعيب لو أرادا إسماع الموتى كلامهما لقالا مثل ما قال نوح وهود عليهما السلام لقومهما زمن حياتهما: ﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمۡ﴾و﴿أُبَلِّغُكُمۡ رِسَٰلَٰتِ رَبِّي وَأَنَا۠ لَكُمۡ نَاصِحٌ أَمِينٌ ٦٨﴾[الأعراف: 62 و 68، وقارنوا ذلك بالآيتين 79 و 93 من سورة الأعراف] وَلَمَا كانت هناك ضرورة لتوجيه ذلك الخطاب لهم بعد موتهم وهلاكهم لأنه لم تعد لهم أيّ فائدة في ذلك، وَلَمَا كانت هناك من ضرورة لمُخاطَبة شُعيب (ع) الموتى بأن هلاككم لا يستدعي الأسف، وبناءً على ذلك فكان خطابه: ﴿فَكَيۡفَ ءَاسَىٰ عَلَىٰ قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٩٣﴾[الاعراف: ٩٣]من باب «حديث النفس».
ثالثاً: في الغالب لا يذكر هؤلاء المُستدلّون قول قتادة الذي جاء في آخر الحديث الذي يستشهدون به، إذ قال: "أحْيَاهُمُ اللهُ، حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ، تَوْبِيخاً وَتَصْغِيراً، وَنَقِيمَةً، وَحَسْرَةً، وَنَدَماً ". في حين أنه على حدِّ قول علماء الحديث حتى لو قبلنا بذلك الحديث دون التفات إلى توضيح عائشة وتصحيحها له فإن أكثر ما يُفيده ذلك الحديث هو أنهم لما كانوا رؤوس الكفر وكانوا قد سعوا كثيراً في مُعاداة النبيّ وإيذائه، فإن الله تعالى أوصل كلام النبيّ إليهم بعد مقتلهم، بشكل استثنائي، في ذلك الوقت الخاص والمُحدّد، كمعجزة خارقة للعادة، لأجل تبكيتهم وزيادة عذابهم، لاسيما أنه في تلك المجموعة من الأحاديث استخدم النَّبِيُّ الأَكْرَم ص لفظ «الآن» الذي يدل على أنهم يسمعون الآن فقط -أي في هذا الزمن المُحدّد- لا أنهم يسمعون دائماً وبشكل عام.
46ويدل ما جاء في هذه المجموعة من الأحاديث[333] من كلام النبيّ الذي قال عن أولئك القتلى المرميين في القليب (البئر): "ولكنهم لا يستطيعون جواباً" على أن هذا الموضوع كان أمراً خاصاً واستثنائياً، وإلا فلو كان أولئك القتلى المذكورون يسمعون رغم فقدانهم لحاسة السمع بعد موتهم لما كانوا بحاجة أيضاً إلى قوة التكلم كي يُجيبوا عن ذلك السؤال، ولو قلنا: إنهم فقدوا قوة التكلم بعد موتهم ولذا ما كانوا قادرين على الإجابة، قلنا: بناءً على هذا الأصل لما فقدوا قوة السمع لم يكونوا قادرين على السماع أيضاً.
وعلى فرض أن أولئك القتلى سمعوا كلام النبي ص فيُمكن القول: إن الله تعالى بقُدرته اللامتناهية أسمع في تلك اللحظة الخاصة أولئك الأفراد الخاصين، وهم كانوا حسب الأصل غير قادرين على السمع بعد موتهم وكذلك سيبقون على هذا الأصل من عدم القدرة على السماع بعد تلك اللحظة الخاصة التي أسمعهم الله فيها. ولا يُمكن تعميم هذه الواقعة إلى حالات أخرى فلا تقوى هذه الأحاديث على نقض عموم أصل انقطاع صلة الأموات بهذا العالَم الفاني، فلا يُفيد هذا الحديث هدف تجَّار الخرافات! (فَتَأَمَّل).
رابعاً: في هذه المجموعة من الأحاديث لم يردّ النبيّ على تعجّب بعض أصحابه وإنكارهم وسؤالهم: كيف تُكلم أمواتاً لا يسمعون؟ أو قولهم: ماذا تقول لأجساد لا روح فيها؟ وهذا يدل على أن عدم قدرة الأموات على السماع كان أمراً عاماً ومُسلَّماً به لدى المسلمين وقد أيَّده سكوت النبيّ، ولو قبلنا الحديث على ظاهره فإنه يدل على حادثة فردية واستثنائية لا غير.
خامساً: إن العلماء يدَّعون أنهم مُلتزمون بقاعدة «عرض الأحاديث على القرآن الكريم»، لكنهم هنا لا يعرضون هذه المجموعة من الروايات التي يُعجبهم مضمونها على القرآن كما أنهم يتجاهلون استدلال عائشة بالقرآن في ردّها لتلك الروايات!! في حين أنه يُفهم من القرآن الكريم أن الأنبياء لا علم لهم بأوضاع الدنيا الفانية [سورة المائدة: 117] فما بالك بغير الأنبياء!
[285] راجعوا ما سنذكره لاحقاً في هذا الكتاب الحالي حول الاتصال بالملائكة. [286] نقد وتحليلى پيرامون وهّابيگرى، همايون همتى، ص 185 -186. [287] كما أن الإمام الصادق (ع) الذي كان مقيماً بالمدينة لما سمع أن بعض أهالي الكوفة نادوه معتقدين أنه يسمعهم وقالوا: «لبَّيك يا جعفر» خرَّ ساجداً..... وفيما يلي نصّ الرواية كما رواها الكِشِّيّ في رجاله حيث قال: "لَمَّا لَبَّى الْقَوْمُ الَّذِينَ لَبَّوْا بِالْكُوفَةِ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَخَرَّ سَاجِداً وَدَقَّ جُؤْجُؤَهُ بِالْأَرْضِ وَبَكَى وَأَقْبَلَ يَلُوذُ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: بَلْ عَبْدٌ لِـلَّهِ قِنٌّ دَاخِرٌ مِرَاراً كَثِيرَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَدِمْتُ عَلَى إِخْبَارِي إِيَّاهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَا عَلَيْكَ أَنْتَ مِنْ ذَا. فَقَالَ: يَا مُصَادِفُ إِنَّ عِيسَى لَوْ سَكَتَ عَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِيهِ لَكَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُصِمَّ سَمْعَهُ وَيُعْمِيَ بَصَرَهُ وَلَوْ سَكَتُّ عَمَّا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَكَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يُصِمَّ سَمْعِي وَيُعْمِيَ بَصَرِي" (رجال الكشي، طبع كربلاء، ص 253). [288] كما قال حضرة أمير المؤمنين علي÷عن الله: "سميع لا بآلة، بصير لا بأداة". ولمزيد من التفصيل حول هذه النقطة راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» ص 198. [289] لقد ألَّف كتابه هذا منذ سنوات بعيدة في فترة نفيه في مدينة يزد ولذلك سمّى كتابه «أرمغان يزد». [290] وهو السيد زين العابدين الكاظمي الخلخالي. [291] إن تأمّل الآية 62 من سورة النمل يكشف لنا أن الاستعانة التي نبحث فيها هي «الاستعانة العبادية» يعني الاستعانة غير المُقيّدة وغير المشروطة، التي تتم في حالة الاضطرار التي يفقد فيها الإنسان إمكانية الوصول إلى الوسائل العادية أو الاستفادة من الأسباب الطبيعية، وإلا فمن الواضح تماماً أنه في غير موارد الاضطرار هذه -التي نُلبِّي فيها استغاثة الملهوف أو نستعين فيها بالآخرين- فإن كل نَفَس يتنفسه الإنسان إنما يتمُّ بإذن الله وبفيض من الله وكذلك كل زفير يتمُّ بإذن الله وفيضه وكذلك كل خطوة نخطوها وهكذا ...... ولكن هذا الإذن هو الإذن الإلهي العام الذي تتمتع به جميع المخلوقات. أما الآية الكريمة فقد صرفت النظر عن هذه الحالة واهتمّت بحالة الاضطرار الذي يدخل في مجال الإذن الإلهي الخاص ويُعتبر ساحة ظهور المدد الإلهي غير المُقيّد وغير المشروط بقوانين الطبيعة ولذلك تسأل الآية سؤالاً استنكارياً «أإله مع الله» يعني هل ثمّة معبود آخر أيضاً مع المعبود الحق الله جلّ وعلا؟! وفي النتيجة فإذا استعنَّا بعباد الله القادرين على إعانتنا بنحو محدود بحدود الإذن الإلهي العام الذي مُنح لهم ولجميع الخلق فليس علينا حرج ولا ملامة، أما الاستعانة غير المُقيّدة وغير المشروطة فلا يُمكننا أن نطلبها من أيّ أحد سوى الله لأن هذا المجال مجال خاص بالله وحده لا شريك له ولم يُعطِ الله تعالى أحداً غيره مثل هذه القدرة غير المحدودة وإلا للزم أن يلوم القرآن ويُوبِّخ بذلك الأسلوب أي أسلوب السؤال الاستنكاري، الذين يتوقعون مثل هذه القدرة في غير الله على نحو الاستقلال فقط؟ (فَتَأَمَّل). ويجب أن ننتبه إلى أن الآية الكريمة لم تقل «أمُعين مع الله» أو «أمُجيب مع الله» بل قالت: «أمعبود مع الله»؟! في الحقيقة لقد اعتبر الله مثل هذه الاستعانة في هذه الحالة عبادة، ومع ذلك فإن فئات كثيرة من شعبنا تدعوا في مثل هذه الحالة حضرة أبو الفضل (ع) وحضرة الرضا (ع) ..... ومع ذلك لا ينهاهم أحد عن هذا العمل!! [292] لقد اختصرت قليلاً كلام المؤلف حول هذه القضية لأنه أعاد توضيحها وكرر الأمثلة عليها رغم وضوح الفكرة تماماً فحذفت التكرار. (الـمُتَرْجِمُ) [293] أما الاستعانة المُقيّدة والمشروطة فهي خارجة عن بحثنا بالطبع. [294] أي أنهم يُضيفون بأعمالهم الصالحة التي تؤدي إلى تكاملهم الروحي مزيداً من الاستعداد والأهلية التي تجعلهم أهلاً لاستجلاب رحمة الحق تعالى، كما قال القرآن الكريم: ﴿إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥ﴾[فاطر: ١٠]. [295] مقصود الكاتب المحترم أنه لو انتبه السيد «الخوئي» إلى هذه المسألة إلى أن «المفعول به» لفعل «استعينوا» الذي لم يُذكر في الآية لشدة وضوحه هو كلمة «الله» ومعنى الآية في الحقيقة هو «استعينوا [الله] بالصبر والصلاة» عندئذ كان سيُدرك بوضوح أن «المستعان» في هذه الآية هو الله لا غيره وأن الصبر والصلاة وسيلتان وبتعبيرنا شيئان «مستعان بهما» لأنه من الواضح أن الصبر والصلاة ليسا مُدركين كي يُدركا استعانتنا بهما. [296] إن دعاءنا إياهم الآن في هذه الدنيا يدل على أننا لا نعتقد بأنهم مُقيَّدون بقيد «الحياة الدنيوية»، ورغم أننا نعلم أن الموت الدنيوي قد نزل بهم لا نزال نُناديهم وندعوهم فبعملنا هذا نقول بلسان الحال: نستطيع أن نُسمع الموتى نداءنا في حين أن النَّبِيّ الأَكْرَم صذاته لم يكن قادراً على مثل ذلك [سورة فاطر: 22- 23]، ثم إننا نكون قد اعتبرنا أن سماعه لنا سماع مطلق لا يتقيّد ولا يُشترط به وجود آلة السمع مع أن الله وحده هو الذي لا يحتاج إلى آلة للإبصار ولا للسمع. [297] كما جاء في الفقرة 38 من دعاء «الجوشن الكبير» المذكور في كتاب «المفاتيح» في مناجاة الله: "يا من لا يُستعان إلا به". [298] يُمكننا أن نفهم من مُقارنة الآية 128 من سورة الأعراف بالآية 45 من سورة البقرة وكلاهما خطاب لبني إسرائيل، أنه لما كانت الصلاة أعلى مصاديق الدعاء لذا لو استعنَّا بالله بواسطة الصلاة يكون اللهُ هو «المُستعان به» و «وسيلة الاستعانة» في الوقت ذاته. في كلا الآيتين ذُكر كلا النوعين من الاستعانة: الأولهما الله وصفاته وأسمائه الحسنى، والثاني: «المُستعان به» هو الله و«وسيلة الاستعانة» هي غير الله أي الأعمال الصالحة (كالصبر والصوم والجهاد و .... الخ). وبالطبع هذان النوعان من الاستعانة يُمكن أن يجتمعا مع بعضهما ولا تناقض بينهما. [299] لأن غير الله -حتى الأنبياء والأولياء- يخافون عذاب الله وهم أنفسهم محتاجون ويبتغون إلى الله الوسيلة كي ينالوا رحمته كما قال الله تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا ٥٧﴾[الإسراء: 57]. [300] لو أن ذلك الكاتب الشاب ترك جانباً تعصبه لاعتقادات آبائه وأجداده لأدرك بكل بساطة هذا الفرق ولما كتب في كتابه (ص 186): "أيُّ فرق بين الاستمداد من الطبيب الجرّاح والاستعانة به لعمل عملية الزائدة وبين الاستمداد بجبريل والاستعانة به.....". [301] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 107 فما بعد وقارنوا كلامه هناك مع ما ذكره هنا. [302] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، نشر قدر، صيف 1362 هجرية شمسية (يوافق 1983م)، ص 94. [303] راجعوا الصفحة 124 من الكتاب الحالي. [304] راجعوا الصفحة 128 من الكتاب الحالي. [305] راجعوا الصفحات 96 إلى 115 من الكتاب الحالي. [306] في الحقيقة هؤلاء المتوسِّلون لا يعبدون أحداً سوى الله في مقام القول والادِّعاء فقط [ولكن عملياً يعبدون غير الله دون أن يشعروا عندما يؤدون صنوف العبادة تجاه من يتوسلون بهم]. [307] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [أي التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 94- 95. [308] راجعوا ما ذكرناه في الصفحات 96 إلى 103، والصفحات 113 إلى 120 في الكتاب الحالي. [309] ونص الآية: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبُِّٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾. [310] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [أي التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 97- 98. [311] الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [أي التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 98. [312] الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 105- 106. [313] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، كتاب الصلاة، باب 51 (باب صلاة الاستسقاء). الحديث 21. وجاء في الرواية المذكورة أن العباس كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَدْعُو إِلَّا إِيَّاك». [314] حول سلوك مسلمي صدر الإسلام تجاه أسلافهم راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» لاسيما الصفحات من 3 إلى 29. [315] راجعوا كتاب الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني، «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، ص 104، نقلاً عن الجزء الأول من كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة». [316] والحكم ذاته ينطبق على الحديث الآخر الذي أتى به الأستاذ الشيخ «جعفر السبحاني» في الصفحة 142 من كتابه نقلاً عن عثمان بن حنيف إذ تكلم شخص ضرير في الحديث المذكور مع النبيّ الحيّ من مسافة متعارف عليها (أي أن عمله يدخل تحت عنوان الاستعانة المُقيَّدة) وجعل النبيّ شفيعه، فهذا أيضاً خارج عن موضوع بحثنا. [317] بناءً على ذلك فما يذكره الشيوخ خداعاً للعامة من قولهم: إنه قد جاء في كتب الحديث -ومن جملتها السنن الكبرى للبيهقي أو المستدرك للحاكم النيسابوري أو المصنف لعبد الرزاق الصنعاني أو ....- من أن حضرة الزهراء -عليها السلام- كانت تزور قبر حضرة حمزة سيد الشهداء وقبور شهداء أُحد كل جمعة وتبكي هنالك وتدعوا للشهداء، أو أن النبيّ كان يذهب أول كل سنة إلى البقيع ويدعو لأهل البقيع، أو أن عائشة كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن، أو أن عائشة لما سألت النبيّ: كيف أزور أهل البقيع؟ قال لها: "قولي: السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ المُؤْمِنينَ وَالمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ الله المُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالمُسْتَأْخِرِينَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ الله بِكُمْ لاَحِقُونَ" (صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ج 2، ص 671) خارج عن موضوع بحثنا تماماً ويدخل تحت حديث رسول اللهصالذي قال فيه: "إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور". ثم لما ضعفت آداب الجاهلية وعاداتها بين الناس قال لهم: "أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ (الموت)". (زيارت و زيارتنامه، ص 4 و5). من البديهي أنه لأجل تذكُّر زوال الدنيا وتذكُّر الموت والآخرة، لا فرق بين زيارة قبور المؤمنين وقبور غير المؤمنين ومثل هذا الهدف يحصل لدى زيارة مقبرة المدينة التي يعيش فيها الإنسان، -مثل زيارة مقبرة بهشت زهرا (أي جنة الزهراء) في طهران- وليس من الضروري أن يشدَّ فرد من أهالي مدينة ماكو (في أقصى الشمال الغربي لإيران) أو مدينة خرمشهر (في الجنوب الغربي لإيران) رحاله ويسافر إلى خراسان (في أقصى شرق إيران) ليزور الضريح الفخم والمليء بالذهب والمرايا للإمام الرضا (ع) ليتذكر الآخرة!! أضف إلى ذلك وكما نعلم جيداً لا يذهب الناس من كل حدب وصوب ومن كل فجٍّ عميق إلى زيارة الأئمة أو ذراريهم كي يدعوا لأولئك الأجلاء الكرام ويطلبوا لهم الغفران والرحمة بل هم يتحملون عناء السفر لنيل رضا أولئك الأجلاء الكرام واستجلاب وساطتهم وشفاعتهم لهم عند الله! (فَتَأَمَّل). من الواضح تماماً أن حضور شخص عند قبر أبويه أو أحد أقربائه أو أعزائه وتأثره وبكائه أو دعائه الله لصاحب القبر وطلبه من الله له الرحمة والغفران موضوع خارج عن بحثنا تماماً ولا خلاف فيه بين المسلمين و لِـلَّهِ الحمد. فإذا حضر النبيّ صفي «الأبواء» عند قبر أمه وبكى أو كانت الزهراء (ع) تذهب إلى قبر عمّ أبيها وكانت تبكي لتذكّر تضحياته أو لتذكّر شهداء أُحد وكانت تدعوا لهم، فإنها لم تكن تطوف حول قبورهم ولم تكن تجعل منهم وسطاء وشفعاء بينها وبين الله، وكذلك كانت عائشة تذهب إلى قبر أخيها لقراءة الفاتحة له والدعاء له وطلب الرحمة من الله له، لا لجعله شفيعاً لها عند الله. (فَتَأَمَّل) [318] نص الشاهد في الآيات: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَ﴾[مريم: 64]. ﴿ ...بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧﴾[الأنبياء: 26 - 27] (الـمُتَرْجِمُ) [319] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 134. [320] مصنف عبد الرزاق، الأحاديث: 12444، 12449 و 12455. [321] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 8، ص 27. والحديث صحيح معروف في مصادر أهل السنة رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، والترمذي والنسائي في سننهما، وأحمد في مسنده، وغيرهم، عن عدد من الصحابة منهم حذيفة وابن مسعود وابن عباس وأنس وأبي هريرة. (الـمُتَرْجِمُ) [322] نهج البلاغة، الخطبة 26. [323] الصحيفة العلوية، دعاؤه في الثناء والمُناجاة، ص 134. [324] من الضروري في هذا الموضوع مراجعة كتاب «راه نجات از شر غلاة» [أي طريق النجاة من شر الغلاة] للمرحوم الأستاذ قلمداران، ص 97 إلى 186، والجزء الثاني منه المُسمّى بـ «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]، ص 192 إلى 196. [325] أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ هذا الأمر أيضاً في كتابه «منتهى الآمال»، ج 1، ص 315. [326] السيرة النبوية، ابن هشام، تصحيح محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، ج 2، ص 266. [327] رواية عائشة هذه متفق عليها رواها الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ولفظهما: "إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ". صحيح البخاري (3759)، وصحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، الحديثان (931 و932). (الـمُتَرْجِمُ) [328] السيرة الحلبية، المكتبة الإسلامية للحاج رياض الشيخ، بيروت، ج 2، ص 182. [329] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب 8، الحديث 3978 حتى 3981. [330] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب 9، الحديث 26. [331] سنن النسائي، ج 4، ص 110 و111. [332] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، دار المعرفة والكاتب العربي وإحياء التراث العربي، بيروت، ج 3، ص 345 و 355. [333] إن الأحاديث التي تدل على اطِّلاع الأموات على ما يجري في هذا العالَم الفاني كلها -بناءً على التحقيق فيها - أحاديث معلولة أو ضعيفة السند أو لا تفي بمقصود الخرافيين من حيث الدلالة. ومن جملتها الحديث الذي افتُري على عائشة بأنها قالت: قال رسول اللهص:"مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُوم"!! لأن أحد رواته ويُدعى «يحيى بن اليمان» شخص غير موثوق، وراويه الآخر «عبد الله بن سمعان» ضعيف عند علماء الرجال. ومن جملتها أيضاً حديث رواه الدارمي في سننه ادُّعِي فيه أن عائشة قالت لمن شكى إليها القحط: "انْظُروا قَبْرَ النَّبِيِّ ص فَاجْعَلُوا مِنْهُ كُوَّةً إِلى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ"، أو الحديث المنقول في «سنن ابن ماجه» الذي يقول إن عُمَرَ ذهب يوماً إلى مسجد النبيّ فرأى معاذ بن جبل واقفاً يبكي إلى جوار قبر النبيّ .....، أو الخبر الذي أورده السمهوديّ في كتابه «وفاء الوفاء»، (ص 1374) ومفاده أن بلالاً جاء إلى قبر النبيّ وقال: يا رسول الله! اسأل لأمتك المطر .....الخ، ونظائر هذه الأخبار كلها كذبٌ صُراحٌ ومخالفةٌ لحقائق التاريخ، إذ يعلم جيداً كل المُطَّلعين على التاريخ أن قبر النَّبِيّ الأَكْرَم صكان حتى سنوات عديدة في غرفة عائشة حيث كانت تعيش هي في المكان نفسه، ولم يُصبح هذا القبر حتى بعد مُدّة طويلة من وفاة النبيّ مكاناً يتردّد الناس إليه ويزورنه (من الضروري في هذا الصدد مراجعة كتاب «زيارت و زيارتنامه» الصفحة 16 فما بعد). وطبقاً لتحقيق «ابن تيمية» لم يثبت أن أحداً من أصحاب النبيّ شدّ رحاله وسافر لأجل زيارة قبره ص الذي كان في حجرة عائشة، بل كان إذا حضر أحدهم في المدينة صلَّى في مسجد النبيّ فإذا دخل المسجد أو خرج منه صلَّى على رسول اللهصوسلَّم عليه ولم يدخل إلى حجرته ولم يقف خارج الحجرة خلف بابها. ولما جهَّز عمر جيشاً من اليمن وأتى به إلى المدينة ليُرسله مدداً للمسلمين الذين كانوا مشغولين بفتح العراق والشام وعلى الرغم من أن خاتم النبيين صأثنى كثيراً على إيمان أهل اليمن، لم يُروَ أن أحداً منهم ممن كان يأتي ليُصلّي في مسجد النبيّ كان يذهب إلى قبره أو يُكلّمه، بل كانوا يُصلّون على النبيّ ويُسلّمون من مكانهم في المسجد. إلى أن قام عمر بن عبد العزيز سنة 91 للهجرة بإدخال بعض البيوت المجاورة للمسجد النبوي ضمن المسجد بقصد توسعته وتمّ ضمّ حجرات زوجات النبيّ إلى المسجد بما في ذلك حجرة عائشة التي كان قبر النبيّ صالمُطهّر فيها، فهُدمت الحجرات وجُعلت جزءاً من المسجد وجُدِّد بناؤه لهذه التوسعة. وَمِنْ ثَمَّفإن مرقد النَّبِيّ الأَكْرَم صقبل ذلك التاريخ لم يكن في متناول أيدي الناس، وقد غفل عن هذا الموضوع الذين وضعوا تلك الأحاديث والأخبار التي ذكرناها.
47من الآيات التي كثيراً ما يستغلها الخرافيون ويُفسِّرونها على نحو خاطئ قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣٥﴾[المائدة: ٣٥]. فهذه الآية غالباً ما يُسْتَدَلُّ بها على صحَّة «التوسُّل» غير الشرعي[334].
فعلى سبيل المثال كتب المؤلف الشاب المخدوع بخرافات أهل الحوزة والمتأثِّرُ بمُغالطاتهم يقول:
"إن التوسُّل معناه اتِّخاذ الوسيلة للاقتراب من شيء، كما يقول علماء اللغة: تَوَسَّل إليه بوسيلةٍ: إذا تَقَرَّب إليه بعمل. وتَوَسَّل إلى الله بِعَملٍ أو وسيلةٍ = عمل عملاً تَقَرَّب به إليه تعالى. وتأتي «الوسيلة» لغةً على أحد المعاني التالية:
1- الاقتراب.
2- المقام والمنزلة عند سلطان ما.
3- الدرجة.
4- البحث عن حلٍّ للوصول إلى شيء بالميل والرغبة.
5- كل شيء يمكن بواسطته أو بسببه الاقتراب من الآخر.
لا شك أن الإنسان يحتاج إلى غيره، أي يحتاج إلى شيء خارج حدود وجوده الخاص به، لنيل الكمالات التي يسعى إليها أياً كانت، سواءً كمالات المادية أم كمالات المعنوية.....، وكلنا يعلم أن العطشان يرتوي بشرب الماء البارد والذي أصابه البرد يدفأ بالحرارة الصادرة من النار، وأن الدواء مؤثر في تحسن صحة المريض، وأن السمّ يُهدِّد بالخطر حياة الإنسان السليم، وكذلك يَغْدو الجاهلُ عالماً بالتعلم من الأستاذ، ويُصبح الذي لا يملك مالاً مالكاً بوسيلة إحسان رجل غنيّ إليه، ويهطل المطر من الغيوم في الربيع، فيَنْبُتُ الزرع وأنواع النباتات بوسيلة هذا الماء، ويتغذّى الحيوان من النبات ويكون بدوره سبباً ووسيلةً لبقاء حياة الإنسان ودوامها وهكذا.... فبكل الأحوال: النظام الموجود في العالَم والقانون الحاكم فيه هو نظام «التوسّل» وقانون «التسبُّب»، أي أن نيل كل كمال والحصول على كل مطلوب بحكم المبدأ الساري في الطبيعة، رهين باتِّخاذ «الوسيلة» المناسبة وموقوف على تحصيل السبب الخاص بالمطلوب..... وقد بيَّن القرآنُ الحكيمُ لنا وسيلة «القُرْب من الله» الذي هو أعلى وأشرف كمال يُمكن للإنسان أن يصل إليه في مسيرة عبوديته لِـلَّهِ فقال:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٣٥﴾[المائدة: ٣٥]"[335].
وأقول: لقد ذكرنا سابقاً في الشبهة السادسة من فصل «تذكير مهم حول توحيد العبادة» (ص 209 فما بعد) توضيحات كافية حول «الاستعانة» أو «التوسّل» أو «التوسيط» الشركي وغير الشركي، أو «التوسُّل» و«الاستعانة» غير المُقيَّدة والمُقيَّدة. ونلفت نظر القراء الكرام إلى تلك الإيضاحات[336]. وإضافةً إلى المطالب المذكورة هناك: أولاً: نضيف هنا كلام أخينا الفاضل جناب السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي -أيَّده الله تعالى- الذي قال:
" تُعلِّم آيةُ ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ٣٦﴾[الاسراء: ٣٦]المسلمينَ أصلاً مفادُه أنه ما لم تثبت للمسلم مسألةٌ ما فلا يجوز له أن يقبلها ويتَّبعها دون دليل مُتقن عليها. (فَتَأَمَّل جداً).
إن القوانين العلمية التي يُمكن مُشاهدتها أو أمور الطبيعة المحسوسة والملموسة التي تتكرَّر بذاتها دائماً ويُمكن تجربتها في المُختبر، والتي لا فرق لديها بين المؤمن وغير المؤمن، والأمور التي لا مخالف لها (أي المُتعلِّقة بالإذن الإلهي العام والتي لا تنتج عن صلة خاصة بخالق العالَم) من قبيل وجود الحرارة نتيجة الاحتكاك أو النار، وإزالة العطش بواسطة الماء أو تأكيد قانون الجاذبية ونظائره الذي يُمكن رؤية آثاره الخارجية في هذا العالَم الفاني، كلها أمورٌ يمكن للبشر أن يفهموها ويتعاملوا معها، وحتى لو لم تكن هناك شريعة فإنه من الممكن للإنسان أن يفهم، استناداً إلى حاجته الجسمية وميله إلى الراحة، أن الماء يُزيل العطش والطعام يُزيل الجوع والسقف يقي من أذى أشعة الشمس المُحرقة. وقد آمنا نحن البشر -سواءً كنا من المؤمنين أم من غير المؤمنين- نتيجةً للتجارب الكثيرة وتكرارها أن الحرارة مثلاً تنشأ عن النار والبرودة تنشأ عن الجليد و....
لكن المهم أننا نعتبر كل هذه الأمور محدودة ومُقيَّدة، فمثلاً نحن لا نتوقع من الماء رفع الجوع، ولا من الخبز رفع العطش، ولا من البراد (الثلاجة) تسخين الغرفة وتسجيل الصوت وبثّه، ولا ننتظر من الراديو تبريد الغرفة أو معالجة الأرق... الخ!! كما أننا لا ننتظر من الميكانيكي المُصلّح للسيارات علاج المرضى ولا ننتظر من الطبيب أن يُدافع عنا في المحكمة ويُنجح قضيّتنا!! لهذا السبب أيضاً لم تكن هذه الأمور موضع اهتمام ولا هدفاً لإرسال الرسل وإنزال الكتب، ولم يُنزّل الله كتاباً ليقول للناس أدفئوا أنفسكم بوسيلة النار وعالجوا أنفسكم بوسيلة الدواء وأشبعوا أنفسكم بواسطة الطعام وسيروا في البحر بواسطة السفن وتوسّلوا بالمعول والمجرفة (المسحاة) لحفر الأرض و.....الخ، بل أغلب موضوعات القرآن هي من المسائل التي لا تُعرف نتائجها وحقيقتها إلا في العالَم الآخر، عالَم البقاء والخلود.
لو اختلفتُ مع شخص حول أنه إمكانية السير في البحر بالسفينة أم لا؟ فيُمكننا بالتجربة والاختبار أن نحلّ هذا الاختلاف ويُمكن الحصول على نتيجة التجربة في هذا العالَم الفاني ذاته، أما لو اختلفنا مع شخص حول أنه: هل يجب زيارة حائط المبكى في القدس أم زيارة الكعبة في مكة؟ فلا يُمكننا في هذه الدنيا، أي في عالَم الشهادة، أن نُشاهد نتيجة هذا الخلاف ونعرف أي الأمرين هو الصحيح والمُجْزي، ولذلك في مثل هذه الأمور لا يُمكن الاستناد إلا إلى إذن الخالق وإعلام مالك عالَم البقاء وسلطانه لنا. وإذا كان الأمر كذلك فانطلاقاً من المبدأ القرآني الذي ذكرناه سابقاً[337] نتذكّر أن القرآن قال لنا على لسان حضرة إبراهيم (ع): ﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ٨٠ وَكَيۡفَ أَخَافُ مَآ أَشۡرَكۡتُمۡ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمۡ أَشۡرَكۡتُم بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗاۚ فَأَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٨١﴾ [الانعام: ٨٠، ٨١]. وقال القرآن في المدينة مُوبِّخاً المشركين: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَمَا لَيۡسَ لَهُم بِهِۦ عِلۡمٞۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٖ ٧١﴾ [الحج : ٧١].
بناءً على ذلك، بالنسبة إلى الأخذ أو الاعتقاد والعمل بالأمور المُتعلّقة بعالَم ما فوق عالَم الشهادة وفوق العالَم الفاني والتي لا تظهر آثارها إلا في عالَم البقاء (= البرزخ والقيامة)، لا بُدَّ أن يكون لدينا إذنٌ وإعلامٌ صريحٌ وأكيدٌ صادرٌ عن خالق جميع العوالم ومالكها، أي لا بُدَّ أن يُرشدنا إلى ذلك القرآن الكريم. وهذا أمر يتفق عليه جميع أتباع الأديان بشكل عام والمسلمين بشكل خاص.
بناءً على ذلك، في مثل هذه الأمور لا يُمكننا أن نقبل ما لم يثبت لدينا ونتَّبعه. فما الذي يُدريني مثلاً أين توجد روح الشخص الصالح العظيم الفلاني بعد أن ودَّع هذه الدنيا الفانية وما هي إمكاناته وكيف يُمكنني أن أتواصل معه وأرتبط به أو أتوسّل به؟
بناءً على ذلك فإن ادِّعاء الذين يدَّعون -دون دليل قرآنيّ يُثبت ادِّعاءهم- بأن التوسّل والتبرّك بالأنبياء والأئمة عليهم السلام وبالأولياء ودعائهم ومناداتهم على نحو غير مُقيَّد، مثله مثل التوسّل والاستفادة من القوى التي وضعها الله أمامنا -سواءً كنا مؤمنين أم كافرين- في عالَم الشهادة وعالَم الفناء (مثل قوة الدفع المركزي أو قوة الجاذبية أو قانون تمدد الأجسام بالحرارة أو الاستفادة من الدواء والطعام...) ادّعاءٌ ينطوي على إشكالين مُهمّين:
الإشكال الأول: قياس الغائب على الشاهد، وهو أمرٌ لا يُمكن للعقل السليم أن يقبله، وللأسف لقد أدَّى عدم الانتباه إلى ذلك المبدأ القرآني الذي ذكرناه[338] إلى دخول الخرافات إلى الدين وإلى جعل أهل الدين عرضةً للخطر والهلاك في الدنيا، وحتى في الآخرة أيضاً، لأن أتباع الأديان أصبحوا يقبلون مسائل لا يُؤيّدها العلم ولا التجربة ولا الكتاب السماويّ، فانطبقت عليهم الآية الكريمة التي تقول: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٢٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآ﴾ [لقمان: ٢٠، ٢١].
وفي الموضوع الذي نحن فيه، فإن آيات القرآن ليس فيها أي دلالة صريحة على مطلوبكم ومُدَّعاكم، وليس هذا فحسب بل ليس لها ظهور من الأساس في هذا الموضوع، بل هناك آيات عديدة في القرآن تُؤيّد قولنا أكثر مما تُؤيّد مُدّعاكم، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨﴾ [الجن: ١٨]، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمۡثَالُكُمۡ﴾ [الاعراف: ١٩٤][339]، وآيات عديدة أخرى. ومن جملتها آية تدل على أن الأنبياء بعد وفاتهم وانتقالهم عن هذه الدنيا لا تبقى لهم صلة بهذا العالَم الفاني وأحواله ولا بأحوالنا وما يجري علينا. [سورة المائدة: 117].
وأساساً لا نُشاهد في القرآن أي نصٍّ يدلُّ على أن أحداً من الأنبياء كان يتوسّل بأرواح الأنبياء الذين سبقوه أو بالملائكة. كما لا نملك في هذه المسألة أحاديث قطعية متواترة تواتراً حقيقياً (لا متواترة ادّعاءً) تتمتع بشروط الصحة والقبول بشكل كامل، بل الأحاديث والأخبار التي تُعارض قولكم ليست بالقليلة.
الإشكال الثاني: أنه لا يُمكننا أن نقيس جميع الأمور بعضها على بعض ونعتبرها متشابهة، فلا يُمكننا أن نقول: إنه لما كان الحصول على كل شيء في عالَم الطبيعة منوطٌ باتّخاذ الوسيلة اللازمة له وموقوف على تحصيل سببه، أو أنه لما وصل إلينا وحيُ الله من خلال واسطةٍ فيجوز لنا أيضاً قياساً على ذلك يجوز لنا أن نجعل كل ما أعجبنا أو كل ما قاله عظماؤنا وأسلافنا واسطةً لنا في التقرّب إلى الله ونجعله وسيلةً لنا، فهذا العمل قياس في العمل وهو مردود حتى في مذهب الشيعة (فتأمّل جداً).
إن الله تعالى هو الذي اختار أن تكون واسطة إيصال الوحي إلى النَّبِيّ الأَكْرَم ص جبريل عليه السلام، والله تعالى هو الذي عيّن واختار أن تكون واسطة إيصال الأحكام إلى العباد هي النبيّ ص، وبعبارة أخرى لم يختر رسول الله ص جبريل ولا اختار الناس النبيّ. بناءً على ذلك لا يحقّ لنا عندما يقول لنا صاحب الشريعة: ﴿أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُۗ وَوَيۡلٞ لِّلۡمُشۡرِكِينَ ٦﴾ [فصلت: ٦] أن نخالف أمره وندعو أفراداً لا يُمكننا أن نصل إليهم ونعتبرهم «وسيلةَ» التقرُّب إليه تعالى، ونُؤدّي إليهم الأعمال العبادية «مثل النذر والطواف وطلب الحاجات والدعاء غير المُقيَّد و.....»، ونقول: إنهم «الوسيلة» التي تُقرِّبنا من الله.
نعم، يختار الإنسان الوسيلة المناسبة للحصول على كل أمر، أما مسألة التقرّب من الله تعالى فلا يجوز قياسها من عند أنفسنا على سائر الأمور بل لا بُدَّ أن نتعلم وسائل أو وسائط التقرّب من الله، من شريعته وتعاليمه. لاحظوا أننا لا نُنكر بأيّ وجه من الوجوه أصل وجود الوسائط أو ضرورة اتِّخاذ الوسائل المناسبة في أمور العالَم، بل نقول: لا يجوز أن نقيس أمور العالَم المختلفة بعضها على بعض ونشملها جميعاً بحكم واحد دون دليل شرعي على ذلك، بل نقول: الوسائط أو الوسائل التي جعلها الله لنا للتقرّب منه هي - بحكم الشرع- الدعاء والتضرع له تعالى والعبادات التي شرعها لنا وأعمال الخير التي يُمكن تحصيلها وصرَّح الشرع بها. كما أننا يجب أن نقتدي بالنبيّ والأئمة الذين هم أنفسهم كانوا مأمورين باتِّخاذ الوسيلة التي تُقرِّبهم من الله أي بطاعة أوامر الحق واجتناب نواهيه والذين أدَّوا العبادات الشرعية على أفضل نحوٍ، وأن نستفيد من تعاليم أولئك الأجلاء الكرام لأجل أن نتقرّب من الله تعالى.
وإشكالنا عليكم هو في اتِّخاذكم طرق وأساليب للعبادة تجاه أئمة الدين والأنبياء العظام وفي التصورات التي تعتقدونها بشأنهم دون دليل شرعي متقن عليها، كاعتقادكم بأنهم يملكون ولاية تكوينية وأنهم حاضرون في كل مكان ويعلمون الغيب وعندهم القدرة على فعل كل الأمور (بما في ذلك الأمور الخارجة عن قوانين الطبيعة) وأنه يُمكنكم باختياركم أن تختاروا من تشاؤون منهم سواء في زمان حياتهم أو بعد رحيلهم شفعاء لكم و..... فكثير من الناس ينذرون لأئمة الدين العظام ويطوفون حول قبورهم ويطلبون حاجاتهم منهم دون قيد أو شرط في حين أن مثل هذه الأمور ونظائرها موقوفة على الله تعالى وحده". (انتهى كلام الأستاذ الطباطبائي).
ثانياً: ونحن أيضاً سنذكر تأييداً لما ذكره ذلك الكاتب الشاب بعض الأمور من كتب المصادر والمراجع: فقد جاء في كتاب «لسان العرب» ما نصّه: "[الوَسِيلَة] تُطلَق على كل عمل خالص سُلِك به طريق التقرُّب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات".
48وجاء في كتاب «مفردات القرآن» للراغب الأصفهاني: "حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مُراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحرِّي مكارم الشريعة وهي كالقُربى".
وجاء في كتاب معتبر آخر هو «معجم ألفاظ القرآن الكريم»: "الوسيلةُ، الوُصلةُ يُتوصَّل بها إلى البُغية، والوسيلةُ إلى الله سُبحانه ما يُوصل إلى ثوابه والزُّلفى لديه وذلك بفعل الطاعات وترك المعاصي؛ وَسَلَ إلى كذا: تقرَّب إليه ورغب فيه"[340].
وجاء في كتاب «تاج العروس» نقلاً عن الجوهري ما نصّه: "الوسيلة، ما يُتَقَرَّبُ به إلى الغير".
وجاء في معجم الجامع الكبير تأليف أحمد السياح أيضاً ما نصّه: "(وَسَلَ) إلى الله بعملٍ أو وسيلةٍ وَ (وَسَّلَ): توسَّل إلى الله".
فكما نُلاحظ يُطلَق على كل ما يكون سبباً للنجاح في عمل ما أو نيل شخص ما القرب من آخر، كالقرب من مَلَك مثلاً، أو يكون سبباً للوصول إلى هدف ما اسم: «الوسيلة»، فمثلاً نقول: إن وسيلة قربي من الملك أن أقوم بخدمته أو الوسيلة لجعل المعلم يُحبّني أن أدرس الدرس جيداً، أي أنني بوسيلة قراءة دروسي أنال انتباه المُعلّم ومحبّته لي، وذلك لأنه لا يُقال للكائن العاقل المُدرك «وسيلة»، أما لو أردنا من كائن عاقل مُدرِك، كإنسان مثلاً، أن يطلب لنا من مَلِكٍ عفواً أو رُقيّاً في الدرجة أو مقاماً فهذا العمل يُقال له «استشفاعاً»، كما نُطلق على الشخص الذي حقق طلبنا وشَفَعَ لنا عند المَلِك لقب «الشفيع» لا «الوسيلة»؛ فنقول مثلاً: "فُلانٌ استشفع زيداً إلى عَمروٍ". ولذلك لا يُثني أيُّ عاقل على السُلَّم الذي هو «وسيلة» الصعود إلى مكان مرتفع، لكن الإنسان يشكر الشخص الذي أخذ بيده وسحبه نحو مكان مرتفع، أو لا يُثني شخص على دواء كان «وسيلة» لشفائه ولا يشكر الدواء، لكنه يشكر الطبيب الذي وصف له أعمالاً رياضية خاصة (= وسيلة) أو وصف له دواء مناسباً (= وسيلة). (فَتَأَمَّل جداً). حتى مؤلف كتاب (نقد وتحليلي پيرامون وهّابيگري، ص196) قال: إن المقصود من «الوسيلة» لاسيما في الآية 35 من سورة المائدة، هو المعنى الخامس، أي «كل شيء يمكن بواسطته أو بسببه الاقتراب من الآخر ».
لو انتبهنا إلى الأمور التي كتبها ذلك المؤلف الشاب لرأينا أن كل ما ذكره من معان للوسيلة يتناسب مع الأشياء والأعمال لا مع الأشخاص (فَتَأَمَّل). في حين أنه لو كان ادِّعاء الخرافيِّين صحيحاً لقال القرآن الكريم بدلاً من: ﴿ٱبۡتَغُوٓاْ إِلَيۡهِ ٱلۡوَسِيلَةَ﴾[المائدة: ٣٥]«استشفعوا إليه!»[341].
بناءً على ذلك لا يُمكننا أن نقول -دون دليل- إن كلمة «الوسيلة» تشمل أيضاً الأشخاص الذين لا يُمكننا الوصول إليهم.
أما القول بأن: " كلمة الوسيلة جاءت في الآية المباركة (سورة المائدة: 35) مطلقةً غير مُقيَّدة بأيّ قيد، وَمِنْ ثَمَّ فمعناها واسع وشامل ومطلق"[342] فلا يفي أبداً بالمقصود ولا يُفيد إلا في خداع الناس وإضلالهم، لأنه من الواضح أن مُجرَّد إطلاق كلمة «الوسيلة» في الآية أي تجرُّدها من القيود وكونها مُطلقة، لا يستوجب الخروج عن حدودها الخاصة بها ولا يُعطيها إمكانية شمول الأشخاص[343]، ولا يستوجب إلغاء أثر حرف «إلى» أيضاً، أي أن كلمة «الوسيلة» ينبغي أن تتناسب مع الهدف وتنسجم معه وتكون من سنخه، بناءً على ذلك فإن حرف «إلى» يُحدِّد ويُعيِّن إطلاق «الوسيلة» وعمومها[344]. أي أن «الوسيلة» يجب أن تكون متناسبة مع التقرّب من الله لا أيّ وسيلة كانت؛ إذ إن كثيراً من الوسائل في هذا المسير مُبعِدة عن الله لا مُقرِّبة! في الواقع المقصود هنا هي الوسائل التي أذنت بها الشريعة وبيَّنتها لنا.
في رأينا إن الآية 35 من سورة المائدة تقول: يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الوصول إلى الفلاح والنجاح فعليكم اجتناب ما نهى الله عنه والتمسُّك بالتقوى كما عليكم أن تبحثوا عن وسيلة إلى الله (= منزلة أو عمل أو فعل يستوجب نيل رضا الله والقُرب منه) ثم ذكرت الآية الجهاد في سبيل الله كنموذج للأمور التي تستوجب نيل المنزلة عند الله أو القُرب منه سبحانه وتعالى والذي تكون نتيجته الفلاح والسعادة الأبدية. وبعبارة أخرى قالت الآية: عليكم لأجل نيل الفلاح والخلاص والسعادة الأبدية أن تتقوا الله وفي الوقت ذاته أن تعبدوا الله وتُطيعوه بالطاعات التي تستوجب القُرب منه وتُفضي إلى سعادتكم الأبدية.
و أقول: إذا كنتم لا تزالون تُصرُّون رغم ذلك على موقفكم وتقولون:
"إن الفلاح والنجاح هما نيل مقام القُرب، وبحُكم لزوم المُغايرة بين «المُقدّمة» و «النتيجة» لا بُدَّ أن تكون الوسيلة غير «القُرب»، أي أنه يجب أن تكون الوسيلة شيئاً يُمكن للإنسان أن ينال بواسطته وبسببه القُرب والمنزلة عند الله التي هي الفلاح والنجاح، كما أن الأمر «بالجهاد» جاء عقب الأمر بابتغاء الوسيلة، وهذا يظهر منه أن الجهاد هو مصداق هام جداً من مصاديق ابتغاء الوسيلة، ولما كان الجهاد ذاته ليس التحقق الخارجي والعيني للقُرب من الله بل سبباً ومُقدِّمةً لذلك القُرب فكلمة «الوسيلة» في هذه الآية لن يكون معناها القُرب والدرجة والمنزلة والبحث عن وسيلة وحلّ (التي هي من المعاني اللغوية للوسيلة)، بل معناها الصحيح والمتناسب مع الآية الكريمة هو المعنى الخامس (أي كل ما يستوجب القُرب من الله ويكون سبباً في حصوله)"[345].
قلنا: إن هذا الكلام أيضاً لا ينفعكم لأنكم لا زلتم لم تأتوا بدليل صحيح ومُتقن على ما يلي:
أولاً: لم تأتوا بدليل على أنه يُمكن الاتِّصال بالأشخاص الذين تركوا هذا العالَم الفاني والارتباط بهم[346].
ثانياً: لم تأتوا بدليلٍ واحدٍ على أنه يُمكن جعلهم «وسيلةً للتقرُّب إلى الله»، فإن قلتم: إن قصدنا أنهم يُمكن أن يكونوا «شُفعاء» لنا، فعندئذ تكونوا قد انتقلتم إلى ميدان «الشفاعة» فنحن أيضاً ننقلكم ونُحيلكم إلى الكتاب القيّم: «راه نجات از شرّ غُلاة» (ص 224 فما بعد).
والأهمُّ من ذلك أن كل ما ذكرناه أعلاه إنما هو من باب المُماشاة مع الخصم وإلا فإن ادِّعاءكم لا دليل عليه من الأساس، وإن «الفلاح والنجاح» نتيجة للقُرب من الله ومن لوازمه لا أن الفلاح والسعادة الأبدية هي «القُرب» ذاته. في الواقع «القُرب والتقرُّب» سبب للفلاح لا الفلاح ذاته.
لو لم يكن مثل هذا المؤلف الشاب مخدوعاً بأقوال العلماء الخرافيين، ولو كان له معرفة بالقرآن الكريم، لعلم أن الله تعالى قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَ﴾[الجمعة: ٩]. لاحظوا أن الله بدلاً من أن يذكر سبب ذِكر الله -الذي هو الصلاة[347]- ذكر المُسَبَّب وأراد به السبب، وتعلمون أن «القُرب» و«الرضوان» الإلهي سببان للفلاح والسعادة لا الفلاح والسعادة ذاتهما، كما نجد في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن... يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٩٩﴾[التوبة: ٩٩]إذ نُلاحظ أن القرآن ذكر «قُرُبَات» و«قُرْبَة» وأراد بهما سببهما، بناءً على ذلك حتى لو كانت «القُرْبَة» -بناءً على ادِّعائكم الذي لا دليل عليه ولا مُستند له- هي «الفلاح والخلاص والسعادة» ذاتها فلا مانع أن يقول الله «القُرب» ويقصد سببه، كما أنه عندما قال: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ﴾[القصص: ٧٧]إنما قصد طبعاً ابتغاء الفوز والنجاح في عالَم الآخرة لا ابتغاء الآخرة بحدِّ ذاتها التي سيحضر فيها الخاسرون الهالكون أيضاً. أو أنه عندما قال: ﴿تُرِيدُونَ وَجۡهَ ٱللَّهِ﴾ [الروم: 39] أو استخدم تعبير: «ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِ» أو «ابْتِغَاءَ وَجْهِ الرَّبِّ» [البقرة: 272، الرعد: 22، الليل: 20] إنما قَصَدَ ابتغاء رضا الله. أو عندما استخدم تعبير: «ابتغاء رِضوان الله ورضا الله» كقوله تعالى: ﴿تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا﴾[الفتح: ٢٩]أو قوله: ﴿رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١٩﴾[المائدة: ١١٩][348] أو قوله: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾[الفجر: ٢٧- ٣٠] إنما قال ذلك لأن نتيجة الفوز العظيم والفضل من الله والرضوان الإلهي ولازمه: دخول الجنة والسعادة والنجاح الأبديين، كما أن رضا العباد الصالحين نتيجة لنيلهم الفلاح والنجاح، لا أن رضا الله ورضوانه والقُرب منه هو الفلاح والنجاح ذاته. «فلا تتجاهل».
قال تعالى: ﴿وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلسَّٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١﴾[الواقعة: ١٠، ١١]. ومن الواضح أن بقيّة أهل الجنة -الذي لهم درجات أدنى- هم أيضاً من المُفلحين والناجحين، لكن الله تعالى وصف «السابقين» الذين قال عنهم: ﴿ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٤﴾[الواقعة: ١٣، ١٤] بصفة: «الْمُقَرَّبُونَ » وميَّزهم بها فعُلم أن القُرب ليس هو الفلاح ذاته [بل القُرب سبب الفلاح، والفلاح نتيجةٌ للقُرب].
بناءً على ذلك فإن أصل «لزوم المُغايرة بين المُقدِّمة والنتيجة» في البحث الذي نحن فيه، أي في معنى الآية 35 من سورة المائدة، لا يمنع أن تكون كلمة «الوسيلة » بمعنى التقرُّب والمنزلة، لأنه مما لا شُبهة فيه أن الآية الكريمة قالت إنه لابُدَّ من حصول أمرين لأجل السعادة الأبدية والفلاح والنجاح (1- وجود المُقتضي و2- فقدان المانع):
الأول: الالتزام بالتقوى واجتناب المناهي وهما أمران يستوجبان فقدان المانع من القُرب من الله. الثاني: ابتغاء الوسيلة أي ابتغاء القُربة أي التقرُّب من الله الذي هو سبب ومُقتضى لنيل الفلاح والسعادة الأبديين. ولا خلاف أن علَّة «التقرُّب» وسببه هو: العمل بأوامر الشرع ووصاياه التي أحد بنودها الجهاد في سبيل الله، وكما رأينا في الأسطر السابقة، أطلق القرآن كلمة «القُربات» و«القُربة» وأراد بهما سبب التقرُّب، فمن ثَمَّ لا إشكال في أن يأمر القرآن بابتغاء الوسيلة (ابتغاء القُربة)[349] ويقصد بذلك سبب القُربة وما يُؤدّي إليها، ثم يذكر أحد أسباب القُرب ومُوجباته أي الجهاد في سبيل الله كنموذج على ذلك.
ثالثاً: لو كانت كلمة «الوسيلة » -بناءً على ادِّعائكم الذي لا دليل عليه- تشمل النبيّ والإمام أيضاً فلماذا اعترض رسول الله ص على المشركين الذين كانوا يعتبرون الأصنام تماثيل مُذكِّرة بأرواح عظمائهم -كما بيَّنا ذلك بالتفصيل فيما سبق (ص 96 إلى 128)-، وكانوا يستمدُّون منها ويُقدِّمون لها القرابين وينذرون لها ويطوفون حولها ويطلبون منها حاجاتهم ويعتبرونها واسطةً وشفيعاً ومُقرِّباً، أو على حدِّ قولكم «وسيلةً » للتقرُّب إلى الله، وحاربهم على هذا العمل واعتبرهم مشركين؟! أليس السبب في ذلك أن الإسلام اعتبر تلك الأعمال «عبادةً »؟ وأن عبادةَ غيرِ الله مُحرَّمةٌ بإجماع المسلمين؟
أضف إلى ذلك، حتى لو اعتبرنا أن كلمة «الوسيلة » تشمل كائناً مُدركاً -بسبب وجود قرائن في الكلام تدل على ذلك- فإن ذلك لا يحلُّ مشكلة أهل الخرافات لأن حضرة السجاد قال في المُناجاة الأولى من المُناجاة الخمس عشرة مُخاطباً ربَّه: "اسْتَشْفَعْتُ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ إِلَيْكَ وَتَوَسَّلْتُ بِحَنَانِكَ [بِجَنَابِكَ][350] وَتَرَحُّمِكَ لَدَيْكَ فَاسْتَجِبْ دُعَائِي". وقال في المُناجاة السابعة: "لَا وَسِيلَةَ لَنَا إِلَيْكَ إِلا أَنْت ". وقال كذلك: "وَسِيلَتِي إِلَيْكَ التَّوْحِيدُ وَذَرِيعَتِي أَنِّي لَمْ أُشْرِكْ بِكَ شَيْئاً"[351]. وقال أيضاً: "جَعَلْتُ بِكَ اسْتِغَاثَتِي وَبِدُعَائِكَ تَوَسُّلِي"[352].
وقال رسول الله ص: "إلهي وَسيلتي إِليكَ الإِيمانُ بكَ". وقال حضرة عَلِيّ (ع): "قَدْ جِئْتُ أَطْلُبُ عَفْوَكَ وَوَسِيلَتِي إِلَيْكَ كَرَمُكَ"[353]. وقال: "فَقَدْ جَعَلْتُ الْإِقْرَارَ بِالذَّنْبِ إِلَيْكَ وَسِيلَتِي..... مُتَوَسِّلٌ بِكَرَمِكَ إِلَيْك"[354]. وقال: "فَإِنِّي أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِتَوْحِيدِكَ وَتَهْلِيلِكَ وَتَمْجِيدِكَ وَتَكْبِيرِكَ وَتَعْظِيمِك"[355]. وقال: "اللهم إني أتقرّب إليك بذكرك وَأستشفع بك إلى نفسك.......... وَأتوسل إليك بربوبيتك"[356]. وقال عَلِيٌّ في تفسير معنى «حيِّ على الصلاة»: "أَيْ قُومُوا إِلَى مُنَاجَاةِ رَبِّكُمْ وَعَرْضِ حَاجَاتِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِكَلَامِهِ وَتَشَفَّعُوا بِه........ وَارْفَعُوا إِلَيْهِ حَوَائِجَكُم"[357] (فَتَأَمَّل جداً).
وقال حضرة سيد الشهداء الحسين بن عَلِيّ (ع): "هَا أَنَا أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِفَقْرِي إِلَيْك"[358]. وصعد رسول الله ص في الأيام الأخيرة من عمره المبارك على المنبر وجلس عليه وقال: "أيها الناس لا وسيلة بين الله وبين أحد من عباده يجد بسببها خيراً أو يدفع عن نفسه بها شراً إلا العمل بطاعة الله"[359].
يَتَـبَيَّنُ من هذا الكلام الصريح للنَّبِيّ الأَكْرَم ص أنه لا يُمكن أن يكون الأشخاص «وسيلةً»، ولهذا السبب قال عَلِيٌّ (ع)، ويبدو أنه قال ذلك تأييداً لقول رسول الله ص وتفسيراً للآية 35 من سورة المائدة:
"إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ: الْإِيمَانُ بِهِ وَبِرُسُولِهِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ العِقَاب، وَحِجُّ الْبَيْتِ...... وَصِلَةُ الرَّحِمِ"[360].
فكما نلاحِظ لم يتوسّل عَلِيٌّ وسائر الأئمة -حتى على سبيل تعليم الأمة وإرشاد المأمومين- في أدعيته بالنبيّ الأكرم ص ولا بسائر المُقرَّبين والأنبياء السابقين بمن فيهم حضرة خليل الرحمن وأبي الأنبياء إبراهيم (ع) أو حضرة إسماعيل (ع) بل توسّل دائماً بالإيمان والإسلام وصفات الله وبالجهاد والأعمال الصالحة وعرَّف لنا هذه الأشياء بوصفها «الوسيلة»، حتى أنه قال: "لَيْسَ لِي وَسِيلَةٌ إِلَيْكَ إِلَّا عَوَاطِفُ رَأْفَتِك" [361]، أو قال: "فَإِنَّا بِكَ وَلَكَ وَلَا وَسِيلَةَ لَنَا إِلَيْكَ إِلَّا بِك"[362]، أو قال: "فَمَا لِي وَسِيلَةٌ أَوْفَى مِنْ قَصْدِي إِلَيْكَ"[363].
رابعاً: منذ أواخر القرن الثاني الهجري فما بعد لم يَعُد النبيّ والأئمّة بين أظهرنا، أي لم يعد بإمكاننا الوصول إليهم حتى نبتغيهم ونجدهم!! كما لم تعد أرواحهم الطيبة في عالَمنا قابلةً لابتغائها والوصول إليها والحصول عليها! لأنها انتقلت إلى عالَم آخر، فكيف يُمكن أن يأمرنا الله الكريم بابتغاء شيءٍ لا يُمكن الحصول عليه والوصول إليه (فَتَأَمَّل).
خامساً: لو كانت «الوسيلة» في الآية موضع بحثنا هي بالضبط ما يدَّعيه الخرافيون، فإن تلك «الوسيلة» لم يكن من الممكن العمل بها أو تحصيلها حتى في زمن الحياة الدنيوية للنبيّ الأكرم ص أو الأئمة الكرام إلا لمن كانوا يعيشون في المدينة أو الكوفة أو...... إذ كيف يُمكن للمؤمن المقيم في اليمن أو الشام أو خراسان أو.... أن يبتغي الأئمة ويسعى للحصول عليهم؟! اللهم إلا أن يشدَّ رحال السفر ويُسافر إلى مقرِّ إقامة الأئمة، ومثل هذا الأمر لا يتيسَّر بالطبع لكل الناس، وإلا فلم يكن من الممكن ابتغاء النبيّ أو الأئمة أو دعائهم من مكان بعيد لأن أئمة الدين كانوا يرفضون أساساً مثل هذه الأعمال. فقد جاء في كتاب «رجال الكِشِّيّ» (ص 353) أنه عندما كان الإمام الصادق ÷ مُقِيماً في المدينة سمع أن جماعةً من أهل الكوفة نادوه قائلين: «لبَّيك جعفر» تأثر جداً و"خَرَّ سَاجِداً وَأَلْزَقَ جُؤْجُؤَهُ بِالْأَرْضِ وَبَكَى وَأَقْبَلَ يَلُوذُ بِإِصْبَعِهِ وَيَقُولُ: بَلْ عَبْدٌ لِـلَّهِ قِنٌّ دَاخِرٌ مِرَاراً كَثِيرَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ" (فما بالك إذا فعلنا تجاهه مثل هذا الأمر -أي ناديناه من بعيد- بعد وفاته ورحيله عن الدنيا؟!)
سادساً: لم تقل الآية الكريمة «ادعوا الوسيلة» بل قالت «ابتغوا»، ومن البديهي أن الابتغاء غير الدعاء (فلا تتجاهل). وكما قلنا: لا يُمكننا أن نبتغي، ونحن في الدنيا الفانية، الأنبياءَ والأولياءَ الذين انتقلوا إلى عالَم البقاء!
سابعاً: لو انتبهنا إلى الآية الكريمة ذاتها، على ضوء ما ذكرناه في البند الثاني، لتبيَّن لنا أن الآية ابتدأت -كما هو ظاهر- بجملة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾[البقرة: 282] التي هي خطاب لعامة المؤمنين، وهذا الخطاب يشمل النَّبِيّ الأَكْرَم ص ذاته الذي هو - طبقاً للقرآن [البقرة: 285] - أحد المؤمنين وداخل في خطاب الآية ، والأئمة بالطبع مشمولون أيضاً بخطاب الآية، فالجميع أنفسهم عليهم أن يبتغوا «الوسيلة» إلى الله، فلا يُمكن أن يكونوا هم أنفسهم «الوسيلة» إذْ لا يُمكن أن يبتغوا أنفسهم! وهنا نسأل: هل «الوسيلة» التي يبتغيها النبيّ والأئمة إلى الله شيء سوى الإيمان والتقوى والعمل الصالح؟ هل «الوسيلة» التي يجب على كلٍّ من الإمام والأُسوة والمأمومين أن يبتغوها شيء سوى الجهاد في الله وفي سبيل الله؟ هل هناك في الدين فرق في الأحكام بين الإمام والمأموم حتى يجوز القول أنه في هذا المورد لا ينبغي أن يقتدي المأمومون بالإمام ولا أن يتَّبعوه ولا أن يتَّخذوا «الوسيلة» ذاتها إلى الله التي يتَّخذها الإمام؟!
يتبيَّن من التأمّل في الآية أن تلك الآية الكريمة، بعد أن أمرت بالتقوى أي العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه، أمرت بابتغاء «الوسيلة» وذكرت نموذجاً على ابتغاء «الوسيلة» حين أمرت بالجهاد بقوله تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾وبهذا تكون الآية قد أوضحت مباشرة المقصود من «ابتغاء الوسيلة» وبيَّنته، فلا حاجة أن نُلفِّق شرحاً من عند أنفسنا لمعنى «الوسيلة». ولعل هذا هو السبب في أن أكثر المُدافعين عن الخرافات لا يذكرون هذه الآية حتى آخرها في خُطبهم وكتبهم بل يقتطعونها غالباً ويحذفون آخرها!
علاوةً على ذلك، فإن الآيات التالية: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا ٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓ﴾ [الاسراء: ٥٦، ٥٧] أوضحت معنى «الوسيلة» في القرآن وبيَّنت المراد منها، وكلمة «أقرب» في الآية الكريمة قرينة على أن المقصود من «الوسيلة» المنزلة والتقرُّب الذي يحصل بواسطة الالتزام بأوامر الشرع واجتناب نواهيه، والأكثر قُرباً من الله هم الأكثر مُراعاة للتقوى والعبادة وطاعة الحق تعالى أي هم الذين يطلبون المنزلة والقُرب من الله لا شيئاً آخر. في الواقع إن الآية تقول بشكل ضمنيّ: إن الذين تدعونهم هم أنفسهم يبحثون عن «الوسيلة» التي تُقرِّبهم من الله، ولا شك أن علينا أن نرى ما هي «الوسيلة» التي يتَّخذونها فنتَّخذ «الوسيلة» ذاتها، أو نرى ما الذي اعتبروه سبباً لكسب المنزلة والقُرب من الله فنعتبره نحن أيضاً سبباً لعُلوِّ الدرجات وكسب المنزلة عند الله. (فَتَأَمَّل).
ثامناً: في كثير من الحالات يتمُّ في اللغة العربية عطف كلمة «المنزلة» على كلمة «الوسيلة» كمُرادف لها وكتأكيد لمعناها. ومن جملة ذلك الجملة التالية التي وردت في الزيارة التي رواها الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في «مفاتيح الجنان» عن الإمام الحسين (ع) نقلاً عن كتاب «مصباح الزائرين» للسيد ابن طاووس: "اللهم.... بَلِّغْهُ الْوَسِيلَةَ وَالْمَنْزِلَةَ الْجَلِيلَة"[364]، أو أن أمير المؤمنين علي ÷ قال عن رسول الله ص بعد رحيله عن الدنيا: "اللهم......أَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ وَالْفَضِيلَة"[365].
وجاء في الحديث أن رسول الله ص قال: "اسألوا الله لي الوسيلة فإنَّها درجة في الجنَّة لا ينالها إلا عبدٌ واحدٌ أرجو أن أكون أنا هو". أو أننا نقول في الدعاء الذي ندعو به عندما نسمع الأذان: "آتِ مُحَمَّداً الوَسيلةَ والفَضيلةَ وابْعثْهُ اللهم مَقامَاً مَحْموداً"[366]، ونماذج هذه التعبيرات ليست بالقليلة.
[334] استند صاحب كتاب «توسل يا استمداد از ارواح مقدسه» [التوسل أو الاستمداد من الأرواح المقدسة]، المُضِلِّل للعوام، إلى هذه الآية أيضاً. انظر (ص 114 منه، الطبعة الأولى).
[335] نقد وتحليلى پيرامون وهّابيگرى (نقد وتحليل حول الوهَّابية). همايون همتى، ص 191 حتى 194.
[336] كما يلزم أيضاً مراجعة الكتاب القيم «راه نجات از شر غلاة» [طريق النجاة من شر الغلاة] لأخينا الفاضل الأستاذ المرحوم حيدر علي قلمداران، ص 56 إلى 84.
[337] يعني آية ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ٣٦﴾[الإسراء: 36] (الـمُتَرْجِمُ)
[338] يقصد المبدأ المستفاد من آية ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ٣٦﴾[الإسراء: 36] (الـمُتَرْجِمُ)
[339] قصد الأستاذ الفاضل أنه لا يُمكن لأحد أن يدّعي أن قصد القرآن الأصنام لأن الأصنام كانت مصنوعة من الأحجار والأخشاب والمعادن وهي ليست عباداً مثلنا. وراجعوا أيضاً ما ذكرناه في الكتاب الحالي في الصفحات 96 إلى 115.
[340] معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية، (مصر)، انتشارات ناصر خسر و (طهران).
[341] في هذا التعبير لا يدخل الأشخاص وحدهم بوضوح فحسب بل يدخل غير الأشخاص أيضاً -كما سنرى في أدعية الأئمة-. وما نريد قوله إن تعبير «استشفاع إلى الله» أعم من «ابتغاء الوسيلة» وأقرب إلى المعنى الذي يطلبه الخرافيون لكن القرآن الكريم لم يستخدم هذا التعبير (فَتَأَمَّل).
[342] نقد وتحليلي پيرامون وهّابيگري، (نقد وتحليل حول الوهَّابية)، ص 197.
[343] إلا إذا وُجدت قرينة في الكلام تدل على ذلك. وإلا فإن إطلاق «أ» أو إفادتها معنى مطلقاً: معناه أنها تشمل كل مدلول «أ» بشكل كامل وتام ودون نقص، و ليس معناه أن مدلولها يشمل «ب» أيضاً؟!! وكل عاقل يفهم هذا الأمر.
[344] وبعبارة أخرى فإن هناك فرق بين عبارة «ابتغوا الوسيلة» وعبارة «ابتغوا إليه الوسيلة»، أي أن ما قاله الشاعر في البيت التالي كلام باطل:
در دل دوست به حيله رهى بايد جُست
طاعت از دست نيايد گنهى بايد كرد!!
أي:
لا بُدَّ من البحث عن وسيلة إلى قلب المحبوب
فإذا لم تحصل عليه بالطاعة فعليك بالمعصية
وأقول: في هذه الأيام الأخيرة من عمري لم يعد بإمكاني الاعتماد على ذاكرتي وربما لم أنقل بيت الشعر هذا بصورة صحيحة.
[345] نقد وتحليلي پيرامون وهّابيگري، (نقد وتحليل حول الوهَّابية)، ص 196.
[346] سألني بعض الأصدقاء حول «الاتِّصال بالأرواح» [أي تحضير الأرواح] الذي يدَّعيه بعض الناس، لذا أرى من اللازم أن أذكر هنا باختصار بعض الأمور حول هذا الأمر:
أولاً: إلى الحدّ الذي أعرفه، لم تثبت حتى الآن قضية «الاتِّصال بالأرواح» من الناحية العلمية والتجريبيَّة، والأهمُّ من ذلك أن هذا الادِّعاء لا ينسجم مع عبارة: «تَوَفّى» التي استُخدمت في القرآن بشأن الروح، والتي تعني الأخذ الكامل، ولا ينسجم مع قوله تعالى: ﴿وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٠٠﴾[المؤمنون: 100]، ولا مع الآيات التي تدلُّ على عدم معرفة الأرواح بما يجري في عالَم الدنيا والعالَم الفاني بعد الانتقال عنه إلى العالَم الباقي، ومن المعلوم أن هناك بين العالَم الفاني والعالَم الباقي حائل وبرزخ يمنع عودة الروح من العالَم الثاني إلى الأول أو اطِّلاعها على العالَم الفاني والاتِّصال به. (فَتَأَمَّل)
ثانياً: إن أغلب الذين يدَّعون «الارتباط بالأرواح» كذابون كما جرَّبنا ذلك، وقد سمعت من أخي الفاضل جناب السيد «مصطفى الطباطبائي» -حفظه الله- أنه قال: لقد حضرت إحدى جلسات تحضير الأرواح وطلبت من مُحضِّر الأرواح إحضار روح جدّي المرحوم آية الله «الميرزا أحمد الآشتياني». وبعد مُدّة قال مدير الجلسة: ها قد أحضرت روح جدّك. فسألته عدّة أسئلة علمية كنت أعلم أن جدّي المرحوم يعرف الإجابة عنها، لكنني سمعت إجابةً لا معنى لها!! فقد تبيِّن لي أن مدير الجلسة أحضر في الاحتمال الغالب جنِّياً ادَّعى كذباً أنه روح جدّي لكنه لم يكن مُطَّلعاً بشكل صحيح على أحوال جدّي المرحوم!! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ.
ثالثاً: هل استطاع أحد أن يدَّعي حتى الآن أنه يستطيع إحضار روح حضرة إبراهيم أو حضرة موسى أو حضرة عيسى أو حضرة الرضا أو .....؟
رابعاً: لنفرض أنه ليس من المستحيل الاتِّصال بالأرواح والارتباط بها، لكن هذا العمل يحتاج إلى مُقدِّمات ومعرفة علم خاص وطيِّ مراحل ومراتب مختلفة، وفي النتيجة فإن هذه المسألة خارجة عن إطار بحثنا لأن الموضوع الذي نبحثه ونناقشه مع الخرافيين هو ادِّعاؤهم أن مُجرّد نداء أرواح الأنبياء والأولياء والتوسُّل بهم يجعلهم يطَّلعون على ما نريده ويحصل الارتباط بينهم وبين الناس العاديين!! (فَتَأَمَّل).
[347] لأن الله تعالى قال: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ ١٤﴾[طه: 14].
[348] لاحظوا الآيات التالية: البقرة: 207 و256، النساء: 114، المائدة: 2، الحديد: 27، الحشر: 8، الممتحنة: 1.
[349] راجعوا الصفحة 206 من الكتاب الحالي وقول الراغب الأصفهاني.
[350] جاء في بعض النسخ «بجِنانك» أي برأفتك وعطفك، وهي أكثر مناسبةً للكلمة التالية التي عُطفت عليها أي «ترحُّمك» وفي هذه الحالة أيضاً لا يكون في الدعاء ما يُؤيّد ادِّعاء الخرافيين.
[351] الصحيفة السجادية، دعاؤه في دفاع كيد الأعداء.
[352] مفاتيح الجنان، دعاء أبو حمزة الثمالي، ص 185.
[353] الصحيفة العلوية، دعاؤه (ع) في الاستغفار في سحر كل ليلة عقب ركعتي الفجر.
[354] الصحيفة العلوية، دعاؤه (ع) في المُناجاة في شهر شعبان، ومفاتيح الجنان، المُناجاة الشعبانية، ص 154 و155.
[355] الصحيفة العلوية، دعاؤه (ع) في الشدائد.
[356] مفاتيح الجنان، دعاء كميل، ص 62 و65، والصحيفة العلوية، دعاؤه المعروف بدعاء كميل ودعاؤه في ليلة الجمعة.
[357] مستدرك الوسائل، الطبعة الحجرية، ج 1، ص 257.
[358] مفاتيح الجنان، دعاء عرفة، ص 274.
[359] مُنتهى الآمال، الشيخ عبَّاس القُمِّيّ، ج 1، ص 102.
[360] نهج البلاغة، الخطبة 110.
[361] بحار الأنوار، ج 96، ص 149.
[362] بحار الأنوار، ج 96، ص 147.
[363] بحار الأنوار، ج 100، ص 295.
[364] مفاتيح الجنان، ص 420 و ص 207 في أعمال أيام شهر رمضان.
[365] نهج البلاغة، الخطبة 106.
[366] إشارة إلى الآية 79 من سورة الإسراء، حيث جاءت كلمة «الوسيلة» في الآية 57 من السورة ذاتها.
من الآيات التي يستغلُّها الخرافيون بشكل متكرِّر الآيتان التاليتان:
أ) ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤﴾ [النساء : ٦٤].
ب) ﴿قَالُواْ يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِِٔينَ ٩٧﴾[يوسف: ٩٦].
غالباً ما يقولون إن الله دعا الذين ارتكبوا خطيئة وإثماً أن يطلبوا من رسول الله ص أن يستغفر لهم الله، أو يقولون: إن إخوة يوسف (ع) طلبوا من يعقوب (ع) أن يستغفر لهم الله، ولم يتَّهِمْهم يعقوب بالشرك لهذا السبب. بناءً على ذلك فلماذا تعترضون علينا وتتهموننا بالشرك إذا طلبنا من حضرة عَلِيٍّ (ع) أو حضرة الرضا (ع) أو من سيد الشهداء (ع) أن يتوسَّط لنا عند الله ويطلب المغفرة لنا منه؟!
ولِيعْلَم القارئ الكريم أن علماءنا سوَّدوا صفحات كثيرة عند بحثهم حول هذه الآية ونظائرها، وأنهم أخذوا ساعات كثيرة من أوقات الناس ليُثبتوا لهم بقاء الروح بعد فناء الجسم كي يُقنعوا الناس بشكل غير مباشر بأن مخالفيهم لا يعتقدون ببقاء الروح!! هذا في حين أن عملهم هذا ليس سوى مغالطة فاضحة ونوع من إثارة العوام لأجل حرف أذهانهم والافتراء على المُوحِّدين. سبحانك هذا بهتان عظيم.
أيُّ مؤمن من أيّ دين -فضلاً عن المسلم- لا يعتقد ببقاء الروح؟! بناءً على ذلك فليس الخلاف حول بقاء الروح أو فنائها، بل الخلاف حول إمكانية الارتباط بالأرواح بعد مفارقتها الأجسام وانتقالها إلى عالَم البرزخ. فنحن نقول إن هذا ليس مُيسَّراً لنا، خاصةً أن القرآن فرَّق بشكل واضح بين الحيّ الذي لا تزال روحه متعلّقةً بجسمه ومُرتبطةً به والميت الذي انقطعت صلة روحه بجسمه الدنيوي وانتقلت إلى عالَم آخر يعني عالَم البرزخ. قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ... أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٢١﴾[النحل: ٢٠، ٢١]، وقال أيضاً: ﴿وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَحۡيَآءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢﴾[فاطر: ٢٢]، وقال عن معبودات المشركين ومدعوّيهم: ﴿إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ﴾[فاطر: ١٤]. فهذه الآيات تدل على أن دعاء المشركين أصنامهم كان باعتبار أن معبوداتهم كانت في الواقع بعض الشخصيات العظيمة والصالحة من الأسلاف[367] ولم تكن تماثيلهم وأصنامهم سوى تجسيد وتذكير بتلك الشخصيات العظيمة، ولم يكن المشركون -كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في الصفحات الماضية[368]- يُنادون مُجرَّد أخشاب وأحجار ومعادن، كما أن القرآن الكريم يقول عن تلك المعبودات: أموات غير أحياء، فمن وجهة نظر القرآن هناك فرق أساسيّ كامل بين الموتى وأهل القبور، وبين الأحياء في هذه الدنيا، حتى لو كان الموتى وأهل القبور من الأنبياء والصالحين والأوصياء، إذ أنه رغم أن للأنبياء والأولياء بعد موتهم حياة أخروية وحياة برزخية، إلا أنهم لا يملكون حياةً دنيويةً، أي أنهم لم يعودوا أحياء في هذه الدنيا الفانية وقطعوا صلتهم بعالَمنا الفاني ولم تعد لدينا إمكانية الصلة بهم والارتباط معهم[369].
أضف إلى ذلك أن دعاء أحدٍ سوى الله -أعمّ من كونه حياً أم ميتاً-، وكما مرَّ معنا أيضاً بشكل مفصل في الصفحات الماضية[370]، مرفوض من الإسلام. (فَتَأَمَّل).
على ضوء هذا التذكير المهم أعلاه، نأتي الآن إلى تفنيد ادِّعاء الخرافيين:
أولاً: مثلما قلنا في موضوع استسقاء عُمَر (ص 185 إلى 194) وذكرنا أن عُمَر دعا العباس من مسافة مُتعارف عليها، نُكرِّر هنا أيضاً الكلام ذاته ونقول: إن إخوة يوسف كلَّموا أباهم في زمن حياته لا بعد وفاته، كما أنهم طرحوا رغبتهم من مسافة مُتعارف عليها لا من مسافة عدّة كيلومترات!! أي أنهم سألوه أن يستغفر لهم وهم على مسافة يُمكنهم فيها أن يُخاطبوه ويُسمعوه صوتهم، وأجابهم حضرة يعقوب (ع) إجابةً مُؤمِّلةً فقال: ﴿قَالَ سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٩٨﴾[يوسف: ٩٧].
49ثانياً: لقد علَّمَنَا الإسلام أيضاً أنه إذا ارتكب مسلم خطيئةً فعليه أن يستغفر ربّه، ويُعبَّر عن ذلك بـ «حقِّ الله»، وإذا انتهك حق شخص أو آذى إنساناً فعليه، علاوةً على استغفار الله، أن يذهب إلى الفرد المذكور -إذا كان بإمكانه الوصول إليه- ويستسمحه ويطلب منه العفو، ويُعبَّر عن ذلك بـ «حق الناس». كما نُلاحظ في الآية 64 من سورة النساء أن الله بيَّن كلا الأمرين فقال بشأن «حق الله»: «فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ»، وقال بشأن «حق الناس»: «وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ».
وينبغي أن نعلم أن المنافقين بتفضيلهم الاحتكام إلى غير النبي على الاحتكام إلى النبيّ ص وقبول قضائه اعتبروا عملياً وبشكل غير مباشر أن غير النبيّ أعدل وأكثر إنصافاً منه ص، فكان في موقفهم هذا إهانة للنبيّ ص وإيذاء له، لذا كان من الواجب عليهم أن يعتذروا ويطلبوا السماح منه ص كي يُكفِّروا عن ذنبهم تجاهه، وأفضل حالة من الاعتذار هي أن نطلب من صاحب الحق لا أن يُسامحنا فقط بل أن يطلب بنفسه الغفران والعفو من الله على إيذائنا له؛ لأنه في هذه الصورة لا يُفهمنا صاحب الحق أنه أنعم علينا بأعلى مراتب العفو والمُسامحة والرضا وإسقاط حقه عنا فحسب، بل يؤكد لنا أنه طلب لنا من الله أيضاً أن يعفو عنا ويغفر لنا (فَتَأَمَّل)، كما أنه عندما يطلب صاحب الحق نفسه من الله أن يغفر لنا فلا شك أن الله الرؤوف الرحيم وغفَّار الذنوب سيستجيب دعاءه. وهذا العمل يُعطي للمُذنب الطالب للغفران والسماح مزيداً من الطمأنينة وراحة النفس.
وعلى هذا الأساس لما كان أبناء يعقوب قد رموا أعزَّ أبناء أبيهم في البئر وأحرقوا فؤاد أبيهم بحرمانه سنوات مديدة من فلذة كبده وسبَّبوا عمى بصره واتَّهموه بأنه ضالٌّ ومُخطئ [سورة يوسف: 95] كان عليهم أن يستغفروا الله لأنفسهم كما كان من الواجب عليهم أن يذهبوا إلى أبيهم يعقوب ويعتذروا منه ويستسمحوه ويرجوه أن يطلب من الله أن يغفر لهم، مثلما قال أخوهم الكبير قبل ذلك: ﴿فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٨٠﴾[يوسف: ٧٩] أي أنَّ إِذْنَ أبي علامة على قبوله عذرنا، كما أنهم أقرُّوا أمام يوسف بخطئهم اعتذاراً منه فقبل يوسف عذرهم وأجابهم قائلاً: ﴿قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٩٢﴾[يوسف: ٩١].
بناءً على ذلك فقد طلب أبناء يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم الله في حال حياته لا بعد وفاته ومن مسافة مُتعارف عليها (فلا تتجاهل)، ومثل هذا الطلب والسؤال طلبٌ وسؤالٌ مُتعارف عليه ومُقيَّد ولا علاقة له بموضوع بحثنا.
إذن فاستدلالكم بهاتين الآيتين لا يفيدكم شيئاً ولا يثبت مدعاكم، بل عليكم أن تأتوا بآية تذكر لنا أن أشخاصاً جاؤوا إلى مرقد نبيٍّ من الأنبياء وطلبوا منه أن يستغفر لهم الله أو طلبوا ذلك منه وهم على مسافة بعيدة غير مُتعارف عليها، أما استنادكم إلى هذه الآية في مسألة هي محلّ خلاف، فهو من باب قياس الغائب على الحاضر والميت على الحيّ أي هو قياس مع الفارق، وهو غير صحيح قطعاً.
إن موضوع بحثنا هو: هل يُمكن دعاء الرسول أو الإمام غير الحاضر بيننا وغير الحي بحياته الدنيوية بل الساكن في الجنة البرزخية التي أراحه الله فيها من هموم الدنيا وأحزانها، ونداؤه والطلب منه أم لا؟ ونحن -كما بيَّنا فيما سبق- تبعاً للقرآن، نعتبر الموتى وأهل القبور لا يستوون مع الأحياء في هذه الدنيا!
ثالثاً: لقد قال القرآن: ﴿تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ﴾[النساء : ٦١]، وقال: ﴿جَاءُوكَ﴾ [النساء: 64]، ولم يقل: «تعالوا إلى قبر الرسول» كما لم يقل: «جاؤوا قبرك»، واليوم لا يذهب أهل الخرافات لعند رسول الله ص بل يذهبون عند قبره. (فلا تتجاهل)، وأكثر ما تُفيده عبارات: ﴿تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ... ٱلرَّسُولِ﴾[النساء : ٦١] و ﴿جَآءُوكَ﴾[النساء : ٦٢]، أنه يُمكننا أن نطلب من النبيّ زمن حضوره بيننا وحياته الدنيوية أن يتوسط لنا ويدعوا الله لنا ولا علاقة لهذا الأمر بفعل ذلك بعد رحيله عن الدنيا. فاليوم مثلاً يقول شعبنا وهم في مدينة «سَرَخْس»[371]: "يَا رَسُولَ اللهَ! اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ الله!"، أو يقولون: "يَا نَبِيَّ اللهِ! إِنَّا تَوَسَّلْنَا بِكَ إِلَى الله!"، أو يقولون: "يَا مُحَمَّد! اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا!" و..... ونحو ذلك من الدعاء والنداء غير المُقيَّد الذي هو محلّ خلاف بيننا وبين الخرافيين.
إضافةً إلى ذلك يجب أن نعلم أن الآية 64 من سورة النساء تتعلّق بأشخاص آذوا رسول الله ص زمن حياته كالمنافقين الذين كانوا أول المُخاطَبين بتلك الآية ولا علاقة لذلك بسائر المسلمين الذين لم يكونوا مُعاصرين للنبيّ لأن الله لم يقل: أيُّها المسلمون إن ارتكبتم ذنباً فاذهبوا إلى قبر النبيّ واطلبوا منه أن يستغفر لكم الله! فلا يُمكن تعميم الآية إلى ما بعد رحيل رسول الله ص. خاصةً أننا نعلم أن أمير المؤمنين علي ÷ كان يُفرِّق بين حضور رسول الله ص وغيابه[372] (نهج البلاغة، الحكمة رقم 88).
ولكن قبل الانتهاء من هذا الموضوع من اللازم أن نُشير إلى حديث غالباً ما نجد مُروِّجي الخرافات يستندون إليه في كتبهم، وهو حديث أورده السمهودي[373] في الجزء الثاني من كتابه «وفاء الوفا» وادَّعى فيه أن الإمام مالك، الذي كان إمام المدينة المنورة زمن أبي جعفر المنصور الدوانيقي، قال لهذا الخليفة العباسي الذي كان في مسجد رسول الله ص:
"يا أمير المؤمنين! لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي هَذَا الْمَسْجِد فإنّ الله تعالى أدَّب قوماً فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ﴾[الحجرات: ٢]". وقال له أيضاً: "لِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَم (ع)؟.....الخ ". ثم استدلَّ على قوله بالآية 64 من سورة النساء!! [374]
لقد أوضحنا في الصفحات الماضية ما يكفي بشأن الآية 64 من سورة النساء والقارئ ذاته يعلم أن هذا ليس له علاقة ببحثنا ويُمكنه أن يفهم أنه من المُحال تقريباً أن يستند شخص كالإمام مالك إلى هذه الآية في الموضع الذي نبحث فيه. أما بالنسبة إلى الآية الثانية من سورة الحجرات أيضاً فإن تأملاً بسيطاً في الآية يُبيِّن أن الاستدلال بها في زمن أبي جعفر المنصور الدوانيقي خطأ وبالطبع لا يفعل مالك مثل هذا الأمر. فالقرآن الكريم يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ﴾[الحجرات: ٢]، وبناءً على ذلك فالآية تتعلّق بزمن الحياة الدنيوية لرسول الله ص حيث كان من الممكن أن يوصل صوته للناس وأن يسمع صوت من يُناديه، فأُمر الناس أن يكون صوتهم أخفض من صوته ص ولا يرفعوا صوتهم فوق صوته. وكل عاقل يفهم أنه بعد رحيل النبيّ ص عن الدنيا لم يعد أحد يسمه صوته فلا مجال لأن يأتي «مالك» بعد قرن من رحيل النبيّ ص ليقول للخليفة العباسي: لا يجوز أن ترفع صوتك أمام مرقد النبيّ ص. وكما يقول أخونا الفاضل السيد «مصطفى الطباطبائي»: يلزم عن هذا القول أن نعتبر أن جميع الوُعَّاظ والمُدرِّسين الذين يعظون أو يُدرِّسون في مسجد النبيّ ص ويتكلَّمون بصوت مُرتفع ليسمعهم الحاضرون مُهينين للنَّبِيّ الأَكْرَم ص ومنتهكين لحرمته!! ﴿فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا ٧٨﴾[النساء : ٧٨].
ولكن النقطة المُهمّة الأخرى التي نعتقد أنه من الضروري أن يطَّلع عليها القارئ المحترم هي أنه إذا كان العوام لا يعلمون فإن المشايخ الذين يستندون في الغالب إلى هذا الحديث يعلمون قطعاً أن راويه أي «محمد بن حميد الرازي» لم يُدرك مالك زمن أبي جعفر المنصور حتى يروي عنه هذا الحديث بشكل مباشر، وحتى لو فرضنا أنه أدركه فليس لحديثه أيضاً أيُّ اعتبار لأن علماء الرجال كالنسائي وابن شيبة وأبو زرعة ضعَّفوه واعتبروه غير ثقة!! فينبغي أن نسأل: لماذا يستند علماؤنا إلى مثل هذا الحديث؟!! (فَتَأَمَّل).
في أيام الشيخوخة والوهن وضعف البصر هذه التي أعيشها الآن لا أملك القدرة على تفصيل هذا الموضوع أكثر من ذلك وأخشى أن لا أتمكن من إكمال تنقيح وإصلاح وتهذيب كتابي هذا، لذا أكتفي بهذا القدر [حول موضوع توحيد العبادة وتفنيد الشبهات المثارة حوله]، كي يستيقظ القراء الكرام ويُحققوا ويتأملوا فيما يُعرض عليهم باسم الإسلام ولا يقبلوا أيّ كلام دون تفكير وتدبّر في القرآن الكريم، حتى لو كان قائله شيخاً مُعمَّماً، ولا ينْسَوْا قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلۡبُكۡمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡقِلُونَ ٢٢﴾[الانفال: ٢٢]. [375]
[367] والملائكة الذين كان المشركون يعتقدون أنهم بنات الله. (الـمُتَرْجِمُ) [368] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 105-108. [369] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 158- 161. [370] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 166- 169. [371] مدينة حدودية في أقصى الشمال الشرقي لإيران على الحدود مع أفغانستان. (الـمُتَرْجِمُ) [372] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 187-190، وراجعوا أيضاً كتاب «زيارت و زيارتنامه» ص239 و240. [373] السمهودي: أبو الحسن نور الدين علي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي (844 - 911 ه = 1440-1506م): مؤرخ المدينة المنورة ومفتيها. ولد في سمهود (بصعيد مصر) ونشأ في القاهرة. واستوطن المدينة سنة 873ه، وتوفي بها. من كتبه: "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" طبع في مجلدين، و"خلاصه الوفا" اختصر به الأول، وطبع أيضاً، وله غيرهما من الكتب في الفقه والحديث. (الـمُتَرْجِمُ) [374] أي قوله تعالى: ﴿... وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤﴾[النساء : 64]. (الـمُتَرْجِمُ) [375] إلى هنا انتهى كلام المؤلف حول توحيد العبادة وتفنيد الشبهات المُثارة حول توحيد العبادة الذي بدأه ص 107. وهو بحثٌ جامعٌ قَيِّمٌ يصلح أن يكون كتاباً قائماً بذاته. (الـمُتَرْجِمُ)
ذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في هذا الفصل نقلاً عن السيّد عليخان الشيرازي[376] في كتابه «الكَلِمِ الطيّب»: "أن اسم الله الأعظم هو ما يفتتح بكلمة «الله» ويختتم بكلمة «هو»، وليس في حروفه حرف منقوط.....الخ"، إلى أن قال: "إن الاسم الأعظم جاء في القرآن المجيد في خمس آيات من خمس سُوَر".
هنا ينبغي أن نسأل: ما هو دليل السيد عليخان ومُستنده على هذا الكلام؟ لقد لفَّق هو والشيخ المغربي كلاماً حول آيات القرآن دون مُستند شرعيّ. نحن نؤمن بآيات القرآن الكريم ولكننا لا نعتبر ما ذكروه حُجَّةً لأنه كلام ليس عليه دليل ولا نقبل كلاماً لا دليل عليه ولا مستند له.
[376] هو السيد علي خان المُلقَّب صدر الدين ابن الأمير نظام الدين الحسيني الدشتكي الشيرازي المدني، من علماء الإمامية البارزين في عصره، ولد بالمدينة المنورة سنة 1052هـ، ثم جاور بمكة ثم رحل إلى حيدرآباد من بلاد الهند وأقام بها مدَّةً طويلةً وكان من أعيان أمرائها معظّماً عند ملوكها ثم لما غلب "أورنك زيب ملك الهند" على تلك البلاد سار إلى الملك المذكور وصار من أعاظم أمراء دولته، ثم توجه إلى حج بيت الله الحرام ثم جاء إلى بلاد ايران وتوفي في شيراز سنة 1120هـ. ترك عدداً من المؤلفات أشهرها شرح الصحيفة السجادية الذي أسماه «رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين»، وكتاب «الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة»، وكتاب «الحدائق الندية في شرح الصمدية في النحو للبهائي»، وكتاب «الكلم الطيب والغيث الصيِّب في الأدعية المأثورة عن النبي وأهل البيت»، وغيرها من الكتب. (الـمُتَرْجِمُ بالاستفادة من كتاب «أعيان الشيعة» للسيد محسن الأمين العاملي، ج 8، ص 152-153).
هو دعاءٌ لا أصل له من أوله إلى آخره ولا صلة له إطلاقاً بأئمة الدين. ورغم ذلك يقول الشيخ عبَّاس القُمِّي:
"قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله) عن بعض الكتب المعتبرة (؟!): روى محمّد بن بابويه هذا التّوسّل عن الأئمة (عليهم السلام)"!.
ولكنه لم يذكر لنا اسم الكتاب الذي روى فيه ابن بابويه هذا الدعاء، ولا اسم راوي هذا الدعاء ولا اسم الإمام الذي رُوي عنه!! عِلماً أن هذا الدعاء لم يَرِدْ في أيٍّ من كتب الشيعة المشهورة المُخصصة لذكر الأدعية مثل «الصحيفة السجادية» وشرحها الموسوم بـ «رياض السالكين»، وكتاب «عُدّة الداعي» لابن فهد الحلي، وكتاب «مفتاح الفلاح» للشيخ البهائي.
نعم، إن دعاء التوسُّل من موضوعات صُنَّاع المذاهب الذين لا يتورَّعون عن وضع الأدعية، وكما أشار صاحب «مفاتيح الجنان» فإن دعاء التّوسّل بالأئمة الاثني عشر المنسوب إلى الخواجة نصير الدّين هو تركيب من هذا التّوسّل ومن الصلاة على الحُجج الطّاهرين في خطبة بليغة أوردها الكفعمي في أواخر كتاب المصباح، كما أورد الكفعميّ في كتابه «البلد الأمين» تلخيصاً لدعاء التوسُّل في المفاتيح وجعله في آخر دعاء «الفرج» في كتابه.
وأقول: لا يخفى أن «الخواجة نصير الدين» كان عالماً مُتلوِّناً ينطبق عليه المثل «يدور مع النَّعماء حيث تدور!!» فكان مُدَّةً في خدمة الإسماعيلية السَّبُعية (أي القائلين بسبعة أئمة)! وعلى كل حال لا يملك الخواجة وأمثاله الحق في التشريع ولم يجعل الله تعالى قوله حُجَّةً للمسلمين.
كما أن متن هذا الدعاء معلول ومعيب لأنه لم يثبت أن أيّ أحد من الأئمة توسَّل بالأئمة الآخرين في دعائه! فمثلاً لم يقل الإمام الحسين (ع) أبداً في دعائه: "يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ يَا حُسَيْنَ بْنِ عَلِيٍّ، أَيُّهَا الشَّهِيدُ، يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، يَا حُجَّةَ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، يَا سَيِّدَنَا وَمَوْلَانَا إِنَّا تَوَجَّهْنَا وَاسْتَشْفَعْنَا وَتَوَسَّلْنَا بِكَ إِلَى اللهِ وَقَدَّمْنَاكَ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَاتِنَا يَا وَجِيهاً عِنْدَ اللهِ اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ اللهِ"!!!.
أي لم يدعُ ذاته ولم يجعل نفسه شفيعاً لنفسه، أو لم يدعُ حفيدَ حفيدِهِ الذي لم يُولد جدّه بعد، ليجعله شفيعه عند الله!! إن وضع مثل هذه الأدعية عمل مضحك يدل على قلَّة عقل واضعها.
ويقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ: "وعلى رواية أخرى قُل بعد ذلك: "......تَوَسَّلْتُ بِكُمْ إِلَى اللهِ....... وَاسْتَنْقِذُونِي مِنْ ذُنُوبِي عِنْدَ الله.....الخ!!
ونسأل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ: ألم تقرأ القرآن الذي خاطب الله تعالى فيه رسوله الكريم بأسلوب الاستفهام الإنكاري فقال: ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩﴾[الزمر: ١٩]؟! أو الذي قال: ﴿وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾؟ [ال عمران: ١٣٥] أو الآية 23 من سورة يس[377] والآيات التي قالت إن غفران الذنوب والنجاة من عقابها أو العذاب عليها بيد الله وحده؟! فإذا كان رسول الله ص لا يستطيع أن يُنقذ عبداً من عباد الله من عذاب الله فكيف يستطيع الأئمة فعل ذلك؟!
وقد قال الله تعالى عن المؤمنين أنهم: ﴿...إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ﴾[ال عمران: ١٣٥]، وقال إنهم يُكفِّرون عن سيئاتهم بقيامهم بالأعمال الصالحة والحسنات [سورة هود: 114][378]، ولم يقل إن سبيل غُفران الذنوب هو توسيط الأنبياء والصالحين الذين رحلوا عن الدنيا!
وقال عَلِيٌّ (ع): "أَسْتَغْفِرُكَ لِذُنُوبِي الَّتِي لَا يَغْفِرُهَا غَيْرُك"[379]، وقال حضرة السجاد (ع) أيضاً: "لَيْسَ لِحَاجَتِي مَطْلَبٌ سِوَاكَ، وَلَا لِذَنْبِي غَافِرٌ غَيْرُك"[380].
ثم إن دعاء «التوسُّل» هذا اعتبر شخصَ رسول الله ص وأشخاص الأئمة هم «الوسيلة» وهو قول بيَّنا بُطلانه بالتفصيل في الصفحات الماضية [381] فلا نُكرِّر الكلام بشأنه هنا.
للأسف لقد ابتُلي الناس بالشرك وأصبحوا يدعون غير الله في أدعيتهم وتعوَّدوا بشدَّة على هذا العمل، ومهما أتيتهم من دليل فإنَّهُم لا يتركون ما اعتادوا عليه، وأصبح حالهم مُشابهاً لحال من قال لهم القرآن مُهدِّداً: ﴿إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُۥ كَفَرۡتُمۡ وَإِن يُشۡرَكۡ بِهِۦ تُؤۡمِنُواْۚ فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِيِّ ٱلۡكَبِيرِ ١٢﴾[غافر: ١٢][382].
يجب أن تكون العبادة، ومن جملتها الدعاء، مطابقةً لأمر الله، فأين قال تعالى: ادعوا عبادي المُقرَّبين؟ إن الله تعالى حاضر وناظر في كل مكان وعليم بذات الصدور وخبيرٌ تماماً بما في ضمير عباده ومثل هذا الإله لا يحتاج بالطبع إلى واسطة. متى قال رسول الله ص: أيها المسلمون! كلما وقعتم في مشكلة فادعوني أو ادعوا أحداً من أحفادي واجعلونا واسطتكم في قضاء حوائجكم؟!
ونسأل قارئ دعاء «التوسُّل»: ألم تقرأ القرآن الذي قال إن الشفاعة لِـلَّهِ جميعاً وليست بيد أيّ أحد سوى الله وأن الإذن بها بيد الله وحده؟ ألا تعلم أن الأنبياء والأئمة لا يعملون عملاً مخالفاً لأوامر الله؟! فإن كنتَ حقيقةً تُريد شفاعتهم لك فعليك أولاً أن تطلب ذلك من الله وعندئذٍ فالله تعالى هو الذي يجعل من يشاء شفيعاً لك إذا رأى الصلاح في ذلك ولا يحق لك أن تختار من عند نفسك أحد أئمة الدين الكرام الذين رحلوا عن الدنيا وتجعله شفيعك؟![383] هل الرسول الأكرم ص أو الإمام الذي تطلب منه أن يشفع لك يعلم كل ذنوبك ويعلم حقيقة حالك وما يدور في ذهنك ويعلم حقيقة سريرتك وأفكارك؟ إن النبيّ الأكرم ص لم يكن في حال حياته مُطَّلعاً على أعمال مُعاصريه الخفية[384]، كما أن القرآن الكريم قال لنا أنه ليس لأحدٍ علم بأحوال العباد ولا أحد خبير بذنوبهم سوى الله: ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ﴾ [الاسراء: ١٧ و فرقان 58]فكيف تتوقع أن يقوم الإمام الذي لا يعلم أيّ ذنوب قد ارتكبت بالشفاعة لك لمُجرَّد أنك تملَّقْتَهُ وزُرْتَهُ وأثنيتَ عليه؟!
ثم نقل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ دعاء توسُّل آخر عن كتاب «قبس المصباح» وحذف مُقدِّمته التي يطفح الكذب من جميع نواحيها، ويُمكن أن نقرأ أصل هذا الدعاء وما فيه من أكاذيب في بحار الأنوار (ج 91، ص 32 إلى 36). وراوي هذا الدعاء هو «الحسن بن محمد بن جمهور العمي». وللاطِّلاع على حاله يُراجع كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 316).
وأورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 108[385] دعاءً عن كتاب «البلد الأمين» [للكفعمي] وهو بلا سند في الكتاب المذكور. ولا إشكال في متنه لذلك يدخل تحت إذنِ اللهِ العامِّ بالدعاء.
[377] أي قوله تعالى: ﴿ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ ٢٣﴾[يس: 23]. (الـمُتَرْجِمُ) [378] أي قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ ١١٤﴾[هود: 114]. (الـمُتَرْجِمُ) [379] الصحيفة العلوية، من دعائه (ع) في الاستخارة بالله، ص 238. [380] الصحيفة السجادية، الدعاء الثاني عشر. [381] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 200 إلى 222. [382] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 118 البند «ز». [383] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه»، حاشية الصفحة 231 فما بعد، وتفسير «تابشى از قرآن» ذيل الآية 254 من سورة البقرة. [384] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 130-131 وص 134-135. [385] وهو في النسخة المعربة للمفاتيح، في ص 173.
روى أحد العلماء الخرافيين حرزاً عن حضرة السجاد (ع) هو كذبٌ يقيناً والإمام زين العابدين بريءٌ من هذا الكذب. فقد كرَّر الإمام السجاد مراراً في الصحيفة السجادية قوله: اللهم لا حِرز لي ولا ملجأ إلا ذاتك المُقدَّسة، فقال مثلاً: "لَا يُجِيرُ، يَا إِلَهِي، إِلَّا رَبٌّ عَلَى مَرْبُوبٍ...... إِلَيْكَ الْمَفَرُّ وَالْمَهْرَب"[386].
وقال كذلك: "وَاجْعَلْنِي..... مِنَ الْمُصْلِحِينَ بِسُؤَالِي إِيَّاكَ،...... الْمُعَوَّدِينَ بِالتَّعَوُّذِ بِك"[387].
وقال أيضاً: "لَا يَشْرَكُكَ أَحَدٌ فِي رَجَائِي، وَلَا يَتَّفِقُ أَحَدٌ مَعَكَ فِي دُعَائِي...... فَتَعَالَيْتَ عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَضْدَادِ، وَتَكَبَّرْتَ عَنِ الْأَمْثَالِ وَالْأَنْدَادِ، فَسُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْت"[388].
وقال: "فَإِلَيْكَ أَفِرُّ، وَمِنْكَ أَخَافُ، وَبِكَ أَسْتَغِيثُ، وَإِيَّاكَ أَرْجُو، وَلَكَ أَدْعُو، وَإِلَيْكَ أَلْجَأ"[389].
ثم إن حضرة السجاد -كما هو مذكور في كتب التاريخ- لم يدَّعِ لنفسه الإمامة المنصوص عليها من الله (راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 640 باب 125، وص 687 فما بعد)، ولكن في هذا الدعاء الفاقد للسند يُصلِّي حضرة السجاد على الأئمة الاثني عشر فقط ويدعو نفسه «زين العابدين»! ونسأل: فلماذا لم يدعُ لابنه الآخر جناب «زيد» (رحمه الله)؟ ولماذا لم يدعُ لجناب «النفس الزكية» (رحمه الله)؟ من هذا يتبيَّن أن هذا الراوي المجهول الذي أراد أن يخترع مذهباً لحضرة السجاد وضع هذا الحِرز ثم جاء السيد «ابن طاووس» الذي بينه وبين حضرة زين العابدين (ع) ستة قرون فروى هذا الدعاء الموضوع عن حضرة السجاد دون أن يذكر لنا الرواة الذين بينه وبين حضرة السجاد!! ومن الطريف أن حضرة السجاد طلب في هذا الدعاء زيارة قائم آل محمد ولكن لم يُستجب لدعائه!!
وفي الصفحة 110[390] يروي السيد «ابن طاووس» الخرافي دعاء عن حضرة الباقر (ع) لا عيب في متنه ولكن راويه شخص كذاب باسم «أبي جميلة»[391] رواه لشخص أحمق باسم «علي بن الحكم»[392] وهو بدوره رواه لابن فضال واقفي المذهب، ثم أثبته «محمد بن الحسن الصفار» الذي لم يكن يُميِّز بين الحديث الصحيح وغير الصحيح، في كتابه![393]
[386] الصحيفة السجادية، الدعاء 21. [387] الصحيفة السجادية، الدعاء 25. [388] الصحيفة السجادية، الدعاء 28. [389] الصحيفة السجادية، الدعاء 52 . [390] وهو في النسخة المعرَّبة من المفاتيح ص 176 . [391] للتعرف على حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول »، ص 801 . [392] راجعوا ما ذكرناه بشأنه في الكتاب الحاضر، حاشية الصفحة 15. [393] راجعوا بحار الأنوار، ج 91، ص 268.
نسب الكفعميُّ دعاءً إلى حضرة الكاظم (ع) دون ذكر راويه عن الإمام، ومتن الدعاء يدل على أن صاحبه كان أُميَّاً جاهلاً! يقول في هذا الدعاء: «يا قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد »!!![394] ولو سأل أحد هذا الوضَّاع: من هو المُنادي والمُخاطَب في هذه الجملة؟ لعجز عن الجواب. ونسأل: كيف لم ينتبه الكفعميّ أو صاحب المفاتيح إلى هذا الخطأ الواضح؟! هل كان ذلك بسبب كثرة علمهم وشدَّة زهدهم؟!
وجاء في هذا الدعاء: "وبالاسم الذي حجبته عن خلقك فلم يخرج منك إلا إليك"؟!!
سبحان الله! هل يخرج شيء من الحق ثم يدخل إليه؟!! وحتى لو قلنا إن المقصود كان شيئاً آخر ولفَّقنا لهذه الجملة معنىً آخر فلا شُبهة في أن هذا التعبير عارٍ عن الفصاحة والبلاغة، ولا يقول حضرة الكاظم (ع) قطعاً مثل هذا الكلام. ليت شعري! لماذا ينبغي أن تُكتب مثل هذه النصوص الركيكة في كتبنا الدينية؟
50ثم روى الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 111[395] دعاء يبتدئ بجملة: "يَا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ الْمَكَارِه "، وقدم لهذا الدُّعاء قائلاً: "روى الكفعمي في المصباح دعاءً وقال: قد أورد السّيد ابن طاووس هذا الدّعاء للأمن من السّلطان والبلاء وظهور الأعداء، ولخوف الفقر وضيق الصّدر".
ونقول: إن قول ابن طاووس ليس حُجَّةً شرعيةً. وهذا الدعاء هو الدعاء السابع في الصحيفة السجَّادية وليس من المعلوم أن حضرة السجاد كان يدعو به لأجل الحالات المذكورة.
وفي الصفحة 112 نقل الشيخ عباس عن الكفعميّ دعاءً[396] تكلمنا عليه فيما سبق. تُراجع الصفحة 59 من الكتاب الحالي.
وفي الصفحة 113[397] أورد الشيخ عبَّاس رسالةَ استغاثةٍ كتبها السيد عليخان الشيرازي خاطب بها صاحب الزمان لا سند لها ولا تتصل بأئمَّة الدين، بل يقولون: إن شخصاً سمع في منامه هذا الدعاء!!![398] وعلينا أن نسأل: هل لصاحب الزمان الغائب -استناداً إلى الدلائل الشرعية الصحيحة- وُجودٌ؟[399] وهل الأحلام حُجَّةٌ شرعيةٌ؟ وهل يُمكن أن يكون غير الله غياث المُستغيثين أيضاً؟!! وما هو دليلكم على جواز أن نعتبر غير الله مُغيثَنَا بصورةٍ غير محدودةٍ وغير مُقيَّدةٍ؟
في هذا الدعاء اعتُبر صاحب الزمان حُجَّةً وذُكر أنه يُطهِّر الأرض من الكفر في الطول والعرض! هذا مع أن الله تعالى قال في كتابه: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ﴾[النساء: ١٦٥]فبأيِّ دليل تجعلون صاحب الزمان حُجَّة الله؟! ثانياً: طبقاً لآيات القرآن سيبقى الكفر والعداوة بين الناس إلى يوم القيامة كما قال تعالى عن النصارى واليهود: ﴿فَأَغۡرَيۡنَا (وألقَینا)بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾[المائدة: ١٤ و 64]، فطبقاً لهذه الآية ستبقى جميع الفرق والمذاهب الباطلة بما فيها اليهود والنصارى إلى يوم القيامة، وستبقى العداوة والبغضاء بينهم ولن تُطهَّر الأرض في طولها وعرضها من الكفر والعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
وقال تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ﴾[البقرة: ٢٥٦]، بناءً على ذلك لم يُرسل الله أحداً كي يُدخل شعوب العالَم في الإسلام بالقوة. بل على الشعوب أن تستيقظ وأن تبحث عن الهداية وتختار طريق الحق بإرادتها الحرّة. ولا يجوز أساساً أن نُكره الناس على الإسلام وقد بيَّن لنا القرآن الكريم أن رسول الله ص كان يدعو الناس إلى الإسلام ولكنه لم يُجبر أحداً على الدخول فيه. فإذا لم يُدخل النَّبِيُّ الأَكْرَمُ ص بدعوته جميعَ الناس في الإسلام فكيف يستطيع أحدُ أتباعه أن يفعل ذلك؟!
وفي هذا الدعاء أو الاستغاثة اعتُبِرَ الأئمَّةُ حُججُ الله واعتُبروا معصومين؟ أما بالنسبة إلى العصمة فينبغي أن نعلم أن الله تعالى قال لرسوله: ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾[محمد: ١٩]. نعم، إنه مما لا شك فيه - بالدلائل العقلية والنقلية - أنَّ رسولَ اللهِ ص كان مصوناً من الخطأ ومحفوظاً من النسيان في إبلاغ آيات الله وأحكام الشريعة، ولكننا لا نملك دليلاً قرآنياً يدل على أنه كان مصوناً من الخطأ فيما عدا ذلك، وَمِنْ ثَمَّ فإن «العصمة المُطلقة» للأنبياء لا سند قرآني لها. والأهمُّ من ذلك أن قياس غير الأنبياء على الأنبياء خطأ، فالأنبياء ومنهم رسول الله ص، يوحَى إليهم وقد اختُتِم الوحيُ بمحمد ص فلا يوحى لأحَدٍ بَعْدَهُ، وَمِنْ ثَمَّ فلا دليل شرعيّ بأيّ وجه من الوجوه على عصمة غير الأنبياء. (فَتَأَمَّل).
وفي هذا الدعاء أو الاستغاثة جُعِلت الآية الخامسة من سورة القصص التي تتعلّق ببني إسرائيل وبفرعون وهامان خاصَّةً بصاحب الزمان!! وليت شعري! هل يحق للسيد عليخان الشيرازي أو لأيّ أحد آخر أن يُفسِّر آيات القرآن على هواه أو يُفسِّرها على ضوء أحاديث ضعيفة دون مُراعاة لسياقها؟!
وفي هذا الدعاء يقول الداعي لصاحب الزمان الذي لا يعرف أين هو: "حاجتي كذا وكذا فاشفع لي في نجاحها فقد توجَّهت لك بحاجتي لعلمي أن لك عند الله شفاعةً مقبولةً"!! ومرَّةً أخرى نسأل: هل الشفاعة بإذن الله واختياره أم بإرادة العبد المُذنب واختياره؟! هل يستطيع كل عبد حقيقةً أن يجعل أحد أئمة الدين الأجلاء شفيعاً له من خلال التملُّق له وتمجيده وتبجيله؟ هل نصب الشُّفعاء وتعيينهم متروك للعباد فهم يختارون من يشاؤون ليشفع لهم؟ إن كان الأمر كذلك فالمسيحيون يرغبون أن يكون حضرة المسيح (ع) وحضرة مريم شُفعاء لهم، والصوفية يميلون إلى أن يكون عبد القادر الجيلاني شفيعاً لهم، والشيعة يرغبون أن يكون أبو الفضل العباس أو حضرة المعصومة أو أيّ إمام أو حفيد من أحفاد الأئمة شُفعاء لهم إما جميعاً أو فرداً فرداً؟ فهل الله مُطيع لمن ذكرنا؟ هل قال الله في كتابه: لقد جعلت هؤلاء القوم شُفعاء لكم وسأقبل شفاعتهم حتماً؟ هل يستطيع كل من ارتكب إثماً أو جريمةً أن يدفع -ضمن نظام العدل الإلهي- نبيَّاً أو عبداً صالحاً للشفاعة له بالتملُّق له وتمجيده، ويكون من الواجب على الله أن يقبل شفاعة هذا الشفيع؟!
لقد قال الله في كتابه: ﴿لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗاۖ لَّهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ﴾[الزمر: ٤٤]. يتبيَّن من هذه الآية ومن تقديم «لِـلَّهِ» على «الشفاعة» ومن كلمة «جميعاً» أن أمر الشفاعة وتعيين الشفيع كله بيد الله وحده فقط لا غير، ولم يوكَلْ إلى أيّ أحد آخر، والله تعالى يقول: إن الذي بيده مُلك السماوات والأرض والحاكم فيهما هو الذي بيده زمام أمور الشفاعة فعلى الناس أن يسعوا إلى كسب رضا الله بواسطة الأعمال الحسنة التي قال تعالى عنها: ﴿إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ ١١٤﴾[هود: ١١٤] وبواسطة التوبة والتضرُّع إلى الله، كي يعفو الله عنهم أو إذا أراد أن يرحمهم من خلال شفيع عيَّن لهم شفيعاً ليشفع لهم بإذنه، إذ إن الله وحده يعلم من هو المُذنب الذي يستحقُّ الشفاعة ويكون أهلاً لها كما قال تعالى: ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦ﴾ [يونس : ٣] ، كما نصَّت الآية 26 من سورة النجم على أن الشفاعة منوطة بإذن الله. فهذه الآيات كلها تدل بشكل قاطع على أن تعيين الشفيع ونصبه بيد الله وحده[400].
[394] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 176. [395] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 177، وسمَّاه الشيخ عباس القمي بـ«دعاء الأَمْن». [396] هو «دُعَاء الفَرَج»، الذي يتضمن جملة "يا مُحَمَّدُ يا عَلِيُّ يا عَلِيُّ يا مُحَمَّدُ اِكْفِياني فَاِنَّكُما كافِيانِ...الخ". وهو في الصفحة 178 من مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب). [397] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 179، وأُطْلِقَ عليه: "دعاء الاستغاثة بالحُجَّة (عج)"! [398] راجعوا بحار الأنوار، ج 91، ص 31 و 32. [399] راجعوا كتابي «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ج2، الصفحات من 665 إلى 684)، وكتابي الآخر: «بررسي علمي در أحاديث مهدي». [أي تحقيق علمي في أحاديث المهدي] . [400] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 93، البند «ب»، وراجعوا بشكل خاص كتاب «تابشى از قرآن»، [شعاع من القرآن] ذيل الآية 254 من سورة البقرة، وكتاب «زيارت و زيارتنامه»، ص 231، وكتابي «أحكام القرآن»، المسألة 1802 حتى 1822. ولا يخفى أن بعض المسائل التي أوردتُها في كتابي «أحكام القرآن» لم تعد مقبولة لديَّ اليوم وأن كتابي المذكور يحتاج إلى التصحيح والإصلاح.
هذا الفصل هو الفصل الأخير من الباب الأول من مفاتيح الجنان وخاصٌّ بالمُناجاة ويشتمل على خمس عشرة مُناجاة ثم مُناجاة منظومة منسوبة إلى أمير المؤمنين علي ÷.
ادَّعى العلامة المَجْلِسِيّ أن هذه المُناجاة مرويَّةٌ عن حضرة السجاد (ع) وأنه وجدها في كتب بعض الأصحاب! ولكنه لم يذكر لنا اسم ذلك الكتاب ولا اسم مؤلفه ولا أسماء الرواة الذين رووه!! بناءً على ذلك فإن هذه المُناجاة الخمس عشرة لا سند لها، وحتى أنها ليست مذكورة في الصحيفة السجادية. وَمِنْ ثَمَّ فلا ندري هل كان رواة تلك المُناجاة مؤمنين أم لا؟ هل كانوا عدولاً أم فاسقين؟ غلاةً أم لا؟ يعتبرون الله قابلاً للرؤية أم لا؟ هل كانوا صوفيين أم مسلمين مُلتزمين بالقرآن؟ وهكذا.....
إذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نُمحِّص متون هذه المُناجاة لنرى هل تحتوي على ألفاظ أو عبارات غير صحيحة أو غير لائقة بذات الباري القُدسيَّة تبارك وتعالى؟ في رأينا إن معظم هذه المُناجاة عبارة عن تعابير صوفية في حين أنه كما يظهر من «الصحيفة السجادية» لم يكن لدى السجاد (ع) مثل تلك التعابير ولم يكن يعتبر الله قابلاً للرؤية. في حين أنه جاء مثلاً في نصِّ المُناجاة الثالثة أي «مُناجاة الخائفين» عبارة: "وَلَا تَحْجُبْ مُشْتَاقِيكَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى جَمِيلِ رُؤْيَتِك"، وجاء في المُناجاة الثامنة عبارة: "وَصْلُكَ مُنَى نَفْسِي..... وَرُؤْيَتُكَ حَاجَتِي"، وجاء في المُناجاة التاسعة قوله: "فَاجْعَلْنَا[401] مِمَّنِ..... مَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ..... وَأَعَذْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ..... وَاجْتَبَيْتَهُ لِمُشَاهَدَتِك"، ويقول أيضاً في المُناجاة الحادية عشرة: "وَغُلَّتِي لَا يُبَرِّدُهَا إِلَّا وَصْلُكَ..... وَشَوْقِي إِلَيْكَ لَا يَبُلُّهُ إِلَّا النَّظَرُ إِلَى وَجْهِك"، ويقول في المُناجاة الثانية عشرة: "فَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِين..... قَرَّتْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَحْبُوبِهِمْ أَعْيُنُهُمْ"، ويقول في المُناجاة الخامسة عشرة: "أَقْرِرْ أَعْيُنَنَا بِرُؤْيَتِك"!! لقد أتينا بهذه الجمل كنموذج فقط وإلا فإن المُصطلحات والعبارات الصوفية كثيرة جداً في تلك المُناجاة.
ولا يخفى أن بعض جمل هذه المُناجاة مخالف لعقيدة صاحب المفاتيح ومن جملة ذلك قوله في المُناجاة السابعة أي (مُناجاة المُطيعين لِـلَّهِ): "لَا وَسِيلَةَ لَنَا إِلَيْكَ إِلا أَنْت"، ولذلك نسأل مؤلف المفاتيح: إن كنت تقبل بهذه المُناجاة فلماذا تعتبر الأئمة وحتى غير الأئمة وسيلةً إلى الله؟
بالطبع علينا أن ننتبه إلى أنه لا يجوز أن ننسب هذه المُناجاة الخمس عشرة إلى الشرع دون دليل ومستند، أما ما عدا ذلك فانطلاقاً من الإذن الإلهي العام بالدعاء لا حرج في قراءة بعض هذه المُناجاة فمثلاً قراءة الْمُنَاجَاةِ الرَّابِعَةِ (مُنَاجَاةُ الرَّاجِينَ) لا إشكال فيه، بشرط أن لا نعتبرها واردة بنصِّها عن الشرع. وسنذكر هنا ترجمة هذه المُناجاة:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يَا مَنْ إِذَا سَأَلَهُ عَبْدٌ أَعْطَاهُ، وَإِذَا أَمَّلَ مَا عِنْدَهُ بَلَّغَهُ مُنَاهُ، وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ قَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَإِذَا جَاهَرَهُ بِالْعِصْيَانِ سَتَرَ عَلَيْهِ وَغَطَّاهُ، وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَبَهُ وَكَفَاهُ.
إِلَهِي! مَنِ الَّذِي نَزَلَ بِكَ مُلْتَمِساً قِرَاكَ فَمَا قَرَيْتَهُ؟ وَمَنِ الَّذِي أَنَاخَ بِبَابِكَ مُرْتَجِياً نَدَاكَ فَمَا أَوْلَيْتَهُ؟ أَيَحْسُنُ أَنْ أَرْجِعَ عَنْ بَابِكَ بِالْخَيْبَةِ مَصْرُوفاً وَلَسْتُ أَعْرِفُ سِوَاكَ مَوْلًى بِالْإِحْسَانِ مَوْصُوفاً؟ كَيْفَ أَرْجُو غَيْرَكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِكَ؟ وَكَيْفَ أُؤَمِّلُ سِوَاكَ وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لَكَ؟ أَأَقْطَعُ رَجَائِي مِنْكَ وَقَدْ أَوْلَيْتَنِي مَا لَمْ أَسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِكَ؟ أَمْ تُفْقِرُنِي إِلَى مِثْلِي[402] وَأَنَا أَعْتَصِمُ بِحَبْلِكَ؟
يَا مَنْ سَعِدَ بِرَحْمَتِهِ الْقَاصِدُونَ وَلَمْ يَشْقَ بِنَقِمَتِهِ الْمُسْتَغْفِرُونَ، كَيْفَ أَنْسَاكَ وَلَمْ تَزَلْ ذَاكِرِي؟ وَكَيْفَ أَلْهُو عَنْكَ وَأَنْتَ مُرَاقِبِي؟ إِلَهِي! بِذَيْلِ كَرَمِكَ أَعْلَقْتُ يَدِي وَلِنَيْلِ عَطَايَاكَ بَسَطْتُ أَمَلِي، فَأَخْلِصْنِي بِخَالِصَةِ تَوْحِيدِكَ وَاجْعَلْنِي مِنْ صَفْوَةِ عَبِيدِكَ.
يَا مَنْ كُلُّ هَارِبٍ إِلَيْهِ يَلْتَجِئُ، وَكُلُّ طَالِبٍ إِيَّاهُ يَرْتَجِي، يَا خَيْرَ مَرْجُوٍّ وَيَا أَكْرَمَ مَدْعُوٍّ وَيَا مَنْ لَا يُرَدُّ سَائِلُهُ وَلَا يُخَيَّبُ آمِلُهُ. يَا مَنْ بَابُهُ مَفْتُوحٌ لِدَاعِيهِ وَحِجَابُهُ مَرْفُوعٌ لِرَاجِيهِ: أَسْأَلُكَ بِكَرَمِكَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ مِنْ عَطَائِكَ بِمَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي وَمِنْ رَجَائِكَ بِمَا تَطْمَئِنُّ بِهِ نَفْسِي وَمِنَ الْيَقِينِ بِمَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيَّ مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَتَجْلُو بِهِ عَنْ بَصِيرَتِي غَشَوَاتِ الْعَمَى. بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ".
[401] إذا لاحظنا الجمل التي جاءت بعد هذه الجملة تبيَّن لنا أنه كان من الأفضل بدلاً من كلمة فاجعلنا أن يقول «فاجعلني». [402] يقول أفضلُ من اختاره اللهُ: رسولُ اللهص: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ١١٠﴾[الكهف: 110].
تشتمل هذه المُناجاة على قصيدة مؤلفة من ثلاثين بيتاً من الشعر بعض الأبيات لا يخلو من إشكال في معناه، ومن جملتها البيت السابع والعشرون الذي يدل على أن هذه القصيدة ليست لحضرة أمير المؤمنين علي ÷ وذلك لأن حضرته كان متواضعاً ولم يكن مغروراً ومعجباً بنفسه أبداً ولم يكن يعتبر نفسه ذا منزلة عزيزة جداً عند الله تعالى تسمح له أن يُقسم على الله بنفسه ويقول في مُناجاته لربِّه:
إِلَهي بِحُرْمَةِ المُصْطَفَى وابْنِ عَمِّهِ وَحُرْمَةِ أَبْرَارٍ هُمْ لَكَ خُشَّعُ
وقد وقع واضعو الحديث بهذا الخطأ مراراً ومن جملة ذلك ما جاء في الصلاة والتسبيحات التي لا سند لها التي رواها الشيخ الطوسي في كتابه (مصباح المُتهجّد، ص 258) ورواها الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في «المفاتيح» (ص 40 و 41)[403] وادَّعى أن كل من صلَّى تلك الصلاة وقال تلك التسبيحات غُفرت له جميع ذنوبه!! ففي تلك الصلاة جاء قوله: "اللَّهُمَّ بِمُحَمَّدٍ سَيِّدِي وَبِعَلِيٍّ وَلِيِّي "!! فكيف يُقسم عَلِيٌّ على الله بعَلِيٍّ وليِّه؟! هل يُمكن أن يقول فرد عاميٌّ: إلهي أُقسم عليك بنفسي أنا الذي وليُّ نفسي!! فما بالك بأن يكون قائل هذا الكلام عَلِيٌّ أمير الفصاحة والبلاغة والبيان؟!
إن عَلِيّاً (ع) هو القائل: "إِيَّاكَ وَالْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا" (نهج البلاغة، الرسالة 53)، والقائل: "اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الْأَلْبَاب" (نهج البلاغة، الرسالة 31).
كان حضرته يعتبر أن عزَّه في عبوديَّته لِـلَّهِ وقال طبقاً لما نقله عنه مؤلف كتاب «المفاتيح»: "إِلَهِي كَفَى بِي عِزّاً أَنْ أَكُونَ لَكَ عَبْداً وَكَفَى بِي فَخْراً أَنْ تَكُونَ لِي رَبّاً" (المفاتيح، ص 127).
قديماً قبل سنوات مديدة عندما قمتُ بترجمة «الصحيفة العلوية»، نظمتُ 24 بيتاً من أبيات هذه المناجاة بصورة أبيات من الشعر باللغة الفارسية أضع هنا هذه الأبيات لتكون ذكرى[404].
1 لَكَ الْحَمْدُ يَا ذَا الْجُودِ وَالْمَجْدِ وَالْعُلَى
تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ
2 إِلَهِي وَخَلَّاقِي وَحِرْزِي وَمَوْئِلِي
إِلَيْكَ لَدَى الْإِعْسَارِ وَالْيُسـْرِ أَفْزَعُ
3 إِلَهِي لَئِنْ جَلَّتْ وَجَمَّتْ خَطِيئَتِي
فَعَفْوُكَ عَنْ ذَنْبِي أَجَلُّ وَأَوْسَعُ
4 إِلَهِي لَئِنْ أَعْطَيْتُ نَفْسـِيَ سُؤْلَهَا
فَهَا أَنَا فِي رَوْضِ النَّدَامَةِ أَرْتَعُ
5 إِلَهِي تَرَى حَالِي وَفَقْرِي وَفَاقَتِي
وَأَنْتَ مُنَاجَاتِي الْخَفِيَّةَ تَسْمَعُ
6 إِلَهِي فَلَا تَقْطَعْ رَجَائِي وَلَا تُزِغْ
فُؤَادِي فَلِي فِي سَيْبِ جُودِكَ مَطْمَعٌ
7 إِلَهِي لَئِنْ أَقْصَيْتَنِي أَوْ أَهَنْتَنِي
فَمَنْ ذَا الَّذِي أَرْجُو وَمَنْ ذَا يُشَفَّعُ؟
8 إِلَهِي أَجِرْنِي مِنْ عَذَابِكَ إِنَّنِي
أَسِيرٌ ذَلِيلٌ خَائِفٌ لَكَ أَخْضَعُ
9 إِلَهِي فَآنِسْنِي بِتَلْقِينِ حُجَّتِي
إِذَا كَانَ لِي فِي الْقَبْرِ مَثْوًى وَمَضْجَعٌ
10 إِلَهِي لَئِنْ عَذَّبْتَنِي أَلْفَ حِجَّةٍ
فَحَبْلُ رَجَائِي مِنْكَ لَا يَتَقَطَّعُ
11 إِلَهِي أَذِقْنِي طَعْمَ عَفْوِكَ يَوْمَ لَا
بَنُونَ وَلَا مَالٌ هُنَالِكَ يَنْفَعُ
12 إِلَهِي إِذَا لَمْ تَرْعَنِي كُنْتُ ضَائِعاً
وَإِنْ كُنْتَ تَرْعَانِي فَلَسْتُ أُضَيَّعُ
13 إِلَهِي إِذَا لَمْ تَعْفُ عَنْ غَيْرِ مُحْسِنٍ
فَمَنْ لِمُسِيئٍ بِالْهَوَى يَتَمَتَّعُ
14 إِلَهِي لَئِنْ فَرَّطْتُ فِي طَلَبِ الْتُّقَى
فَهَا أَنَا إِثْرِ الْعَفْوِ أَقْفُو وَأَتْبَعُ
15 إِلَهِي لَئِنْ أَخْطَأْتُ جَهْلًا فَطَالَ مَا
رَجَوْتُكَ حَتَّى قِيلَ مَا هُوَ يَجْزَعُ
16 إِلَهِي ذُنُوبِي بَذَّتِ الطَّوْدَ وَاعْتَلَتْ
وَصَفْحُكَ عَنْ ذَنْبِي أَجَلُّ وَأَرْفَعُ
17 إِلَهِي يُنَجِّي ذِكْرُ طَوْلِكَ لَوْعَتِي
وَذِكْرُ الْخَطَايَا الْعَيْنَ مِنِّي يُدْمِعُ
18 إِلَهِي أَقِلْنِي عَثْرَتِي وَامْحُ حَوْبَتِي
فَإِنِّي مُقِرٌّ خَائِفٌ مُتَضَـرِّعُ
19 إِلَهِي أَنِلْنِي مِنْكَ رَوْحاً وَرَحْمَةً
فَلَسْتُ سِوَى أَبْوَابِ فَضْلِكَ أَقْرَع
20 إِلَهِي لَئِنْ خَيَّبْتَنِي أَوْ طَرَدْتَنِي
فَمَا حِيلَتِي يَا رَبِّ أَمْ كَيْفَ أَصْنَعُ؟
21 إِلَهِي حَلِيفُ الْحُبِّ بِاللَّيْلِ سَاهِرٌ
يُنَاجِي وَيَدْعُو وَالْمُغَفَّلُ يَهْجَعُ
22 وَكُلُّـهُمْ يَرْجُو نَوَالَكَ رَاجِياً
بِرَحْمَتِكَ الْعُظْمَى وَفِي الْخُلْدِ يَطْمَعُ
23 إِلَهِي يُمَنِّينِي رَجَائِي سَلَامَةً
وَقُبْحُ خَطِيئَاتِي عَلَيَّ يُشَنِّعُ
24 إِلَهِي فَإِنْ تَعْفُو فَعَفْوُكَ مُنْقِذِي
وَإِلَّا فَبِالذَّنْبِ الْمُدَمِّرِ أُصْرَعُ
***
[403] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 76 - 78. وقد عُنْوِنَ لها بـ «صلاة أمير المؤمنين عليه السلام». (الـمُتَرْجِمُ) [404] ملاحظة: لم أذكر بالطبع الأبيات الفارسية التي أوردها المؤلف، إذ لا فائدة من ذكرها للقارئ العربي، واستعضتُ عن ذلك بذكر أصل الأبيات التي اختارها المؤلف المرحوم من تلك المناجاة وترجمها إلى الفارسية. (الـمُتَرْجِمُ)
هذا الفصل هو في فضلِ شهر رَجَب وأعمالِه. في بداية هذا الفصل نقل المؤلف عن كتاب «وسائل الشيعة»[405] افتراءً على النبيّ ص أنه قال: "أَلَا إِنَّ رَجَبَ شَهْرُ اللهِ الْأَصَمُّ وَهُوَ شَهْرٌ عَظِيمٌ..... لَا يُقَارِنُهُ شَهْرٌ مِنَ الشُّهُورِ حُرْمَةً وَفَضْلاً..... أَلَا إِنَّ رَجَبَ شَهْرُ اللهِ وَشَعْبَانَ شَهْرِي وَرَمَضَانَ شَهْرُ أُمَّتِي".
في حين أنه جاء في كتاب «الوسائل» ذاته عن حضرة عَلِيٍّ (ع) أنه قال: "رَجَبٌ شَهْرِي وَشَعْبَانُ شَهْرُ رَسُولِ اللهِ ص وَشَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الله"[406]؟!!
إضافةً إلى ذلك فإن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ نفسه قال في الفصل الثالث من هذا الباب الثاني في المفاتيح (ص 170)[407]: "شهر رمضان هو شهر الله رب العالمين، وهو أشرف الشهور".
وليت شعري! ألم يُفكّر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عندما كتب هذه الأسطر في نفسه كيف يُمكن أن يكون «رجب» أشرف الشهور ومُساوياً في الفضل لشهر رمضان مع أن القرآن الكريم نزل في شهر رمضان؟ وأحد العيدين الكبيرين للمسلمين يتعلّق بمناسبة انتهاء هذا الشهر المبارك، حتى أن أغلب الناس لدينا يقرؤون في المساجد بعد الصلوات في شهر رمضان هذا الدعاء الذي فيه خطاب لِـلَّهِ تعالى بالجمل التالية: "هَذَا شَهْرٌ عَظَّمْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَشَرَّفْتَهُ وَفَضَّلْتَهُ عَلَى الشُّهُور ".
وقد أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ نفسه أيضاً هذا الدعاء في المفاتيح في فصل «في أعمال شهر رمضان العامة» (ص 175)[408]. كما نقل دعاءً يتعلّق بليلة شهر شعبان الأخيرة وليلة أول شهر رمضان (ص 169)[409] عن الحارث بن المغيرة النضري الذي قال عنه النجاشي «ثقة ثقة». وجاء في الدعاء المذكور أيضاً: اللهم إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ قَدْ حَضَرَ ".
51وأورد صاحب المفاتيح في هذا الفصل ثوابات عجيبة وغريبة للصوم في شهر رجب هي من وضع الغلاة وليست من كلام الأئمَّة. وكتب في الصفحة 130[410] يقول: روى الشّيخ [الطوسي في مصباح المتهجد] أنّه خرج هذا التّوقيع الشّريف من النّاحية المُقدّسة على يد الشّيخ الكبير «أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد» (رضي الله عنه)!
52لكن الشيخ الطوسي عاش بعد مئتي عام من عهد محمد بن عثمان، فكان حريَّاً بالشيخ الطوسي أن يذكر لنا الرواة بينه وبين «محمد بن عثمان»، وعلى كل حال فإن أحد رواة هذا التوقيع هو «أحمد بن محمد بن عبيد الله العياش الجوهري»[411] الذي عرَّفنا به في الرقم 67 في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] (ص 164) وذكرنا هناك إشكالات هذا التوقيع فلا نُكرِّرها هنا. (فَلْتُرَاجَعْ ثَمَّةَ). فالعجيب أن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ روى هذه المُناجاة والمُناجاتين اللتين بعدها عن شخص اعتبره علماء الرجال ومن جملتهم النجاشي والشيخ الطوسي وابن داود والعلامة الحلي وصاحب الذخيرة و... ضعيفاً!
ثم ألم يُفكّر الشيخ عبَّاس في نفسه عندما كتب جملة: "لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمْ عِبَادُك"، كيف يُمكن أن لا يكون هناك فرق بين الله وبين عباده مع أن الله واجب الوجود وقديمٌ وغنيٌّ بالذات، أما عباده فهم ممكنو الوجود وحادثون وفقراء ومحدودون؟! أيُّها القارئ اللبيب! إن هؤلاء الوضاعين الجهلاء يُقدِّمون لنا إلهاً خَلَقَ مخلوقاتٍ مثْلَهُ وأنه لا فرق بينه وبين بعض مخلوقاته!!!
في هذه المُناجاة تمّ نسبة «مقامات» لِـلَّهِ تعالى!! مع أنه لم يأتِ في القرآن الكريم أبداً نسبة «المقامات» بصورة الجمع إلى الله بل جاءت العبارة بصورة مُفردة دائماً [سورة إبراهيم: 14، والرحمن: 46، والنازعات: 40] لأن الله صاحب مقام واحد من العظمة والجلال والكبرياء لا يتنزل عنه وينفصل، ولا يترّقى عنه ويرتفع حتى يكون له مقامان، بل لِـلَّهِ تعالى أعلى وأرفع مقام ولا يُمكن تصوُّر أرفع ولا أعلى من مقامه، وصفات الله لا تتغير ولا تتبدل، بناءً على ذلك فإن دعاء شهر رجب الخرافي الذي أثبت لِـلَّهِ «مقامات» ليس صحيحاً؛ فإن كان ذلك الدعاء قد صدر حقاً عن «الناحية»، فالويل لمن خُدع بمثل تلك «الناحية» واعتقد بها! وللأسف لقد أصدروا عن «الناحية» كل ما عنَّ لهم، وأرهبوا العوام وأغلقوا أفواه العلماء الذين يخافون من العامة ولم يسمحوا لأحد أن يسأل قائلاً: لم نرَ منكم سوى الادِّعاء فمن أين لنا أن نعلم أن الأمور التي تذكروها لنا صادرة عن الإمام فعلاً؟ نحن لم نرَ خط الإمام كي نُقارن خط المكتوبات المنسوبة إليه مع خطه؟ فبأيّ دليل علينا أن نقبل ادِّعاءاتكم؟ خاصةً أن معظم ما تعرضونه علينا وتقولون إنه صدر من «الناحية»، لا يتفق مع القرآن الكريم؟!
ثم ذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 131[412]رسالتين عن «أبي القاسم حسين بن روح» ادُّعي أنهما صدرتا عن «الناحية» وراويهما هو «أحمد بن عياش» أيضاً. ولا يخفى أن «حسين بن روح» كان رجلاً مُتلوِّناً ويُجيد السياسة وطبقاً لما قاله الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عنه: "كان رحمه الله من أعقل الناس عند المخالف والموافق. وكان يستعمل التقيَّة في بغداد. وبلغ من حسن سلوكه مع الحالفين أن كلّاً من المذاهب الأربعة كان يدَّعي أنه منه"[413].
وكانت كل طائفة تُسلِّمه الأموال كما يُسلِّمه الشيعة أموالهم.
من هذا الحديث المختصر يُمكنك أيُّها القارئ الكريم أن تقرأ الكتاب المُفَصَّل! لنفرض أن «ابن روح» كان يعمل بالتقيّة، لكنه لم يكن مُضطراً إلى أن يتظاهر أمام كل واحد من أصحاب المذاهب أنه منهم بل كان يستطيع أن يختار أحد المذاهب فقط كالمذهب المالكي أو الشافعي أو مذهب الأوزاعي، كي يُبعد الخطر عن نفسه. (فَتَأَمَّل).
ومتن الزيارة السابعة[414] أيضاً لا علاقة له بالتوحيد ولا بالإسلام ومن الواضح أنه من تلفيقات فرقة «المُفوِّضة»[415] الملعونين[416] والمُنحرفين، وجاء في جزء من هذه الزيارة الشركية:
"أَنَا سَائِلُكُمْ وَآمِلُكُمْ فِيمَا إِلَيْكُمْ فِيهِ التَّفْوِيضُ وَعَلَيْكُمُ التَّعْوِيضُ، فَبِكُمْ يُجْبَرُ الْمَهِيضُ وَيُشْفَى الْمَرِيضُ وَعِنْدَكُمْ مَا تَزْدَادُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَغِيض"!!
أيُّها القارئ الكريم! إن الله يقول عن نفسه: ﴿ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ ٩﴾[الرعد: ٨، ٩].
وقال عَلِيٌّ (ع) أيضاً: "إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا عَدَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُ...﴾[لقمان: ٣٤]، فَيَعْلَمُ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى...... فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ......الخ"[417].
ولكن للأسف أثبت واضعو هذا الدعاء الذين يدَّعون كذباً حُبَّ عَلِيٍّ، هذه الصفات الخاصة بالله لبعض عباده أيضاً!! ألم يُفكّر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في نفسه عندما كتب نصَّ هذه الزيارة في كتابه أنه إذا كان الأنبياء -ومن جملتهم النَّبِيّ الأَكْرَم ص- لا يملكون للناس نفعاً ولا ضرَّاً [سورة الأعراف: 188، ويونس: 49، والجن: 21] فكيف يُمكن أن تُوكل هذه الأمور إلى النبيّ أو أحفاده؟ هل كان الشيخ عبَّاس القُمِّيّ جاهلاً بالعقائد الباطلة لفرقة المُفوِّضة المُنحرفة ولا يعلم أن الأئمة اعتبروا أتباع تلك الفرقة أعداءً لِـلَّهِ؟[418] ولا يخفى أن راوي هذه الزيارة هو ذاته راوي الزيارتين الخامسة والسادسة الخاصَّتين بشهر رجب أي «ابن عياش الجوهري»، ولا نتوقع منه بالطبع تُحفةً يُقدّمها لنا أفضل من هذه!
وللأسف لقد شاهدتُ بنفسي مرّات عديدة أو سمعتُ المشايخ يدعون الناس إلى طلب حاجاتهم من الأئمة (ع) ويقولون لهم: كل ما تريدونه من حاجة أو ما تبغونه من حلٍّ لمشكلة فاطلبوه من هذه الأسرة أي من أهل بيت النبيّ! ويُحيلونهم إلى كتاب «مفاتيح الجنان» وإلى الزيارة الخاصة بشهر رجب ذات العبارات الشركية!! هذا في حين أن كثيراً من الأمور المذكورة في «مفاتيح الجنان» لا اعتبار ولا وزن شرعيّ لها على الإطلاق.
ثم ذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 132[419] دعاءً عن «ابن طاووس» رواه الأخير عن «محمد بن ذكوان»! مع أن هناك على أقل تقدير خمسة قرون من الزمن بين ابن طاووس وابن ذكوان ولا أحد يعلم من هم الرواة بينهما؟! ولذلك فمثل هذه الرواية تُعتبر روايةً مرفوعةً وساقطةً من الاعتبار. طبقاً لنقل «الممقاني» في رجاله (ج 3، ص 116) أحد رواة هذا الدعاء هو «محمد بن علي البرسي» الذي كان من الغلاة، والراوي المُتَّصل بـ «محمد بن ذكوان» كذاب مشهور يُدعى «محمد بن سنان»[420]!
لنَأْتِ الآن إلى تمحيص متن هذا الدعاء: جاء فيه: "يَا مَنْ...... آمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَر". هذه العبارة مخالفة للقرآن الكريم الذي يقول: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٩٩﴾[الاعراف: ٩٩]. كما قال تعالى لرسوله ص: ﴿قُلۡ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ ١٥﴾[الانعام: ١٥].
ثم في الصفحة 134 [421]جمع الشيخ عبَّاس القُمِّيّ أحاديث تُصيب من يأخذ بها بالاغترار وليس لها أيُّ سند، منها خبرٌ يقول: من صام من شهر حرام ثلاثة أيام; الخميس والجُمعة والسّبت كتب له عِبادة تسعمائة عام!! أي ثوابه أكثر من ثواب العبادة في ليلة القدر أيضاً!!
أو في العمل التاسع عشر ذكر جزءاً من حديثٍ خرافيٍّ لا سند له عن كتاب «إقبال الأعمال» لابن طاووس ضعيف العقل، ولعلَّه استحى أن ينقل الحديث بتمامه! في الحديث المذكور جاء ذكرٌ لصلاة تُدعى «صلاة سلمان» وصفها ابن طاووس بما يلي: "عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص:
"مَنْ صَلَّى لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي رَجَبٍ عَشْرَ رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ كُلَّ ذَنْبٍ عَمِلَ وَسَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَكَتَبَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ بِكُلِّ رَكْعَةٍ عِبَادَةَ سِتِّينَ سَنَةً وَأَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى بِكُلِّ سُورَةٍ قَصْراً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَكَتَبَ اللهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْأَجْرِ كَمَنْ صَامَ وَصَلَّى وَحَجَّ وَاعْتَمَرَ وَجَاهَدَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَكَتَبَ اللهُ تَعَالَى لَهُ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ حَجَّةً وَعُمْرَةً وَلَا يَخْرُجُ مِنْ صَلَاتِهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللهُ لَهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَادَاهُ مَلَكٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ يَا وَلِيَّ اللهِ فَقَدْ أَعْتَقَكَ اللهُ تَعَالَى مِنَ النَّارِ، وَكَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمُصَلِّينَ تِلْكَ السَّنَّةَ كُلَّهَا. وَإِنْ مَاتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَاتَ شَهِيداً وَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ وَقَضَى حَوَائِجَهُ وَأَعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَبَيَّضَ وَجْهَهُ وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ سَبْعَ خَنَادِقَ" [422].
لا يخفى أن الشيخ عبَّاس ذكر تحت عنوان «العمل الخامس لأول أيام شهر رجب» صلاةً تُدعى «صلاة سلمان» أيضاً ذُكِرَ لها ما يُشبه هذه الثوابات العجيبة والغريبة[423]، ولم يذكرها مؤلف المفاتيح ثمَّة بل أعرض عن ذكرها ربَّما لحفظ ماء الوجه![424]
ألا يعلم الشيخ عبَّاس أن العبادات في الإسلام توقيفيَّةٌ، وأنه لا يجوز أن نُعرِّف للناس عبادةً دون أن يكون عليها دليلٌ شرعيٌّ مُحكمٌ بل لمجرَّد أن الكفعمي أو المَجْلِسِيّ أو ابن طاووس وأمثالهم نقلوها؟!! أنا لست أدري أيُّ تقوى هذه التي كانت لدى الشيخ عبَّاس!
وجاء في هذا الحديث أن المنافقين لا يُصلُّون هذه الصلاة! وأقول: لو صحَّ هذا الكلام لوجب على النبيّ أن يُعلّم هذه الصلاة جميع المسلمين كي ينجوا من النفاق لا أن تصل إلينا هذه الرواية بصورة حديث لا سند له!
نعم كما ذكرت أورد الشيخ عبَّاس في هذا القسم من كتابه أحاديث تبعث على الاغترار كقوله إن كل من عمل العمل الفلاني غُفرت له جميع ذنوبه و.....!! مثلاً في الصفحة 136[425] يقول: إن كل من اغتسل في أول شهر رجب ووسطه وآخره خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه!! مع أن هذا الحديث لا سند له!![426] أو نقل في الصفحة 139[427] عن الإمام الصادق صلاةً قال أن من صلاها في ليلة ثلاث عشرة وليلة أربع عشرة وليلة خمس عشرة من شهر رجب..... غُفر له كل ذنب سوى الشرك[428]. إذا كان الأمر كذلك فيُمكن لكل خطاء أثيم أن يرتكب ما شاء من الذنوب طول العام ثم يأتي في شهر رجب فيغتسل كما وُصف أو يُصلّي تلك الصلاة فيطهر من جميع ذنوبه!!
لقد أوضحنا في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 77، البند 7) أن مثل هذه الأحاديث مردودة وأنها سَبَبٌ في اغترار العاصين. إن على كل مُذنب عصى الله وتعدّى حدوده أن يتوب من ذنبه ويُصلح العمل وإلا فمن غير توبة [لن يُغفر له] ولن يُقبل عمله لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٧﴾[المائدة: ٢٧] و «إنما» أداة حصر، أي لا يتقبل الله إلا من المتقين.
وفي الصفحة 135 نسب عدد من المجاهيل حديثاً إلى النبيّ تحت عنوان «عمل ليلة الرغائب» لا تقوم به حُجّة[429]. ونقل في أعمال الليلة الأولى من شهر رجب دعاءً عن «موسى بن أشيم» الذي كان من أنصار «أبي الخطاب»[430]. وقد عرَّفنا بهذا الراوي في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 250). ثم روى في الصفحة 136 حديثاً عن رجل خبيث يُدعى «أبو البختري وهب بن وهب»! وقد عرّفنا بحاله في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] (ص 161 رقم 62).
ولا ينقضي العجب من علمائنا مثل الشيخ الطوسي وأمثاله الذين كتبوا كتباً في علم الرجال اعتبروا فيها كثيراً من الرواة ضعفاءَ وكذابين وغلاةً ومجهولي الحال و..... لكنهم رَوَوْا في كتبهم الأخرى أحاديثَ وأدعيةً عن أولئك الرواة الضعفاء والكذابين أنفسهم ونشروا خرافاتهم وأباطيلهم بين المسلمين!! فكان مَثَلُهُم في ذلك - كما قال أخونا الفاضل جناب الأستاذ قلمداران (رحمه الله)- مَثَلُ طبيب يُحذِّر الناس من الجراثيم ويوصيهم بالابتعاد عنها، ولكنه يقوم هو نفسه بحقن الناس بهذه الجراثيم!! نعم، لقد لوَّث علماؤنا بنقلهم لهذه الأحاديث الضعيفة، الدينَ، وأغرقوا المسلمين في الخرافات والأباطيل.
ثم أشار في الصفحة 139 إلى ولادة أمير المؤمنين علي ÷ ونُحيل القارئ في هذا الصدد إلى ما جاء في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [أي زيارت المزارات وأدعية الزيارات] (ص 276 حتى 383).
في الصفحة ذاتها ذكر الشيخ عبَّاس صلاةً خاصةً بليلة النصف من شهر رجب راويها حسبما جاء في كتاب «إقبال الأعمال» (ص 655): «حَرِيزٌ» الذي ضعَّفه النجاشي والكِشِّيّ وقال النجاشي عنه إنه لم يسمع من حضرة الصادق (ع) سوى حديثين فقط، وطبقاً لما ذكره الكِشِّيّ لم يكن حضرة الصادق يقبل حضوره في مجلسه[431]. وقال راوي هذه الصلاة أنه بعد السلام فيها يقرأ المُصلِّي أربع مرَّات: "اللهُ اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً وَلَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً ". ونسأل الشيخ عبَّاس: إن كنتَ تقبل هذا الكلام فعلاً وكتبتَه، فلماذا أوردتَ في المفاتيح أدعيةً وزياراتٍ تجعل فيها كل إمام وحفيد للأئمَّة ولياً لك بصورة مطلقة؟! أليس اتِّخاذ وليٍّ مُطلق سوى الله عمل مخالف لمئات الآيات في القرآن الذي قال مراراً: ﴿مَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ﴾[البقرة: ١٠٧،التوبة116،العنكبوت22،الشوری31]. ينبغي أن نقول: إن هؤلاء المُحدِّثين الجاهلين بالقرآن صرفوا همّتهم على نقل الأحاديث والأدعية والزيارات وتدوينها ولم يلتفتوا إلى معارضتها للقرآن ومخالفتها لتعاليمه. ثم روى في الصفحة 141[432] دعاء باسم «دعاء أم داود» لم يذكر له الشيخ الطوسي ولا السيد بن طاووس ولا المَجْلِسِيّ سنداً!
53وذكر في الصفحة 146[433]دعاءً بلا سند خاصاً بليلة السابع والعشرين من رجب واعترف بنفسه أن الكفعمي ذكر أن هذا الدعاء خاصّ بليلة 27 من رجب في حين أن ابن طاووس جعله خاصاً بيوم 27 رجب؟!! ونقول: لو كان هذا الدعاء وارداً في الشرع لما كان هناك من داعٍ إلى أن يذكر الكفعمي أو ابن طاووس وقته.
وفي الصفحة 148[434] قال بشأن يوم 27 من رجب: «هو من الأعياد العظيمة».
ونقول: لو كان هذا اليوم عيداً لكانت له صلاة كصلاة عيدي الفطر والأضحى في حين أن الأمر ليس كذلك، وَمِنْ ثَمَّ فلا يجوز اعتباره عيداً دون دليل شرعيّ فما بالك باعتباره عيداً عظيماً!!
ثم قال الشيخ عباس: "وفيه كان بعثة النّبي ص وهبوط جبرئيل عليه السلام بالرّسالة"!!
وهذا الكلام لا يتفق مع القرآن لأن القرآن الكريم ذكر لنا أن بعثة رسول الله ص وقعت في شهر رمضان وليلة القدر، قال تعالى: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ﴾[البقرة: ١٨٥]، وقال: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ١﴾[القدر: ١].
[405] وسائل الشيعة، ج 7، ص 352، وبحار الأنوار، ج 92، ص 26. [406] وسائل الشيعة، ج 7، ص 356. [407] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 247. (الـمُتَرْجِمُ) [408] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 249. (الـمُتَرْجِمُ) [409] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 244 وعَنْوَنَ له بأعمال آخر ليلة من شعبان. (الـمُتَرْجِمُ) [410] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 200. هو البند: الخامس، من القسم الأول من أعمال شهر رجب. (الـمُتَرْجِمُ) [411] هو راوي دعاء «السِّمات» راجعوا الكتاب الحالي، ص 76، و ص 249 الآتية. وراجعوا أيضاً كتاب «درسي از ولايت» [درسٌ حول الولاية]، ص 92-93. [412] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 201 و 202. (الـمُتَرْجِمُ) [413] منتهى الآمال، ج 2، ص 507 و 508. (وهو في النسخة المعرَّبة لـ«منتهى الآمال» في: ج2، ص 672). (الـمُتَرْجِمُ) [414] يقصد بالسابعة: الواردة في البند السابع من بنود القسم الأول من أعمال شهر رجب، الواقع في ص 202 من مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب). (الـمُتَرْجِمُ) [415] راجعوا حول موضوع «التفويض» و«المُفوِّضة» ما ذكرناه في ص 122 فما بعد من الكتاب الحاضر، وكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات 145 و 249 حتى 264 والصفحة 555-556. [416] لقد لعنهم الشيخ الصدوق، راجعوا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 70-71. [417] نهج البلاغة، الخطبة 128. [418] راجعوا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 145. كما اعتبر الإمام الرضا (ع) «المُفوِّضة» مشركين. انظر كتاب الاحتجاج للطبرسي، طبع النجف بتعليقات محمد باقر الخراسان، ج 2، ص 198. [419] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 203. (الـمُتَرْجِمُ) [420] لقد عرّفنا به في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 304 إلى 308. [421] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 205. (الـمُتَرْجِمُ) [422] إقبال الأعمال، دار الكتب الإسلامية (الباب الثامن فيما نذكره مما يختص بشهر رجب وبركاته)، ص 630، وسائل الشيعة، ج 5، ص 230، وبحار الأنوار، ج 95، ص 380- 381. [423] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 210. (الـمُتَرْجِمُ) [424] لرؤية الحديث المذكور راجعوا كتاب مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، باهتمام الأنصاري الزنجاني، ص 752 -753، ووسائل الشيعة، ج 5، ص 231 و 232. [425] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 208-209. [426] إقبال الأعمال، ص 628، وسائل الشيعة، ج 2، ص 959. [427] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 211. [428] روى ابن طاووس في كتابه «إقبال الأعمال» (ص 655) هذه الصلاة عن أحمد بن أبي العيناء وهو شخص مُهمل مجهول الحال. [429] للاطِّلاع على سند الحديث المذكور راجعوا كتاب بحار الأنوار، ج 95، ص395 فما بعد. [430] وإليه تُنسب فرقة «الخطَّابية». راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات]، ص 37 و 87. [431] للتعرف على حاله راجعوا كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 519. [432] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 213. (الـمُتَرْجِمُ) [433] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 220. (الـمُتَرْجِمُ) [434] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 222. (الـمُتَرْجِمُ)
للأسف، لقد اضطرت هذه الأحاديث المخالفة للقرآن العلماءَ الخرافيين إلى أن يُثبتوا، بأنواع المُغالطات واستناداً إلى احتمالات ضعيفة، نزولين للقرآن الكريم ويقولون: إن القرآن نزل مرّتين على النبيّ، المرّة الأولى نزل دفعةً واحدةً، ثم نزل ثانية منجَّماً خلال 23 عاماً، فكان ينزل على النبيِّ كلَّ مرّةٍ جزءٌ من آيات القرآن فيقوم حضرته بإبلاغها للناس!
وبالنسبة إلى نزول القرآن دفعةً واحدةً لا يُقدِّمُ القائلون بذلك لنا كلاماً واضحاً غير مُبْهَمٍ ومستندٍ إلى دلائل محكمة قوية، بل ترى كلَّ واحدٍ منهم يقول شيئاً، ولكنهم غالباً ما يستندون إلى الفَرْق بين فعل «الإنزال» و«التنزيل». فيقولون: بما أن القرآن استخدم في حق القرآن فعل «الإنزال» وفعل «التنزيل» أيضاً فحيثما تكلَّم عن «إنزال» الكتاب أشار إلى نزول القرآن كله دفعةً واحدةً، وحيثما قال «تنزيل» الكتاب كان يُشير إلى نزول القرآن التدريجي!
لكن هذا القول ليس سوى مغالطة لا أكثر. صحيح أن لكل باب من أبواب الفعل الثلاثي المزيد فيه دلالة خاصة، لكن هذا لا يعني أنه لا يُمكن بحال من الأحوال أن يكون لبابين من أبواب الفعل الثلاثي المزيد فيه، المعنى ذاته! ولو رجعنا إلى كتب اللغة لرأينا نماذج عديدة لفعل من الأفعال المُجرَّدة رُوي ببابين من أبواب المزيد فيه مع أن لكلاهما المعنى ذاته! وكمثال على ذلك «أَفْرَغَ» وَ«فَرَّغ» اللذان يُفيدان المعنى ذاته. وهناك أمثلة عديدة أخرى على ذلك.
ثانياً: من الواضح أن المطر يهطل بصورة واحدة أي قطرة قطرة أي أنه ينزل بشكل تدريجي ولهذا السبب أُطلق عليه «المطر» ولا ينزل أبداً كما ينزل الماء عندما يقلب الإنسان دلواً ويصبُّ ما فيه من ماء! وكذلك جاء في القرآن الكريم بشأن المطر تعبير «تَنزيل الماء» [سورة العنكبوت: 63، والزخرف: 11] ولكن استخدم القرآن أيضاً عن للمطر تعبير «إنزال الماء» [سورة البقرة: 22، الأنعام: 99، إبراهيم 32]، وهذا بحدِّ ذاته يمنعنا من القول: إن معنى «الإنزال» و «التنزيل» مختلف دائماً وأنه لا يجوز استخدام أحدهما بدل الآخر. ولذلك نجد أن الله استخدم الفعلين «الإنزال» و «التنزيل» في بيانه لنزول المائدة السماوية كما قال: ﴿إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ... قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلۡ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ... قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡ...﴾ [المائدة: ١١٢- ١١٥].
ومن الواضح أن المائدة لا تنزل جزءاً جزءاً بل تنزل كلها دفعة واحدة. كما استخدم القرآن تعبير «التنزيل» لبيان نزول كتاب من السماء مكتوباً في قرطاس [سورة النساء: 153، والأنعام: 7، والإسراء: 93] واستخدم للحديث عن نزول الملاك تعبير «التنزيل» [الإسراء: 95][435].
بل إن القرآن استخدم فعل «الإنزال» بحق نزول سورة واحدة فقط واستخدم لذلك فعل «التنزيل» أيضاً فقال: ﴿وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ [حول الجهاد] فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ﴾[محمد : ٢٠]، كما تمَّ استخدام فعل «التنزيل» في سورة التوبة في الكلام عن نزول سورة واحدة [سورة التوبة: 124 و 127].
حتى أن الله استخدم فعل «التنزيل» للكلام عن نزول القرآن جملةً واحدةً فقال: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا ٣٢﴾[الفرقان: ٣٢].
وهذه الآية الأخيرة كما نُلاحظ ردّت على من اقترح نزول القرآن جملةً واحدةً وبيَّنت سبب عدم نزوله كذلك ولم تقل: بلى إن القرآن نزل مرَّةً جملةً واحدةً ولكنكم لا تعلمون ذلك![436].
ثالثاً: استخدم القرآن أيضاً فعلي «الإنزال» و «التنزيل» بحق التوراة [سورة آل عمران: 3 و91] مع أنه لم يدّعِ أحد أن للتوراة نزولين أيضاً.
رابعاً: لو كان القرآن قد نزل دفعةً واحدةً على قلب النبيّ لَمَا فُوجئ النبيُّ ليلة القدر من شهر رمضان عندما هبط جبريل عليه بآية: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾وَلَمَا سأل النبيّ: ماذا أقرأ؟ وَلَمَا رجع إلى بيته وهو يقول: «زمِّلوني زمِّلوني» بعد أن نزلت عليه الآيات الأولى من سورة العلق (راجعوا تفسير سورة المُزَّمل والمُدَّثر في «مجمع البيان»)، وَلَمَا استعجل بتحريك لسانه في قراءة ما يقرأه جبريل عند نزول القرآن التدريجي عليه (راجعوا تفسير سورة القيامة في «مجمع البيان»)، وَلَمَا قبل عذر من اعتذر عن الخروج يوم تبوك قبل التحقق من صدقه [سورة التوبة: 43] وَلَمَا حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله له [سورة التحريم: 1 و 3] ولما شاور أحداً في واقعة الإفك بحق عائشة ليتحقق من الأمر (راجعوا تفسير الآيات من 11 حتى 15 من سورة النور في «مجمع البيان»)، لأنه لو كان القرآن قد نزل عليه كله مِنْ قَبْل لَعَلِم بنهايات كل تلك الأمور. وهناك أمثلة عديدة على ذلك في القرآن الكريم. أضف إلى ذلك أن في القرآن آيات لو فرضنا أنها نزلت دفعةً واحدةً لَمَا كانت مُتَّفقة مع الواقع الخارجي مثل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرٖ﴾[ال عمران: ١٢٣]، وقوله: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا﴾[المجادلة: ١]، أو قوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰٓ ١ أَن جَآءَهُ ٱلۡأَعۡمَىٰ ٢﴾[عبس : ١، ٢] ففي مثل هذه الموارد تمَّ بيان الوقائع بفعل الماضي مع أنها لم تقع بعد وهذا خلاف الواقع والكل يعلم أن الإخبار عن فعل ما قبل وقوعه باستخدام الزمن الماضي غير صحيح.
خامساً: يُطلق على كل جزء من القرآن اسم «القرآن» أيضاً ولذلك فلا مانع من أن يُعبَّر عن بدء نزول جزء من القرآن بإنزال القرآن.
وينبغي أن ننتبه إلى أن بعثة النبيّ هي ابتداء نزول آيات القرآن الكريمة (الآيات الأولى من سورة العلق) عليه ص وكان ذلك في شهر رمضان، وَمِنْ ثَمَّ فقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن يوم 27 رجب: "وفيه كان بعثة النّبي ص وهبوط جبرئيل عليه السلام بالرّسالة"[437]!! غير صحيح[438].
بناءً على ما تقدّم فإن ما قيل في الباب السادس من المفاتيح حول «زيارة ليلة المبعث ويومه» خرافة لا أساس شرعيّ لها لأن المبعث لم يكن في شهر رجب أصلاً.
ورغم أن الشيخ عبَّاس أورد دعاءً جيداً في آخر الفصل المُتعلّق بشهر شعبان ذكر فيه أن القرآن نزل في شهر رمضان[439]، إلا أنه اعتبر هنا أن البعثة وقعت في شهر رجب! في ذلك الدعاء المُشار إليه قال الإمام الصادق ÷: "اللهم إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ المُبَارَكَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدَىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ قَدْ حَضَرَ".
54وبالنسبة إلى ثواب الصوم في شهر رجب رُوِيَتْ أحاديث عديدة منها ما رواه «ابن عياش الجوهري»[440] مختل العقل عن النبيّ أنه قال: "إِنَ رَجَباً شَهْرٌ عَظِيمٌ مَنْ صَامَ مِنْهُ يَوْماً كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ يَوْمَيْنِ كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، وَمَنْ صَامَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ ثَلَاثِ آلَافِ سَنَةٍ"!!![441]
ورَوَوْا أيضاً أن الإمام الصادق ÷ قال: "فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ [أي من شهر رجب] نَزَلَتِ النُّبُوَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ص وَمَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ كَانَ ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ صَامَ سِتِّينَ شَهْراً"[442].
ورَوَوْا أيضاً أن الإمام الصادق والإمام الرضا - عليهما السلام - قالا: "فَصَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ [أي 27 رجب] كَصَوْمِ سَبْعِينَ عَامَاً"[443].
وقد اختار الشيخ عباس من هذه المجموعة من الأحاديث الثلاثة في كتابه (ص 148)[444] رواية السبعين عاماً، واعتبر أن صيام يوم 27 من رجب يعدل صيام سبعين سنة!! وللأسف لم يُفكّر بأن الله الرحمن الرحيم ذا الفضل العظيم قال: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا﴾[الانعام: ١٦٠]أي أنه إذا وقع عمل الخير موقع القبول مِنْ قِبَلِ الله تعالى أعطى عليه عشرة أمثاله من الأجر والثواب. وبناءً على ذلك فتلك الأحاديث التي تُعطي ثوابات جُزافاً بلا ميزان ولا حساب لا يُمكن الوثوق بها. لكن للأسف لم يكن للشيخ عبَّاس معرفة كافية بالقرآن.
في هذه الأيام لا أملك القدرة على تمحيص أسانيد كل رواية من الروايات التي ذكرها الشيخ عبَّاس حول أعمال شهر رجب أو سائر الشهور، إضافةً إلى أنني لو أردت أن أُمحِّص جميع الروايات والأمور المذكورة في المفاتيح لأدَّى ذلك إلى أن يُصبح كتابي هذا كتاباً ضخماً ومُفصلاً جداً ولأصبح مُملاً لكثير من القرَّاء لذلك سأكتفي في كل فصل وباب من فصول المفاتيح وأبوابه بتمحيص ونقد بعض ما فيه توعيةً للقرَّاء وليكون ذلك نموذجاً للبقية. وينبغي أن نعلم أن أكثر ما لم نذكره ليس له وضع أفضل من الذي ذكرناه! ويُمكن لأهل التحقيق أن يُحققوا بأنفسهم في المطالب التي لم تُذكر هنا ويُنبِّهوا الآخرين بشأنها.
ولكن قبل الانتقال إلى الموضوعات المُتعلّقة بشهر «شعبان» أرى من الواجب عليّ أن أقول كلمةً بشأن ما قاله الشيخ عبَّاس نقلاً عن كتاب «رحلة ابن بطوطة» (أعمال ليلة المبعث، ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، ص 145 فما بعد)[445]. وقد أشار إلى كتاب «رحلة ابن بطوطة» أيضاً في الصفحة 386 قبل بداية الفصل الخامس من الباب الثالث من المفاتيح[446].
[435] لاحظوا أن القرآن استخدم فعل «التنزيل» للحديث عن نزول ملاك واحد لا نزول الملائكة، فلا مجال للقول بأن المقصود نزول الملائكة بشكل تدريجي متتابع. (فَتَأَمَّل) [436] راجعوا ما ذكرناه في تفسيرنا «تابشي از قرآن» [شعاع من القرآن] حول هذه الآية. [437] مفاتيح الجنان (الفارسي)، ص 148. ومفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 222. [438] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه»، ص 135 فما بعد. [439] مفاتيح الجنان (الفارسي)، ص 169 و 170. ومفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 244. [440] راجعوا الكتاب الحالي، حاشية الصفحة 238. [441] بحار الأنوار، ج 94، ص 54 و 55. [442] بحار الأنوار، ج 94، ص 35، وسائل الشيعة، ج 7، 330. [443] بحار الأنوار، ج 94، ص 35. [444] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 222، تحت عنوان: «يوم المبعث: اليوم السابع والعشرون». [445] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 219. [446] مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 501.
كتب الشيخ عبَّاس يقول:
55"واعلم أن أبا عبد الله محمّد بن بطوطة الذي هو من علماء أهل السّنة وقد عاش قبل ستّة قرون قد أتى بذكر المرقد الطّاهر لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في رحلته المعروفة باسمه (رحلة ابن بطُوطة) عندما ذكر دخوله مدينة النّجف الأشرف في عودته من مكّة المُعظّمة، فقال: وأهل هذه المدينة كُلّهم رافضيّة وهذه الرّوضة ظهرت لها كرامات، منها أن في ليلة السّابع والعشرين من رجب وتسمّى عندهم ليلة المحيا يُؤتى إلى تلك الرّوضة بكلّ مقعد، من العراقين وخراسان وبلاد فارس والرّوم، فيجتمع منهم الثّلاثون والأربعون ونحو ذلك، فإذا كان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضّريح المقدّس والنّاس ينتظرون قيامهم وهم ما بين مصلّ وذاكر وتال ومشاهد الرّوضة، فإذا مضى من اللّيل نصفه أو ثلثاه أو نحو ذلك قام الجميع (؟!!) أصحّاء من غير سوء، وهم يقولون: لا اِلـهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ عَلَيٌّ وَليُّ اللهِ، وهذا أمر مستفيض عندهم سمعته من الثّقات ولم أحضر تلك اللّيلة، لكنّي رأيت بمدرسة الضيّاف ثلاثة من الرّجال، أحدهم من أرض الرّوم، والثّاني من أصفهان، والثّالث من خراسان، وهم مقعدون فاستخبرتهم عن شأنهم فأخبروني أنهم لم يدركوا الليلة المحيا، وإنهم مُنتظرون أوانها من عام آخر، وهذه اللّيلة يجتمع لها النّاس من البلاد خلق كثير، ويقيمون سوقاً عظيمة مدّة عشرة أيّام. (انتهى كلام ابن بطوطة)
أقول: لا تستبعد هذا الحديث فإنّ ما برز من هذه الرّوضات الشّريفة من الكرامات الثّابتة لنا عن طريق التّواتر تفوق حدّ الإحصاء، وهذا شهر شوّال من السّنة الماضية سنة ألف وثلاثمائة وأربعين قد شاهد المُلا فيه مُعجزة باهرة غير قابلة للأفكار ومن المرقد الطّاهر لإمامنا ثَامِنُ الأئِمَّةِ الهُدَاة، وَضَامِنُ الأُمَّةِ العُصَاة(؟!!) مولانا أبو الحسن علي بن موسى الرضا -صلوات الله عليه-، فثلاث نسوة مقعدة مصابة بالفالج أو نظائره قد توسّلن بهذا المرقد الشّريف والأطباء ودكاترة الطب كانت قد أبدت عجزها عن علاجهنّ، فبان ما رزقن من الشّفاء للمُلا ناصعاً كالشّمس في السماء الصّاحية، وكمعجزة انفتاح باب مدينة النّجف على أعراب البادية، وقد تجلّت هذه الحقيقة للجميع فآمن بها على ما حكى حتى دكاترة الطّب الواقفين على أماكن مصابة به من الأسقام، فأبدوا تصديقهم لها مع شدّة تبيّنهم للأمر ورقّتهم فيه، وقد سجّل بعضهم كتاباً يشهد فيه على ما رزقن من الشّفاء.....الخ" [447]. (انتهى كلام الشيخ عبَّاس القُمِّيّ).
ونقول:
أولاً: ليس من المعلوم دفن حضرة أمير المؤمنين علي ÷ في هذا المرقد المشهور في النجف[448].
ثانياً: ابن بطوطة كما قال عنه المترجم الفاضل لرحلته: "رغم أنه كان من الفقهاء والقضاة إلا أنه لم يكن من أهل النظر والتعمّق في دقائق العلوم ومشكلاتها"[449]. وَمِنْ ثَمَّ فنسبة كلام إليه لا يُعطي هذا الكلام أيَّ اعتبار وموثوقية.
ثالثاً: قال مترجم رحلة ابن بطوطة: "يمتاز كتاب «رحلة ابن بطوطة» ويتفوّق على سائر كتب الرحلات الإسلامية في أمرين...... الثاني: من ناحية صدقه في بيان أوضاع البلدان التي رآها وأحوالها، وما قام به من تسجيل وتوثيق وتصوير لعادات الشعوب الذين صادفهم في خطِّ سيره الطويل وتقاليدهم وطقوسهم..... في الواقع يُعتبر كتاب «رحلة ابن بطوطة» مرآةً تعكس حياة مُعاصريه بكل مظاهرها الحسنة والسيئة ويشتمل على جميع الطقوس والآداب التي كانت شائعة في زمنه"[450].
بناءً على ذلك نقل «ابن بطوطة» الشائعات التي كان يتداولها الناس في المناطق التي زارها، ولكنه -كما صرَّح بذلك - لم يُشاهد بعينه شفاء أحد من الناس كما لم يتكلم مباشرة مع أيّ شخص من الذين نالوا الشفاء.
ولدينا تجربة مع مثل هذه الشائعات المُشتهرة بين الناس التي تتجاوز أحياناً حدَّ الاستفاضة!! ففي سنة 1357 هجرية شمسية[451] شاع بين الناس أن ظلَّ وجه آية الله الخميني قد تمّت مشاهدته على القمر، ولم يُنكر أحد ذلك ولم يستبعده! أو شاع بين أهالي شيراز وأهالي قرية «آباده» خبر عن إمام الزمان، وقد بيَّنا حقيقة ذلك في كتابنا «سوانح أيام» (ص 34). إن مثل هذه الشائعات تنتشر بين عوام الناس انتشار النار في الهشيم وتصل إلى حدِّ الاستفاضة بل التواتر (؟!!). لذلك لا ينبغي قبول مثل هذه المتواترات المخالفة للشرع دون تأمل وتحقيق[452]، لأنها في الواقع ليست متواترة حقيقةً بل شبه متواترة. (فَتَأَمَّل)[453].
رابعاً: إن اعتقاد الناس بالشفاء ببركة المرقد المشهور في النجف مشابه لعقيدة الناس تجاه منارة مسجد البصرة المُتحرّكة. لقد كتب ابن بطوطة عن ذلك يقول:
"ولهذا الجامع سبع صوامع، إحداها الصومعة التي تتحرك بزعمهم، عند ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. صعدت إليها من أعلى سطح الجامع، ومعي بعض أهل البصرة، فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمراً فيها، كأنه مقبض مملسة البناء. فجعل الرجل الذي كان معي يده في ذلك المقبض، وقال: بحق رأس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، تحركي، وهزّ المقبض، فتحرّكت الصومعة، فجعلت أنا يدي في المقبض وقلت له، وأنا أقول: بحق رأس أبي بكر خليفة رسول الله ص تحرّكي، وهززت المقبض فتحركت الصومعة فعجبوا من ذلك.
وأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة، ولا يخاف من يفعل مثل فعلي عندهم، ولو جرى مثل هذا بمشهد الحسين، أو بالحلة، أو بالبحرين، أو قم، أو كاشان، أو ساوة، أو آوة، أو طوس، لهلك فاعله، لأنهم رافضة غالية"[454].
خامساً: بالنسبة إلى الأمور التي ذكرها الشيخ عبَّاس عن حرم الإمام الرضا (ع) نُحيل القراء المحترمين إلى كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] (ص 357 فما بعد)، ونُؤكد هنا أن هناك فوائد مادية ومالية كثيرة تترتب على إشاعة مثل هذه الأخبار لذلك فإن مثل هذه المنقولات والمشهورات لا يمكن الوثوق بها في الغالب. قال ابن بطوطة بشأن ضريح النجف:
"...... ثم يدخل القبّة[455] وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة، منها الكبار والصغار. وفي وسط القبّة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب، عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل، مسمرة بمسامير الفضة، قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء. وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور، يزعمون أن أحدها قبر آدم (ع)، والثاني قبر نوح (ع)، والثالث قبر علي (ع) وبين القبور طسوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن به وجهه تبركاً!
وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضة وعليه ستور الحرير الملون يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربعة أبواب، عتباتها فضة وعليها ستور الحرير.
وأهل هذه المدينة كلهم رافضية. وهذه الروضة ظهرت لها كرامات ثبت بها عندهم أن بها قبر علي (ع)، فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب وتُسمَّى عندهم ليلة المحيا....."[456]. ثم ذكر تلك الأمور التي نقلها الشيخ عبَّاس آنفاً، وقال:
"وهذه الليلة [أي ليلة المحيا] يجتمع لها الناس من البلاد، ويُقيمون سوقاً عظيمة مدة عشرة أيام...... ومن الناس في بلاد العراق وغيرها من يصيبه المرض فينذر للروضة [أي روضة عَلِيٍّ (ع)] نذراً إذا برئ، ومنهم من يمرض رأسه فيصنع رأساً من ذهب أو فضة ويأتي به إلى الروضة، فيجعله النقيب في الخزانة. وكذلك اليد والرجل وغيرهما من الأعضاء. وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يُضبط لكثرته"[457]. اهـ.
سادساً: ما أحسن ما قاله أخونا الفاضل الأستاذ السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي -حفظه الله تعالى- أنه من الأولى أن يستدل كل مذهب -لاسيما في المسائل المُتعلّقة بالتوحيد ومسائل الدين الأصلية بالدلائل القطعة والواضحة أو بالأدلة العقلية المحضة أو بآيات الكتاب الإلهي الصريحة كي لا يكونوا مصداقاً للآية الكريمة التي تقول: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ... وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨﴾[الحج : ٣-8]، وإلا فإن التشبث بمثل هذه الأخبار والقصص لا يفيد أيّ مذهب أو مرام، لأن أهل كل فرقة ومذهب يروون عن أئمة دينهم العظماء الكبار مثل هذه العجائب والكرامات بل لا يخلو العالَم غير الإسلامي الذي نُسخت مِلَلُهُ وأُمِرنا أن ندعوهم إلى الإسلام من مثل هذه القصص والأخبار. فعلى سبيل المثال كتبوا عن «بلزپاسكال» العالم والمُفكّر الفرنسي المشهور في القرن السابع عشر:
"..... كان پاسكال يسعى في بداية فترة تحوله الديني إلى أن يجعل أخته ووالده وجميع أفراد أسرته يعتنقون ما آمن به، والآن يسعى لجذب أصدقائه نحو عقيدته..... وكرَّس كل همِّه لتأليف كتاب كبير باسم «مدح المسيحية» وكان قصده من تأليف ذلك الكتاب أن يُفحم الملاحدة ويُرشدهم ويحثَّهم على تغيير عقيدتهم.... وفي 24 مارس (آذار) كان أفراد دير [پور رويال] يزورون شُجيرة شوك تُمَثِّل تاج عيسى. وعندما وصل الدور إلى مارجريت [الحورية، وهي ابنة أخت پاسكال التي كانت تُعاني من مرض في العين] كي تجثو على ركبتيها [أمام تاج الشوك] مسحت عينها بشُجيرة الشوك فشُفيت على الفور! وقد وقعت معجزات مشابهة أخرى في الأيام التالية لذلك اليوم على نحو أخذ الناس يتصوَّرون شيئاً فشيئاً أن عناية الله قد شملت حال دير [پور رويال] لأن شُجيرة الشوك تلك قد صنعت من قبل مثل تلك الشفاءات العجيبة..... وقد أدَّت معجزة القديسة اپين في دير [پور رويال] إلى ازدحام عجيب في ذلك الدير....."[458].
أو أنه في النصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي ادَّعت امرأة تُدعى «برناديت سوبيرو» (وُلدت عام 1844 وتُوفيت عام 1879 م) في مدينة «لور» التي تقع في فرنسا وعدد سكانها يُقارب العشرين ألف نسمة، أن السيدة الجليلة قد ظهرت لها. وقد فسَّر الناس أن المقصود من السيدة المذكورة حضرة مريم العذراء -عليها السلام-!! فقاموا ببناء مزار في المكان الذي تحدثت عنه السيدة «برناديت» وأصبح معروفاً جداً، ولا يوجد وبالطبع أحدٌ مدفونٌ في ذلك المزار.
في هذا المعبد كلما نال شخص الشفاء في حضور جماعة من الشهود كُتِبَ في دفتر خاص وُضِعَ هناك محضر جلسة في ذلك و وقَّع عليه أولئك الشهود الذين شهدوا حادثة الشفاء. وهناك أمثلة كثيرة على مثل هذا الأمر. بناءً على ذلك هل تقبلون أن يُقال لكم: إذا كان إِمامُكُم يصنع معجزات عجيبة فإن لدينا تاج شوك ومكان ظهر فيه شخص عظيم، يصنعان معجزات أيضاً، فتعالوا وآمنوا بديننا!!".
وكتب «ابن بطوطة» يقول:
"يُحكى أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة [قرية] بمقربة من مدينة واسط...... وكانت محلاً لاجتماع الصوفية والدراويش".
قال ابن بطوطة عن أولئك الجماعة:
".....ولما انقضت صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف، وأخذ الفقراء في الرقص، ثم صلوا المغرب وقدموا السماط، وهو خبز الأرز والسمك واللبن والتمر، فأكل الناس، ثم صلوا العشاء الآخرة، وأخذوا في الذكر، والشيخ أحمد قاعد على سجادة جدّه المذكور، ثم أخذوا في السماع، وقد أعدوا أحمالاً من الحطب فأججوها ناراً، ودخلوا في وسطها يرقصون ومنهم من يتمرغ فيها ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفأها جميعاً وهذا دأبهم. وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا، وفيهم من يأخذ الحيّة العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه"[459].
أو قال ابن بطوطة عن الجماعة الذين شاهدهم قرب «نهر السرور»:
"....ووصل إلى هنالك جماعة من الفقراء [أي الصوفية الدراويش] في أعناقهم أطواق الحديد وفي أيديهم، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون. وهم من الطائفة المعروفة بالحيدرية. فباتوا عندنا ليلة، وطلب مني كبيرهم أن آتيه بالحطب ليُوقدوه عند رقصهم، فكلفت والي تلك الجهة..... أن يأتي بالحطب فوجه منه عشرة أحمال، فأضرموا فيه النار بعد صلاة العشاء الآخرة حتى صارت جمراً، وأخذوا في السماع، ثم دخلوا في تلك النار. فما زالوا يرقصون ويتمرَّغون فيها. وطلب مني كبيرهم قميصاً، فأعطيته قميصاً في النهاية من الرقة، فلبسه وجعل يتمرغ به في النار ويضربها بأكمامه حتى طفئت تلك النار، وخمدت. وجاء إليَّ بالقميص، والنار لم تُؤَثِّر فيه شيئاً البتة. فطال عجبي منه"[460].
لا يذهبَّن بكم الظن أنني أُريد أن أعتبر أن جميع حالات الشفاء تلك هي بلا استثناء كذب، بل ما أرمي إليه هو أن لا نغفل عن الحالات غير الموثوقة لمثل هذه الأخبار. أما بالنسبة إلى حالات الشفاء الصادقة فينبغي أن ننتبه إلى أن مثل هذه الوقائع إنما تنشأ من الهيجان والتحوّلات الداخلية التي تعتري نفوس أتباع كل دين من الأديان فتُحدث أثرها في جسمه، ولا يُمكننا أن نعتبر مثل هذه الوقائع دليلاً على حقانية دين من الأديان أو مذهب من المذاهب. وأذكر أنني في الأيام التي كنت أُدرّس فيها قال لي أحد طُلاب الصف أن أحد أقربائه أُصيب أثناء مشاهدته لمباراة كرة قدم بالعمى لشدَّة الهياج! وقد قال الأطباء إن عماه ليس له علّة جسمية بل نتيجة الصدمة والهياج وأنه من الممكن إذا تعرّض إلى حالة مشابهة من الهياج والصدمة بالقوة ذاتها أن يعود إليه بصره. فالشفاء أو تغير الحال المفاجئ ينشأ في كثير من الحالات نتيجة التهيّج والهزَّة العاطفية والاختلاجات النفسية. بناءً على ذلك ليس مستبعداً أبداً أن يتأثر فرد خرافي وحساس من الحضور في مكان خاص فتتحرك مشاعره وأحاسيسه بشدّة ويدخل في حالة من الهياج النفسي، وبالنتيجة يحدث فيه تغير مفاجئ.
ولا شك ولا ريب أن كل الوقائع التي تحدث في العالَم سواءً كانت حسنة أم سيئة إنما تتحقق بإذن الله وتدبيره، وما من شيء يخرج عن إحاطة الله وقيوميته، ولكن لما كانت مثل هذه الوقائع غير العادية والخارقة منوطة بالإذن الإلهي الخاص فقط، (مثل معجزات الأنبياء والتغيرات المفاجئة وحالات الشفاء الخارقة للعادة وغير المُقيّدة بأصول الطب[461] و......) ولا دخل لسائر الموجودات فيها ولو على نحو مُقيّد، لذلك ففي نظرنا، لا بُدَّ علينا - نحن الذين نتَّبع القرآن- أن نعتبر مثل هذه النعم -ومن جملتها نعمة السلامة- عطاءً مباشراً من الله من دون واسطة، وأن نقول مُتَّبعين لما قاله حضرة سليمان (ع): ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ﴾ [النمل: 40] حتى لا يشملنا قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ﴾ [النمل: 73]، وكي لا نكون من الذين قال تعالى عنهم:﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا[أي الله] صَٰلِحٗا[أي ولداً صالحاً]جَعَلَا لَهُۥ[أي لِـلَّهِ] شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٩٠﴾[الاعراف: ١٩٠]، أو قال عنهم أنهم عندما ننجِّيهم من الضيق والهلاك في الصحراء أو في البحر أو في العاصفة يجعلون لنا شركاء في هذه النعمة التي أنعمناها عليهم [الأنعام: 63 و64، النحل: 53 إلى 55، الإسراء: 66 و67، العنكبوت: 65][462].". (إلى هنا انتهى كلام السيد مصطفى الطباطبائي)
تاسعاً: إن ادِّعاءكم هذا مخالف للشرع ومخالف للتوحيد لأننا كما قلنا في تفنيدنا للشبهة السادسة (في الصفحة 165فما بعد)، كل طلب للشفاء، بل كل طلب لشيء من أحد سوى الله على نحو غير مُقيَّد شِرْكٌ، ويجب أن لا نُخدَع بقول من يقول: «ما الفرق بين الاستمداد من الطبيب الجرّاح وطلب العون منه لإجراء عمليّة الزائدة الدوديّة والاستمداد من جبريل؟!» لأن استمدادنا من الطبيب -أو حتى من الأنبياء والأئمة في زمن حياتهم الدنيوية- محدود ومشروط بقيود كثيرة فنحن نستعين بغير الله ضمن الحدود والشروط والقيود المذكورة، أما الكيفية التي يدعو الناس فيها الأئمة فهي غير مُقيَّدة، وكما ذكرنا فيما سبق المعين والمجيب غير المُقيَّد والمُطلق والمُجرَّد من جميع الحدود هو الله وحده فقط لا غير.
فعلى سبيل المثال لا أحد يطلب من الكحَّال سلامة معدته أو يتوقع منه قبوله في الجامعة، كما لا يتوقع أحد من طبيب الأسنان علاج مرض عينيه، ولا يطلب أحد من الطبيب أو من الخباز أن يجد ابنه الضائع أو يعود من سفره سالماً! كما أن من يطلب من الطبيب أو من الخباز شيئاً إنما يطلبه من مسافة مُحدّدة وعندما يكون الطبيب أو الخباز مستيقظاً واعياً ولا يتوقع أن يتمكن الطبيب من معالجته أو شفائه دون الاستفادة من القواعد الطبية، وأمثال هذه القيود والشروط..... لأنه يعتبر أولئك الأشخاص أشخاصاً ذوي قدرة وأهلية محدودة ومُقيّدة. (فَتَأَمَّل).
أما الناس لدينا فيطلبون حاجاتهم دون أيّ قيد أو حدود أو شرط في كل زمان وفي أيّ مكان مجتمعين ومتفرّقين أياً كانت تلك الحاجات من الإمام، وإن كانوا في مرقده طافوا حول المرقد واعتبروا أن الإمام حاضراً وناظراً يُشاهدهم ويسمع كلامهم!! ولا يعتقدون أن وجود مسافة بعيدة بينهم وبين الإمام تُشكِّل مانعاً أو عائقاً يمنع سماعه لدعائهم واستعانتهم!!
بناءً على ما ذُكر في البند «و» في فصل «تذكير مهم حول توحيد العبادة» (ص 116 إلى 123) إذا كان النَّبِيّ الأَكْرَم ص لا يستطيع أن يوصل كلامه إلى من رحلوا عن هذه الدنيا الفانية فمن باب أولى أن لا نستطيع نحن أن نوصل كلامنا إليهم.
وإذا كانت الملائكة لا تنزل على النبيّ طبقاً لرغبته -كما لم تنزل عليه في فترة انقطاع الوحي رغم رغبته في ذلك[463]- فإنها قطعاً لن تنزل علينا برغبتنا، كي توصل رسالتنا إلى الأنبياء والأولياء. وقد قال القرآن الكريم عن الملائكة: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤﴾[مريم: ٦٤]. أي أن الماضي والحاضر والمستقبل بيد الله وحده وهو المحيط بنا وبكل شيء وهو الذي يعلم متى يُنَزِّلنا. وقال تعالى أيضاً: ﴿لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨﴾[الانبياء: ٢٧، ٢٨]. أي أن الملائكة لا يقومون بعمل إلا إذا أمرهم الله به، إلى درجة لا يتكلمون دون إذن من الله. (وراجعوا أيضاً الآية 38 من سورة النبأ).
لهذا السبب فإن أمة الإسلام مُتَّفقة ومُجمعة ولِـلَّهِ الحمد على عدم دعاء الملائكة وليس بينها أيُّ خلاف في ذلك، فلا أحد يقول: يا ميكائيل افتح لي باب الرزق، أو يا جبريل اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ اللهِ، لأن الكل يعلم أن الملائكة عباد مأمورون مُطيعون لأمر الله لا يتَنّزَّلون إلا بأمره ولا يقومون بأيّ عمل بطلبنا ورغبتنا.
والأنبياء والأولياء بإجماع أمة الإسلام رحلوا عن هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية. بناءً على ذلك لا نملك إمكانية الاتِّصال بهم.
يقول حضرة أبو الأنبياء إبراهيم (ع) -ومقامه أعلى وأرفع من كل إمام- وهو أُسوة المؤمنين جميعهم: ﴿وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ يَشۡفِينِ ٨٠﴾[الشعراء : ٨٠]. ونحن نقرأ في الدعاء: "يَا طَبِيبَ مَنْ لَا طَبِيبَ لَهُ..... يَا مَنْ لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا هُو "[464]. ولكنكم هنا تقولون: إن قبر أمير المؤمنين علي ÷ أو قبر حضرة الرضا (ع) محلّ للشفاء؟!
وليت شعري! لماذا تشفي قبور السيد نصر الدين في طهران أو السيد جلال الدين أشرف في جيلان أو قبر أحمد بن موسى المعروف بشاهچراغ في شيراز و..... ولا تشفي قبور جناب «زيد بن علي» أو جناب «النفس الزكية» أو جناب «الحسين بن علي» المشهور بشهيد فخ و..... -رضوان الله عليهم-؟!! (فَتَأَمَّل).
لقد كان حضرة الرضا (ع) يقول في دعائه الله تعالى: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَنَا مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا فِينَا مَا لَمْ نَقُلْهُ فِي أَنْفُسِنَا، اللَّهُمَّ لَكَ الْخَلْقُ وَمِنْكَ الرِّزْقُ وَإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]...... اللَّهُمَّ لَا تَلِيقُ الرُّبُوبِيَّةُ إِلَّا بِكَ وَلَا تَصْلُحُ الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لَكَ فَالْعَنِ النَّصَارَى الَّذِينَ صَغَّرُوا عَظَمَتَكَ وَالْعَنِ الْمُضَاهِئِينَ لِقَوْلِهِمْ مِنْ بَرِيَّتِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا عَبِيدُكَ وَأَبْنَاءُ عَبِيدِكَ، لَا نَمْلِكُ لِأَنْفُسِنَا نَفْعاً وَلَا ضَرّاً وَلَا مَوْتاً وَحَيَاةً وَلَا نُشُوراً، اللَّهُمَّ...... مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَيْنَا الْخَلْقَ وَعَلَيْنَا الرِّزْقَ فَنَحْنُ بِرَاءٌ مِنْهُ كَبَرَاءَةِ عِيسَى (ع) مِنَ النَّصَارَى، اللَّهُمَّ إِنَّا لَمْ نَدْعُهُمْ إِلَى مَا يَزْعُمُونَ فَلَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا يَقُولُونَ وَاغْفِرْ لَنَا مَا يَدَّعُونَ"[465].
كما قال حضرة الإمام الصادق ÷: "فَوَ اللهِ مَا نَحْنُ إِلَّا عَبِيْدُ الَّذِي خَلَقَنَا وَاصْطَفَانَا، مَا نَقْدِرُ عَلَى ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ وَإِنْ رَحِمَنَا فَبِرَحْمَتِهِ وَإِنْ عَذَّبَنَا فَبِذُنُوبِنَا وَاللهِ مَا لَنَا عَلَى اللهِ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا مَعَنَا مِنَ اللهِ بَرَاءَةٌ وَإِنَّا لَمَيِّتُونَ وَمَقْبُورُونَ وَمُنْشَرُونُ وَمَبْعُوثُونَ وَمَوْقُوفُونَ وَمَسْئُولُونَ...... وَاللهِ لَوِ ابْتُلُوا بِنَا وَأَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبَ أَنْ لَا يَقْبَلُوهُ، فَكَيْفَ وَهُمْ يَرَوْنِّي خَائِفاً وَجِلًا أَسْتَعْدِي اللهَ عَلَيْهِمْ وَأَتَبَرَّأُ إِلَى اللهِ مِنْهُمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي امْرُؤٌ وَلَدَنِي رَسُولُ اللهِ ص وَمَا مَعِي بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ، إِنْ أَطَعْتُهُ رَحِمَنِي وَإِنْ عَصَيْتُهُ عَذَّبَنِي عَذَاباً شَدِيداً أَوْ أَشَدَّ عَذَابِهِ". (رجال الكشي، طبع كربلاء، ص 196 و197).
وقال المَجْلِسِيّ:
"أي لو كنا أمرناهم بذلك على فرض المحال فكانوا هم مبتلين بذلك مُرَدَّدِين بين مخالفتنا وبين قبوله منا، والوقوع في البدعة، لكان الواجب عليهم أن لا يقبلوه منا فكيف و إنا ننهاهم عن ذلك؟ وهم يروننا مرعوبين وجلين من الله تعالى مستعدين الله عليهم فيما يكذبون علينا"[466].
فكيف يُمكن أن يرضى الأئمة أن نأتي من أماكن بعيدة إلى قبورهم فنطوف حولها ونجعلهم وسائط بيننا وبين الله ونطلب منهم الشفاء من أمراضنا وتلبية حاجاتنا.
عاشراً: لقد كان الأنبياء والأولياء -لاسيما حضرة أبو تراب (ع)- يعيشون حياةً دنيويةً غايةً في البساطة وبعيدةً عن التجمُّل ولم يكونوا يُحبّون الحياة المترفة والعيش الباذخ والحياة في القصور المليئة بالذهب والفضة، ولا شك أنهم كارهون لهذه الأضرحة الفخمة المُجلَّلة المليئة بالذهب والفضة والمرايا والفسيفساء ذات الألوان المختلفة وأحجار المرمر التي بناها الجبَّارون والظَّلَمَة بالمال الحرام -أو على الأقل بالمال الذي فيه شبهة- والأغلب أنهم فعلوا ذلك بقصد خداع العوام[467]، فكيف يشفون الناس في مثل هذه الأمكنة.
لديّ ذكرى أرى من المناسب أن أذكرها هنا:
في صباح أحد الأيام في آخر فترة إقامتي في مدينة «مشهد»، عندما أردت الخروج من حرم حضرة الرضا (ع) رأيت رجلاً قد أمسك الضريح بيديه ووضع جبينه عليه يُتمتم بكلمات بشفتيه، فتقدَّمت نحوه وقلت: أيها السيد! مع من تتكلَّم؟ فرفع رأسه ونظر إليّ وقال: معلومٌ أنني أُكَلِّم الإمام الرضا! فقلت: وهل الإمام الرضا (ع) حيٌّ؟ فنظر إليّ هذا الزائر بتعجب إذْ كنتُ أرتدي لباس علماء الدين المُعمَّمين وقال: أجل إنه حيّ! فقلت: أنا مجتهد، وطبقاً لشرع الإسلام، يجب علينا أنا وأمثالك الذين نعلم أن حضرته لم يمت، أن نأتي بالمجرفة والمعول ونستخرج إمامنا الجليل من داخل القبر، فلا يجوز أن يُدفن المسلم -فما بالك بالإمام- في القبر وهو حيٌّ! ثم هل تعتقد أن المأمون العباسي لم يسمَّ الإمام ولم يمت الإمام من جرَّاء ذلك؟! فلماذا إِذَنْ تُحيي ذكرى يوم وفاته؟! قال: إن الإمام قد مات ولكننا نُكلم روح الإمام. قلتُ: هل روحُ الإمام في الضريح؟ فهزَّ رأسه أن: «نعم»، فقلتُ: إن الذي بنى هذا القبر هو الشاه عباس المجرم شارب الخمر، فأين كانت روح الإمام قبل الشاه عباس؟ ثم أين قال القرآن أو الحديث إن روح الإمام تكون في الضريح؟ وأيّ مرجع قال إن روح الإمام في الضريح؟ فقال: لا أعلم؟ فقلتُ: هل تعتقد أن روح الإمام تسكن في دنيانا هذه؟ قال: فأنت ماذا تقول؟ قلتُ: إن روح النبيّ والإمام في عالَم البقاء وليست في عالَم الفناء وهي لا تسمع صوتي ولا صوتك ولا صوت أحد من الناس، أفلم تقرأ القرآن الذي خاطب الله تعالى فيه نبيَّه قائلاً: ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢﴾[فاطر: ٢٢]، وقال له أيضاً: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾ [النمل: 80] فإذا كان النبيّ لا يستطيع أن يُسمع الموتى فبالطبع لن تستطيعَ أنتَ ولا أنا أن نفعل ذلك. تعجب الرجل كثيراً لسماعه هذا الكلام من شيخ مُعمَّم ولم يكن يُصدق ما تسمعه أذنيه من فرد مُعمَّم!![468]
وأتذكر ذكرى أخرى عجيبة جداً أيضاً وتدلّ على مدى تعصّب المشايخ الشديد وعدم صدقهم، ومن المفيد أن أذكرها هنا لإيقاظ الناس وتوعيتهم وهي من النماذج البارزة للآية المباركة التي تقول: ﴿وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ﴾[الشورى: ١٤]:
قبل سنوات ماضية كنا في إحدى المجالس الخاصة وكان معنا شخص أو شخصان وقام أحد المشايخ الذي كان مشهوراً إلى حد ما وله وجه بين الناس بالتحاور معي حول توحيد العبادة والطواف والنذر والذبح و الخ... وكان يقول: إذا كنتَ في ميدان فردوسي[469] تبحث عن محل خاص - مثلاً بائع حلويات - ولأجل أن تجده كنتَ تلفّ حول الميدان، فهل يجوز أن نقول بما أنّك طفت حول تمثال الشاعر فردوسي فإنك قد عبدتَهُ؟!! وما رأيك بقوله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ غِلۡمَانٞ لَّهُمۡ﴾[الطور: ٢٣]، هل يمكن القول إن الغلمان يعبدون أهل الجنة؟!!
وأردف يقول: والأهم من ذلك أن «السجود» من أقوى وأوضح أشكال العبادة ويدل على غاية الخضوع التذلل، ولكننا نرى في القرآن أن الملائكة يسجدون لغير الله أي لآدم ولم يُعتَبَر هذا الأمر عبادة لآدم، بناء على ذلك فإن السجود والطواف والنذر و..... وأمثال هذه الأعمال لا تكون عبادةً إلا إذا اقترنت باعتقاد فاعلها بإلهية من تُقَدَّم له!!
واستنتج قائلاً: لا يجوز لكم أن تحكموا على عمل ما بأنه عبادة استناداً إلى ظاهر هذا العمل فقط دون أخذ نية العامل بعين الاعتبار، بل لا بد أن يكون العمل قد تمَّ بنية التقرُّب إلى من يُعتقد فيه الإلـهية كي يُعْتَبَر عبادةً، فإن قلتَ لقد نذرت ألف تومان للمسكين الذي في حيِّنا كي يشفَى ابني فهل تكون قد نذرتَ لِـلَّهِ أم لذلك المسكين؟! و (العقيقة)[470] مثل النذر حيث يقوم المسلم بذبح أضحية لأجل سلامة طفله الوليد. إنك تقدم الأضحية أو العقيقة لِـلَّهِ أي أنك في الواقع تفعل ذلك لتنال رضا الحق وتدفع مبلغاً للمسكين، لا أن المسكين هو الذي تنذر له بل الذي تنذر له هو الله. فإذا قال شخص لقد نذرت للإمام الرضا أو لحضرة موسى بن جعفر أو..... أنني لو عاد ابني المسافر سالماً فسأذهب لزيارتهم، فليس قصده أنه نذر للإمام بل هو يقصد أنه يهدي ثواب عمله له!!! وهذا كمثل الإنفاق: فإذا أنفقتَ تبتغي بذلك وجَه الله، اُعتُبِر إنفاقكَ عبادةً، أما لو أنفقت لِلَفْتِ أنظار الناس نحوك ونيل الجاه لديهم، اُعْتُبِر إنفاقك رياءً ومعصيةً، في حين أن ظاهر العمَلَين واحد وهو إعطاء المال أو اللباس أو الطعام لفقير! [فالنية هي التي تحكم على العمل وليس مجرَّد شكله الظاهري].
وتابَعَ يقول: لاحظوا أن القرآن قال: ﴿مَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ... ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌ﴾[المائدة: ٣]، وأنتم تعلمون أن من عادات الناس في الجزيرة العربية في عهد الجاهلية كان تقديم القرابين للأصنام، وقد حرّم الإسلام هذا العمل، وحتى أهل السنة - كما في سنن أبي داوود - رووا أن النبي ص كان يحرص بشدَّة على أن لا يضحّي الناس للأوثان والأصنام بناءً على عاداتهم القديمة. فلماذا تعمّمون قول القرآن حول المشركين والوثنيين على المسلمين؟!
وتابع قوله : كما أنكم تخطئون في فهم الآية التي تقول: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ﴾[الزمر: ٣]، إذ اعتبرتم أن عمل المسلمين في زيارة مراقد الأئمة والطواف حولها يشابه أعمال المشركين [الذي يتقرَّبون بأوليائهم إلى الله]، مع أنه لا علاقة للآية المذكورة بالمسلمين، فلماذا لا تنتبهون إلى الجزء الأخير من الآية الذي يقول: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ ٣﴾[الزمر: ٣]. بناء على ذلك يتبيّن أن المشركين كانوا يكذبون ولم يكونوا يعتبرون في قلوبهم الأصنامَ مجرد «واسطة» أو «وسيلة» للتقرب إلى الله، بل كانوا يعطون للأصنام مقاماً أعلى من هذا المقام ويعتقدون فيهم أمراً أرفع شأناً!! (انتهى كلام الشيخ المُحَاوِر لي).
كان كلام هذا المُحاوِر عجيباً في نظري فعلاً، لأنه كان يتشبّث بأمور بطلانها في غاية الوضوح والبداهة، كي لا يتخلَّى عن عقيدته الخرافية!! قلت له: نعم لو أن العمل يتم بالصورة التي تذكرها، لا يمكن اعتباره طوافاً عبادياً، لكن بالله عليك قُل لي بكل تجرُّد وصدق: هل طواف الذين يطوفون حول مراقد أئمة الدين في حرم مشهد أو كربلاء أو حرم قم يشبه طوافي حول ميدان فردوسي بحثاً عن محل بائع الحلويات؟! ألا تعلم حقيقةَ أن الناس يعتبرون صاحب القبر الذي يطوفون حوله عليماً بحالهم ويتوقعون منه أن يلبّي حاجاتهم ويشفع لهم بالقدرة التي منحها الله له، الأمر الذي لا دليل شرعي عليه بالطبع؟
وبالنسبة إلى النذر: أنا أيضاً أعتقد مثلك أنه لا ينعقد أي نذر إلا إذا كان لِـلَّهِ وأُدِّي بصيغة خاصة كقول الناذر: «لِـلَّهِ عَلَيَّ......» أي: أنذر لِـلَّهِ إن حقَّق لي حاجتي أن أقوم بالعمل الفلاني [عمل خير مطلوب شرعاً]. لكنني أسألك وأقسم بالله عليك: ألا تعلم أن 99% من النذور التي يفعلها الناس لا تتم بهذه الصورة؟ هل تدّعي هذه الادّعاءات صادقاً وبدافع خيِّرٍ؟ إن لم يكن هذا العمل تعصّباً ولجاجاً فما هو إذاً؟
أجل، عندما تُحْشَر في الزاوية أمام المعترضين المطّلعين على أعمال الناس تجاه أئمة الدين تقول إن إقامة مجالس مائدة أبي الفضل أو النذر للإمام الرضا... إنما تتم بهذه الصورة وهي قول الناذر نذرت لِـلَّهِ وأهديت ثواب ذلك إلى حضرة أبي الفضل أو الإمام الرضا أو موسى بن جعفر أو......، لكن هذا الادعاء كذب محض وأنت تعلم جيداً أن 99% من الناس لا ينذرون بهذه الطريقة ومع ذلك فإنك لا تنهاهم عن ذلك، فأنا لم أسْمَع نهيك عن ذلك.
أنت تعلم جيداً أن الناس يقولون: إذا شُفِيتُ من مرضي أو قُبِل ابني في الجامعة أو كسب أبي القضية في المحكمة أو عاد أحد أعزائي من السفر سالماً أو..... فسأذهب لزيارة الإمام الرضا (ع) بنيّة أن الإمام عالمٌ بكلامي وقصدي - وإن لم نقل إن قائل ذلك الكلام يعتقد أن الإمام يمكنه أن يلبي حاجته بالقدرة التي أعطاه الله إياها - فعلى الأقل نقول على وجه القطع واليقين أن قائل ذلك الكلام يعتقد أن الإمام سيشفع له عند الله ويأخذ له حاجته من الله عندما يعلم أن قائل ذلك الكلام سيذهب إلى مرقده ويعظّمه ويكرّمه ويظهر له محبّته، فما هو الباعث على أن يقوم الناذر - هذا طبعاً حسب ادّعائك - بإهداء ثواب نذره أو أضحيته إلى السيد نصر الدين أو شاه چراغ ولا يهدي ثواب ذلك إلى روح أبيه أو أمه أو أخيه أو أخته؟ أليسوا هم أكثر حاجة إلى هذا الثواب من ذلك الإمام أو حفيد الإمام؟! نعم، إنه لا يفعل ذلك لأنه يعلم أن أباه وأمه لا يقدران على فعل شيء، ولكنه يعتقد أن الإمام الفلاني أو حفيد الإمام الفلاني عليم بحاله وعلى الأقل يشفع له عند الله ويحقِّق له مطلوبه وحاجته من الله!!
أما قولك إن الله تعالى قال: ﴿طَوَّٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ﴾[النور : ٥٨]فإن المراد من هذه الجملة المعاشرة والمصاحبة لا الطواف التعظيمي الذي نقصده نحن، ومثل تلك المعاشرة خارجة عن بحثنا تماماً، أو قول الله تعالى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ غِلۡمَانٞ لَّهُمۡ كَأَنَّهُمۡ لُؤۡلُؤٞ مَّكۡنُونٞ ٢٤﴾[الطور: ٢٣]، أو قوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيۡهِمۡ وِلۡدَٰنٞ مُّخَلَّدُونَ ١٧ بِأَكۡوَابٖ وَأَبَارِيقَ وَكَأۡسٖ مِّن مَّعِينٖ ١٨﴾[الواقعة: ١٧، ١٨]471] ، فالمراد هو الضيافة الكاملة والخدمة التامة، يعني أن هؤلاء الخدم يعتبرون مخدوميهم بحاجة دائمة إلى خدماتهم لا أن الخدم ينظرون إلى مخدوميهم بوصفهم شفعاء لهم عند الله! كما أنهم لا يطلبون أي حاجة من مخدوميهم المُطاف بهم. هذا بالطبع إذا اعتبرنا «الطواف» في هذه الآيات هو الدوران حول الشخص لا خدمته، في حين أن القرآن بذكره للأكواب والأباريق والكؤوس يبيّن لنا أن المقصود هو الخدمة لا الطواف بمعنى الدوران. وأنت تعلم جيداً أنه إذا قيل أنّ الخُدَّام في العرس الفلاني أو في المطعم الفلاني «كانوا يطوفون على الضيوف أو الزبائن بالأواني المملوءة بالأطعمة والفواكه والأشربة كما تطوف الفراشة حول الشمعة» فليس المقصود أن الخدّام كانوا يدورون 360 درجة حول كل ضيف أو زبون!! بل المقصود إنهم كانوا يبذلون قصارى جهدهم في الخدمة والضيافة[472]. لاحظوا أننا في موضوع «الطوافّ» لا ننكر «نيّة» الطائف ولسنا غافلين عن حقيقة حاله ولا نقول: إن «النية» ليست شرطاً, بل نقول: إن الطواف يقع في ورطة الشرك بنيّة أقل من اعتبار المطوف به إلهاً خالقاً محيياً مميتاً ومالكاً للسماوات والأرض.
إن الإشكال في عمل الناس هو أنهم يعتبرون أئِمَّة الدين مطلعين على أحوالهم، ولهذا السبب يطوفون حول قبورهم ويُقَبِّلُون أضرحتهم ويتبرَّكون بها وبعد أن يلمسوا الضريح يمسحون رؤوسهم ووجوههم بأيديهم ويطوفون بأمواتهم حول أضرحة الأئِمَّة أو يطوفون بخليط المُكَسَّرات أو السكر النباتي[473] حول الضريح لتحلّ فيها البركة أو يحتفظون بغبار ضريح الإمام الرضا للتبرك به، أو يقدِّمونه إلى أعزَّتهم كهدية ويدعون الأئمَّة بلا قيد أو شرط. وأنت مُطَّلعٌ تماماً على هذا الأمور لكنك تتجاهل هذه الحقيقة! بناءً على ذلك ليس من الضروري أن يعتبر الطائف أن المطوف به هو الله الخالق حتى يكون طوافه به عبادة له، بل مجرد قيام الطائف بدعاء أئمة الدين بنحو غير مقيد واعتباره أئمَّةَ الدين مطلعين على أحواله، ومجرد قيامه بهذا العمل [الحج إلى قبورهم والطواف حولها] والتبرك بأضرحتهم يكفي للحكم بأن عمله مخالف للشرع وغير جائز. لماذا تتجنب الصدق والإنصاف في نقاشك وتكتم الحقائق وتصور أن طواف الناس حول قبور الأئمة يماثل الدوران حول ميدان (ساحة) فردوسي؟! عندما أدور حول ميدان فردوس فإنني لا أفكر في تمثال فردوسي إطلاقاً بل كل ما أفعله هو البحث عن الدكان المطلوب، أما الناس فعندما يطوفون حول قبور الأئِمَّة فإنهم يفعلون ذلك ليهتم بهم المطاف به ويوليهم عنايته، فأين هذا من ذاك؟!
ثم متى قال الله تعالى في كتابه أن لزيارة قبور الأئِمَّة ثواب وأجر حتى يُهدي الزائر ثواب زيارته إلى الإمام؟ هل هناك من معنى أن أقوم بالسفر من أهواز إلى مشهد لأزور قبر الإمام رضا (ع) وأطوف بقبره لمجرد أن أقدِّم الثواب الذي تدَّعُونه لهذا العمل إلى الإمام؟ هل تبحث فعلاً عن الحق والحقيقة عندما تقول مثل هذا الكلام في نقاشك؟! هل أنت غافل حقيقةً عن الفرق بين الدوران حول ميدان فردوسي بحثاً عن محلٍّ ما وطواف الناس حول أضرحة الأئِمَّة أو أحفادهم وتعتبر من صميم قلبك أن العملين مثل بعضهما؟!!
أما بالنسبة إلى «السجدة» فإن في كلامك مغالطة، ذلك بأننا لم نرَ أنا ولا أنت الملائكة والجنّ - والشيطان من الفريق الثاني [الكهف: 50]- ؛ بناءً على ذلك من أين تعلم أن للملائكة والجن جبهةً وأيدٍ ورُكَباً وأقداماً مثلنا، وأن السجود الذي طُلب منهم يُماثِلُ سجودَنَا؟ هل كان قصد يوسف (ع) من قوله لحضرة يعقوب (ع): ﴿إِنِّي رَأَيۡتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوۡكَبٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ رَأَيۡتُهُمۡ لِي سَٰجِدِينَ ٤﴾[يوسف: ٤] أن الشمس والقمر يسجدان له بوضع أعضائهما السبعة[474] على الأرض؟!! أو أن القرآن الذي قال: ﴿وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ ٦﴾[الرحمن: ٦]قصد أنهما يضعان أعضائهما السبعة على الأرض ساجدين؟!! وكذلك إذا تأملنا الآية 100 من سورة يوسف (ع) التي تقول: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗا﴾[يوسف: ٩٩] لتبين لنا أن سجدتهما - كما ذكر ذلك أبو الفتوح الرازي- كانت سجدة تعظيم وتكريم لا سجدة عبادة، لأن الآية تُصرِّح بأن يوسف رفع أبويه على العرش، ومعلومٌ أن الذي يجلس على العرش أو كرسي الحكم لا يمكنه أن يضع جبهته على الأرض في هذه الحالة. (فتأمل) بناءً على ذلك لقد قام والدا يوسف وإخوته - الذين شملتهم عبارة «خَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗا» - بعمل كان في عرف ذلك الزمان دالاً على الإكرام والخضوع ولم يكن سجود عبادة.
كل شيخ يعلم أن مفردات مثل «الصلاة»[475] و«الركوع» [سورة المائدة: 55، وص: 24] لم تأتِ في القرآن الكريم دائماً بمعناها الشرعي المنقول والفقهي بل استعملها القرآن الكريم أحياناً بمعناها اللغوي الأصلي.
وبالنسبة إلى موضوع «السجود» لآدم ينبغي أن ننتبه إلى أن المأمورين بالسجود لم يكونوا بشراً، وَمِنْ ثَمَّ فمن الواضح أن السجود هنا لم يأتِ بمعناه المصطلح الشرعي، بل المقصود منه المعنى اللغوي الأصلي وهو إظهار التعظيم والتكريم. ولذلك فلا يجوز قياس سجود الملائكة، أي تعظيمهم وتكريمهم لآدم، على السجود العبادي وسائر العبادات التي يقوم بها البشر.
ثانياً: أمر الله تعالى الملائكة والجن صراحةً بالسجود لآدم، ولو أمرنا الله في القرآن أن نؤدي العبادات لغيره تعالى لأطعناه فيما أمر وَلَمَا كان بيننا بينكم خلاف. فعليكم أن تأتوا بدليل واحدٍ على أن الله أجاز لنا أداء العبادة لغيره، كأن ندعو ونتضرع لغيره ونطلب منه حاجاتنا على نحو غير مقيد، أو نؤدي الطواف والنذر ونحر الأضاحي لغيره.... في حين أن الأمر خلاف ما تدَّعون إذ نهانا القرآن مراراً وتكراراً عن دعاء غير الله دعاءً غيرَ مقيَّد، وذمَّ المشركين على قيامهم بأعمال عبادية كالطواف والنَّذْر تجاه معبوداتهم التي يدعونها من دون الله رغم أن كثيراً منهم - على أقل تقدير (إن لم نقل كلهم)- ما كانوا يعتبرون معبوداتهم مستقلةً (عن الله).
ثالثاً: إذا كان «السجود» لا يُعتَبَر سجوداً شرعياً إلا إذا اقترن بنية الساجد واعتقاده أن المسجود له إلهاً وادّعيتَ أن القرآن ينص على أنّ السجود قد أُمِر به لغير الله، فلماذا نهى الإسلام عن مطلق السجود لغير الله واعتبره عملاً ممنوعاً ومحرَّماً دون أن يُقيِّد ذلك بأي قيد؟ لقد أتيت بمثال عن أمر لا يجوز فعله لغير الله، فإن كنت محقاً في كلامك فأتنا من القرآن بمثال عن عمل عبادي تم أداؤه لغير الله ولم ينه الإسلام عنه.
أما قولك بأن للعبادات ظاهراً وباطناً ونيّةً، فأنت تعلم جيداً أننا لا نجهل هذه الأمور وكلنا نعلم أنّه لو قُذِف بشخص عارٍ بالقوة في حوض ماء فلا يُعتَبَر عمله غسلاً ارتماسياً! و أنه لو أعطى شخصٌ فقيراً لباساً أو مالاً أو طعاماً لا لوجه لله بل تلبية لرغبة نفسية فلا يُعتَبَر عمله ممارسة لعبادة الإنفاق ولا يُثاب عليها، أو لو أعطى فقيراً شيئاً رياءً وسمعةً - كما تقول - لكان عمله معصية قطعاً لأنه لم يرد بعمله نيل رضا الله.
لكنك تعلم أن العبادات نوعان: النوع الأول العبادات التي لها قالب محدّد ومعيّن كالصلاة والسجود والنذر والطواف ونحر الأضاحي و..... فمثل هذه العبادات لا يجوز القيام بها لغير الله حتى بشكلها الظاهري. النوع الثاني: أعمال الخير والعبادات التي ليس لها قالب محدّد كالإنفاق العام الذي يمكن أن يؤديه الإنسان جالساً أو واقفاً، ليلاً أو نهاراً، للقريب أو للغريب، بيده مباشرةً أو عبر شخص آخر..... الخ. أولاً: إنك ضربت مثالاً للعبادات من النوع الثاني لا من النوع الأول، ثانياً في كلا النوعين من العبادات النقطة الرئيسية المهمة هي الجهة التي تؤدَّى إليها الأعمال العبادية! لهذا السبب إذا عمل الإنسان عمل خير يحبّه الله ولكنه لم يقصد بعمله هذا وجه الله بل عَمِلَه رياءً أو بنيّةٍ غير الرياء كأن يريد به استعطاف ولفت نظر غير الله، كان عمله معصيةً واُعتُبِر هذا الرياء شعبة من الشرك. (فتأمّل).
بناء على ذلك، حتى لو أراد شخص أن ينحر شاةً لِـلَّهِ ولكنه فعل ذلك أمام إمام أو ملك أو رئيس جمهورية أو أمام عزيزٍ عاد من السفر، فإن عمله هذا مُنْتَقَد في عقيدتنا لأنه أراد بهذه التضحية جلب اهتمام الإمام أو الملك أو..... (يعني غير الله). أما الذي يطوف حول مرقد أحد أئمة الدين الأجلاء فإنه يريد أن يطّلع صاحب القبر على عمله، ولو كان يعتبره غير مطّلع على عمله لَمَا جاء من أماكن بعيدة لزيارته و لَمَا طاف حول قبره و لَمَا ناداه، بناء على ذلك، فإنه يريد من طوافه حول قبره أن يلتفت إليه صاحب القبر ويهتم بأمره، لأنه يريد في الواقع أن يتوسّط له عند الله ويشفع له.
أما الذي ينذر إذا شفي مريضه أن يعطي مالاً لمسكين في حيّه أو يطعمه فإنّه لا يريد لفت انتباه المريض إليه واهتمام المريض به، ولا لفت انتباه الفقير إليه واهتمامه به، بل كل ما يريده هو أن ينتفع مريضه بهذا النذر، وكذلك الذي يقوم بسنة العقيقة يعلم جيداً أن وليده لا يعلم شيئاً عن عملِ أبيه هذا، بل الذي يقوم بالعقيقة يبغي أن يعلم الله بعمله ويقبله ويدفع عن وليده الشرّ بعمل الخير هذا الذي فعله لأجله، هذا في حين أنك تعلم جيداً أن الناس لدينا عندما ينذرون للإمام فإن الإمام لا ينتفع بالنذر بل الناذر هو الذي يبحث عن النفع ويبحث عن التفات الإمام إليه واهتمامه به، وفي الواقع يريد من المنذور له (الإمام) أن يشفع له عند الله ويتوسط له عنده.
أما بالنسبة إلى قولك إن المشركين كانوا يعتبرون معبوداتهم أعلى شأناً وأعظم مقاماً من مجرد وسطاء وشفعاء فهو قولٌ عارٍ عن الدليل لأن القرآن يقول صريحاً إن المشركين كانوا يقولون: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ﴾[يونس : ١٨]، والشفيع هو الواسطة أو الوسيط، علاوة على ذلك لا يجوز لنا أن نلفّق من عند أنفسنا أموراً وأقوالاً حول هذه الآيات القرآنية، ألم تقرأ قول الله في إحدى السور المكيّة من القرآن: ﴿فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢ ۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٨﴾[الاحقاف: ٢٨]، فالقرآن نفسه بيّن أنّ هدف المشركين من قيامهم بالأعمال العبادية لمعبوداتهم أن يتقرّبوا بها إلى الله ولا نستطيع نحن أن نلفّق كلاماً مخالفاً لذلك من عند أنفسنا. إن الله تعالى العليم بالسرائر يقول إن كذب المشركين كان هذا الأمر بالذات، أما أنت فتدّعي أن كذبهم كان شيئاً آخر!!! فلماذا لم يشر القرآن إلى كذبهم ذاك الذي تتحدّث عنه؟
56قال صاحب تفسير «الميزان» لدى تفسيره الآية الثالثة من سورة الزمر:
".... وهؤلاء هم الملائكة والجن وقِدِّيْسُو البشر وهؤلاء هم الأرباب والآلهة بالحقيقة [عند المشركين]. أما الأصنام المصنوعة المنصوبة في الهياكل والمعابد فإنما هي تماثيل للأرباب والآلهة وليست في نفسها أرباباً ولا آلهةً غير أن الجهلة من عامتهم ربما لم يفرقوا بين الأصنام وأرباب الأصنام فعبدوا الأصنام كما يعبد الأرباب والآلهة وكذلك كانت عرب الجاهلية"[476].
ثم تابع يقول أنه في عقيدة المشركين: "... الأرباب والآلهة هم المعبودون عندهم وهم موجودات ممكنة مخلوقة لِـلَّهِ مُقَرِّبَةٌ عنده، مُفَوَّضَةٌ إليهم تدبير أمر العالم، لكل بحسب منزلته وأما الله سبحانه فليس له إلا الخلق والإيجاد وهو رب الأرباب وإله الآلهة[477]". [478].57
قُلْ لي الآن: ما الفرق بين نظرة الناس لدينا إلى الأئِمَّة والشخصيات الدينية المقدَّسة العظيمة وسلوكهم نحوهم وبين نظرة المشركين وسلوكهم نحو الشخصيات التي كانوا يعبدونها؟ لاحظ أن أستاذك العلامة [محمد حسين] الطباطبائي صرَّح في تفسيره لسورة الزمر في تفسير «الميزان»: "إن الله لا يقبل عبادة شخص يعبد الله ويعبد غير الله أيضاً". (فتأمَّل). فلنفرض أن المشركين - بناء على فرضك الذي لا دليل عليه - كانوا يعتبرون معبوداتهم أرفع مقاماً وأعلى شأناً من مجرّد شفعاء ومُقَرَّبين من الله، أفلم يكن القرآن لِيَعْتَرِضَ عليهم لو كانوا يعتبرون معبوداتهم شفعاء ومُقَرَّبِين من الله فقط؟! لقد ذمّهم القرآن حول هذا الموضوع بالذات كما يقول صاحب تفسير «الميزان» واعترض عليهم فيه؟! [479]
أما ما نَسَبْتَهُ إلى سنن أبي داود فإن لم تَخُنّي ذاكرتي فهو حديث لا يفيد بأي حال من الأحوال حَصْر النهي عن نحر الأضاحي لغير الله بنحرها للأصنام فقط بل نهي الإسلام شامل لنحر الأضاحي لأيِّ أحدٍ غير الله سواء للأصنام أم لغير الأصنام، وبعبارة أخرى الإسلام لا يُجيزُ النذرَ إلا لِـلَّهِ وحده فقط. ثم قلتُ له: على كل حال إذا عدتُ إلى المنزل فسوف أقرأ الأحاديث ذات العلاقة ولو كنتُ مخطئاً فسأتصل بك هاتفياً لأخبرك وأعترف بخطئي.
نعم، في تلك الجلسة لم يقدّم الشيخ المذكور أي جواب مقنع، ولما حان وقت طعام الغداء انتهى النقاش دون الوصول إلى نتيجة مفيدة.
ولما رجعت إلى منزلي أخذت كتاب سنن أبي داود وقرأت الحديث الذي أشار إليه الشيخ المذكور ورأيت أن الشيخ - كما كنت أتوقّع - لم يكن صادقاً في نقله وأن الحديث الذي أشار إليه يؤيِّد كلامنا لا كلامه. وفيما يلي أنقل لكم نصَّ هذا الحديث من الجزء الثالث من سنن أبي داود، كتاب الأيمان والنذور، (باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر)، كي يحكم القراء بأنفسهم في هذا الأمر:
الحديث 3312: "...... أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ ص فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ، قَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِكِ. قَالَتْ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، مَكَانٌ كَانَ يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: لِصَنَمٍ؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ: لِوَثَنٍ؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ: أَوْفِي بِنَذْرِكِ"[480].
3313: " نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ص أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ص فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ص: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لاَ، قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟» قَالُوا: لاَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ص: »أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ»".
ثم في الحديثَيْن اللذَيْن وردا في سنن أبي داود أيضاً بعد الحديثين المذكورين، جاء أن رجلاً قال لرسول الله ص: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ ذَكَرٌ أَنْ أَنْحَرَ عَلَى رَأْسِ بُوَانَةَ فِي عَقَبَةٍ مِنَ الثَّنَايَا عِدَّةً مِنَ الْغَنَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص: «هَلْ بِهَا مِنَ الأَوْثَانِ شَيْءٌ؟». أو «هَلْ بِهَا وَثَنٌ أَوْ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْجَاهِلِيَّةِ» قَالَ: لاَ. فقَالَ ص: «فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَ بِهِ لِـلَّهِ ».
لاحِظوا كيف أن الإسلام يحرّم نحر الأضاحي لغير الله والذي عُبِّر عنه [أي عن غير الله] في الأحاديث المذكورة أعلاه بكلمة: «الصنم»، وكما قلنا في الصفحات الماضية كانت أصنام المشركين وأوثانهم تماثيل تذكّرهم بالملائكة وبالشخصيات المقدَّسة العظيمة ولم يكن المشركون يؤدون تلك الأعمال للأخشاب والأحجار والمعادن بحد ذاتها. وهنا نقول إن الشخصيات العظيمة والجليلة في الإسلام (الأنبياء والأئمة والأولياء) ليسوا بخارجين عن عنوان «غير الله» وَمِنْ ثَمَّ فلا يجوز أداء الأعمال العبادية لهم أيضاً مثل النذر ونحر الأضاحي والطواف وغير ذلك. (فتأمّل جدّاً).
قل اختتام هذا المبحث، ولكي يطمئن القارئ الطالب للحق إلى أن الشيخ المذكور لأجل أن ينقذ نفسه من الزاوية التي حُشِرَ بها، ادعى بشأن الآية 3 من سورة الزُّمَر[481] ادعاءً يفتقر إلى الدليل، وأنه وخلافاً لكلامه، كان المشركون يعتبرون معبوداتهم مُقَرِّبة لهم إلى الله، وكان كذبهم المُشار إليه في آخر الآية هو هذا الأمر بالذات أي هو ادعاؤهم أن معبوداتهم تقرّبهم من الله وتشفع لهم عنده، نأتي بما قاله صاحب تفسير «الميزان» في تفسيره للآية 28 من سورة الأحقاف أي قوله تعالى: ﴿فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢ ۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ وَذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٨﴾[الاحقاف: ٢٨]، قال:
"و«قُرْبَانَاً» بمعنى ما يُتَقَرَّبُ به، والكلام مسوق للتهكم، والمعنى: فلولا نصرهم الذين اتخذوهم آلهةً حال كونهم مُتَقَرَّبَاً بهم إلى الله كما كانوا يقولون: ﴿مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ﴾[الزمر: ٣].
و قوله: ﴿بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡ﴾[الاحقاف: ٢٨]: أي ضل الآلهة عن أهل القرى وانقطعت رابطة الألوهية والعبودية التي كانوا يزعمونها ويرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد والمكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم."
كما اعتبر تفسير «منهج الصادقين»[482] أيضاً -ذيل تفسيره للآية 3 من سورة الزمر- أن المشركين كانوا كافرين بنعمة المنعم الحقيقي، وكاذبين بما ادَّعوه من شفاعة الآلهة.
وجاء في «تفسير نمونه» أيضاً ذيل تفسيره الآية 28 من سورة الأحقاف:
"وتوبِّخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة، وتذمُّهم بهذا البيان: ﴿فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢ﴾؟.
حقّاً، إذا كانت هذه آلهة على حق، فلماذا لا تعين أتباعها وعُبَّادَهَا وتنصرهم في تلك الظروف الحسّاسة، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم وشقائهم.....
وأخيراً تقول الآية: ﴿ذَٰلِكَ إِفۡكُهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٨﴾فإنّ هذا الهلاك والشقاء، وهذا العذاب الأليم، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر، كان نتيجة لأكاذيب أولئك وأوهامهم وافتراءاتهم"[483]. انتهى.
وقال شيخ الطائفة الطوسي في تفسيره «التِّبْيان» ذيل تفسيره الآية 3 من سورة الزُّمَر:
"وقوله ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ﴾[الزمر: ٣]معناه الحكاية عما يقول الكافرون الذين يعبدون الأصنام فإنهم يقولون: ليس نعبد هذه الأصنام إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي «قُرْبَى»- في قول ابن زيد- وقال السدي: الزُّلْفَى: «المنزلة». و(الأَوْلِيَاءُ) جمع ولي، وهو من يقوم بأمر غيره في نصرته، وحذف (يقولون) لدلالة الكلام عليه، وهو أفصح، وأوجز.
ثم اخبر تعالى فقال ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ [يوم القيامة] فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ﴾ من إخلاص العبادة لِـلَّهِ والإشراك به، ثم قال ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ ٣﴾[الزمر: ٣]معناه إن الله تعالى لا يهديه إلى طريق الجنة أو لا يحكم بهدايته إلى الحق، (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) على الله في أنه أمره باتخاذ الأصنام[484]، كافر بما أنعم اللهُ عليه، جاحد لإخلاص العبادة، ولم يرد الهداية إلى الإيمان"[485].
هذا وقد ذكرت بعض كتب التفسير لدى تفسير الآية 3 من سورة الزُّمَر حديثاً عن النبي ص فيما يلي نصُّهُ:
"إِنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَسْأَلُ كُلَّ إِنْسَانٍ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ فَيَقُولُ كُلُّ مَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ: رَبَّنَا إِنَّا كُنَّا نَعْبُدُهَا لِتُقَرِّبَنَا إِلَيْكَ زُلْفَى! قَالَ: فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: اذْهَبُوا بِهِمْ وَبِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ إِلَى النَّارِ مَا خَلَا مَنِ اسْتَثْنَيْتُ فَإِنَّ أُوْلَٰٓئِكَ عَنۡهَا مُبۡعَدُونَ" [الأنبياء: 101]. (نور الثَّقلين[486]، ج 4، ص 475).
وقال المرحوم الطَّبْرَسِيّ في تفسيره «مجمع البيان» ذيل تفسيره للآية 3 من سورة الزمر، عن المشركين:
" «وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ »: أي زعموا أن لهم من دون الله مالكاً يملكهم وهاهنا حذف يدل الكلام عليه أي يقولون «مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ» أي ليشفعوا لنا إلى الله. والزلفى: «القربى»، وهو اسم أقيم مقام المصدر..... «إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي» إلى طريق الجنة أو لا يحكم بهدايته إلى الحق «مَنْ هُوَ كاذِبٌ» على الله وعلى رسوله [يقصد الأنبياء السابقين]"[487].
وقال في تفسيره للآية 28 من سورة الأحقاف:
"«فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢ»: أي فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم آلهة وزعموا أنهم يعبدونهم تقرُّبَاً إلى الله تعالى، ثم لم ينصروهم لأن هذا استفهام إنكار «بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ» أي ضلَّت الآلهة وقت الحاجة إليها فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ» أي اتخاذهم الآلهة دون الله كذبهم وافتراؤهم وهو قوله «وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» أي يكذبون من أنها آلهة"[488].
هذا، ثم سمعت بعدها أن الشيخ المذكور بقي يكرِّر الكلام ذاته في جلسات تدريسه للطلاب الشباب أو في خطبه المنبرية التي يلقيها على العامَّة ويواصل خداعه لهم وتضليله. وقد بَعَثْتُ إليه برسالةٍ قلتُ له فيها: إن كنتَ تريدُ الحق والخير فعليك أن تطرح الإشكالات التي أذكرها أنا وأمثالي على ما تقوله ثم تفنّدها بالدليل والبرهان، أما إصرارك على إعادة الكلام نفسه الذي قلته ورددت عليه فهو أمرٌ مخالفٌ للإنصاف العلمي وهو في الواقع خداع للعامة، ألا تخاف الله عندما تكتم دلائل الخصم وتتجاهلها وتعرض للناس كلاماً أنت تعرف الردّ عليه؟ ولم يجب على رسالتي وفي الوقت ذاته لم يتوقف عن تكرار كلامه واستمر على ذلك. ولقد ثبت لي مراراً خلال السنين الطويلة التي قضيتها بين المشايخ أن أكثرهم لا يبحث عن الحق والحقيقة. وَاللهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ وَلَهُ الْحَمْد.
إن تعصب المشايخ ومخالفتهم للحق لا تنحصر بهذا الشخص. من النماذج الأخرى لذلك أحد طلاب الشريعة الشباب الذي كان يحضر أحياناً جلسات التفسير التي أعقدها في منزلي وكان يطرح إشكالات مختلفة على ما أقوله، وكان من الواضح أنه متردد بين قبول عقائدنا أو قبول خرافات أهل الحوزة[489]، وجاء يوماً وحده لعيادتي حيث كنت مريضاً طريح الفِراش، وقال لي أثناء كلامه: أنت مثل الوهابيين تعمِّم نهي القرآن عن دعاء الأصنام على المسلمين الذين لا يدعون الأصنام، فما دليلك على هذا التعميم؟ مثلاً قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ ١٣ إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ﴾ [فاطر: ١٣، ١٤] فهذا يبيّن أنّ المدعويين لا يملكون القشرة الرقيقة التي تغلّف نواة التمرة (= قطمير) وهو كناية عن عدم ملكهم لشيء مطلقاً. ومن الواضح أنّ الأصنام لم تكن تمتلك شيئاً، أما النبيّ الأكرم ص أو أمير المؤمنين علي ÷ فليسا كذلك. فهل تعتقد الآن أن النبي لا يملك شيئاً على الإطلاق؟! ألا يملك حضرته ص عند الله أعلى المقامات؟! أليس هو حيٌّ عند ربه يُرزَق؟! أليس مصداقاً لقوله تعالى: «عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ»؟!! ألا تعتبر أنّ شهداء بدر وأحد وجميع الذين استُشهِدوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يُرزَقون؟! ألا تعتبرهم مالكين لدرجات عالية رفيعة ومالكين للرزق الذي يُرْزَقونه عند الله؟! فكيف تعتبر المسلمين الذين لا يدعون الله بل يدعون النبي والأئمة الذين مقامهم أعلى من مقام الشهداء مشمولين بالآيات التي نزلت في حق عبّاد الأصنام والأوثان؟!
قبل أن أردّ على شبهة هذا الشاب سألته: هل تعرف آية الله العظمى السيد محسن الحكيم؟ قال: أجل. قلت: كيف كان هذا العالِم؟ فأثنى عليه الشاب ثناءً كبيراً معتبِراً إياه مجتهداً ومرجعاً مشهوراً ذا مقام رفيع وأستاذاً كبيراً من أساتذة الحوزة العلمية في العراق وأثنى على أسرته أيضاً وقال إن أولاده يناضلون ضد الحكومة العراقية و..... فعرفتُ أنه حسن الظن جداً بالمرحوم الحكيم. ولما كنت طريح الفراش بسبب المرض وكانت كتبي على الرفوف إلى جواري أشرت إلى كتابي «أحكام القرآن» ورجوته أن يحضره لي فقام وأخذ الكتاب من الرف وأعطاني إياه. فقلت له: لو قلت لكَ إن آية الله الحكيم كان سُنِّياً بل كان وهابياً فهل تصدق؟ قال: لا أصدق ذلك أبداً، ما هذا الكلام الذي تقوله؟ إنه كان مرجعاً عظيماً من مراجع الشيعة وهذا أَظْهَرُ مِنَ الشَّمْس. عند ذلك فتحت كتاب «أحكام القرآن» واستخرجت منه كُتَيِّباً صغيراً وأعطيته إياه وقلت له اقرأه، إن هذا الكُتَيِّب الذي يحمل على غلافه عنوان «أباطيل الحكيم»، اعتَبَرَ السيدَ الحكيمَ مروِّجاً لمذهب الوهَّابية ومنكراً للأمور المعروفة من الدين بالضرورة بل اعتبر آية الله الحكيم دجَّالاً ومروِّجاً للوهَّابية[490]. بُهِت الشاب من رؤية هذا الكُتَيِّب وتعجّب كثيراً ولم يدرِ ما يقول، وفي النهاية قال: ما علاقة هذا الكُتَيِّب بموضوع نقاشنا؟! قلت له: لا علاقة لهذا الكتيب ببحثنا، لكنك رأيت بأم عينك اتِّهام عدد من شيوخ النجف للعالمِ الذي تعتَبِرُه مرجعاً رفيع القدر للشيعة بأنه دجال وأنه وهَّابي. لقد أردتُ بذلك أن أُفهِمك أنه لا ينبغي أن يخاف الإنسان ويرتعب من كل تهمة وافتراء. كثير من علماء المذاهب - سواء من الشيعة أو من السنة - عندما يواجهون رأياً مخالفاً لمزاجهم وَلِمَا اعتادوا عليه يعتبرون المخالف منحرفاً ويتّهمونه بالخروج من مذهبهم. إن كانوا شيعةً اتّهموا من يخالفهم في الرأي بأنه وهَّابِيٌّ أو سُـنِّـيٌّ وفاقد للولاية و..... وإن كان سُنِّيَاً اعتَبَر من يخالفه بالرأي شيعياً رافضياً و.....! هذا في حين أن الواجب على الإنسان عندما يُراد إبطال رأي الطرف المقابل أن يُبرِز دليله وبرهانه على بطلان قول خصمه فقط. بناء على ذلك، من المهم أن تعلم:
أولاً: أنه لا أهمية لكون كلامنا يشبه كلام الوهابيين أو لا يشبهه، وكذلك سأقول لشخص سُنِّيٍّ إذا قال لي إن كلامك في هذا الموضوع يماثل كلام الشيعة: لا أهمية لمشابهة كلامي لكلام الشيعة، المهم: ما هو الدليل والمستند على ما أقوله وأدّعيه؟
ثانياً: هذه الشبهة التي سمعتَها من شيوخ الحوزة العلمية ضعيفةٌ للغاية، وقد بيّنتُ مرات عديدة بطلان هذه المغالطة في جلساتي ولعلّك لم تسمع ذلك ولكن طلَبَكَ مني أن آتيك بالدليل على التعميم طلبٌ جيِّدٌ جداً. وإليك بيان الدليل على ما أقول: أولاً: يجب أن ننتبه إلى أن تصورَنا نحن الناطقون باللغة الفارسية عن كلمة «مَلَكَ» و «مَالِكٌ» لا ينطبق تماماً على معنى الكلمتين في لغة القرآن. لو رجعنا إلى كتاب الله للاحظنا أن المُلْك ومشتقاته - والتي مصدرها في اللغة العربية من «مَلْك ومُلْك ومِلْك» بمعنى: استولى على الشيء وكان في قدرته أن يتصرّف فيه بما يريد - جاءت في القرآن الكريم على معانٍ أوسع بكثير مما تظنّه. فمثلاً نقول في اللغة الفارسية: «مَنْ دَسْتْ دَارَم» [وترجمته الحرفية: أنا أملك يداً] أو «من دارندهىِ دستم» أو ربما نقول: «من مالك دست خويشم» [وترجمته الحرفية: أنا مالك يدي]، أما في اللغة العربية فنقول في مثل هذه الموارد «لي يَدٌ» أو «عندي يد»، ولا يُقال في العربية «فلانٌ يملك يداً»، وبعبارة أخرى، لا يُستفاد في اللغة العربية من فعل «المُلْك» للتعبير عن امتلاك شيء إلا إذا كان المراد هو أكثر من امتلاك شيء. فمثلاً في القرآن الكريم يقول تعالى: ﴿مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا﴾[طه: ٨٧] أي لم نخلف موعدك باختيارنا وإرادتنا، فكما يُلاحظ كلمة «مَلْك» هنا ليست بمعنى امتلاك الشيء. أو يقول تعالى: ﴿لَا يَمۡلِكُونَ مِنۡهُ خِطَابٗا ٣٧﴾[النبا: ٣٧]ومن الواضح أن فعل «يَمْلِكُونَ» في الآية ليس بمعنى مُلْك الشيء لأن «الخطاب» ليس شيئاً قابلاً للتملُّك! أو عندما يقول تعالى على لسان الهدهد: ﴿وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ﴾[النمل : ٢٣]فليس المُراد أن جميع أهل سبأ كانوا عبيداً مملوكين ملك اليمين لبلقيس، بل المقصود أن بلقيس كان حاكمةً لهم متصرِّفة بأمرهم، وأنها صاحبة القرار وزمام أمور شعب سبأ بيدها. ولهاذ السبب يُطلَق على الشاه الذي يملك التصرُّف بأمور الناس عِبارة «المَلِك». أو عندما يقول تعالى: ﴿لَا يَمۡلِكُونَ مَوۡتٗا وَلَا حَيَوٰةٗ وَلَا نُشُورٗا ٣﴾[الفرقان: ٣]فإنه من الواضح أن إماتة الأحياء أو إحياء الموتى أو بعثهم ونشورهم ليست أشياء قابلة للتملُّك والحيازة، بل المراد أن مثل هذه الأمور لا يقدر عليها أحدٌ سوى الله. لقد استخدم القرآن الكريم بشأن من توضَع لديه أمانةٌ بحيث يجوز له التصرَّف فيه فعل «مَلَكَ يَمْلِكُ» رغم أن من بيده الأمانة ليس مالكاً لها في الواقع لأنه ليس صاحبها، فقال تعالى: ﴿مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ﴾[النور: ٦١]فأنت تعلم أن المجاهدين الذين كانوا يخرجون للجهاد مع رسول الله ص كانوا يتركون مفاتيح بيوتهم أمانةً لدى بعض معارفهم كي يهتموا بأمور بيوتهم. فلم يكن أولئك المعارِف مالكين حقيقيين للمفاتيح ولكن كان لهم حق التصرُّف بها في فترة غياب أصحابها.
ثالثاً: إذا كنت ذا سلامة في بدني فهذا لا يعني أنني أملك السلامة بل يعني أنني سالم أي أنني واجد للسلامة، وكذلك إذا كنت ذا جمال فهذا لا يعني أنني أملك جمالاً بل يعني أنني جميل أي واجد للجمال، ولهذا السبب ذاته لا أستطيع أن أنقل السلامة أو الجمال أو أبيعها أو أعطيها لآخر كما لا يستطيع أحد أن يأخذهما مني (فتأمّل). وقياساً على هذا إذا كان لي يوم القيامة مقامات عالية فإنني أكون واجداً لهذه الدرجات والمقامات لا أكون مالكاً لها ولا أستطيع أن أعطي هذه الدرجات لك أما الله تعالى فهو مالك الدرجات ويمكنه أن يمنح ما يشاء هذه الصفة أو المقام أو أي صفة أخرى أو يأخذها ممن يشاء. بناء على ذلك، فإن الأمور التي لا تقبل التملّك إذا عُبِّر عنها بفعل الملك فإنما يُقصَد من ذلك وجدان تلك الأمور أو الاتصاف بها. وفي رأينا إن رسول الله ص الذي يملك أعلى الدرجات عند الله هو «واجد» لتلك الدرجات لا ممتلك لها (فتأمّل). وَمِنْ ثَمَّ فإنه لا يستطيع بالطبع أن يعطيك تلك الدرجات أو جزءاً منها أو يسلبك درجاتك أو يسلبني درجاتي. إن الله لم يأذن لأحد بمثل ذلك.
فإذا قال القرآن: إن المعبودات التي تدعونها لا تملك شيئاً مطلقاً فمعنى ذلك أنها لا تملك التصرّف بشيء وهذا لا يتنافى مع امتلاكها لمقامات عظيمة ودرجات كثيرة. إن مغالطة المشايخ هي أنهم يتجاهلون الفرق بين «الاتصاف» بالشيء وبين «ملك» الشيء كي يستطيعوا أن يدافعوا عن الخرافات ويخدعوا العوام. لأن كثيراً من الناس لا يعلمون أن فعل «مَلَك يَمْلِك فهو مالِك» في اللغة العربية يعني في كثير من الحالات صاحب القدرة على التصرف ونفاذ الإرادة.
رابعاً: لقد بين لنا القرآن أن الأنبياء لا يعلمون شيئاً عن العالم الفاني بعد رحيلهم عنه [سورة المائدة: 117]، وبناء على ذلك لا نستطيع أن نوصل صوتنا إليهم، كما نرى أنه تعالى قال في الآية التي تم الاستشهاد بها: ﴿لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ﴾ [فاطر: ١٤]، وذلك لأنهم انتقلوا إلى عالم البقاء ولم يعودوا قاطنين في عالم الفناء. ولو كان المقصود مجرد التماثيل الخشبية والحجرية و..... لما كان هناك من ضرورة لذكر جملة ﴿لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ﴾ لأن المشركين كانوا يعلمون جيداً أن أصنامهم هذه غير قادرة على الكلام والسماع والرؤية ولا تملك فعل شيء [الأنبياء: 65][491]. وأضاف القرآن كذلك قوله عنها: ﴿وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡ﴾[فاطر: ١٤]، ولو كان المشركون يعبدون جمادات من الخشب والمعادن والحجر فإن الجماد لا شعور له ولا قدرة له على فعل شيء حتى يكفروا بشرك من أشرك به يوم القيامة. ولانتفى كلياً احتمال سماعه لعبادة من عبده، لكن هذا الفرض ذُكِر في الآية مما يفيد أن المعبودات التي كان المشركون يدعونها كانت أشخاصاً ذات شعور ولم تكن التماثيل سوى تجسيداً لها ومذكّرةً بها، ولذلك فإن تلك المعبودات سوف تعترض على عمل المشركين تجاهها وتجاه تماثيلها.
خامساً: لقد قرأتَ أيضاً في تفسير «الميزان»[492] وتفسير «نمونه»[493] اللذَيْن ألفهما علماء قم، قولَهُما إن المشركين لم يكونوا يعبدون مجرد تماثيل خشبية أو معدنية بحد ذاتها، بل كانوا يعتبرون تلك التماثيل مظاهرَ تمثِّلُ لهم الملائكة والجن والأنبياء والصُّلَحاء والكائنات المُقَدَّسة وتذكِّرهم بها.... بناء على ذلك كان الملائكة والصُّلحاء أيضاً ذوي مقامات عالية ودرجات رفيعة عند الله. هل تعتقد أن النبيّ الأكرم ص و أمير المؤمنين علي ÷ وحدهما فقط لديهما مقاماً رفيعاً وشأناً عظيماً عند الله وأنهما وحدهما حيِّينِ عند ربهما يُرزَقان؟! وأن سائر الأنبياء والصالحين والملائكة و... - مثل حضرة المسيح (ع) وحضرة مريم (ع) اللذَيْن نجد تماثيلهما في الكنائس واللذَيْن يدعوهما النصارى في الشدائد والمُلِمَّات بصورة غير مقيَّدة مع أن قول القرآن بأنهما ﴿وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ ﴾يشملهما - ليس لهم أي مقام رفيع ولا منزلة عالية عند الله وليسوا «أَحۡيَآء عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ»؟!
لقد قال القرآن عن شفعاء المشركين: ﴿أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَۚ قُلۡ أَوَلَوۡ كَانُواْ لَا يَمۡلِكُونَ شَيۡٔٗا وَلَا يَعۡقِلُونَ ٤٣﴾[الزمر: ٤٣] ، ألم يكن لأولئك الشفعاء درجات ولم يكن لهم حواس وصفات؟!!
بناء على ذلك، عليك أن تأتي بدليل يفيد أن القرآن حصر النهي عن دعاء غير الله دعاءً غير مقيَّد بدعاء الأصنام في عصر الجاهلية في الجزيرة العربية في حين أنّ في نظرنا نهي القرآن يشمل كل ما يدخل تحت عنوان «من دون الله» ولا يختص بالتماثيل الخشبية والحجرية و..... ولما كان الأنبياء والأولياء والأوصياء والملائكة والجن و..... غير خارجين من عموم عبارة «من دون الله» لذا كل من كان تابعاً للقرآن كان عليه أن يُراقب نفسه بشدة كي لا يقوم بعمل نحو غير الله يدخل تحت ذلك النهي القرآني. وبعبارة أخرى تخصيصك هو الذي لا دليل عليه لا تعميمنا. (فتأمّل).
وهكذا انتهى النقاش ولم يعد ذلك الشاب إلى زيارتنا، لكنني سمعت أنه كان يغتابني ويسيئ الكلام بحقي هنا وهناك. نعوذ بالله من العصبية.
تذكرت الآن وأنا أكتب هذه الأسطر الآية الكريمة التي يقول تعالى فيها: ﴿وَمَن يَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ لَا بُرۡهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ١١٧﴾[المؤمنون : ١١٧]. ويجب أن ننتبه إلى أن جملة «لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ» صفة بعد الصفة للموصوف الذي هو كلمة «إِلَهًا». يعني أن هذه الجملة تصف الصفة التي جاءت قبلها. وبعبارة أخرى فإن القرآن الذي قال: ﴿فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨﴾[الجن: ١٨]واعتبر الدعاء عبادةً وقال: ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ﴾[يوسف: ٤٠] وكرر أكثر من مرة الاستفهام الإنكاري : ﴿أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِ؟﴾ [النمل: 62و 64]، ونهى عن عبادة ما ليس هناك من حجَّة ولا برهان على جواز عبادته [سورة آل عمران: 151، الأنعام: 81، الأعراف: 33، الحجّ: 71] لا يقول بالطبع أن « مِن دُونِ ٱللَّهِ » على نوعين: نوع يوجد عليه برهان (أي: لَهُ بُرْهَانٌ بِهِ) ونوع يفتقد إلى البرهان على عبادته (أي: لَا بُرۡهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ]، بل يقول إن كل ما هو «مِنْ دُونِ اللهِ» صفته أنه (لَا بُرۡهَٰنَ لَهُۥ بِهِۦ] (فتأمَّل جداً). وجملة: ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦٓ﴾[المؤمنون : ١١٧]جزاء الشرط وللتهديد، وعلى المسلم أن ينتبه إليها كثيراً.
في رأي كاتب هذه السطور لما كان المشايخ لا برهان لهم فيما يقولون، فإنهم يضطرون إلى المغالطة والسفسطة و إثارة العوام. نعوذ بالله من العصبيَّة.
[447] مفاتيح الجنان، ص 145 و 146. وفي مفاتيح الجِنان (المُعَرَّب)، ص 219- 220. [448] حول هذا الموضوع من الضروري مراجعة كتاب «زيارت و زيارتنامه» ص 107 إلى 113. [449] سفرنامه (رحلة) ابن بطوطة، ترجمة محمد علي موحد، بنگاه ترجمة ونشر كتاب، ص 10. [450] سفرنامه (رحلة) ابن بطوطة، ص 9 و 10. [451] يطابق سنة 1978 ميلادية. (الـمُتَرْجِمُ) [452] حول مخالفة هذه الأقوال للشرع راجعوا البند التاسع في هذا الفصل. [453] إن قراءة ما ذكرناه في الصفحات من 148 إلى 156 من الكتاب الحاضر مفيدة. [454] سفرنامه (رحلة) ابن بطوطة، ص 177. [455] يقصد بالقبة الفناء الداخلي الذي فيه الضريح الواقع تحت القبة. [456] لا يُستبعد أن تكون أيدي النُّقباء ومسؤولي إدارة الحرم هي التي تعمل بالخفاء من وراء الكواليس، وقد بيَّنا ما يُشبه ذلك في الصفحات 358 و 359 من كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات]. والصفحات من 21 إلى 25 من الكتاب الحاضر. [457] سفرنامه (رحلة) ابن بطوطة، ص 166 و167. [458] فلاسفة بزرگ [الفلاسفة العظام]، تأليف آندريه كرسون، ترجمة كاظم عمادي، انتشارات صفي عليشاه، ج 2، ص 214، 215 و 217. [459] سفرنامه (رحلة) ابن بطوطة، ص 174 و175. [460] سفرنامه (رحلة) ابن بطوطة، ص 174 و175. [461] لأن الشفاء المستند إلى استخدام أصول علم الطب العادية يتعلق بالإذن الإلهي العام. [462] لقد ذكرنا نصوص هذه الآيات في الصفحات 125 من الكتاب الحاضر. [463] راجعوا تفسير سورة الضحى وتفسير الآيات 9 إلى 13 من سورة الكهف في تفسير «مجمع البيان» للطبرسي. [464] دعاء الجوشن الكبير، البند 59 و 90 . [465] الشيخ الصدوق، كتاب الاعتقادات. [466] بحار الأنوار، ج 25، ص 290. [467] من الضروري مراجعة كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 207 إلى 213، والكتاب الحاضر ص 156 - 163. [468] لقد أجريت ما يُشبه هذا الحوار مرات عديدة وفي أكثر من مزار مع بعض الزوار. [469] أحد الميادين (الساحات) المعروفة في وسط مدينة طهران. (الـمُتَرْجِمُ) [470] العقيقة إحدى السنن الإسلامية التي يقوم المسلم فيها - لكي يحفظ الله له ولده المولود حديثاً - بحلق شعر ولده في اليوم السابع من عمره ويتصدق بوزن الشعر فضة أو بما يعادل قيمتها ويعطي هذا المال للفقراء أو يذبح أضحية ويوزّعها على المستحقين. [471] قارنوا هذه الآية بـ [سورة الإنسان: 15 و19، والصافات: 45، والزخرف: 71]. [472] لو لاحظنا الروايات لرأينا أن خلفية مثل هذه الآيات هي الخدمة، فمن ذلك أن العلامة المجلسيّ روى حديثين عن النبي وعن أمير المؤمنين علي ÷ بأن «الوِلدان» يقومون بخدمة أهل الجنّة. وجاء في حديث رسول الله ص: «خُلِقُوا لِخِدْمَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (بحار الأنوار، ج 5، ص 291، الحديث 5 و 6). [473] خليط المكسرات خليط من الفستق والبندق واللوز والكاجو والتوت المجفف ونحوها. والسكَّر النباتي يستخدمه الإيرانيون أحياناً مع الشاي لوجع المعدة. (الـمُتَرْجِمُ) [474] أعضاء السجود السبعة هي: الجَّبْهَة (أو الوَجْه) والرُّكْبَتَانِ، وَالْيَدَانِ، وَالْقَدَمَانِ. (الـمُتَرْجِمُ) [475] على سبيل المثال لم تُستَخدَم كلمة «الصلاة» ومشتقاتها بمعناها الاصطلاحي أو معناها الشرعي المنقول في الآيات الكريمة التالية: البقرة: 157، التوبة: 99، و103، النور: 41، الأحزاب: 43 و56. [476] السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص 233. (الـمُتَرْجِمُ) [477] المصدر السابق نفسه، ج17، ص 234. (الـمُتَرْجِمُ) [478] اعتبر «تفسير نمونه» [لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي] أيضاً أن معبودات المشركين لم تكن الأحجار والأخشاب والمعادن بل كانت الملائكة والجن وبشكل عام بعض الموجودات المقدّسة في العالم. وننقل إليكم هنا ما جاء في تفسير «نمونه» على نحو الاختصار، ومن أراد التفصيل فليراجع تفسير سورة الزمر في التفسير المذكور: " منطق عبدة الأصنام واضح هنا، فأحد أسباب عبادة الأصنام هي أنّ مجموعة كانت تزعم أنّ الله سبحانه وتعالى أجلّ من أن يحيط به الإدراك الإنساني من عقل أو وهم أو حس، فهو منزّه عن أن يكون مورداً للعبادة مباشرة، فلذا قالوا: من الواجب أن نتقرّب إليه بالتقرب إلى مقربيه من خلقه، وهم الذين فوض إليهم تدبير شؤون العالم، فنتخذهم أرباباً من دون الله ثمّ آلهة نعبدهم ونتقرَّب إليهم ليشفعوا لنا عند الله ويقربونا إليه زلفى، وهؤلاء هم الملائكة والجنّ وقِدِّيسو البشر. ولما أحسّوا بأن ليس باستطاعتهم الوصول إلى أولئك المقدسين، بنوا تماثيل لهم، وأخذوا يعبدونها، وهذه التماثيل هي نفسها الأصنام، .... وبهذا الشكل فإنّ الأرباب في نظرهم، هم أولئك الذين خلقهم الله وقرَّبهم إلى نفسه، وفوض إليهم تدبير شؤون العالم بأمره تعالى. [لاحظ أيها القارئ الكريم أن علماء قم اعترفوا أن المشركين لم يكونوا يعتبرون معبوداتهم مستقلَّةً] وكانوا يعتبرون البارئ عزّ وجلّ هو (رب الأرباب) وهو خالق عالم الوجود، ومن النادر أن يوجد من الوثنيين من يقول بأن هذه الأصنام المصنوعة من الحجر والخشب، أو حتى آلهتهم الوهمية -أي الملائكة والجن وأمثالهم- هي التي خلقت هذا الكون وأوجدته. وبالطبع فإنّ هناك أسبابا أخرى لعبادة الأصنام، ومنها أنّ الاحترام الفائق الذي يُكِنُّونَه في بعض الأحيان للأنبياء والصالحين يتسبَّب في احترام حتَّى التمثال التي تُنحَت أو تُصنَع لهم بعد وفاتهم، ومع مرور الزمن تأخذ هذه لتماثيل طابعاً استقلالياً، ويتبدَّل الاحترام إلى عبادة، ولهذا فإنّ الإسلام نهى بشدّة عن صنع التماثيل. .... وقد ورد في كتب التاريخ أنّ عرب الجاهلية كانوا يُكِنُّونَ احتراماً فائقاً للكعبة الشريفة ولأرض مكّة المكرّمة، ولهذا كانوا يأخذون معهم قطعة حجر صغيرة من تلك الأرض عندما يذهبون إلى مكان آخر، ويضفون عليها الاحترام والتقديس، ومن ثمّ يعمدون إلى عبادتها". [أقول: وهذا يشبه عمل الناس لدينا الذين يأخذون من غبار حرم حضرة الرضا (ع) ويعطنونه للناس للتبرّك به، أو يطوفون بخليط المُكَسَّرات أو السكر النباتي حول الضريح لتحلّ فيها البركة، ثم يهدونها للآخرين!! فتأمَّل]. وتابع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي يقول في تفسيره: "وعبادة الأصنام- بأي شكل كانت- ما هي إلّا أوهام وخيالات لا صحة لها ترشحت من أفكار ضعيفة وعاجزة، حرفت الناس عن الطريق الرئيسي الأصيل لمعرفة الله. والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصّة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتَّصل بالله من دون أي واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته، ويطلب العفو والتّوبة، فكلّ هذه الأمور من الله وتحت تسلط قدرته. وسورة الحمد توضّح هذه الحقيقة، لأنّ قراءة العباد المستمرّ لهذه السورة في صلواتهم اليومية، تجعل العبد على اتصال مباشر مع البارئ، عزّ وجلّ، إذ أنّه يقرؤها ويطلب من الله- دون أي واسطة- حاجاته منه. .......... فالإسلام لا يرى وجود واسطة في هذا الأمر، وهذه هي حقيقة التوحيد. حتى أن مسألة الشفاعة والتوسل بأولياء الله مشروطة بإذن البارئ عزّ وجلّ وسماحه، وهذا تأكيد على مسألة التوحيد. ويجب أن تكون العلاقة هكذا، لأنّ الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من أيّ شيء، كما يقول بذلك القرآن: ﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ ١٦﴾[ق: 16] ﴿وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ﴾[الأنفال: 24]. وبهذا الشكل فالبارئ عزّ وجلّ ليس ببعيد عنّا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنّه أقرب إلينا من كلّ قريب، وموجود في مكان وفي أعماق قلوبنا. وفقاً لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجنّ ونظائرهم، [بأي دليل لم يذكر عبادة الأئمة والصالحين العظماء ضمن المعبودات أيضاً؟] أو الأصنام الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحّة له، إضافةً إلى أنّه يعدّ كفراً بنعمة الله، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ﴾[الزمر: 3] فلا يهديه إلى الطريق الصحيح في هذا العالم، ولا إلى الجنّة في العالم الآخر، لأنّه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه، ولأنّ البارئ عزّ وجلّ يبعث فيض هدايته إلى من يراه لائقاً ومستعداً لاستقبالها، ولا يبعثها إلى الذين تعمدوا قتل الاستعدادات الموجودة في قلوبهم وذاتهم". انتهى كلام الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في «تفسير نمونه» نقلاً عن ترجمته العربية «الأمثَل في تفسير كتاب الله المُنْزَل»، ج 15، ص 11-14. [479] راجعوا قول العلامة الطباطبائي ذيل الآية 28 من سورة الأحقاف الآتي بعد صفحتين من الكتاب الحالي. [480] اعلم أن بين «الصنم» و «الوثن» علاقة عموم و خصوص مطلق لأن علماء اللغة قالوا عن «الصنم» أنه: «ما اتُّخِذ إلهاً من دون الله» أو قالوا: «كل ما يُشْغِل عن الله تعالى». أما عن «الوثن» فقالوا: "تمثالٌ يُعبد ويُتَّخَذ من الخشبِ أو الحجارةِ أو الذَّهبِ أو الفضَّةِ أو نحو ذلك". وقيل للوثن وثناً لأنه يُنْصَبُ في مكان محدَّد ويثبت في ذلك المكان. لذا ترجمنا الحديث بالصورة المذكورة. هذا واللهُ هو العالم. [481] أي قوله تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ ٣﴾[الزمر: 3]. (الـمُتَرْجِمُ) [482] اسمه الكامل: «تفسير منهج الصادقين في إلزام المخالفين»، وهو تفسير روائي أدبي ألَّفه بالفارسية: الملا فتح الله الكاشاني، من علماء الشيعة الإمامية في القرن العاشر الهجري (ت 988هـ)، ويقع في 10 مجلدات، وقد طبع في طهران محقَّقاً أكثر من مرة. (الـمُتَرْجِمُ) [483] آية الله ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المُنْزَل، ج 16، ص293. [484] لعلَّه يشير إلى الآية 28 من سورة الأعراف التي تقول: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٢٨﴾. [485] الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (340هـ)، التِّبْيان في تفسير القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ج 9، ص 5. (الـمُتَرْجِمُ) [486] «تفسير نور الثقلين» تفسير أخباري جمع مؤلفه فيه كل الأخبار تقريباً الواردة في تفسير الآيات، ومؤلفه هو: الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي من علماء الشيعة الإمامية في القرن الحادي عشر الهجري، كان أستاذاً للشيخ نعمت الله الجزائري، ومعاصراً للمجلسي صاحب البحار وللحر العاملي صاحب الوسائل وللسيد هاشم البحراني وللملا محسن فيض الكاشاني، وقد طبع تفسيره في قم، المطبعة العلمية سنة 1383 هـ. ق.، في 5 مجلدات، بتحقيق وتصحيح السيد هاشم رسولي المحلاتي. (الـمُتَرْجِمُ) [487] الشيخ الطَّبْرَسِيّ، «مجمع البيان»، ج 8، ص 762. (الـمُتَرْجِمُ) [488] الشيخ الطَّبْرَسِيّ، «مجمع البيان»، ج 9، ص 139. (الـمُتَرْجِمُ) [489] قلنا إن المقصود بالحوزة: مركز الراسات الدينية في قم أو مشهد أو النجف أو غيرها من العواصم الدينية الشيعية حيث يتلقى طلاب الشريعة العلوم الشرعية الإسلامية. (الـمُتَرْجِمُ) [490] كُتَيِّب «أباطيل الحكيم» طبعته الهيئة العلمية في النجف الأشرف في ثمان صفحات بالقطع الصغير وباللغتين العربية والفارسية وسعّرته بريالين، وانتقدت فيه آراء السيد الحكيم في المجلد الأول من كتابه «مُسْتَمْسَكُ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى» في خمسة عشر مورداً، دون ذكر للدليل الشرعي. في الصفحة 7 من هذا الكتيّب قيل: «غير خفيّ على العوام فضلاً عن الخواص، أن الفتاوى المُدرجة أعلاه للسيّد محسن الحكيم بِدعة في الدين وإنكار للضروريّ من شريعة سيد المرسلين ص وتشكيك من أصول الدين وترويج لمذهب الوهَّابيين. [491] ونص الآية هو: ﴿ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَٰٓؤُلَآءِ يَنطِقُونَ ٦٥﴾. (الـمُتَرْجِمُ) [492] لقد ذكرنا ما جاء في تفسير «الميزان» ذيل تفسير الآية 3 من سورة الزمر في الصفحة 270 من الكتاب الحاضر. [493] راجعوا قول مؤلف تفسير «نمونه» في الصفحة 271 إلى 282 من الكتاب الحاضر .
هذا الفصل يتعلق بشهر شعبان. نجد فيه عدداً من الروايات المروية عن أسرة «الفضَّال» الذين كانوا فطحيي المذهب[494]. أو نجد أحاديث رواتها أشخاص ضعفاء غير موثوقي الرواية مثل محمد بن جمهور والسياري وداود بن كثير الرقي وأحمد بن هلال العبرتائي و........ [495].
يبدو أن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ نسي في هذا الفصل ما كان قد كتبه في بداية الفصل الأول المتعلق بشهر رجب حين قال إن شهر رجب شهر الله. فقد روى في هذا الفصل الثاني جزءاً من حديث جاء فيه "شَعْبَانُ شَهْرِي وَرَمَضَانُ شَهْرُ اللهِ"[496]. وفي الحديث ذاته جاء بعد ذلك: "... فَمَنْ صَامَ مِنْ شَهْرِي يَوْماً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ!!". وفي آخر الحديث جاء: "وَمَنْ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ وَوَصَلَهُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ كَانَ ذَلِكَ تَوْبَةً لَهُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَلَوْ مِنْ دَمٍ حَرَامٍ" أي أن من صام شهر شعبان حتى لو كان قد ارتكب قتل النفس المحَرَّمة نفعه ذلك وغُفِرَ له ذنبه!!!
أو ذكر حديثاً آخر يقول: "وَمَنْ قَالَ فِي شَعْبَانَ أَلْفَ مَرَّةٍ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» كَتَبَ اللهُ لَهُ عِبَادَةَ أَلْفِ سَنَةٍ". [أي ما يعادل عشرات أضعاف ليلة القدر؟!!]، وقد ذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ -ربما حفظاً لماء الوجه- قيد «في كل الشهر» مع أن هذا القيد غير مذكور في أصل الحديث. ثانياً: لم يذكر الشيخ عبَّاس بقية الحديث الذي جاء فيه: "وَمَحَا عَنْهُ ذَنْبَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ يَتَلأْلأُ مِثْلَ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ وَكُتِبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيْقَاً"[497].
ألم يتساءل الشيخ عبَّاس في نفسه: كيف عرَّف الله الرحيم لنا شهر رمضان وليلة القدر في القرآن الكريم رغم أن ثوابهما أقل، وامتنع عن تعريفنا بأهمية شهر شعبان رغم هذا الفضل والثواب الأكثر بكثير له؟!
توجد في هذا الباب كثير من مثل هذه الروايات التي تعطي ثوابات عجيبة وغريبة لا حد لها ولا حصر على أعمال ضئيلة. ولكن كما سبق أن بيّنّا كل الروايات التي توجب الجنّة لمن قام بعمل مستحب روايات مردودة وباطلة أن النظام الإلهي نظام قائم على العدل والحساب الدقيق وليس نظاماً لا حساب فيه ولا كتاب.
إننا لنتعجب من عدم تورّع الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن رواية مثل هذه الروايات الباعثة على الاغترار والفاتنة، ولكنه لا يروي في كتابه الحديث التالي الذي يوافق القرآن ويستند إليه: "عَنْ رَسُولِ اللهِ ص أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ، لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَا﴾[الانعام: ١٦٠]"[498].
يقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في هذا الفصل إن رسول الله ص كان يصل صيام هذا الشهر بصيام شهر رمضان، في حين أن هناك حديثاً معارضاً لهذا الكلام رواه الشيخ الصدوق يقول: "كَانَ رَسُولُ اللهِ ص إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ يَصُومُ فِي أَوَّلِهِ ثَلَاثاً وَفِي وَسَطِهِ ثَلَاثاً وَفِي آخِرِهِ ثَلَاثاً وَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ أَفْطَرَ قَبْلَهُ بِيَوْمَيْنِ ثُمَّ يَصُوم " [499]. من المفيد في هذا الموضوع مراجعة كتاب «المُصنَّف» تأليف الحافظ عبد الرزاق الصنعاني الذي كان من قدماء الشيعة (ج 4، ص 158).
في هذا الفصل افتُري حديث على حضرة السجاد (ع) (ص152 - 153) وُصِف فيه النبي وآله بأنهم «غياث المُضطَّرّ»! ويبدو أن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ لم يكن يعلم أنّ «غياث المُضطَّرّ» هو الله وحده [النمل: 62 إلى 64][500]، وإلا لما أورد تلك الصلوات الفاضحة في كتابه [501]. وبالطبع فإن الرواية التي يُتحِف المسلمين بها شخص مثل «أحمد السياري»[502] لن تكون أفضل من ذلك.
ثم روى الشيخ عبَّاس القُمِّيّ تحت عنوان «الأعمال العامة في شهر شعبان» مناجاة عن «ابن خالويه» ادّعى أنها كانت مناجاة جميع الأئِمَّة. هذا مع أنّ «أبو عبد الله الحسين بن محمد خالويه» كان من علماء القرن الرابع الهجري وأكثر ما يمكن قوله أنه وُلِد في آخر القرن الثالث الهجري وكان من أهالي مدينة «حلب». وعليه فإن الشيخ عباس روى عنه هذه المناجاة الشعبانية دون أن يعرّفنا بالرواة الذين رووها له عن الأئمة، ولذلك فليس من البعيد أن تكون هذه المناجاة التي نسبها إلى الأئمة من صياغته هو نفسه أو يكون قد تصرّف فيها من عنده. ولا شك أنه كان ينبغي أن تكون هذه المناجاة - التي يدّعي أنها كانت مناجاة الأئمة جميعهم - مشهورة أكثر من أن يقتصر الاطلاع عليها على «ابن خالويه» وحده، ولا ينقلها أحد غيره من مشاهير المحدثين كالكليني الذي كان ساكناً في العراق أو الشيخ الصدوق أو...... وَمِنْ ثَمَّ فمجرد انتساب رواية إلى «ابن خالويه» لا يستوجب الثقة بصحتها. وقد رُوِي عن الشخص ذاته أن رسول الله ص قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِقَصَبَةِ الْيَاقُوتِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ، فَلْيَتَوَلَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعْدِي"[503].
لاحظوا أن واضع هذا الحديث لما سمع أن الله خلق حضرة آدم من التراب ثم قال له كن فكان، طبّق هذا الموضوع على قصبة (أي غصن) الياقوت. في حين أن المقصود بالنسبة إلى حضرة آدم كان نفخ الروح والحياة في قالبه الجسدي، أما قصبة الياقوت فلا تتشكل من روح وجسم بل بمجرّد خلقها يكون قد اكتمل وجودها ولا حاجة لنفخ الروح فيها حتى يُقال لَهَا بعد خلقها: كُونِي فَكَانَتْ!
على كل حال، يمكننا أن نقول إنه لا إشكال في نص المناجاة الشعبانية لكن الإشكال هو في نسبتها إلى الشارع دون دليل قوي على ذلك، وأكثر ما يمكن قوله أنها مشمولة بالإذن العام بالدعاء الذي تحدّثنا عنه سابقاً. وإني لأتعجب من بعض ملفّقي العرفان والتصوف الخرافيين في زماننا الذين يتجاهلون إظهار الأئمة لتقصيرهم واعترافهم بالذنب أمام الله تعالى كله الذي نقرؤه في مثل هذه الأدعية، ولكنهم إذا وجدوا عبارتين كبيرتين فخمتين تتناسبان مع أفكارهم الصوفية اهتمّوا بها اهتماماً بالغاً واستخرجوا منها مقامات عرفانية وسوّدوا حول هذا الموضوع صفحات كثيرة.
فمثلاً جاء في هذه المناجاة ذاتها: "فَقَدْ جَعَلْتُ الْإِقْرَارَ بِالذَّنْبِ إِلَيْكَ وَسِيلَتِي". وجاء أيضاً: "عُدْ عَليَّ بِفَضْلِكَ عَلَى مُذْنِبٍ قَدْ غَمَرَهُ جَهْلُهُ، إِلَهِي قَدْ سَتَرْتَ عَلَيَّ ذُنُوباً فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَحْوَجُ إِلَى سَتْرِهَا عَلَيَّ مِنْكَ فِي الْأُخْرَى......". أو جاء كذلك: "إِلَهِي أَنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الْمُذْنِب".
مثل هذه الجمل يمر عليها أهل التصوف والعرفان مرور الكرام لكنهم عندما يصادفون عبارات مثل: "إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِلَيْكَ وَأَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَة"، أخذوا هذه الجمل التشبيهية والمبهمة وبنو عليها عقيدتهم بوصال الحق والانفصال عنه واخترعوا مقامات ربوبية وتالية للربوبية ! وينبغي أن نقول لهم: لا تجعلوا هذه العبارات الكنائية والتشبيهية حجة ومستمسكاً لتلفيقاتكم، واذهبوا واقرؤوا القرآن الذي بين لنا طريق معرفة الله ونيل الكمالات الإنسانية بعبارات واضحة بينة ليس فيها وصال بالحق وانفصال عنه. ولا يخفى بالطبع أن لحن هذا الدعاء يختلف عن الأدعية الموثوقة المروية عن النبيّ الأكرم ص. (فتأمَّل)
من جملة الكتب التي استند إليها الشيخ عبَّاس في كتابه كتاب منحول ساقط من الاعتبار يسمى «تفسير الإمام الحسن العسكري (ع)». فمثلاً استند إلى هذا الكتاب في بيانه للأعمال الخاصة بشهر شعبان واليوم الأول من هذا الشهر!! ولكي يطَّلع القُرَّاء الكرام على وضع ذلك التفسير الموضوع ننقل فيما يلي ما ذكره المحقق المجاهد جناب الأستاذ «حيدر علي قلمداران» (رحمه الله) بشأنه:
"إذا رجعنا إلى سند هذا التفسير تَبَـيَّنَ لنا أن الرجال الذين رووهُ مجهولون غيرُ معروفي الحال وكذَّابون، فأحد رواة سنده «سُهيل بن أحمد الديباجي» الذي قال ابن الغضائري عنه: «إنَّه كان يضع الأحاديث ويروي عن المجاهيل». وقد رواه «سهيل بن أحمد» هذا عن «محمّد بن القاسم الاسترآبادي». قال العلامة الحلِّي في رجاله عن هذا التفسير ما يلي:
«محمد بن القاسم وقيل: ابن أبي القاسم، المُفسِّر الاسترآبادي روى عنه «أبو جعفر ابن بابويه» ضعيفٌ كذابٌ، روى عنه تفسيراً يرويه عن رجلين مجهولين أحدهما يُعرف بيوسف بن محمد بن زياد، والآخر علي بن محمد بن يسار عن أبيهما عن أبي الحسن الثالث (ع). والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديثٍ من هذه المناكير»[504].
هذا من حيث السند، أما من حيث متن هذا التفسير المنسوب للإمام ومضامينه، فحدِّث ولا حرَج عن الأغاليط والمنكرات العجيبة التي فيه:
أولاً: كاتبه جاهل إلى حدٍّ كبير بالتاريخ إلى درجة أنه يقول فيه إن الحجَّاج بن يوسف الثقفي الذي كان والياً على العراقَيْن من قِبَل عبد الملك [بن مروان]، أراد قتلَ المختارَ بنَ أبي عُبَيْدةَ الثَّقَفيَّ أكثر من مرَّة، لكنه لم ينجح في ذلك، بل نجَّاهُ اللهُ منه وتمكَّن من الانتقام من قَتَلَة الحسين بن علي (ع)!! هذا رغم أن جميع التواريخ تشهد بأن الحجَّاج تولَّى إمارة العراقَيْن سنة 75 للهجرة، أما قَتْل المُختار فتمَّ قبل ذلك بعدة سنوات إذْ قُتِل سنة 67 هجرية على يد مصعب بن الزبير المأمور مِنْ قِبَلِ أخيه عبد الله بن الزبير بمحاربة المختار.
وقصة عبد المَلِك بن مروان وقتل مصعب و وضع رأسه [بين يدي عبد المَلِك] في دار الإمارة في الكوفة من مشهورات التاريخ. إن مؤلِّف هذا التفسير مثله مثل مؤلِّف كتاب «بحر الأنساب» المنسوب إلى الإمام جعفر الصادق (ع) -الذي قام أحد باعة الكتب المعتمدين في طهران بطباعته ونشره قبل بِضْعِ سنين قُرْبَةً إلى الله (!!)- لم يكن يملك أية معلومات تاريخية، إلى الحد الذي ذكر اختلافاً في تاريخ وفاة نفسه!!
ثانياً: إن التدقيق في مضامين هذا التفسير يُظهر اشتماله على كثيرٍ من التُّرَّهات أو «المناكير» - على حد قول العلامة الحلّيّ - التي لا نجد ما يؤيدها في أي كتاب آخر، والتي يمكننا أن ندرك أنها لا تقتصر على مخالفة صريح القرآن فحسب بل لا تنسجم مع أي عقل ومنطق. كما أن فيه كثيراً من الأمور التي هي من موضوعات الغُلاة، بل حتى لا نجد لها مثيلاً في أي كتاب من كتب الغلاة أيضاً! ففي معرض تفسيره لآية ﴿وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا﴾[البقرة: ٢٣]التي تحدى الله تعالى فيها الناس جميعاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ذكر معجزةَ دفعِ غائط النبي ص وكيف أن المنافقين كانوا يتعقَّبون النبي ص ليروا عورته وغائطه فحُرموا من ذلك ويئسوا منه، وظهرت لهم معجزة كبيرة في ذلك! كما تحدث عن ضيق فروج نساء الجنَّة ووسعتها!! وتُرَّهات لا طائل تحتها مثل نطق حمار كعب بن الأشرف وإيمانه، وشراء قيس بن شماس لهذا الحمار المؤمن!! وفيه من مثل هذه الأباطيل ما يحيِّر الإنسان ويصيبه بالدهشة!! هل يجب على الناس في الدنيا أن ترجع إلى مثل هذا التفسير وتنهل من فيضه؟!!.
هذا، ولقد لقد قام العلامة المحقق جناب الحاج الشيخ «محمد تقي الشوشتري»[505] في كتابه القيِّم "الأخبار الدخيلة" -الذي طُبِعَ بعد اثنتي عشرة سنة من نشر كتابي «ارمغان آسمان» - بانتقاد هذا التفسير في الصفحات من 152 حتى 228 منه، وبيَّن وضع مندرجاته وكذبها، وقال في ختام ذلك: لو كان هذا التفسير صحيحاً لكان الإسلام من أساسه كذبٌ! لأنه يتضمَّن الجمع بين النقيضين وهو مُحال.
إن مطالعة كتاب السيد الشوشتري تُبيِّن لنا مقدار الكذب والافتراء على الأئمَّة عليهم السلام الذي قام به أعداء الدين والأصدقاء الجاهلين الذين هم أسوأ من الأعداء، في فترة حياة أولئك الأئِمَّة الكرام، وتُظْهِرُ لنا كيف أن الوضاعين الكذبة كانوا يحاربون الأئِمَّة المظلومين ويقتلونهم لا بالسيف والسنان بل بالقلم واللسان!! إلى حد تصوير أولئك الأئِمَّة الأجلاء الكرام بصورة أشخاصٍ أعداءٍ للحقيقة -والعياذ بالله - يؤلهون أنفسهم ولا يعرفون الله!" [506]. انتهى.
"والكتاب الثاني الرائج بين الشيعة باسم تفسير الأئِمَّة المعصومين كتاب «تفسير البرهان» تأليف السيد هاشم البحراني. في هذا الكتاب أورد مؤلفه كل ما رُوِي عن الأئِمَّة من أقوال التفسير، وأغلب الأحاديث التي يذكرها في تفسيره للآيات لا تتعلق بتفسير الآية، بل معظمها ليس له أدنى ارتباط بالآيات! إضافة إلى ذلك، توجد فيه أحاديث تخالف القرآن وتتعاض مع ضروريات الإسلام كالحديث الذي أورده (في الصفحة 267 من الجزء الأول) ذيل تفسيره لقوله تعالى: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ...﴾[البقرة: ٢٨٥] وحاصله أنه عندما وصل رسول الله ص إلى أبواب السماء نفرت الملائكة عن أبواب السماء، فقالت: إلهين؟ إله في الأرض، و إله في السماء؟! (وقصدهم من الإله الذي في الأرض حضرة الرسول ص]!!
لاحظوا كيف يصوّر هذا الحديث الملائكةَ -الذين هم قديسو العالم العلوي ومدبّرو الملأ الأعلى- فيُصَوِّرهم بأنهم عديمو الفهم والإدراك بل مشركون إلى درجة أنهم عندما رأوا رسول الله ص تخيّلوا أن هناك إلهين في العالم!! تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِك ونستجير به. وكأن سكان السماء أقل فهماً وشعوراً من سكان زريبة!! ألا لعنة الله على الكاذبين.
هذا الحديث رواه «محمد بن الحسن الصفَّار» [مؤلف «بصائر الدرجات»] بصورة أظرف ومضمون حديثه الخرافي من أوله إلى آخره "أن ملائكة السماء الأولى بمجرد أن رأوا النبي نفروا وهربوا وقالوا هذا إلهنا! فأمر الله جبريل أن يقول مرتين «الله أكبر». فعندما قال ذلك رجعت الملائكة إلى أبواب السماء وعلمت عندئذ أن النبي مخلوق وعندئذ فُتِحَت أبواب السماء حتى وصل رسول الله ص إلى السماء الثانية، فهناك أيضاً هربت الملائكة من أبواب السماء وقالت: إلهين؟ إله في الأرض، و إله في السماء؟! عندئذ قال جبريل: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، فرجعت الملائكة وعلمت أن النبي مخلوق، عندئذ فُتِحَ الباب وصعد رسول الله ص إلى السماء الثالثة، وهناك أيضاً فرّت الملائكة من أبواب السماء وتكررت قضية السماء الأولى والثانية، حتى وصل النبي إلى السماء الرابعة فَإِذَا هُوَ بِمَلَكٍ مُتَّكٍ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ تَحْتَ يَدِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ تَحْتَ كُلِّ مَلَكٍ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ. [فَهَمَّ النَّبِيُّ ص بالسجود وظنَّ أنه]، فنُودِيَ المَلَكُ أَنْ قُمْ! قَالَ: فَقَامَ الْمَلَكُ عَلَى رِجْلَيْهِ، [قال: فَعَلِمَ النبيُّ ص أنه عَبْدٌ مَخْلُوقٌ] قال: فلا يزال المَلَكُ قائماً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.. "!! [507].
بالله عليكم! انظروا إلى أي حد يصوّر هذا الحديث الملائكة الذين هم أشرف الكائنات العلوية والذين يعملون بتدبير الكائنات بأمر رب العالمين مخلوقات عديمةَ الفهم والشعور وجاهلة تفرّ وتنفر بمجرد رؤيتها لرسول الله ظناً منها أنه الله وكأن الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ﴾[الانبياء: ٢٦]والذين ذكر الله اسمهم بتجليل بعد اسمه فقال: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ﴾[ال عمران: ١٨] لم يكن لهم أدنى مقدار من الفهم والعلم ولم يكونوا يعلمون حتى ذلك الوقت أن رب العالمين ليس بشراً وليس جسماً، بل يصورهم الحديث مشركين يعتقدون أن في الأرض إله كما في السماء, والأسوأ من ذلك أنه نسب إلى النبي أيضاً الذي تصورت ملائكة السماوات الثلاثة الأولى أنه إله، أنه بمجرد أن رأى ملاكاً مُتَّكئاً عَلَى سَرِيرٍ تَحْتَ يَدِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ تَحْتَ كُلِّ مَلَكٍ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مَلَكٍ ظنه الله وَهَمَّ أن يسجد له فنودي ذلك الملاك أن قم من مكانك! وحُكِم على ذلك الملاك المسكين الذي لم يرتكب ذنباً، أن يُعَذَّب بإجباره على الوقوف على رجليه إلى يوم القيامة؟! في حين أنه إن كان هناك ذنب فهو - والعياذ بالله - ذنب النبي الذي أخطأ فظنه الله. وانطبق على ذلك المثل الفارسي القائل:
گنه كرد در بلــــخ آهنگــــرى
به شوشتر زدنــــد گردن مسگـــــرى!
أي: أذنب حدَّادٌ في مدينة بلخ
فضربوا عُنُقَ نَحَّاس في مدينة شوشتر!
أيُّ عَقْلٍ وَمَنْطِقٍ ووُجْدَانٍ يحكم بأن من يقرأ الآية الكريمة: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ﴾[البقرة: ٢٨٥] التي معناها في غاية الوضوح وتتضمن معانٍ عاليةً ساميةً عليه أن يرجع إلى مثل تلك التُّرَّهات والأراجيف التي لا طائل تحتها والتي يتضمنها ذلك الحديث ويعتبرها تفسير الأئمَّة للقرآن؟! إن سائر التفاسير لا سيما تفسير العياشي أيضاً لا تخلو من مثل هذه الأخبار الباطلة"[508]. (انتهى كلام الأستاذ قلمداران)
لنأت الآن إلى الأمور التي ذكرها الشيخ عباس حول ما يستحب عمله في اليوم الثالث من شهر شعبان. روى الشيخ عباس دعاءً نقله عن كتاب «مِصْبَاحُ المُتَهَجِّد» للشيخ الطوسي (ص758)، وراويه «ابن عياش» مختل العقل الذي نعلم أن أحاديثه غير مقبولة[509]. في هذه الرواية ادَّعى القاسم بن العلاء الهمداني - الذي كان يدعي النيابة عن حضرة العسكري- وصول توقيع إليه ذكر فيه أن الإمام الحسين....الخ. لقد نشروا كل ما أرادوه باسم تلك التوقيعات، إذ لم يكن أحد يشاهد الكاتب الحقيقي لها ولا يعرف خط صاحبها.
متن الدعاء أيضاً يكشف عن اختلال عقل راويه لأنه يقول عن الإمام الحسين (ع): "... الْمُعَوَّضُ مِنْ قَتْلِهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ نَسْلِهِ وَالشِّفَاءَ فِي تُرْبَتِهِ وَالْفَوْزَ مَعَهُ فِي أَوْبَتِهِ وَالْأَوْصِيَاءَ مِنْ عِتْرَتِهِ بَعْدَ قَائِمِهِمْ وَغَيْبَتِهِ حَتَّى يُدْرِكُوا الْأَوْتَارَ وَيَثْأَرُوا الثَّار!!....".
تلاحظون أن هذا الدُّعاء يقول إن الله عوَّض الإمام الحسين (ع) عن شهادته بأن جعل الأئمة من ذريته! هذا في حين أن الشيعة يقولون إن الله عيَّن سابقاً جميع الأئمة وبيَّنهم للنبيّ ص وأن جميع أسمائهم كانت مكتوبة في لوحٍ عنده[510]. فكلمات هذا الدُّعاء تتعارض مع ذلك الادِّعاء، ولكن رغم ذلك لم يردّ علماء الشيعة هذا الدُّعاء مما يبيّن أن لا شأن لهم بالتناقضات بين الروايات التي يعتمدونها [إما يجهلون هذا التناقض أو يتجاهلونه]! أضف إلى ذلك أن الدعاء يقول إن أوصياء الرسول يكونون بعد القائم وغيبته!! أي أنه اعتبر أئِمَّة الشيعة وأوصيائهم بعد الإمام الغائب!! فكيف لم ينتبه علماء الشيعة ومحدثوهم إلى هذا الخطأ الفاضِح؟! ويبدو أن واضع هذا الدعاء كان ممن يشارك ملفقي الحديث -الذي أورده المرحوم قلمداران في كتابه «شاهراه اتحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص219 حتى 223) بعنوان الحديث التاسع - في عقيدتهم إذ يشاهَد اسم «الحسين بن علي بن سفيان البزوفري» في ذلك الحديث أيضاً.
وجاء في هذا الدعاء إن الله جعل الشفاء في تربة الإمام الحسين (ع)!
فنسأل: فلماذا لم يجعل الشفاء في تربة النبي ص؟! ألا يعلم الشيخ عبَّاس أن أكل التراب حرامٌ شرعاً ومخالفٌ للصحَّة؟!
وتمَّت الإشارة في هذا الدعاء إلى قصة «فُطْرُس» المضحكة[511] واعتبر الأوصياءَ حُجَّةً على البشر أجمعين، مع أن القرآن و نهج البلاغة، يقولان إنه ليس هناك حجَّة على الناس بعد الأنبياء[512].
ويقول ذلك الدعاء أيضاً: "فَنَحْنُ عَائِذُونَ بِقَبْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ.... وَنَنْتَظِرُ أَوْبَتَهُُ". في حين أنه يجب على المسلم أن يعوذ بالله، كما أن فكرة «الرَّجْعَة» مخالفةٌ للقرآن وهي خرافةٌ لفَّقَها هؤلاء الرواة الكذَّابون أنفسهم.
يقول راوي هذا الدعاء إن الإمام الحسين (ع) اشتكى في آخره إلى الله تعالى من الذين كانوا يريدون قتله، وسأل الله تعالى الفَرَجَ والمَخْرَجَ فقال:
"اللهم احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا، فَإِنَّهُمْ غَرُّونَا وَخَدَعُونَا وَخَذَلُونَا وَغَدَرُوا بِنَا وَقَتَلُونَا وَنَحْنُ عِتْرَةُ نَبِيِّكَ....... فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجاً وَمَخْرَجاً...".
وأقول: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يقول قُرَّاءُ المراثي لدينا إن حضرة الإمام الحسين (ع) إنما ذهب إلى كربلاء بهدف أن يستشهد فيها؟! هنا ندعو القارئ إلى أن يرجع - في موضوع سيد الشهداء عليه آلاف التحية والثناء - إلى كتاب «شهيد جاويد» [الشهيد الخالد][513] أو إلى اختصاره المُسَمَّى: «پرتوى از نهضت حسيني تلخيص وقايع سالهاىِ 60 و 61 هجرى» [قبسٌ من النهضة الحسينية، تلخيص وقائع السنتين 60 و 61 هجرية]، اقتباس وتحرير عفَّت نوابي نجاد، (نشر: دفتر نشر فرهنگ قرآن، طهران، 1364 هجرية شمسية).
ثم أتى الشيخ عبَّاس في الصفحة 163[514] من المفاتيح بأخبار تتعارض مع العقل والقرآن في فضل ليلة النصف من شهر شعبان، وقال إن الإمام قال: "وَإِنَّهَا اللَّيْلَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ بِإِزَاءِ مَا جَعَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِنَبِيِّنَا!".
ويجب أن نقول: وهل يوحَى إلى الإمام حتى يجعل الله له ليلةً خاصَّةً به؟! وثانياً: ليلةُ القَدْر لجميع المسلمين بمن فيهم أئمَّة المسلمين جميعاً، فلا حاجة إلى أن تُجْعَلَ لهم ليلةٌ خاصةٌ.
ثم قال في الصفحة ذاتها: "ومن عظيم بركات هذه اللّيلة المباركة أنّها ميلاد سلطان العصر وإمام الزّمان أرواحنا له الفداء، وُلِدَ عند السّحر سنة خمس وخمسين ومائتين في سُرَّ مَنْ رأى".
هذا، في حين أن المَجْلِسِيّ ذكر في «بحار الأنوار» في الجزء 51، الصفحة 61، تواريخ متعددة أخرى لولادته، فقال إنه وُلِد ليلة الجمعة من شهر رمضان، وفي الصفحة 19 من ذلك الجزء نقل عن عمته حكيمة أنه وُلِد ليلة النصف من شهر رمضان، وفي الصفحة 23 قال إنه ولد في 24 رمضان. وفي الصفحة 15 نقل أن ولادته كانت في 8 شعبان، وفي الصفحة 25 قال إنها كانت في 3 شعبان، وفي الصفحة 24 قال إنها كانت في 9 ربيع الأول!! يقول كاتب هذه السطور إن جميع هذه الروايات من وضع الرواة الكذبة[515].
ثم واصل الشيخ عبَّاس كلامه في فضائل ليلة النصف من شهر شعبان فقال:
"الثّالث: زيارة الحسين (عليه السلام) وهي أفضل أعمال هذه اللّيلة، وتوجب غفران الذّنوب، ومن أراد أن يصافحه أرواح مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ فليزره (عليه السلام) في هذه اللّيلة، وأقلّ ما يُزار به (عليه السلام) أن يصعد الزائر سطحاً مرتفعاً فينظر يمنةً ويسرةً ثمّ يرفع رأسه إلى السّماء فيزوره (عليه السلام) بهذه الكلمات: «اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا أبا عَبْدِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ»، ويرجى لمن زار الحسين (عليه السلام) حيثما كان بهذه الزيارة أن يُكتب له أجر حجَّةٍ وَعُمْرَة"!!.
ونسأل الشيخ عباس: هل أهمية الحج الذي خصّص الله تعالى له في كتابه عديداً من الآيات، هي بمقدار قول جملتين على السطح؟!! إذا كان الأمر كذلك فلماذا نتجشّم عناء سفر الحج إذا كان بإمكاننا أن نحصّل الثواب ذاته بقول جملتين!! لقد أثبتنا كذب مثل هذه الروايات في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [أي زيارة المزارات وأدعية الزيارات]. (فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ).
ثم أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ دعاءً نقلاً عن كتاب «مِصْبَاحُ المُتَهَجِّد» للشيخ الطوسي وكتاب «إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس وهو بلا سند في الكتابين. في هذا الدعاء تمت الإشارة إلى الحجة والموعود في هذه الليلة، فنسأل الذين رووا هذا الدُّعاء: أين عرّفنا الله تعالى في القرآن بهذا الحجة الموعود؟ ألم تقرؤوا قوله تعالى: ﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٤﴾[الانعام: ١٤٤] وقوله سبحانه: ﴿... وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ ١٦٨ إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ١٦٩﴾[البقرة: ١٦٨، ١٦٩].
وفي هذا الدُّعاء يصف الداعي شخصاً غائباً بصفاتٍ تدلُّ على أنه يقصد جماعةً من الغائبين لا فرداً واحداً، إذ يقول في الدُّعاء: "وَنَوَامِيسُ الْعَصْرِ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ وَالْمُنْزَلِ عَلَيْهِمْ مَا يَتَنَزَّلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَصْحَابُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، تَرَاجِمَةُ وَحْيِهِ وَوُلَاةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِه"؟!!
ولا أدري لماذا كرَّر عبارة «وُلَاةُ الأَمْرِ» مرتين؟! ثم إن الوحي والقرآن والملائكة والروح تتنزَّل في ليلة القَدْر، فهل يُنْزِلُ اللهُ على الأئِمَّةِ أيضاً الملائكةَ والوحيَ؟![516]. وهل حَشْر العباد ونَشْرهم الذي هو بيد الله، بيد أولئك المُشار إليهم في الدُّعاء أيضاً؟! في حين أن المسلمين مجمعون على أن الوحي انقطع بعد رسول الله ص، وهذا ما قاله أيضاً أمير المؤمنين علي ÷ [517] فلا شيء ينزل على أحدٍ - بما في ذلك الأئِمَّة عليهم السلام - سواءً كان ذلك في ليلة القدر أم في غيرها. ثم إن الحشر والنشر بيد الله وبقدرته وحده، ولا علاقة للأئِمَّة بذلك، ونسبة الحشر والنشر إليهم كفرٌ وعداوةٌ لأولـئك الكِرام.
ثم ذَكَرَ في الصفحة 163 استحباب الغُسْل في تلك الليلة وأنه يوجب تخفيف الذنوب! ولكن الراوي لذلك رجل ضعيفٌ يُدعى «أحمد بن هلال العبرتائي»[518].
ثم ذكر في الصفحة 169[519] تحت عنوان «أعمال ما بقي من هذا الشهر» (أعمال آخر ليلة من شعبان) دعاءً عن الإمام الصادق ÷ رواه عنه: «الْحَارِثُ بْنُ الْمُغِيرَةِ النَّضْرِيُّ» وقد ذكرنا سابقاً قول النجاشي عن الحارث بن المغيرة هذا إنه ثقةٌ جداً. وسأذكر فيما يلي ترجمة هذا الدعاء كي يعلم القُرَّاء أن الأئِمَّة الكرام - ومن جملتهم الإمام الصادق ÷ - لم يكونوا يدعون لأنفسهم العِصْمَةَ:
"رَوَى الْحَارِثُ بْنُ الْمُغِيرَةِ النَّضْرِيُ قَالَ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ÷ يَقُولُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ الْمُبَارَكَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ قَدْ حَضَرَ؛ فَسَلِّمْنَا فِيهِ وَسَلِّمْهُ لَنَا وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا فِي يُسْرٍ مِنْكَ وَعَافِيَةٍ. يَا مَنْ أَخَذَ الْقَلِيلَ وَشَكَرَ الْكَثِيرَ اقْبَلْ مِنِّي الْيَسِيرَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ لِي إِلَى كُلِّ خَيْرٍ سَبِيلًا، وَمِنْ كُلِّ مَا لَا تُحِبُّ مَانِعاً، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. يَا مَنْ عَفَا عَنِّي وَعَمَّا خَلَوْتُ بِهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، يَا مَنْ لَمْ يُؤَاخِذْنِي بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي: عَفْوَكَ عَفْوَكَ عَفْوَكَ يَا كَرِيمُ. إِلَهِي وَعَظْتَنِي فَلَمْ أَتَّعِظْ، وَزَجَرْتَنِي عَنْ مَحَارِمِكَ فَلَمْ أَنْزَجِرْ، فَمَا عُذْرِي؟! فَاعْفُ عَنِّي يَا كَرِيمُ عَفْوَكَ عَفْوَكَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَفْوَ عِنْدَ الْحِسَابِ. عَظُمَ الذَّنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنِ التَّجَاوُزُ مِنْ عِنْدِكَ. يَا أَهْلَ التَّقْوَى وَيَا أَهْلَ الْمَغْفِرَةِ! عَفْوَكَ عَفْوَكَ!
اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ ضَعِيفٌ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ مُنْزِلُ الْغِنَى وَالْبَرَكَةِ عَلَى الْعِبَادِ قَاهِرٌ مُقْتَدِرٌ أَحْصَيْتَ أَعْمَالَهُمْ وَقَسَمْتَ أَرْزَاقَهُمْ وَجَعَلْتَهُمْ مُخْتَلِفَةً أَلْسِنَتُهُمْ وَأَلْوَانُهُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ لَا يَعْلَمُ الْعِبَادُ عِلْمَكَ وَلَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ قَدْرَكَ، وَكُلُّنَا فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ، فَلَا تَصْرِفْ عَنِّي وَجْهَكَ وَاجْعَلْنِي مِنْ صَالِحِي خَلْقِكَ فِي الْعَمَلِ وَالْأَمَلِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. اللَّهُمَّ أَبْقِنِي خَيْرَ الْبَقَاءِ وَأَفْنِنِي خَيْرَ الْفَنَاءِ عَلَى مُوَالاةِ أَوْلِيَائِكَ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِكَ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ وَالرَّهْبَةِ مِنْكَ وَالْخُشُوعِ وَالْوَفَاءِ وَالتَّسْلِيمِ لَكَ وَالتَّصْدِيقِ بِكِتَابِكَ وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِكَ.
اللَّهُمَّ مَا كَانَ فِي قَلْبِي مِنْ شَكٍّ أَوْ رِيبَةٍ أَوْ جُحُودٍ أَوْ قُنُوطٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ بَذَخٍ أَوْ بَطَرٍ أَوْ خُيَلَاءَ أَوْ رِيَاءٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شِقَاقٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ كُفْرٍ أَوْ فُسُوقٍ أَوْ عِصْيَانٍ أَوْ عَظَمَةٍ أَوْ شَيْءٍ لَا تُحِبُّ فَأَسْأَلُكَ يَا رَبِّ أَنْ تُبَدِّلَنِي مَكَانَهُ إِيمَاناً بِوَعْدِكَ وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ وَرِضًا بِقَضَائِكَ وَزُهْداً فِي الدُّنْيَا وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَكَ وَأَثَرَةً وَطُمَأْنِينَةً وَتَوْبَةً نَصُوحاً. أَسْأَلُكَ ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
إِلَهِي أَنْتَ مِنْ حِلْمِكَ تُعْصَى وَمِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ تُطَاعُ فَكَأَنَّكَ لَمْ تُعْصَ وَأَنَا وَمَنْ لَمْ يَعْصِكَ سُكَّانُ أَرْضِكَ فَكُنْ عَلَيْنَا بِالْفَضْلِ جَوَاداً وَبِالْخَيْرِ عَوَّاداً يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَاةً دَائِمَةً لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ وَلَا يَقْدِرُ قَدْرَهَا غَيْرُكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين".
[494] اعتبر ابن داود الحلّيّ وصاحب كتاب السرائر وغيرهما: «ابنَ فضَّال» ضعيفاً. للتعرف على أحواله راجعوا كتاب «الزكاة» للمرحوم قلمداران، فصل «شرح حال علي بن فضَّال» ص 189 فما بعد. [495] للتعرف على أحوال هؤلاء الرواة راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول». [496] وسائل الشيعة، ج 7، ص 377، الحديث 28. [497] إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ص 685، و وسائل الشيعة، ج 7، ص 380. [498] بحار الأنوار، ج 7، ص 108. [499] وسائل الشيعة، ج 7، ص 375، وبحار الأنوار: ج 94، ص 73. [500] ونص الشاهد في الآية هو:﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾.(الـمُتَرْجِمُ) [501] رغم أن الشيخ الطوسي مع الأسف أورد هذه الصلوات في كتابه «مصباح المتهجد»، (ص 760)!! [502] للتعرف على حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ص 149. [503] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 39، ص 267. (الـمُتَرْجِمُ) [504] رجال العلامة الحلي، مطبعة الحيدرية (النجف) الطبعة الثانية، ص 256 و 257. ومن الجدير بالذكر أن هذا الكلام نقله العلامة الحلي بالحرف من كلام ابن الغضائري في رجاله عن «محمد بن القاسم المُفسِّر الاسترآبادي». رجال ابن الغضائري، ج 6، ص 25. (الـمُتَرْجِمُ) [505] هو العلامة المدقِّق والرِّجَالِيّ المحقِّق آية الله الشيخ «محمد تقي بن الشيخ محمّد كاظم الشُّوْشْتَرِيّ» أو «التُستري»، من علماء الإمامية المعاصرين في إيران ولد في النجف عام 1320هـ، ثم انتقل مع أبيه صغيراً إلى «تُسْتَر» جنوب إيران واستقر فيها حتى وافاه الأجل عام 1415هـ، ترك عدة آثار قيمة أشهرها كتابه «الأخبار الدخيلة» في مجلد ثم أضاف إليه فيما بعد مستدركاته في 3 مجلدات، ويعتبر أول كتاب يعالج موضوع وضع و دس وتحريف الحديث في مصادر الحديث الإمامية. وله «قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» و «النجعة في شرح اللمعة» وله كتاب رجالي ضخم باسم «قاموس الرجال في شرح تنقيح المقال» طبع في 11 مجلداً. قال عنه الشيخ المعاصر آية الله جعفر السبحاني: "هو من المشايخ الأعاظم الذي يضنّ بهم الدهر إلاّ في فترات قليلة". (الـمُتَرْجِمُ) [506] نقلاً عن كتاب «ارمغان آسمان» [هدية السماء]، ص 188 حتى 190، وكتاب «راه نجات از شر غلاة» [طريق النجاة من شر الغلاة]، فصل «النبي لا يعلم سوى الوحي»، بشيء من التصرُّف اليسير. [507] تفسير العياشي، ج1، ص 157 - 158 . ومن الجدير الذكر أن المجلسي نقل الرواية بتمامها عن تفسير العياشي هذا في كتابه بحار الأنوار، ج 81، ص 119 - 120، لكنه لم يورد ما بين المعقوفتين [ ]، مما يُبيِّن أنه لم يتقبَّل ما فيهما من فضائح! (الـمُتَرْجِمُ) [508] حيدر علي قلمداران، «أرمغان آسمان»، ص190 - 194 بتصرف يسير. [509] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] تأليف المرحوم الأستاذ حيدر علي قلمداران، ص 164، رقم 67، والكتاب الحالي الصفحات 76 و80 و 249. [510] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول »، ص 609 فما بعد. [511] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] ، ص76. [512] راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 59. [513] تأليف المرحوم آية الله الشيخ صالحي نجف آبادي (توفي سنة 1427هـ /2006م) في مدينة نجف آباد من توابع محافظة أصفهان. وقد طُبِعَ كتابه المُشار إليه أكثر من 18 مرة. (الـمُتَرْجِمُ) [514] أو في ص 236 - 237 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [515] راجعوا في هذا الموضوع كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات من 665 إلى 684. و الصفحات من 840 إلى 861. وكتاب «بررسى علمى در احاديث مهدى» [تحقيق علمي في أحاديث المهدي] لكاتب هذه السطور. [516] من المفيد الرجوع في هذا الموضوع إلى ما ذكرناه في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (ص 560 حتى 564)، حول ما جاء في الباب 99 من أصول الكافي. [517] قال عليٌّ - عليه السلام - عن النبيِّ ص: "فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ" (نهج البلاغة، الخطبة 133). وقال: "بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ! لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّمَاءِ". (نهج البلاغة، الخطبة 235). (الـمُتَرْجِمُ) [518] للتعرف على حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ص 457 فما بعد، وكتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات]، ص 128. [519] أو الصفحة 244 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ)
هذا الفصل الثالث مُخَصَّصٌ لشهر رمضان المبارك. اعتبر الشيخ عبَّاس في هذا الفصل، خلافاً لما ذكره في الفصل الأول من الباب الثاني من قوله إن شهر رجب أفضل الشهور، أن شهر رمضان أفضل الشهور عند الله، وهذا هو الصحيح بالطبع. وينبغي أن نعلم أن ما رُوِي عن رسول الله ص في الكتب الموثوقة من الأدعية والمستحبات يتّفق جميعه مع القرآن الكريم، بيد أنه للأسف الشديد قد نُسِبَت كثير من الأمور في الكتاب الخرافية إلى الأئِمَّة تطفح بالمبالغات والغلو والكذب ومخالفة القرآن.
قال الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في (الصفحة 167)[520]: "وفي الحديث أنّ لكلّ شيء ربيعاً وربيع القرآن هو شهر رمضان".
بناء على ذلك فإن كان المرء من أهل الدعاء والعبادة فعليه أولاً وقبل كل شيء أن يقرأ أدعيةَ القرآن كثيراً، فينال بذلك ثواباً مضاعفاً: ثواب قراءة القرآن وثواب الدعاء[521].
ثانياً: ما عدا أدعية القرآن علينا أن نختار الأدعية التي وصلتنا عن رسول الله ص في الكتب المعتبرة الموثوقة والتي يتوافق متنها مع القرآن الكريم.
هنا نشير إلى أن بعض الأحاديث التي لا تخالف القرآن لم تنجُ مع الأسف من تصرّف صُنّاع المذاهب وتحريفاتهم، ومن ذلك الحديث الأول في هذا الباب الذي رواه فردٌ فاسد العقيدة ذو مذهب باطل من أسرة «الفضّال» - الذين كانوا من الواقفة! -. النصّ الكامل للحديث موجود في كتاب «إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس (ص 3). في نهاية هذا الحديث افتراء على رسول الله ص أنه قال لحضرة علي (ع): "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَنِي وَإِيَّاكَ وَاصْطَفَانِي وَإِيَّاكَ وَاخْتَارَنِي لِلنُّبُوَّةِ وَاخْتَارَكَ لِلْإِمَامَةِ فَمَنْ أَنْكَرَ إِمَامَتَكَ فَقَدْ أَنْكَرَ نُبُوَّتِي. يَا عَلِيُّ أَنْتَ وَصِيِّي وَأَبُو وُلْدِي وَزَوْجُ ابْنَتِي وَخَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي فِي حَيَاتِي[522] وَبَعْدَ مَوْتِي..... أُقْسِمُ بِالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ وَجَعَلَنِي خَيْرَ الْبَرِيَّةِ إِنَّكَ لَحُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ وَأَمِينُهُ عَلَى سِرِّهِ وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ"!!
إن واضع هذا الحديث لم ينتبه إلى أنه لو كان إنكار الإمامة يعني إنكار النبوة لكان معنى ذلك أن منكر الإمامة كافر وَمِنْ ثَمَّ فإن مبايعة الكافر أو قبول الكافر صهراً أمران محرَّمان، لكن إمام المتقين حضرة علي (ع) بايع أبا بكر وعمر، وَقَبِلَ أن يكون الخليفةُ الثاني صهرَهُ في ابنته. أفلا تعقلون؟
لحسن الحظ لم يذكر الشيخ عبَّاس تلك العبارات التي أوردناها أعلاه التي جاءت في نهاية الحديث، بل اكتفى بذكر بداية الحديث فقط التي لا تُخالف القرآن.
وقال الشيخ عبَّاس في القسم الأول من الفصل الخاص بأعمال شهر رمضان العامة (ص175)[523]: "روى السّيد ابن طاووس (رحمه الله) عن الصّادق والكاظم (عليهما السلام) قالا: تقول في شهر رمضان من أوّله إلى آخره بعد كلّ فريضة: اَللّـهُمَّ ارْزُقْني حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرامِ فِي عامي هذا وَفي كُلِّ عام.... الخ".
أما أولاً: فينبغي أن نعلم أن السيد ابن طاووس كان متساهلاً في الأخذ بالحديث.
ثانياً: متن هذا الحديث أيضاً فيه إشكال، لأنه قد ثبت بالدلائل التي ذُكِرَتْ في كتاب «زيارت وزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] والكتاب الحاضر، أن الأئِمَّة ما كانوا يزورون قبور أئمة الدين، حتى يقول قائلهم بعد كل صلاة: "اللهم ارْزُقْنِي زِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِه"! بل هذا الطلب يطلبه الغلاة والذين ينتفعون من عبادة القبور!
وفي الصفحة (175) ذاتها ذكر الشيخ عباس دعائين آخرين ليس فيهما ما يخالف القرآن، لذا لا مانع من قراءتهما لأنهما يدخلان تحت إذن الشرع العام بالدُّعاء.
وفي الصفحة 176[524] أورد الشيخ عباس دعاءً [رواه الكُلَيْنِيّ في الكافي] عن الإمام الصادق ÷ نذكر ترجمته فيما يلي آملين أن ينتبه إليه القراء ويتأملوا معانيه جيداً:
" اللَّهُمَّ إِنِّي بِكَ أَتَوَسَّلُ[525] وَمِنْكَ أَطْلُبُ حَاجَتِي، مَنْ طَلَبَ حَاجَةً إِلَى النَّاسِ فَإِنِّي لَا أَطْلُبُ حَاجَتِي إِلَّا مِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ. وَأَسْأَلُكَ بِفَضْلِكَ وَرِضْوَانِكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَنْ تَجْعَلَ لِي فِي عَامِي هَذَا إِلَى بَيْتِكَ الْحَرَامِ سَبِيلًا حَجَّةً مَبْرُورَةً مُتَقَبَّلَةً زَاكِيَةً خَالِصَةً لَكَ تُقِرُّ بِهَا عَيْنِي وَتَرْفَعُ بِهَا دَرَجَتِي وَتَرْزُقُنِي أَنْ أَغُضَّ بَصَرِي وَأَنْ أَحْفَظَ فَرْجِي وَأَنْ أَكُفَّ بِهَا عَنْ جَمِيعِ مَحَارِمِكَ حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ آثَرَ عِنْدِي مِنْ طَاعَتِكَ وَخَشْيَتِكَ وَالْعَمَلِ بِمَا أَحْبَبْتَ وَالتَّرْكِ لِمَا كَرِهْتَ وَنَهَيْتَ عَنْهُ. وَاجْعَلْ ذَلِكَ فِي يُسْرٍ وَيَسَارٍ وَعَافِيَةٍ, وَأَوْزِعْنِي شُكْرَ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ. وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ تَحْتَ رَايَةِ نَبِيِّكَ مَعَ أَوْلِيَائِكَ. وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَقْتُلَ بِي أَعْدَاءَكَ وَأَعْدَاءَ رَسُولِكَ. وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُكْرِمَنِي بِهَوَانِ مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ وَلَا تُهِنِّي بِكَرَامَةِ أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا[526]، حَسْبِيَ اللهُ، ما شاءَ اللهُ.".
ثم كتب الشيخ عبَّاس يقول:
"واعلم أنّ أفضل الأعمال في ليالي شهر رمضان وأيّامه هو تلاوة القرآن الكريم... ويستحبّ في سائر الأيام ختم القرآن ختمةً واحدةً في كلّ شهر،............ وأمَّا شهر رمضان فالمسنون فيه ختمه في كلّ ثلاثة أيّام[527]، ويحسن إن تيسّر له أن يختمه ختمةً في كلّ يوم، وروى العلامة المَجْلِسِيُّ (رحمه الله) أنّ بعض الأئِمَّةِ الأطهارِ (عليهم السلام) كانوا يختمون القرآن في هذا الشّهر أربعين ختمةً وأكثر من ذلك"!!
أقول: أولاً: إن كانت سنة رسول الله ص ختم القرآن في شهر رمضان في كل ثلاثة أيام، فالحديث الذي يقول إن بعض الأئِمَّة كانوا يختمون القرآن في شهر رمضان أربعين ختمةً كذب قطعاً. ثانياً: الحديث الذي أشار إليه المَجْلِسِيّ رواه «البرقي» فهو حديث غير معتبر، وكذلك يتعارض مع الحديث [الذي رواه الكُلَيْنِيّ في الكافي[528]] والذي يقول: إن الإمام الصادق ÷ سُئل: "أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ فِي لَيْلَتَيْنِ؟ فَقَالَ: لَا حَتَّى بَلَغَ سِتَّ لَيَالٍ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَا. ثُمَّ قَالَ: يَا أبَا مُحَمَّدٍ! إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرٍ وَأَقَلَّ، إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُقْرَأُ هَذْرَمَةً وَلَكِنْ يُرَتَّلُ تَرْتِيلًا، إِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ وَقَفْتَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذْتَ بِاللهِ مِنَ النَّارِ.... ثم أَوْمَأَ الإِمَامُ بِيَدِهِ نَعَمْ، شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الشُّهُورِ لَهُ حَقٌّ وَحُرْمَةٌ...."[529].
وقال الشيخ عبَّاس في الصفحة 177[530]: "روى آية الله العلاّمة الحلّي في الرّسالة السّعديّة عن الصّادق (عليه السلام): «أيّما مؤمن أطعم مؤمناً لقمة في شهر رمضان كتَبَ اللهُ له أجرَ من أعتق ثلاثين رقبةً مؤمنةً، وكان له عند الله تعالى دعوةٌ مستجابةٌ». في حين أن السيد ابن طاووس روى حديثين عن النبي وعن الإمام الصادق يَنُصَّان على أن ثواب هذا العمل ثواب عتق رقبةٍ مؤمنةٍ[531]. فبأيهما نأخذ؟!
وفي الصفحة 178[532] ذكر الشيخ عباس حديثاً حول سورة الدخان، وهو من أكاذيب «الحسن بن حريش»[533] وقد عرَّفنا بحاله بقَدْرٍ كافٍ في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (الصفحات 560 فما بعد) فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ.
58والآن نأتي إلى ما ذكره الشيخ عباس في الصفحة 178 من المفاتيح[534] باسم «دعاء الافتتاح» وهو دعاء رواه الشيخ الطوسي في «مصباح المتهجِّد» (ص 520) والمجلسي في «زاد المعاد» والكفعمي في كتابه، كلهم دون أن يذكر له سنداً!
أما السيد «ابن طاووس» الخرافي فقد أورد في كتابه «إقبال الأعمال» (ص58) سنداً لهذا الدعاء لا يتصل بأي إمام من الأئمة بل يقول إن ابن أخ «عثمان بن السعيد العمري» - الذي كان يدعي أنه من نواب إمام الزمان!! - أخرج دفتراً مجلداً بالأحمر وأراه لـ « محمد بن محمد بن نصر السكوني» وقال إنَّ عَمِّي «عثمان بن سعيد العمري» كتب أدعيته في هذا الدفتر ومن جملتها أنه كان يقرأ في شهر رمضان بهذا الدعاء.
59يَتَبَيَّن من القرائن أن حالَ الأدعية المكتوبة في ذلك الدفتر ذي الجلد الأحمر فاضحٌ! وقد أشار الشيخ عباس مرة أخرى في المفاتيح إلى دعاء مأخوذ من ذلك الكتاب (ص 248[535] العمل الثاني من أعمال يوم الفطر) ولكن لما كان الدعاء فاضحاً اكتفى الشيخ عباس بكتابة الجملة الأولى منه فقط ولم ينقل بقيته ربما لحفظ ماء الوجه!! [536] وسنذكر هنا هذا الدعاء[537] نقلاً عن كتاب «إقبال الأعمال» (ص275 فما بعد): "وَتَدْعُو بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ بِهَذَا الدُّعَاءِ تَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي تَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِمُحَمَّدٍ أَمَامِي وَعَلِيٍّ مِنْ خَلْفِي وَأَئِمَّتِي عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، أَسْتَتِرُ بِهِمْ مِنْ عَذَابِكَ وَأَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ زُلْفَى، لَا أَجِدُ أَحَداً أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْهُمْ، فَهُمْ أَئِمَّتِي، فَآمِنْ بِهِمْ خَوْفِي مِنْ عَذَابِكَ وَسَخَطِكَ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ الْجَنَّةَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. أَصْبَحْتُ بِاللهِ مُؤْمِناً مُوقِناً مُخْلِصاً عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ وَسُنَّتِهِ وَعَلَى دِينِ عَلِيٍّ وَسُنَّتِهِ وَعَلَى دِينِ الْأَوْصِيَاءِ وَسُنَنِهِم".
ونسأل: هل بمجرد أن يقول الداعي في دعائه: النبي أمامي وعلي خلفي، سيقوم أولئك الأجلاء الكرام بطاعته فيصطف النبي أمامه وعلي خلفه والأئِمَّة عن يساره ويمينه؟!
ألم يقرأ جناب الشيخ الطوسي الذي كتب في كتابه هذا الدعاء، القرآنَ الذي قال تعالى فيه للنبي ص بأسلوب الاستفهام الإنكاري: ﴿أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩﴾[الزمر: ١٩] أو قال له ص: ﴿ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡ﴾[التوبة: ٨٠ ، منافقون 6]، وأنه تعالى لم يقبل شفاعة نوح ÷ بحق ابنه [هود: 45] و.......؟
ألا يعلم الشيخ عبَّاس أن النبيَّ ص قال: "أيها الناس! إنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ نسبٌ وَلا شَيْءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْراً أَوْ يَصْرِفُ عَنْهُ بِهِ شَرّاً إِلَّا الْعَمَلُ، أَيُّهَا النَّاسُ! لَا يَدَّعِي مُدَّعٍ وَلَا يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً لَا يُنْجِي إِلَّا عَمَلٌ مَعَ رَحْمَةٍ وَلَوْ عَصَيْتُ لَهَوَيْتُ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت؟"[538]. (كتاب «زيارت وزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]، ص 233 - 234). وأنه ص قال: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْش اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله؛ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً.."[539]. "يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ الله لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً"[540].
لنلاحِظْ أن ملفِّق الدعاء يوافق في جملته التي يقول فيها: "بِهِمْ..... أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ زُلْفَى " كلامَ المشركين الذي كانوا يقولونه عن معبوداتهم وشفعائهم ووبخهم القرآن عليه قائلاً: ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ﴾[الزمر: ٣].
ثم يقول في الدعاء: "آمنت بالله..... عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ وَسُنَّتِهِ وَعَلَى دِينِ عَلِيٍّ وَسُنَّتِهِ وَعَلَى دِينِ الْأَوْصِيَاءِ وَسُنَنِهِم "!! في حين أنه من الواضح أن دين علي (ع) وسائر الأوصياء هو دين النبي عينه لا غير، إضافةً إلى أنه ليس لدينا في الإسلام إلا سنة واحدة هي سنة النبي ص، وليس لعليٍّ (ع) سُنَّةٌ خاصَّةٌ بل هو تابع لسنة النبيِّ[541]. أضف إلى ذلك أن واضع الحديث الجاهل تصرف بشكل يدل على قلّة مراسه وعدم مهارته إذ أثبت لسائر الأئِمَّة أيضاً سنناً ولم يفهم أن سنة الأئِمَّة والأوصياء هي سنة علي (ع) ذاتها ولم يكن لعلي - كما ذكرنا- سنة خاصة به بل كان تابعاً لسنة النبي وقال: "السُنَّةُ مَا سَنَّ رَسُولُ الله ِ ص والبِدْعَةُ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ "[542]. ولم يُعَرِّف لنا سُنَّةً غير سنةِ النبي.
الآن لِنَعُدْ إلى «دعاء الافتتاح» وننتبه إلى أن هذا الدعاء نُقِل عن مثل ذلك الدفتر الذي تحدثنا عنه أعلاه وننتبه إلى أنه لا يوجد دليل موثوق على وجود ابنٍ لحضرة العسكري (ع) فضلاً أن يكون له نائبٌ! والذي ادعى النيابة له كان مُخادِعاً للعوام.
ثانياً: لم يقل النائب المذكور إنه أخذ هذا الدعاء عن الإمام.
ثالثاً: في متن هذا الدعاء أمورٌ غير صحيحة تُظْهِرُ أنه دعاءٌ موضوعٌ وضعه صُنَّاعُ المذاهب والمُتَكَسِّبِين بالدين، فمثلاً اعتبر الداعي حضرةَ عليٍّ (ع) «النبأَ العظيمَ» في حين أننا نعلم أن علياً (ع) قال في دعاء يوم الاثنين في الصحيفة العلوية: "الْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ... وَعَرَّفَنِي الْحَقَّ وَالنَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ" (كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] الصفحة 286). وقد أوضحنا في الكتاب الحاضر أيضاً بطلان ذلك القول (ص56). أو اعتبر علياً (ع) «الآية الكبرى» مع أن القرآن الكريم لم يُعَرِّفْ لنا مثل هذه الآية. ثم قال عن الأولاد الكرام لأمير المؤمنين (ع): «حُجَجِكَ عَلَى عِبَادِك » في حين أن هذا القول مخالف للقرآن الذي بيَّن لنا أنه ما من حجَّة بعد الأنبياء [النساء: 165]، ومخالف لكلام أمير المؤمنين علي ÷ نفسه الذي قال: "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ " (نهج البلاغة، الخطبة 91). إضافةً إلى ذلك، فإنه لا دليل شرعي على مسألة الإمامة التي يتصورها ويؤمن بها واضع هذا الدعاء ولا يمكننا إثبات الإمامة المنصوص عليها من الله بمجرد دعاءٍ قد عرفنا حال سنده!
لقد ابتدأ «دعاء الافتتاح» بدايةً ممتازةً ورائعةً جداً ومطالبه (حتى السطر 6 من الصفحة 180)[543] مطالب يؤيدها كل مؤمن بالله - فضلاً عن كل مسلم-، ويقبلها من كل قلبه، ويبدو أن واضع الدعاء أراد بهذه الطريقة أن يمهِّد لتلقين أفكاره المذهبية وخرافاته التي سيذكرها بعد هذه المقدمة الصحيحة! لذا علينا أن ننتبه ولا تخدعنا العبارات الصحيحة التي نشاهدها في بعض الأحاديث أو الأدعية غير الموثوقة أو الموضوعة، بل علينا أن نميز دائما بين الصحيح والسقيم في كل شيء. وَاللهَ وَلِيُّ التوفيق.
في هذا الدعاء يطلب الداعي من الله أن "اشفِ بالحق صدورنا وأذهب به غيظ قلوبنا ". ولنا أن نتساءل: هذا الحقد في الصدر وغيظ في القلب، تجاه مَنْ؟ نسأل الله تعالى أن يهدي الحاقدين الذين أنشؤوا مثل هذه الأدعية أو روَّجُوها.
واعتبر الدعاءُ الإمامةَ منحصرةً باثني عشر فرداً في حين أن الإسلام ليس ديناً انحصارياً يحصر أئمَّته أو من بيدهم زمام أمور المسلمين بعدد محدَّد من الأفراد سواء كانوا ستَّة أو سبعة أو اثني عشر إماماً، بل كلُّ مسلم تتوفَّر فيه شروط الإمامة الكبرى كالعلم والكفاءة والعمل بالكتاب والسنة يمكنه أن يأخذ على عاتقه إمامة الأمَّة. ولذلك نجد أن القرآن الكريم اعتبر أن كل من اتصف بصفات عباد الرحمن المؤمنين يمكنه أن يكون إماماً، فقال: ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا ٧٤﴾[الفرقان: ٧٤]. وقال عن أئمَّة الكفر: ﴿فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ﴾[التوبة: ١٢]. فهل أئمة الكفر اثنا عشر إماماً حتى يكون أئمَّة الإيمان اثنا عشر نفراً؟! وقال تعالى أيضاً: ﴿يَوۡمَ نَدۡعُواْ كُلَّ أُنَاسِۢ بِإِمَٰمِهِمۡ﴾[الاسراء: ٧١]فهل الناس في الدنيا اثنا عشر فرقة فقط حتى يكون لهم اثنا عشر إماماً؟ بالطبع لا بل الناس آلاف الفرق وكل فرقة ستحشر مع إمامها. وقد جعل الله تعالى الأنبياء جميعهم أئمةً فقال: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا﴾[الانبياء: ٧٣]، كما جعل في أحد السور المكية المستضعفين المؤمنين المعاصرين لفرعون أئمةً لسائر المستضعفين فقال: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ٥﴾[القصص: ٥]. وقال الإمام الصادق ÷ - كما في الباب الأول من «الكافي» (العقل والجهل، الحديث 22) -: "حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ النَّبِيُّ وَالْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ اللهِ الْعَقْلُ". أي أن الله جعل للناس حجتين الأولى ظاهرة وهي الأنبياء والثانية باطنة وهي العقل، أما دعاء الافتتاح فقد اخترع حججاً أخرى وحصرهم باثني عشر نفراً! فكل دعاء يكون كذلك أي يخترع حججاً ساقطٌ من الاعتبار ومن وَضْع صُنَّاع المذاهب، وقد قُلْنَا مراراً [كما ذكرنا في تقديمنا لكتاب «شاهراه اتحاد» (الصفحات: م إلى ن)] 60إن الله ذاته بيَّن لنا أصول الإيمان وأصول الدين بشكل كامل (البقرة: 177, النساء: 136). ورسول الله ص- موافقاً لكتاب الله - أجابَ مَنْ سَألَه: ما الإيمان؟ فقال: "أن تُؤْمِنُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ...."[544].
ولما سأله أبو ذر عن الإيمان قرأ عليه الآية 177 من سورة البقرة بتمامها (المصنَّف للحافظ عبد الرزاق، ج 11، ص 127 و 128، الحديثان 20107 و 20110).
والآية التي تلاها رسول الله ص هي قوله تعالى: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ﴾[البقرة: ١٧٧]. وكما نلاحظ لو كان هناك ضرورة لما امتنع الله من عطف كلمة «الحجج » أو «الأئِمَّة » على كلمة «النَّبِيِّينَ ». (فتأمَّل). وبقية الآية كالتالي: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧﴾[البقرة: ١٧٧].
إن على القارئ المحترم ألا يَمُرَّ مرور الكرام على هذه الآية الكريمة التي تلاها رسول الله ص على أبي ذَرّ، بل عليه أن يتأمَّل فيها جيداً.
نعم، لنعد الآن إلى «دعاء الافتتاح». يُظهِر قائل الدعاء الحزن والعويل على «العدل المُنْتَظَر» ويتمنَّى ظهوره ليفعل كيت وكيت، هذا في حين أن الله تعالى دعا الناس جميعاً إلى النهوض والقيام لأجل إقامة العدل وبسط القسط ولم يقل عليكم أن تتنظروا من يفعل ذلك لكم، كما نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: ٢٥]. لاحظوا أنه تعالى قال «ليقوم الناس بالقسط» ولم يقل «ليقوم المُنْتَظَر بالقسط»! إنهم ينتظرون حتى يرسل الله لهم في المستقبل شخصاً لينهض هو لإقامة العدل! وهذا من أفكار القدماء الفاسدة والخرافية التي تركوها لنا وكثير من أخبارهم أيضاً تدل على أن ذلك الفرد المُنْتَظَر سيكون عمله القتل وسفك الدماء! إذا عرفنا الآن أن مثل هذه الأدعية هي من وضع صُنَّاع المذاهب فحيثما وجدنا في المفاتيح مثل هذا النحو من الدعاء فإننا نعتبره مشمولاً بحكم «دعاء الافتتاح» أيضاً أي نعتبره موضوعاً؛ مثل ما ذكره الشيخ عبّاس تحت عنوان «أعمال ليالي القدر المشتركة» (العمل الرابع، 221)[545] من سؤال الله بالحجج الاثني عشر الذين لا دليل شرعي صحيح على كونهم حججاً. ويبدو أن السيد ابن طاووس هو وحده فقط الذي نقل ذلك الدعاء! وكذلك الدعاء المخصَّص لليلة الثالث والعشرين من رمضان والمروي عن شخصين من الضعفاء (أحدهما من أسرة «الفضّال» الذين كانوا من الواقفة والآخر «محمد بن عيسى بن عُبَيْد» الذي كان من الغلاة)[546]، وفيه: "اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ صلواتُكَ عَلَيْهِ وعَلَى آبَائِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيّاً وَحَافِظاً وَقَائداً وَنَاصِراً وَدَلِيلًا وَعَيْناً، حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً...".
أيها القارئ المحترم، لاحظ جيداً ما تقوله تلك الفقرة من الدعاء. لقد قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ...﴾[البقرة: ٢٥٧]، وقال: ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾[ال عمران: ٦٨]. لاحظوا أنه عندما يكون الله ولي المؤمنين فلا ضرورة لقول كلمة «كُن»، كما أنّه عندما يقول تعالى: ﴿ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾[غافر: ٦٢] لا يكون هناك ضرورة لقولنا «اللهم كن لفلان خالقاً وربّاً»! ثم إن مخاطبة الله أن يكون لفلان «عيناً» أي جاسوساً مخالف للأدب في الدعاء, والمؤمن العارف لا يكلّم الله سبحانه وتعالى بمثل هذا الكلام، ولم يؤثَر عن رسول الله ص استخدامه مثل هذا التعبير في الدعاء. وللأسف فإن من بيدهم زمام الأمر في بلادنا يكرِّرون بثَّ هذه الجملة في الإذاعة ولا أحد يسأل ما معنى هذا الدعاء؟!
أجل، في «دعاء الافتتاح» هذا اُعْتُبِر الإمام الغائب الذي يقول الخرافيون إنه غاب في طفولته «ولي الأمر» مِنْ قِبَلِ الله. هذا في حين أنه لم يأخذ على عاتقه أبداً ولاية أمور المؤمنين، فما هو الدليل على أنه ولي أمر المسلمين؟ أي أمر قد قام به ولي الأمر هذا؟ هل أصلح حال البلاد؟ هل علّم الكفّار وأرشدهم؟ هل بنى مشفى أو مدرسة؟
وفي هذا الدعاء يقول عن الإمام الغائب: "اللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ حَتَّى لَا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْق"[547]؟!!
أولاً: هل يمكن أن يُخفِي الإمامُ شيئاً من الحق عن الناس خوفاً من أحد؟ هل الأئِمَّة السابقون كانوا يفعلون ذلك؟! هل فهم واضع هذا الدعاء أي كلام لفّقه؟
ثانياً: إذا أراد شخص أن يظهر كتاب الله وسنة رسوله قام عليه صُنّاع المذاهب وأهل البدعة وحالوا بينه وبين ذلك ونصبوا له الحرب والعداء. نعم، يقول هذا الدعاء: «اللهم أظهر به دينك» ولكن لو أراد أحد اليوم أن يظهر حقائق الدين والتوحيد فإن قارئي هذا الدعاء أنفسهم سيعادونه وسيُقْدِمون على قتله، كما حصل لكاتب هذه السطور عندما قُمت بإظهار حقائق من كتاب الله فاتّفقوا جميعاً على إسكاتي وافتروا علي واتّهموني مئاتِ التُّهَم، ومن جملة ذلك أنهم قالوا إنه على مذهب الوهَّابية في حين أن هذا العبد الفقير لست لا وهَّابياً ولا تابعاً لأي مذهب آخر بل أنا مسلم فحسب. إنهم لا ينتبهون إلى أن دعاءهم وتضرّعهم مخالف لعملهم. نسأل الله تعالى لهم الهدايةَ وأن ينجّي شعبَنَا من شرِّ أعداء القرآن وكيد الخرافيين، وأن يوقظ هذا الشعب وينقذه من الخرافات. آمِين يا رَبَّ العَالَمِينَ.
ثم في الصفحة 183[548] أورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ دعاءً ليُقرَأ في أسحار شهر رمضان بعنوان العمل الثالث من أعمال شهر رمضان العامة، وهو دعاء لا إشكال في قراءته استناداً إلى إذن الشرع العام بالدعاء. والدعاء الرابع من أدعية هذا القسم هو الدعاء المشهور بِـ «دعاء أبي حمزة الثمالي» (= ثابت بن دينار) وفي رأينا لم يُنقَل إلينا هذا الدعاء بأمانة تامة بل تصرف به صُنّاع المذاهب في بعض المواضع، فقد أضافوا في موضعَين منه: "وَارْزُقْنِي زِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ ص وَالأئِمَّةِ عليهم السَّلام، وَلَا تُخْلِنِي يَا رَبِّ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَّرِيفَةِ وَالْمَوَاقِفِ الْكَرِيمَة" (ص 188، سطر 14، و ص189 سطر 4 و 5)[549]! وذلك لأنه كما ذكرنا في كتابنا الحالي (حاشية ص 198 - 201) نقلاً عن كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]، لم يكن مرقد النبيّ الأكرم ص في القرن الهجري الأول مزاراً كما لم تكن قبور حضرات علي والحسنين عليهم السلام في ذلك الزمان مزارات للناس حتى يسأل حضرة السجاد (ع) الله تعالى أن يرزقه زياره قبورهم! (فتأمَّل).
ولا يفوتني أن أذكر أنني أحبُّ كثيراً هذا الدعاء والأدعية من الخامس وحتى الثامن في هذا القسم وقد قرأتُها مراراً وتكراراً وأوصي إخوتي وأخواتي في الإيمان أن يقرؤوها، وَاللهَ وَلِيُّ التوفيق، بشرط أن يحصلوا على ترجمتها (إلى الفارسية) بالطبع كي يستفيدوا من معانيها وإلا فإنَّ مجرَّد قراءة جُمَل دون معرفة معناها لا فائدة منه للقارئ.
الدعاء السابع من أعمال أيام شهر رمضان (ص211)[550] لا سند له أيضاً وليس منسوباً إلى أي إمام من الأئِمَّة ولستُ أدري كي عرف الكفعمي أن ذنوب أربعين سنة تُغفَر بقراءته؟! وفي العمل التاسع روى الشيخ عبَّاس عن الشيخ المفيد قوله: "مِن سُنَن شهر رمضان الصلاة على النبيّ ص في كل يوم مئة مرة....." وهو عمل جيد جداً. وهنا أتذكّر أن المَجْلِسِيّ نقل حديثاً يقول: "مَنْ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَتَبَ اللهُ لَهُ مِائَةَ حَسَنَةٍ، وَمَنْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ أَلْفَ حَسَنَة"[551].
ونسأل هل آل محمد ص غير أهل بيته حتى يكون ثواب الصلاة عليهم أقل من ثواب الصلاة على أهل البيت!؟
هنا، من الضروري أن نوضح معنى «الآل». فاعلم أن لكلمة «الآل» في النصوص الشرعية عدة معانٍ وقرينة الكلام هي التي تبيّن المراد منها. فمن جملة ذلك أنها تأتي بمعنى أهل بيت الشخص (أي زوجته وأبناءه وأهله الذي يسكنون معه في بيته)، وعائلته، وأُسْرَته، كما جاء في القرآن من قوله تعالى: ﴿وَبَقِيَّةٞ مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَىٰ وَءَالُ هَٰرُونَ تَحۡمِلُهُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ﴾[البقرة: ٢٤٨]، وقوله سبحانه: ﴿وَيُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ ءَالِ يَعۡقُوبَ﴾[يوسف: ٦]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٣٣ ذُرِّيَّةَۢ بَعۡضُهَا مِنۢ بَعۡضٖۗ ٣٤﴾[ال عمران: ٣٣، ٣٤]، وقوله سبحانه: ﴿ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ﴾[سبا: ١٣]، وقوله: ﴿قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٥٨ إِلَّآ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٩ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ﴾ [الحجر: ٥٨، ٦٠].
والمعنى الآخر لكلمة «الآل» أتباع الشخص، كعبارة «آل فرعون» التي تتكرر في القرآن (البقرة: 49 و 50، والأنفال: 52 و إبراهيم: 6) كما روي عن الإمام الصادق ÷ أنه قَالَ: "قُلِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ فَسَنَكُونُ نَحْنُ وَشِيعَتُنَا قَدْ دَخَلْنَا فِيه"[552]. بناء على ذلك فإن الشيعة جميعهم آل محمد. وكذلك المراد من عبارة «آل محمَّد» التي نقرأها في صلواتنا ونحوها: الأتباع الصادقون لرسول الله ص والأتقياء من أمته الذين نصلي عليهم معه. بناء على ذلك فإن عبارة «آل محمَّد» تشمل حضرة علي (ع) وكل ابن مؤمن نقي القلب من ذريته كما تشمل سائر الأطهار من أمة الإسلام. إن الله تبارك وتعالى صلَّى أيضاً في القرآن الكريم على النبي ص وعلى أتباعه وقال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞ﴾[البقرة: ١٥٧]، وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ﴾[الاحزاب : ٤٣]، وقال: ﴿وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡ﴾[التوبة: ١٠٣]
وقال الإمام السجاد (ع) في الدعاء الرابع من «الصحيفة السجادية»: "اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى التَّابِعِينَ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَعَلَى ذُرِّيَّاتِهِمْ وَعَلَى مَنْ أَطَاعَكَ مِنْهُمْ"، وقال في الدعاء الواحد والعشرين من الصحيفة: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْنِي لَهُمْ قَرِيناً، وَاجْعَلْنِي لَهُمْ نَصِيراً".
بالطبع عبارة «آل محمَّد» التي تُذكر في كتب الفقه وأبواب الزكاة والصدقات، يُقصد منها -كما يُستفاد من الآثار والأدلة وكما قال الفقهاء أيضاً- أبناء علي (ع) وجعفر وعقيل والعباس والحارث و..... أي «بني هاشم»[553]. أما الذين ادَّعوا أن «آل محمد» ينحصرون بحضرة الزهراء وعلي -عليهما السلام- وإحدى عشراً من أولادهما فهو قول لا دليل عليه. أيها القارئ المحترم! لاحظ أن الناس لدينا يقولون كل يوم: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ " من جهة، ومن الجهة الأخرى يعتبرون عدداً من أتباع النبيّ الذين مدحهم القرآن، مُرتدّين وغاصبين لخلافة عَلِيٍّ (ع) المنصوص عليها من الله ويُبغضونهم. (فتأمَّل جداً).
لننتقل الآن إلى بقية موضوعات الفصل المُتعلّق بأعمال شهر رمضان:
يقول الشيخ عباس تحت عنوان العمل السابع من أعمال ليلة أول شهر رمضان: "السابع: أن يزور قبر الحسين (ع) لتذهب عنه ذنوبه ويكون له ثواب الحُجّاج والمُعتمرين في تلك السنة". هذه الرواية منقولة عن كتاب «إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس (ص 10) وراويه «فيض بن مختار» الذي عرَّفنا به في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 643- 646).
وكذلك قال الشيخ عبَّاس في قسم «أعمال ليالي القدر المشتركة»، العمل الخامس: "الخامس: زيارة الحسين (عليه السلام): ففي الحديث إنّه إذا كان ليلة القدر نادى مناد من السّماء السّابعة من بطنان العرش: إنّ الله قد غفر لمن زار قبر الحسين (عليه السلام)". وراويها فرد مجهول يُدعى «صندل» ولا اعتبار لحديثه[554].
وكتب الشيخ عباس تحت عنوان العمل الأول من «أعمال اليوم الأول من شهر رمضان»: "مَنِ اغْتَسَلَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ فِي مَاءٍ جَارٍ وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثِينَ غُرْفَةً كَانَ دَوَاءَ السَّنَةِ" أي كان له في ذلك أمان من جميع الأوجاع والآلام في كل السنة القادمة!!". ولكن هذه الرواية نقلها الشيخ عباس من كتاب «إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس (ص 86) في حين أنه قد ذُكر في آخر الرواية ذاتها: "وَإِنَّ أَوَّلَ كُلِّ سَنَةٍ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ"!! ورغم ذلك اعتمد الشيخ عباس على مثل هذه الرواية وأوردها في كتابه!
ثم نقل تحت عنوان: العمل السابع من «أعمال اليوم الأول من شهر رمضان» دعاء جيداً لا إشكال في متنه، كما أن الأدعية التي أوردها في الصفحتين 223 و 224 تحت عنوان: «أعمال ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان» لا إشكال فيها وكذلك أدعية الليلة 24 إلى الليلة 30 من شهر رمضان.
ثم روى في أعمال الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان حديثاً عن عدد من الضعفاء مثل «إسماعيل بن مهران» و «علي بن أبي حمزة»[555] و «محمد بن حسان»[556] يقول: "... وقد آلى الصادق عليه السلام أن من قرأ هاتين السورتين [العنكبوت والروم] في هذه الليلة كان من أهل الجنة"!!
ثم ذكر في أعمال ليلة آخر يوم من رمضان صلاة خاصة قال إنها منسوبة إلى عبد الله بن مسعود[557]، ولكننا لا نجد في سنة النبيّ ص مثل هذه الصلوات، ولو صلّى رسول الله ص فعلاً مثل هذه الصلوات لعرف ذلك أصحابه ولعلَّمها النبيّ ص لجميع المسلمين. ولو قرأ شخص مسند أحمد بن حنبل الذي جمع أحاديث ابن مسعود لرأى أنه لم ينقل مثل هذه الصلاة الخاصة بشهر رمضان عن النبيّ، وَلَمَّا كانت العبادات توقيفية فلا يُمكننا أن ننسب إلى الشرع صلاةً مخصوصةً استناداً إلى حديثين ضعيفين غير معتبرين. والأمر ذاته ينطبق على الصلوات التي ذكرها لكل يوم من أيام شهر رمضان (ص 241 إلى 243)[558] وذكر لها ثوابات عجيبة! ثم نقل الكفعمي أن صلاة الليلة الأولى من رمضان تتم بقراءة سورة التوحيد 25 مرة أما المجلسي فذكر أنها تكون بقراءة سورة التوحيد 15 مرة؟!![559]، ورواة هذه الصلوات لا يتمتعون بحال جيدة فمحمد بن جعفر الحسين و «إسماعيل البشير» مهملان و «محمد بن محمد بن الحسين بن هارون» مجهول الحال!!
كما ذكر الشيخ عباس لكل يوم من أيام رمضان دعاءً مختصراً ذكر لها الكفعمي في كتابيه «المصباح» و «البلد الأمين» (ص 219 إلى 222) ثوابات عجيبة وغريبة لكل منها، مثلاً قال: إن ثواب قراءة دعاء من سطرين في اليوم الثامن عشر من رمضان يُعادل ثواب ألف نبيّ!!! أو ذكر أن ثواب دعاء يوم التاسع والعشرين أن يُبنى له ألف مدينة في الجنة من الذهب والفضة والزمرّد واللؤلؤ!! وقد ذكر المَجْلِسِيّ أيضاً في كتابه «زاد المعاد» (ص 215 إلى 220) هذه الأدعية وقال في ختامها: إنني لا أعتمد هذه الرواية، ورغم ذلك أورد الأدعية في كتابه؟!! ولا يخفى أن دعاء اليوم الأول يتضمن الإشكال ذاته الذي ذكره جناب الأستاذ قلمداران -رحمه الله- في كتابه القيم «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] في تمحيص الحديث السابع (ص 210 و 211). فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ.
[520] أو الصفحة 250 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [521] لقد كتبنا رسالة مختصرة عن أدعية القرآن وقمنا أخيراً بتنقيحها وإعادة النظر فيها لكن المدافعين عن الخرافات منعونا من إعادة طبعها. [522] راجعوا كتاب «شاهراه اتّحاد» [طريق الاتحاد] للمرحوم قلمداران، ص 80. [523] أو الصفحة 248 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [524] أو الصفحة 250 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [525] كلمة «أَتَوَسَّلُ» مذكورة في أصل الدعاء في كتاب الكافي للكليني ولم يذكرها الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في المفاتيح بل ذكر العبارة على النحو التالي: "اللَّهُمَّ إِنِّي بِكَ وَمِنْكَ أَطْلُبُ حَاجَتِي... الخ". والمعنى واحد. (الـمُتَرْجِمُ) [526] إشارة إلى الآية 27 من سورة الفرقان التي تقول: ﴿وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا ٢٧﴾. [527] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 864، الحديث 8. [528] أصول الكافي، ج 2، ص 619. [529] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 862، الحديث 3، ويتفق مع الحديث 8 في الصفحة 864. [530] أو الصفحة 252 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [531] الشيخ الطوسي، مصباح المتهجِّد، ص 569، والسيد ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص 7. [532] أو الصفحة 252 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [533] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 7، ص 265، الحديث 1. [534] أو الصفحات 252-256 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [535] أو الصفحة 334 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [536] نُذَكِّرُ بأننا نستند إلى نسخة من المفاتيح صحَّحَها الملا علي واعظ تبريزي الخياباني على نسخة المؤلف نفسه، وقابلها عليها وصحح أخطاءها. [537] من المثير للانتباه أن الشيخ الطوسي والكفعمي والمجلسي أوصوا بهذا الدعاء ليقرأ بعد صلاة العيد، في حين أوصى «ابن طاووس» بقراءته بعد صلاة الصبح وقبل صلاة العيد؟! [538] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 22، ص 467، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 183 - 184. (الـمُتَرْجِمُ). [539] حديث متفق عليه في مصادر أهل السنة رواه البخاري ومسلم في الصحيحين والنسائي في السنن، وغيرهم. (الـمُتَرْجِمُ) [540] تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 4، تفسير سورة الشعراء، ص 141. أقول: وهو في مصادر أهل السنة في المراجع المذكورة في الحاشية السابقة بشيء من الاختلاف في التقديم والتأخير والمعنى واحد. (الـمُتَرْجِمُ) [541] حول موضوع أن حضرة علي (ع) كان تابعاً لسنة النبي ص راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 408-409. [542] بحار الأنوار، ج2، ص266، الحديث 23. [543] يقابله ص 242 إلى 255 من الدعاء في النسخة المُعَرَّبَة للمفاتيح. [544] أخرجه أبو داود في سننه، (4697) والنَّسَائِي في السنن الكبرى، (5853)، وأحمد في المسند، ج1، ص 52 و 53، و ج2، ص 107. (الـمُتَرْجِمُ) [545] وهو في الصفحة 307 - 308 من النسخة المُعَرَّبة للمفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [546] لقد عرّفنا بحاله في التنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 214. [547] الكُلَيْنِيّ، أصول الكافي، ج 3، ص 423. (الـمُتَرْجِمُ) [548] أو ص 259 - 260 في النسخة المُعَرَّبَة للمفاتيح، ويُسَمَّى بدعاء «البهاء». [549] أو ص 266 سطر 2 ثم سطر 14 من الصفحة ذاتها ، في النسخة المُعَرَّبَة للمفاتيح. [550] أو ص 278 في النسخة المُعَرَّبَة للمفاتيح، ويُسَمَّى بدعاء «يا مفزعي». [551] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 91، ص 58، الحديث 37. [552] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، أبواب الذكر، باب 42، الحديث 11. [553] راجعوا كتاب «جامع المنقول في سنن الرسول» تأليف كاتب هذه السطور، كتاب الزكاة، باب 21. [554] وسائل الشيعة، ج 10، ص 370. [555] لقد عرَّفنا بإسماعيل بن مهران في ص 662 -663 و 813 وبعلي بن أبي حمزة في ص 163 و196 فما بعد من كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول». والرواية التي ذكرها موجودة في كتاب «وسائل الشيعة»، ج 7، ص 264. [556] «محمد بن حسان» اعتبره العلامة الحلي من الضعفاء وقال: إن النجاشي قال عنه: إنه يروي كثيراً عن الضعفاء، وضعَّفه ابن الغضائري أيضاً. [557] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 189 و 222، وكتاب «مستدرك الوسائل» ج 1، ص 445. [558] أو الصفحات من 322 إلى 324 في النسخة المُعَرَّبَة للمفاتيح. [559] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 94، ص 381 فما بعد. و «وسائل الشيعة» ج 5، ص 186 إلى 189.
لقد تكلمت كثيراً في خطبي وكتبي عن العلم بالغيب الذي يُنسب للنبيّ والأئمة، ومن جملة ذلك بحثٌ مُفصَّلٌ في التنقيح والإصدار الثاني لكتابي «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 130 فما بعد) وفي الكتاب الحاضر (ص 189 إلى 196). إحدى الموارد المُتعلّقة ببحث العلم بالغيب مسألة ليالي القدر في شهر رمضان. روى الشيخ الصدوق في كتاب الصوم من كتابه «من لا يحضره الفقيه» (ص 174، الحديث 4) عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع): "أَنَّ النَّبِيَّ ص لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَسَارَ إِلَى مِنًى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَامَ خَطِيباً فَقَالَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ سَأَلْتُمُونِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَمْ أَطْوِهَا عَنْكُمْ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ بِهَا عَالِماً، اعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ! أَنَّهُ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَهُوَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ فَصَامَ نَهَارَهُ وَقَامَ وِرْداً مِنْ لَيْلِهِ وَوَاظَبَ عَلَى صَلَاتِهِ وَهَجَرَ إِلَى جُمُعَتِهِ وَغَدَا إِلَى عِيدِهِ فَقَدْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَفَازَ بِجَائِزَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَل"[560].
كما نُلاحظ صرَّح رسول الله ص أنه لا يعلم على وجه الدقة أيُّ ليلة هي ليلة القدر. وكما ذكرت في كتابي «جامع المنقول في سنن الرسول» (كتاب الصيام، باب أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) لم يتم تعيين ليلة القدر في سائر الروايات، لذلك يهتم الناس بالعشر الأواخر أو بالأسبوع الأخير من شهر رمضان.
ولا يخفى أن الحديث الذي ذكرناه أعلاه ونظائره تنفي الأكاذيب التي ادَّعوها من أن الملائكة تنزل على الإمام في ليلة القدر وتُطلعه على المُقدّرات في السنة القادمة. وقد جمع الكُلَيْنِيّ هذه الأكاذيب في الباب 99 من الجزء الأول من أصول الكافي. (راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 560 فما بعد).
وبالطبع لا ينحصر نفي علم الغيب عن غير الله في الحديث المذكور أعلاه بل هناك أحاديث أخرى تنص على ذلك. ومن جملتها حديث مروي عن حضرة عَلِيٍّ (ع) أنه قال: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ص فَقَالَ: أَخْبِرُونِي أَيُّ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنِّسَاءِ؟ فَعَيِينَا بِذَلِكَ كُلُّنَا حَتَّى تَفَرَّقْنَا، فَرَجَعْتُ إِلَى فَاطِمَةَ (ع) فَأَخْبَرْتُهَا بِالَّذِي قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ص وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا عَلِمَهُ وَلَا عَرَفَهُ؛ فَقَالَتْ: وَلَكِنِّي أَعْرِفُهُ خَيْرٌ لِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَلَا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ص فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! سَأَلْتَنَا أَيُّ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنِّسَاءِ؟ خَيْرٌ لَهُنَّ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَلَا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ. فَقَالَ: مَنْ أَخْبَرَكَ فَلَمْ تَعْلَمْهُ وَأَنْتَ عِنْدِي؟ فَقُلْتُ: فَاطِمَةُ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ص وَقَالَ: «إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي»"[561].
وهناك حديث آخر أيضاً: "عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ص صَبِيحَةَ عُرْسِي وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ وَتَنْدُبَانِ آبَائِي الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَتَقُولاَنِ فِيمَا تَقُولاَنِ: «وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ». فَقَالَ ص: «أَمَّا هَذَا فَلاَ تَقُولُوهُ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللهُ »"[562].
ونماذج هذه الأحاديث كثيرة آمل أن لا يغفل عنها المؤمنون.
***
للأسف في هذه الأيام الأخيرة من عمري وبهذا الجسم الواهن والضعيف ومع ضعف البصر ورجفان اليد والبدن العليل الذي أعاني منه، وفقدان الأمن والعيش بالتخفي والتواري عن أعين مأموري الحكومة الذين لا يزالون يتعقَّبونني بصورة مخفية وغير رسمية ليُنجزوا المهمة التي فشلوا في إنجازها سابقاً أي اغتيالي، مما يضطرني إلى تغيير مكان إقامتي بشكل متواصل وإلى قضاء عدة أيام في منزل أحد أصدقائي الخيِّرين أو عدد من أقربائي غير الخرافيين! لم أعد قادراً على إنجاز كثير من الأبحاث. هذا وقد قام عددٌ من المأمورين المسلحين التابعين للحكومة، قبل فترة قريبة، بمداهمة منزلي فلما لم يجدوني فيه وواجهوا المستأجر سألوه عني لكنه لم يكن يعلم مكاني، فرجعوا خائبين خاسرين! وقد أخبرني بعض أهل الخير عن هذه الأعمال الخفية (التي تتم دون مذكرة قانونية ودون استناد إلى حكم محكمة أو قاض ودون إعطاء المتهم إمكانية الدفاع عن نفسه أو إبلاغه عن التهمة التي هو متهم بها....) ومثل هذا الأمر يتم كثيراً في هذه الحكومة، مثل وفاة المرحوم أبو القاسم اللاهوتي وابنه في ظروف غامضة!! لقد كان المرحوم اللاهوتي شيخاً خرافياً ولكنه كان صادقاً غير مراء وكان من أنصار السيد الخميني المتحمِّسين والمخلصين له جداً، لكنه لما لم يُنفّذ رغبات أولئك الذين وصلوا إلى السلطة حديثاً وأسكرتهم قوة الجاه والسلطان حذو النعل بالنعل أزاحوه اجتماعياً وصفّوه من ساحة الحياة!! والعجيب كيف لم يُبدِ السيد الخميني ردَّ فعلٍ جدِّيٍ في مواجهة مثل هذه الحادثة ولم يُلاحق أو يعتقل الذين كانت لهم علاقة بحادثة توقيف ووفاة المرحوم اللاهوتي الغامضة!! نعوذ بالله من مُضلات الفتن.
لقد تذكرت ذلك الحديث الذي وصف الإمام الصادق ÷ فيه علماءَ السوء بقوله: "... وَإِنَّ شِرَارَكُمْ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوطَأَ عَقِبُهُ، إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَذَّابٍ أَوْ عَاجِزِ الرَّأْيِ"[563]، أي أن شراركم من يُحبّ أن يسير الناس وراءه ويكون قائداً وقدوةً للناس ويضطر لأجل ذلك أن يكون كاذباً وأن يكون عاجزاً عن إظهار رأيه ويضطر إلى موافقة ما يُعجب العامة.
كما قال الإمام الصادق ÷: "قَالَ رَسُولُ اللهِ ص إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَسِيرُ الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ بِالتَّقِيَّةِ. أَبِي يَغْتَرُّونَ؟ أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانَ!" [564].
في رأينا إن مسؤولي البلاد كاذبون في ادِّعائهم حُبّ عليٍّ (ع)[565]، وشيعة عليٍّ الحقيقيون (ع) وأتباعه ومُحبّوه الصادقون هم نحن قطعاً الذين نُبرّئ ساحة ذلك الإمام الهُمام من الأحاديث الكاذبة التي ينسبونها إلى حضرته ونسعى أن نتَّبعه.
إن أمير المؤمنين علي ÷ لم يفرض على الخوارج - طالما لم يلجؤوا إلى السيف ولم يُقدموا بعد على إيذاء الناس وقتلهم- أيّ حدود بل حتى لم يقطع رزقهم من بيت المال، ورغم أنهم كانوا يشتمونه ويُسيئون الأدب بحقه [بل كانوا يُكفِّرونه] لم يمنعهم من التعبير عن رأيهم، أما اليوم فمُدّعو حُبّ عليٍّ (ع) سجنوني عدَّة مرَّات وسعى بعضهم إلى قتلي، ولم يسمحوا لأيّ أحد مخالف لرأيهم أن يُعبّر عن رأيه، كما لم يسمحوا لي أن أقيم صلاة الجمعة في منزلي مع عدد من أصدقائي ومنعوا جلسات تفسير القرآن الأسبوعية التي كنت أعقدها في منزلي!!
إن هذه الطريقة في إدارة بلد إسلامي لن تُثمر سوى الآثار الوخيمة التي أثمرتها أعمال الكنيسة في القرون الوسطى، وعلينا فقط أن نتضرع إلى الله بأعين دامعة وأن نسأله من كل قلوبنا وبِنِيَّةٍ خالصةٍ أن لا تضع الأجيال اللاحقة هذه الأعمال على حساب الإسلام، وأن يُدركوا أن مثل هذه الأعمال لا علاقة لها بالإسلام والقرآن الكريم، كما أن أعمال آباء الكنيسة لم يكن لها علاقة بتعاليم حضرة عيسى (ع). إنني أدعو في هذه الأيام دائماً أن يحفظ الله الإسلام من خطر المشايخ الخرافيين. آمين يا رب العالمين.
[560] وسائل الشيعة، ج 7، ص 219. [561] وسائل الشيعة، ج 14، ص 43، الحديث رقم 7. [562] سنن ابن ماجه، ج1، س 611، الحديث 1897. [563] أصول الكافي، ج 2، ص 299. [564] الكُلَيْنِيّ، أصول الكافي، ج 2، باب «طلب الرئاسة»، الحديث 8، وباب «من وصف عدلاً وعمل بغيره»، الحديثان 1 و 2، وباب «اختتال الدنيا بالدين»، الحديث 1. [565] رُوِيَ عن أمير المؤمنين علي ÷ أنه قال: " ألا إن هذه الأمة لابُدَّ مفترقةٌ كما افترقت الأمم قبلهم، فنعوذ بالله من شرِّ ما هو كائن ثم عاد ثانية فقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، شرُّها فرقةٌ تنتحلني ولا تعمل بعملي، فقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم واهدوا بهدى نبيكم ص واتبعوا سنته واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردوه، وارضوا بالله عزَّ وجلَّ ربَّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد ص نبيَّاً وبالقرآن حَكَمَاً وإماماً" (تاريخ الطبري، ج4، ص 479.). وقال الإمام الصادق ÷ أيضاً: "لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا." (رجال الكِشِّيّ، ص 295. وانظروا أيضاً كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، حاشية ص 27).
في هذه الأيام التي أعمل فيها في كتابة هذه الصفحات وتنقيحها وتكميلها أراني مضيفي -جزاه الله كل خير- كتاباً باسم «علم پيامبر وامام در قرآن» [أي علم النبي والإمام في القرآن]، تأليف «أحمد المطهري» و«غلام رضا كاردان»، وقد طبعته ونشرته مؤسسة «در راهِ حق» [أي «في طريق الحق»] في قم. وتأسفت كثيراً لَمَّا رأيت أن هذا الكتاب طُبع منه في الطبعة الواحدة ثلاثون ألف نسخة، لكنهم لا يسمحون لي بطباعة نسخة واحدة من كتبي وكتب أمثالي!! «سَاءَ مَا يَعْمَلُون». ليتهم سمحوا لنا أن ننشر كلامنا ويتركوا للناس أنفسهم أن يحكموا في الأمر.
نعم، إن كتاب «علم النبي والإمام في القرآن» يتضمن إشكالات عديدة. والأحاديث التي ذُكرت في ذلك الكتاب مأخوذة كلُّها من الروايات الخرافية لكتاب «بصائر الدرجات» للصفار، و «الكافي» للكُلَيْنِيّ، وكتاب السيد هاشم البحراني و...... الذين لا تُميّز كتبهم بين الأحاديث المعتبرة وغير المعتبرة والذين لم يكن لهم معرفة كما يجب بالقرآن الكريم. من الضروري قراءة كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» كي نعلم مدى معرفة الكُلَيْنِيّ وأمثاله بالإسلام والقرآن! كما أن معظم أقوال ذلك الكتاب حول آيات القرآن محل إشكال أيضاً.
فعلى سبيل المثال عندما أخذتُ بتصفح كتاب «علم النبي والإمام في القرآن» رأيت أن مؤلفيه استشهدوا في الصفحتين 104 و 105 منه بسبع آيات من القرآن نذكرها فيما يلي: 61
1- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥﴾[الاحزاب : ٤٥].
2- ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٨﴾[الفتح: ٨].
3- ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا ١٥﴾[المزمل: ١٥].
4- ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ٤١﴾[النساء: ٤١].
5- ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾[البقرة: ١٤٣].
6- ﴿يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٩٤﴾[التوبة: ٩٤].
7- ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾[التوبة: ١٠٥].
62أولاً: قبل أن نتكلم على معنى الآيات المذكورة نُذكّر أن كلمة «الغيب» كثيراً ما تُفسَّر بمعنى غير معناها الحقيقي وهو أحد الأمور التي كنا دائماً نختلف فيها ونتناقش حولها مع الخرافيين، إذْ كثيراً ما يُفسِّرون معنى «الغيب» بأمور هي أصول الشريعة وفروعها وأخبارها والأخبار التي ذُكرت في القرآن والتي تُوحى إلى النبيّ وحده فقط لا غير، ومن جملة ذلك آية: ﴿قُلۡ إِنۡ أَدۡرِيٓ أَقَرِيبٞ مَّا تُوعَدُونَ أَمۡ يَجۡعَلُ لَهُۥ رَبِّيٓ أَمَدًا ٢٥ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا ٢٦ إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا ٢٧ لِّيَعۡلَمَ أَن قَدۡ أَبۡلَغُواْ رِسَٰلَٰتِ رَبِّهِمۡ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيۡهِمۡ وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا ٢٨﴾[الجن: ٢٥، ٢٨]وكذلك آية: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ بِضَنِينٖ ٢٤﴾[التكوير: ٢٤].
من البديهي أن الغيب الذي لا يجعله الله تحت تصرف أيّ شخص إلا النبيّ الذي لا يضن بإظهاره، والذي يجعل الله أمامه وخلفه حَفَظةً يُشرفون على تبليغه كي يصل إلى الناس كاملاً تاماً دون تغيير ولا زيادة ولا نقصان، ليس سوى ما نُعبّر عنه بـ «شريعة الإسلام»، وهو يُوحَى إلى النبيّ فقط الذي يقوم بإبلاغه لعامة الناس على حدّ سواء[566] (الأنبياء: 109). إن هذا المعنى للغيب خارج عن بحثنا تماماً ولا مخالف له [أي لا أحد من المسلمين يختلف في أن النبيّ يعلم هذا الغيب]، لكن بحثنا هو حول ما يقوله الكتاب المذكور من أن:
"إن الاطِّلاع والمعرفة التي يعجز عنها الآخرون [أي غير النبيّ والإمام] ولا يُمكن الحصول عليها بواسطة الوسائل الطبيعية والأسباب العادية، يُعتبر علماً بالغيب. وليس من الضروري أن يكون ما يتعلَّق به هذا العلم والمعرفة أموراً غيرَ محسوسةٍ أو أموراً خارجةً عن مجال الحواس الظاهرية، إذ إن الشخص قد يُشاهِد بواسطة طرقٍ غير عادية أموراً خارجةً عن قدرة عامة الناس واستطاعتهم"[567].
أي أن معنى الغيب الذي يقصدونه هو بالضبط معنى كلمة «الغيب» التي وردت في آيات كالآيات التالية:
1- ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّ﴾[الانعام: ٥٠].
2- ﴿قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ١٨٨﴾[الاعراف: ١٨٨].
3- ﴿وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣١﴾[هود: ٣١]. ونظائرها.
ثانياً: من الضروري أن يرجع القارئ إلى القرآن الكريم بشأن الآيتين اللتَين ذكرناهما تحت رقم 6 و 7 (أي الآيتان 94 و 105 من سورة التوبة) اللتَين يستغلّهما مؤلفو الكتاب المذكور كي يعلم أنه قبل الآية 94 من سورة التوبة بيَّن الله تعالى في الآية 91 فما بعد شأنَ الذين لم يكن واجباً عليهم الجهاد بالمال والنفس، وَمِنْ ثَمَّ لم يكن هناك لومٌ عليهم لعدم خروجهم إلى الجهاد، ثم قال في الآيتين 93 و94: ﴿إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسۡتَٔۡذِنُونَكَ وَهُمۡ أَغۡنِيَآءُۚ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٩٣ يَعۡتَذِرُونَ إِلَيۡكُمۡ إِذَا رَجَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡۚ قُل لَّا تَعۡتَذِرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ لَكُمۡ قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٩٤﴾[التوبة: ٩٣، ٩٤].
من الواضح أن الآيات المذكورة ومنها الآية 94 والآية 105 من سورة التوبة نزلت بشأن غزوة تبوك التي امتنع فيها المنافقون عن الخروج إلى الجهاد لأنهم لم يكونوا يتوقعون أن يعود جيش الإسلام سالماً من حربه مع الروم، لذا أخذوا يختلقون الأعذار ليُبرّروا عدم خروجهم! فقال تعالى في الآيات المذكورة لرسوله ص -وبالطبع أطلع رسول الله ص سائر المؤمنين على هذا الإخبار الإلهي-: يا أيها النبيّ! قل لهم أن لا يعتذروا بل المطلوب منهم العمل، أما مُجرّد الادّعاء اللساني فلن يُقبل منهم، قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ونحن نعلم أن ادِّعاءاتكم ادِّعاءات كاذبة، وقريباً جداً سوف يرى الله ورسوله عملكم في المعارك الآتية وأنكم هل ستُشاركون في الجهاد أم ستتخلفون عنه أيضاً؟ وسيتبيَّن هل تبتم من نفاقكم أم أنكم لا تزالون مستمرّين عليه؟
ثم في الآيات التالية يواصل تعالى الموضوع ذاته ويُخبرنا قائلاً: ﴿سَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ إِذَا ٱنقَلَبۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ إِنَّهُمۡ رِجۡسٞۖ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٩٥ يَحۡلِفُونَ لَكُمۡ لِتَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡۖ فَإِن تَرۡضَوۡاْ عَنۡهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَرۡضَىٰ عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ ٩٦ ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٩٧ وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٩٨ وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٩٩﴾[التوبة: ٩٥، ٩٩]، إلى قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ﴾ [التوبة: 101].
لاحظوا كيف يُصرّح القرآنُ أن النبيّ ص لا يعرف هؤلاء المنافقين من أهل المدينة الذين مردوا على النفاق أي تمرَّسوا فيه، في حين أنه لو كان النبيّ شاهداً لأعمالهم، حتى على نحو العلم غير الاستقلالي، لعرفهم بالطبع. (فتأمَّل جداً).
ثم يُعرّف القرآن لنا فريقاً آخر فيقول: ﴿وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٠٢﴾[التوبة: ١٠٢]. عندئذ يأمر تعالى النبيّ بأن يأخذ من أموالهم الصدقات فيقول: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣ أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَأۡخُذُ ٱلصَّدَقَٰتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٤﴾[التوبة: ١٠٣، ١٠٤].
ثم مرة أخرى يأمر رسوله في الآية 105 أن يقول: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾[التوبة: ١٠٥]أي أن الله ورسوله والمؤمنون سوف يرون عملكم ولا داعي إلى أن تدّعوا ما تدّعونه بلسانكم. إذن علينا أن ننتبه إلى أن الآية 105 مُبيِّنة للآية 94 السابقة ومُفسِّرة لها[568].
تقول الآية 105: «فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ»، أي أن الآية الكريمة تشجع المعذِّرين على العمل وتطمئنهم أنكم إذا عملتم فإن عملكم لن يتم تجاهله مِنْ قِبَلِ الله والنبي والمؤمنين. من الواضح تماماً أن الله لا يحتاج إلى أن يتحقق العمل بالواقع الخارجي حتى يراه ويعلمه! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
مَن الذي لا يعلم أن علم الله تعالى بالأشياء جميعها يستوي فيه علمه بها قبل وجودها وعلمه بها أثناء وجودها وبعد إيجادها؟ وأنَّ اللهَ عالمٌ أزلاً بكل شيء وبصير وخبير بكل شيء وشاهدٌ له.
يقول الشيخ الطوسي في تفسيره «التبيان» (ذيل تفسير الآيات 94 و105 من سورة التوبة): "وإنما قال «فَسَيَرَى اللهُ» على وجه الاستقبال، وهو عالم بالأشياء قبل وجودها؛ لأن المراد بذلك أنه سيعلمها موجودةً بعد أن علمها معدومةً. وكونه عالماً بأنها ستوجد مِنْ [أي مثل] كونه عالماً بوجودها إذا وجدت، لا يُجَدَّدُ حال له بذلك"[569].
وقال أيضاً: "والمراد بالرؤية ها هنا العلم الذي هو المعرفة، ولذلك عدَّاه إلى مفعول واحد، ولو كان بمعنى العلم الذي ليس بمعرفة لتعدّى إلى مفعولين، وليس لأحد أن يقول: إن أعمال العباد من الحركات يصحّ رؤيتها لمكان هذه الآية، لأنه لو كان المراد بها العلم لعدَّاه إلى الجملة وذلك أن العلم الذي يتعدَّى إلى مفعولين ما كان بمعنى الظن، وذلك لا يجوز على الله، وإنما يجوز عليه ما كان بمعنى المعرفة"[570]. انتهى.
أما غير الله تعالى فليس كذلك. إضافة إلى ذلك فإن الرؤية الإلهية وإبصار الله للأشياء لا يتم بالعين ولا يُحَدُّ بأي حد ولا يُقَيَّد بقيد، في حين أن الرؤية وحصول العلم البصري للبشر مُقَيَّد بقيود عديدة من جملتها أنه لا يتم إلا بالعين ولا يتيسر إلا عند وجود الشيء المرئي وتحقُّقه وحضوره في مسافة محدودة أمام العين، كما أنه عندما يَرِدُ حرف الاستقبال «س» على الفعل المضارع «يرى» فإنه يفيد هذا المعنى بشأن غير الله، وبعبارةٍ أخرى فإن الفعل له معنى خاص يتناسب مع كل فاعل من فاعليه. (فلا تتجاهل)
بناءً على ذلك فلا يعني عطف الرسول والمؤمنين - الذين هم بشر محدودون- على الله الذي ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞ﴾ [الشورى: 11] أن البشر يمكن أن يكونوا أيضاً بصيرين مثل بصر الله عز وجل!! فأين بصيرة الله من بصيرة غير الله ؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟
إن بصيرة النبي والمؤمنين الذين هم جميعاً بشر، بصيرةٌ محدودةٌ لا تتم إلا بالعين ولا تتيسر إلا عند ظهور الشيء أو العمل، فهم لا يستطيعون أن يروا أعمال جميع المؤمنين الخفية والظاهرة. إن هذه النقطة بديهية إلى درجة لا يمكن لأي عاقل معها أن يعتبر أن عطف النبي والمؤمنين على الله تعالى في موضوع الرؤية، يمكن أن يكون حجَّةً للقول بأن بصر البشر ورؤيتهم تشابه بصر الله وشهوده ورؤيته! بناءً على ذلك لا يمكننا أن ننقض عموم لفظ «المؤمنين» وأن نقول هناك ثلاثة عشر مؤمن فقط- ومعظمهم لم يكن قد ولد بَعد عند نزول الآية-، إضافةً إلى النبي، يتمتعون برؤية وشهود جميع الأعمال الظاهرة والخفية للناس !!
بدلاً من أن ننقض عموم لفظ «المؤمنين» ونخصِّصه بلا دليل بعدة أشخاص فقط، فنعتبرهم مراقبين لأعمال المؤمنين الظاهرة والخفيَّة شاهدين لها جميعها كشهود الله لها، فإن المعقول والمنطقي أكثر أن لا نتغافل عن الفَرْق بين بصر الله وشهوده وبصر غير الله وشهوده وهو تفاوت واضح لا يخفى على أحد. (فتأمَّل).
أضِف إلى ذلك أننا نعلم أن الله نهى عن التجسُّس والاطّلاع على ذنوب الغير، وقال: ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ١٧﴾[الاسراء: ١٧ و فرقان 58]. وأساساً، الكل يعلم أن رؤية كثير من أعمال الناس[571] مُحرَّمةٌ على رسول الله ص كما هي مُحرَّمةٌ على سائر المؤمنين بلا استثناء.
في إحدى رسائله يوصي حضرةُ عليٍّ (ع) أحدَ عُمَّالِهِ بتقوى اللهِ في السرّ والعَلَن، ولا يعتبر أحداً سوى الله شاهداً على أعمال العباد الخفية. نقرأ في الرسالة 62 في نهج البلاغة: ".... أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وخَفِيَّاتِ عَمَلِهِ حَيْثُ لا شَهِيدَ غَيْرُهُ". (فتأمَّل)
كما اعتبر عليٌّ (ع) أن الشاهد والحاكم في الأمور المستورة والخفية التي يقوم بها الناس، واحدٌ، ويقول: "اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللهِ فِي الْخَلَوَاتِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُ" (نهج البلاغة، الكلمات القصار، 324).
والمثير للانتباه أن مؤلِّفَي الكتاب المذكور كتبا في كتابهما ذاك أن كلمة «شَهِدَهُ» في كتب اللغة تعني حضر الأمر وشاهده، وكلمة «شهيد» تعني الحاضِر. وأنه يُقال للمكان الذي يحضر فيه الناس ويجتمعون فيه «مَشْهد». ويعلمون أن كلمة «شهود» استُخْدِمَت في نهج البلاغة في مقابل كلمة «غياب»، وأن أمير المؤمنين علي ÷ قال: "إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وإِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ" (نهج البلاغة، الخطبة 103). وقال: "مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلا أَرْوَاحٍ..... وشُهُوداً غُيَّبَاً" (نهج البلاغة، الخطبة 108). وقال: "هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ حَاضِرُهَا وبَادِيهَا....... عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وغَائِبُهُمْ" (نهج البلاغة، الرسالة 74). ولكنهما لم يستخدما عقليهما ليدركا أنه لا يمكن لغير الله - بما في ذلك الإنسان - أن يشهد -أي يكون حاضراً شاهداً ومراقباً - عملين أو مكانين في آن واحد، سواء كان ذلك أثناء حياته في هذه الدنيا الفانية، أم بعد انتقاله عنها إلى عالم البقاء، أي سواء كان حيا بالحياة الدنيوية أم ميتاً بالنسبة إلى الدنيا، هذا فضلاً عن أن يشهد -أي يحضر- في أماكن عديدة لا حصر لها في آن واحد؟!!
إن الله تعالى وحده فقط الذي يتَّصِف بصفة "لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ "، كما بيَّن أمير المؤمنين عليٌّ ÷ اختصاص هذه الصفة بالله تعالى وحده عندما قال: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ ولا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ لأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً والْمُسْتَصْحَبُ لا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً." (نهج البلاغة، الخطبة 46).
على ضوء ما بينَّاه أعلاه، يمكننا أن ندرك أن جميع الآيات التي ذُكِرَت فيها شهادة غير الله ومراقبته هي على النحو الذي بيَّنَّاه، ومن ذلك آية: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾[البقرة: ١٤٣] فليس هذا الشهود أو الشهادة على المعنى الذي يدَّعيه الغلاة والخرافيون وتجَّار الخرافات الذين يقولون إن معنى الآية أنكم أيها المؤمنون شاهدون وناظرون لجميع طاعات الناس ومعاصيهم، حتى لو فعلوها في الخفاء، وستشهدون عليهم، والرسول كذلك سيشهد عليكم!. في حين أن الاطلاع على أعمال الناس والتجسُّس عليهم حرامٌ! بل المقصود أنكم أيها المؤمنون أُمَّةٌ معتدلةٌ خيِّرةٌ، وطالما كنتم أحياء وكنتم تنتفعون من تعاليم النبي فعليكم أن تبلِّغوا سائر البشر تعاليمه، وأن تكونوا مراقبين وناصحين لأفراد مجتمعكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ويوم القيامة ستشهدون على من قمتم بإبلاغهم تعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه. والنبي كذلك أيضاً، فطالما كان حياً ومُكَلَّفاً، وكان يعيش في هذا العالم الفاني، فعليه أن يبلِّغ شريعة الإسلام للناس وأن يهتم بصلاح أفراد مجتمعه، وأن يشهد عليهم يوم القيامة بأنني قد أبلغتكم ما أمرني ربِّي بإبلاغكم إياه. وليس معنى شهادته على الناس أنه يطَّلع -أثناء حياته أو بعد رحيله وانتقاله إلى دار البقاء- على أعمال الناس المستورة والخفية، ويغتمّ لما يراه من المعاصي والآثام، فتتحوّل دار السلام التي هو فيها إلى دار هَمٍّ وحُزْنٍ!! إن الله ستَّارٌ للعيوب لا كشَّافٌ للعيوب، والله وحده فقط المطَّلع على أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والخفية والعليم بها والخبير بها والشهيد عليها، ولا شريك له في هذه الصفة كما أسلفنا. (فلا تتجاهل). وبعبارة أخرى تقول آية سورة التوبة للمتخلفين المُعَذِّرين: إن كنتم صادقين في اعتذاركم فعليكم العمل بدلاً من الادِّعاء، وسيشاهد اللهُ ورسولُه والمؤمنون أعمالَكم التي ستظهر منكم ثم سَتُرجَعون إلى الله الذي يعلم الجهر وما نُعْلِن ويعلم الغيب وما نُخفي، وسوف يُنَبِّئُكم الله، الشاهد والشهيد على كل شيء، بما كنتم تعملونه في الظاهر والباطن، ويحكم بينكم. ولا تريد الآية أن تقول إن النبي أو بعض المؤمنين يكتسبون صفة الله الشاهد للظاهر والباطن!! (فتأمَّل)
أضف إلى ذلك أن موضوع الشهادة تكرر في الآية [أي آية لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] مرتين وكلاهما يفيد المعنى ذاته، لأن المعطوف والمعطوف عليه كلاهما بشر، ورغم أن روح البشر لا تفنى إلا أن أحياءهم وأمواتهم لا يستوون [فاطر: 22]. وَمِنْ ثَمَّ فكيفما كانت شهادة المؤمنين فإن شهادة الرسول ستكون مثلها أيضاً، ولا يمكننا أن نفسر كلمة واحدة في آية واحدة بمعنيين مختلفين دون دليل ومستند.
علاوة على ذلك، لو كان الأنبياء - سواء أثناء حياتهم أم بعد وفاتهم - شاهدين لأعمال الناس جميعهم لَمَا قال حضرة نوح (ع) زمن حياته: ﴿وَمَا عِلۡمِي بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ؟﴾ [الشعراء: 112]، وَلَمَا قال حضرة عيسى (ع) يوم القيامة: ﴿وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧﴾[المائدة: ١١٧](فتأمَّل جداً). بل الأنبياء ومن جملتهم حضرة عيسى (ع) يشهدون أنهم أبلغوا الناس التوحيد ودين الله كما جاءهم من عند الله، لا أنهم كانوا شاهدين لأعمال الناس فرداً فرداً.
كما قال الله لرسوله: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلۡغَرۡبِيِّ إِذۡ قَضَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلۡأَمۡرَ وَمَا كُنتَ مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ[572]٤٤﴾[القصص: ٤٤]فهذا يدلُّ على أنَّ شهادة النبيِّ (أي شهوده) غير شهادة الله. كما نعلم أيضاً أن النصارى، بعد رحيل المسيح وأمه مريم - عليهما السلام -، اتخذوهما إلهين (المائدة: 116) ولكن المسيح وأمه يوم القيامة سيعلنان عدم علمهما بعمل المنحرفين ذاك، وهذا بحد ذاته دليل على أن أعمال العباد لا تُعْرَض على الأنبياء.
63ثانياً: لقد تجاهل مؤلِّفَي الكتاب أن كلمة «الأُمَّة» في القرآن لا تعني دائماً جميع أتباع ملَّةٍ ما، كأن تكون أمَّة اليهود شاملة لجميع أتباع حضرة كليم الله (ع) أو أمَّة النصارى شاملة لجميع أتباع حضرة المسيح (ع)، وهكذا... بل لا بد أن نعلم أن كلمة «الأُمَّة» تُطلق أحياناً على جماعة معينة من الأمَّة أو على بعض أفرادها. فمثلاً كلمة أمَّة في آية: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ﴾[القصص: ٢٣]أو في آية: ﴿وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ﴾[الاعراف: ١٦٤] جاءت بمعنى «جماعة من الناس» لا بمعنى جميع أتباع دين ما.
والأمر ذاته ينطبق أيضاً على مخاطبة المُخاطَب الجَمْع في القرآن. فينبغي أن نعلم أن خطاب الجمع الحاضر لا يتوجَّه دائماً إلى جميع الأمة أو جميع المسلمين بالضرورة. فمثلاً المخاطب الجمع في آيات مثل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ...﴾[البقرة: ١٧٨]أو قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾[البقرة: ١٨٣]وكثير من الموارد المشابهة مُوجَّهٌ إلى المسلمين جميعهم - الماضين والمعاصرين والآتين في المستقبل - أي هو خطاب لأمَّة الإسلام جمعاء، ولكن هناك حالات لا يكون فيها لخطاب الجمع مثل هذا العموم الشامل، كما في الآيات 121 حتى 127 من سورة آل عمران مثلاً أو آية ﴿إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ﴾[ال عمران: ١٤٠]فضمير «كُمْ» في الآية يعود على مجاهدي معركة «أُحُد» لا على جميع المسلمين، والمُراد من «القوم» أيضاً مشركو مكَّة لا غير. وكذلك الآيات من 11 إلى 17 من سورة النور لا تعود مخاطبة الجمع فيها على المسلمين جميعاً[573] بل على فريق منهم وهم الذين خاضوا في الإفك بحق عائشة، وهكذا....
وكذلك لا تعني كلمة «الناس» دائماً عامة البشر، بل تدلُّ أحياناً على عدد محدود منهم، فمثلاً من البديهي أن كلمة «الناس» في قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِيمَٰنٗا﴾[ال عمران: ١٧٣]لا يُراد منها جميع البشر في كل الأزمنة والأمكنة! بل المقصود من «الناس» الأولى عدد من المخبرين الذين جاؤوا إلى مجاهدي الإسلام وكلموهم، ومن «الناس» الثانية بقية جيش المشركين الذين عزموا على العودة إلى مهاجمة مُجاهدي معركة أحد من جديد. وكذلك في آية: ﴿لَّعَلِّيٓ أَرۡجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٤٦﴾[يوسف: ٤٥]المقصود من «الناس» هنا المَلِك وسائر مسؤولي البلاط الملكي وحاشية «عزيز مصر» في زمن يوسف لا عامَّة الناس!! أو آية: ﴿سَحَرُوٓاْ أَعۡيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسۡتَرۡهَبُوهُمۡ﴾[الاعراف: ١١٦] من الواضح أن المقصود من «الناس» فيها جماعة الناس الذين كانوا حاضرين لمشاهدة منافسة السحرة لحضرة موسى (ع) لا جميع أهل مصر، وهكذا....
على ضوء ما تقدَّم يَتَبَـيَّنُ أن ما ادعاه مؤلفا الكتاب حول الآية 15 من سورة المُزَّمِّل [أي قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا] وبعض الآيات الأخرى، بأن المقصود بالخطاب جميع الأمة في جميع الأزمنة وأن هذه الآيات نظائرها تثبت بوضوح شهادة النبي ص على أعمال أمته[574] لا يعدو المغالطة وخداع العوام.
وكذلك الأمر بشأن مسألة «الجَعْل»؛ إذْ من الضروري أن نعلم أن الجَعْل الإلـهي في القرآن لا ينحصر بنوعين من الجعل فقط، إما الجعل التكويني المباشر أو الجعل الاعتباري والتشريعي، بل ثمَّة موارد يكون الجَعْل فيها من سِنْخِ جَعْل النتيجة والقابليَّة، أي أن ترتُّب النتيجة على الجَعْل الإلـهي يُعَدُّ «جعلاً» أيضاً. وهذا «الجَعْل» الأخير نوعٌ من الجَعْل المشروط أو الجَعْل التكويني غير المباشر. فمثلاً يقول تعالى في القرآن: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ﴾[القصص: ٤١]، ومن البديهي أن الله الرحمن الرحيم الحكيم لم يخلقهم مباشرةً أئمَّةً لأهل النار، بل هم الذين أصبحوا - بناء على سنن الله في خلقه - أئمّةً لأهل النّار بسبب ظلمهم واستكبارهم ومحاربتهم للحقّ وسوء استغلالهم للقوّة والقدرة التي أعطاهم الله إياها[575]، لأن من سنن الله في خلقه أنه إذا ظلم أكابر قوم وحاربوا الحق، فإن هناك - شئنا أم أبينا - جماعةٌ من الناس ستجتمع حولهم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجۡرِمِيهَا لِيَمۡكُرُواْ فِيهَاۖ وَمَا يَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ١٢٣﴾[الانعام: ١٢٣]، وقال: ﴿وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦ وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا ١٧﴾[الاسراء: ١٦، ١٧]. من المعلوم إذن أن من السنن الإلـهية في المجتمعات البشرية أنه إذا عصى سادة المجتمع وأصحاب القدرة فيه اللهَ، فإن الذين تحت أيديهم سيتبعونهم في ذلك قهراً، فيستحق الجميع نزول العذاب الإلـهي بهم، رغم أن المسؤولية الأصلية تقع على عاتق السادة وأصحاب القدرة الذين يصبحون دعاةً إلى النار، لا أن الله تعالى جعلهم مباشرةً أئمَّةً للنار. (فتأمَّل ولا تتجاهل). كما نجد القرآن يقول: ﴿ إِنَّا جَعَلۡنَا ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٢٧﴾[الاعراف: ٢٧]أي أنه طبقاً للسنة الإلـهية، فإن من يكتمون الحق و يتبعون آباءهم وأجدادهم بتعصب وعناد ودون تفكير أو تأمُّل، ينشأ بينهم وبين الشياطين المعادين للحق نوع من الاتحاد في الجهة والهدف والولاية.
وإذا قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗ﴾[المائدة: ١٣]فمن البديهي أن الربّ الرؤوف الرحيم الحليم لم يخلق قلوبهم قاسيةً من البداية وبشكل مباشر، بل طبقاً للسنن الإلـهية، قست قلوبهم نتيجة نقضهم ميثاقهم، وهكذا.... وأمثال هذه النماذج في القرآن ليست بالقليلة. (فلا تتجاهل).
ولكن للأسف فإن كاتِبَي الكتاب المذكور قالا ما يفيد (ص 118) أن «الجَعْل» ينحصر في أمرين: إما أن يكون جعلاً تشريعياً أو يكون جعلاً تكوينياً مباشراً غير مشروط. فإذا لم يكن «الجَعْل» تشريعياً فهو بالضرورة جعلٌ تكويني مباشر لا غير!! في حين أن «الجَعْل» في الآية 143 من سورة البقرة [أي قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾[البقرة: ١٤٣] هو - على ضوء ما ذكرناه أعلاه ونماذج عديدة أخرى في القرآن - من باب الجعل الذي يحصل طبقاً للسنة الإلـهية أي الجعل الذي يتم من خلال ترتُّب النتيجة على الفعل، لا جعلٌ تكوينيٌّ مباشرٌ غير مشروط. بناء على ذلك، وبملاحظة أن الآية 143 من سورة البقرة تكلَّمَتْ عن موضوع تغيير القبلة، فإن كل عاقل يدرك أن خطاب الآية مُوجَّهٌ إلى معاصري النبي الذين أذعنوا لتغيير القبلة، وهي تقول في الواقع للمسلمين المقصودين: إنكم بإطاعتكم للنبي الأكرم ص وإيمانكم به واتِّباعكم له، و عدم إعطائكم أي أهمية لتحجُّج اليهود حول القبلة، والتزامكم بشريعة الرسول الخاتم، خلافاً لأهل الكتاب الذين اختلفوا بين أنفسهم حول القبلة، وأظهروا أنهم غير مستعدين لتغيير قبلتهم وقبول قبلة المسلمين بأي ثمن حتى ولو أُتُوا بكل آية، رغم علمهم في قرارة أنفسهم بأن قبلة الإسلام حقَّة وصحيحة (البقرة: 144)، إنكم أيها المؤمنون، نتيجةً لذلك، أصبحتم أمَّةً صالحةً عادلةً أو معتدلةً ومتوازنةً، والنبي الذي ربَّاكم وزكَّى نفوسكم وعلَّمكم هذا الكتاب السماوي والحكمة وما لم تكونوا تعلمون (البقرة: 151) سيكون شاهداً لكم يوم القيامة، بأنكم تعلَّمتم منه التربية وأخذتم عنه معارفكم عن الشريعة الإلـهية وأنتم أيضاً ستكونون شهداء على من أخذ عنكم دين النبيّ ص. ولا ننسَ أن القرآن الكريم وصل إلينا عن طريق أصحاب النبي ص.
وكذلك الآية 78 من سورة الحج[576] المدنية تخاطب أصحاب النبي ص المُلْتَفّين حوله الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من ذرية إبراهيم (ع) وتقول لهم: إن الله سماكم - في زمن جدكم الأعلى إبراهيم (البقرة: 128 و 131 حتى 133، وآل عمران: 67) وفي هذا الكتاب (= القرآن)-: «مُسْلِمِينَ»، وهذا الدين الذي أنتم عليه الآن موافقٌ لدين جدِّكم إبراهيم فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ واعبدوا الله وجاهدوا في سبيله واعمَلوا الأعمال الصالحة وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ يوم القيامة وتكونوا أنتم أيضاً شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ الذين أخذوا عنكم دين النبيّ. بناء على ذلك فإن صيرورة أصحاب النبيّ الأمة الوسط (الصالحة الخَـيِّرَة أو المعتدلة المتوازنة) هو نتيجة لاتِّباعهم الرسول ص، لا أن الله تعالى جَعَلَهُمْ هكذا جعلاً تكوينياً مباشراً غير مشروط، كما أن صيرورتهم خير أمة أخرجت للناس هو نتيجة لإيمانهم بالنبي الخاتم وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران: 110) خاصَّةً أن القرآن الكريم قال: ﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾ [القصص: 75] وهو نبيُّها الذي يشهد على أمَّته بالحقّ، وقال: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ [أي على معاصري النبيّ] شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]، بناء على ذلك فإن ما يلفِّقه الخرافيون متأثِّرٌ برواية موضوعة ساقطة من الاعتبار، لا تستند إلى دليلٍ شرعيٍّ قويمٍ.
الآن، على ضوء ما تم بيانه، إذا أردنا أن نعرف معنى الآيات السبعة التي يستغلها الخرافيون ويسيئون تفسيرها، وأن لا نُخْدَع بتلفيقاتهم، فعلينا أن ننتبه إلى المسائل التالية:
أولاً: قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ ٢٢﴾[الحشر: ٢٢]، وقال أيضاً: ﴿أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ٥٣﴾[فصلت: ٥٣]، وقال: ﴿عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٩٢﴾[المؤمنون : ٩٢]، بناء على ذلك لا يجوز أن نعتبر غير الله شاهداً على أعمال الناس الخفية استناداً إلى أحاديث موضوعة لا اعتبار لها!
ثانياً: علينا أن نعلم أن الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا مُطَّلعين على أعمال الناس الخفية أثناء حياتهم، كما قال تعالى لرسوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥﴾[البقرة: ٢٠٤، ٢٠٥]في حين أنه لو كانت الأعمال المفسدة لأمثال أولئك الأشخاص تُعْرَض على النبيّ ص لَمَا أعجبه قولهم لأنه كان سيعرف أنه مجرد قول بلا عمل. بناء على ذلك فإن شهادة الأنبياء منحصرة بفترة حياتهم الدنيوية وبمعاصريهم فقط، كما أنهم في فترة حياتهم الدنيوية غير مطلعين على أعمال الناس الخفيَّة (الشعراء: 122). أما بعد انتهاء حياتهم الدنيوية وانتقالهم إلى دار البقاء، فلا تعود لهم أي صلة بعالمنا أو ارتباط به (المائدة: 117). ويوم القيامة يقول بعض المعبودين من دون الله - ومن جملتهم الأنبياء السابقين - لعابديهم: ﴿فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ إِن كُنَّا عَنۡ عِبَادَتِكُمۡ لَغَٰفِلِينَ ٢٩﴾[يونس : ٢٩]. ويقول القرآن أيضاً للرسول ص: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ ٤٦﴾[يونس : ٤٦]، مما يُبَيِّن أن أعمال العباد لا تُعْرَضُ على الأنبياء، فهم ليسوا شهداء على أعمال جميع أتباعهم من المعاصرين لهم[577].
ثالثاً: علينا أن نعلم أن شهادة الأنبياء تكون حول أصول الدين وإبلاغ أحكام شريعتهم للناس، لا شهادتهم على جميع أعمال الناس. إن الله تعالى يقول: ﴿يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ ١٠٩﴾[المائدة: ١٠٩]ويقول أيضاً: ﴿فَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسَۡٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦﴾[الاعراف: ٦]. وعلى سبيل المثال بيَّن لنا أنه سيسأل يوم القيامة عيسى بن مريم (ع) فيقول: ﴿... ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ ١١٦ مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧﴾[المائدة: ١١٦، ١١٧]والحواريون وأتباع حضرة المسيح وأصحابه الذين أخذوا تعاليم دين الله منه مباشرةً ودون واسطة، وكان واجباً عليهم أن ينقلوا تلك التعاليم إلى سائر الناس، سيشهدون على صدق معجزات المسيح (ع) وتعاليم ذلك النبي الكريم للآخرين في الدنيا والآخرة، بأننا تلقينا تعاليم ذلك النبي منه وكنا شاهدين لمعجزاته، ومنها نزول المائدة السماوية. (آل عمران: 53، والمائدة: 113).
كما أن علماء اليهود العالمين بالتوراة والذين كان واجباً عليهم أن يبلِّغوها للآخرين كانوا يُعَدُّون من زمرة الشهود (المائدة: 44). والأمر نفسه ينطبق على القِسِّيسِينَ والرهبان المتواضعين لِـلَّهِ الذين لَا يَسْتَكْبِرُونَ والذين أسلموا فكانوا من الشاهدين (المائدة: 83).
بناء على ما سبق، نرى أن الشهداء ليسوا محصورين في عدة معدودة من الأفراد - كأن يكونوا مثلاً أربعة عشر نفراً فقط.
على ضوء كل ذُكِرَ أعلاه، نلاحظ أن في الآية 45 من سورة الأحزاب، والآية 8 من سورة الفتح تمَّ ذِكْر ثلاث صفات هي: «شاهد» و«بشير» و«نذير» ولكن لم يُذْكَر موضوع الشهادة والبشارة والإنذار [أي لم تُبيِّن الآيتان على أي شيء يشهد النبي وبماذا يبشِّر ويُنذِر]، لذا فلا بد أن ننظر في القرآن الكريم ذاته لنعلم موضوع الشهادة والبشارة والإنذار.
والنقطة الأخرى التي لا تجوز الغفلة عنها أن صفتي «بشير» أو «مُبَشِّر»، و«نذير» أو «مُنْذِر» تم التأكيد عليها بالنسبة إلى الأنبياء - ومن جملتهم الرسول الأكرم ص - أشدّ وأكثر من التأكيد على صفة «الشاهد»، بل جاءت صفتا «البشير والنذير» في بعض الموارد في القرآن، تستهدف -بلا ريب- جميع الناس إلى يوم القيامة، ومن جملة ذلك الآيات التالية:
1- ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾[البقرة: ١١٩]
2- ﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: 213]
3- ﴿إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأعراف: 188]
4- ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا مُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ١٠٥﴾[الاسراء: ١٠٥ و الفرقان 56]، كما قال تعالى عن عامَّة الأنبياء: ﴿وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾[الانعام: ٤٨].
5- ﴿إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ ٢﴾[هود: ٢]، و ﴿إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ ١٢﴾[هود: ١٢]
6- ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا۠ لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٞ ٤٩﴾[الحج : ٤٩]
7- ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا ٢٨﴾[سبا: ٢٨]
والمسألة الثانية التي ينبغي أن نعرفها هي: ما هو الذي يبشِّر به الأنبياء ومِمَّ يحذِّرون الناسَ منه ويُنْذِرونهم؟ هذا ما بيَّنه لنا القرآن كما في الآيات التالية:
1- ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا ٩٧﴾[مريم: ٩٧]أي لِتُبَشِّرَ بالقرآن المتقين وَتُنْذِرَ بِالقرآن المعاندين اللجوجين.
2- ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾[البقرة: ٢٥].
3- وقال تعالى مستخدماً أسلوب التَّهَكُّمِ وَالتَّوِبِيخِ بحق المنافقين والكفار: ﴿بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ١٣٨﴾[النساء : ١٣٨]و: ﴿... بَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣﴾[التوبة: ٣].
4- ﴿وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوۡمَ يَأۡتِيهِمُ ٱلۡعَذَابُ﴾[ابراهيم: ٤٤]. وقال بشأن أهالي شبه الجزيرة العربية: ﴿وَتُنذِرَ يَوۡمَ ٱلۡجَمۡعِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ ٧﴾[الشورى: ٧].
المسألة الثالثة: أن نعلم أن الأنبياء يشتركون في صفتي «البشير» و«النذير» مع كتابهم، أي أن «البشير» و«النذير» صفتان للنبي، وصفتان للكتاب الذي أتى به النبي من عند الله أيضاً.
قال تعالى عن كتابه المُنْزَل: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩ وَأَنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٠﴾[الاسراء: ٩، ١٠]. وقال أيضاً: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١ قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا ٢﴾ [الكهف: ١، ٢].
المسألة الرابعة: أن على أتباع الأنبياء الصادقين أن يتمثلوا هم أيضاً بصفتي «المُبَشِّر»، و«المُنْذِر» كما قال تعالى: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢﴾ [التوبة: ١٢٢].
من الذي لا يعلم أن الأنبياء بشروا الناس، بواسطة آيات الكتاب السماوي المُنْزَل وبواسطة أقوالهم وأفعالهم، بالجنَّة والسعادة الأخروية الأبدية بشرط أن يؤمنوا ويعملوا بأوامر الأنبياء ويجتنبوا نواهيهم، وأنهم أنذروا الناس الذين لم يؤمنوا: عذابَ الله الأخروي والجحيم والشقاء الأبديين.
وعلى المؤمنون بالأنبياء أيضاً مهمَّة إبلاغ كُتُب الله المُنْزَلة إلى سائر الناس، وأن يُبَشِّروهم ويُنذروهم، وهكذا كان الأمر دائماً وانتقل الدين من جيل إلى جيل بهذه الطريقة.
ولكن ينبغي أن ننتبه إلى أن صفة «الشاهد» أو «الشهيد» ليست كذلك. ولمعرفة المقصود من هذه الصفة التي وُصِفَ بها النبيُّ في الآية 45 من سورة الأحزاب والآية 8 من سورة الفتح، علينا أن ننتبه إلى الآية الكريمة التي يقول تعالى فيها: ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ [578]بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ٤١﴾[النساء : ٤١]إذْ من الواضح أن المُشار إليه باسم الإشارة «هَؤُلَاءِ» هم أصحاب النبيّ ومعاصروه، لأنه لو كان المراد «أُمَّة» النبيّ لوجب أن تتم الإشارة إليها باسم الإشارة «هذه». (فتأمَّل)
كما يجب أن ننتبه إلى الآية الكريمة التالية: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾[البقرة: ١٤٣][579]، وإلى الآية الكريمة التالية أيضاً: ﴿إِنَّآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ رَسُولٗا شَٰهِدًا عَلَيۡكُمۡ كَمَآ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ رَسُولٗا ١٥﴾[المزمل: ١٥]؛ إذْ من الواضح أن أعمال العباد لم تكُن تُعْرَض على حضرة موسى (ع) وإلا لَمَا لام موسى (ع) أخاه هارون (ع) ووبَّخه عندما رجع إلى قومه بعدما كان قد تعجَّل بالمجيء إلى ميقات ربه في الطور، متقدِّماً على الجماعة الذين كانوا معه، فأخبره تعالى بإضلال السامري لقومه، ولَعَلِمَ أن أخاه هارون كان قد نهى المنحرفين عن عبادة العجل (طه: 84 - 85، و 93 - 94). بناء على ذلك فإن النبيّ الأكرم ص - مثله في ذلك مثل حضرة عيسى (ع) وسائر الأنبياء - عليهم السلام - سيشهد يوم القيامة على معاصريه قائلاً: اللهم لقد أبلغتُ الناسَ من أهل زماني كتابَكَ وتعاليمَكَ كما سيشهد حضرة موسى (ع) أيضاً يوم القيامة قائلاً: اللهم لقد أبلغتُ فرعون وآله ورعيته كتابَكَ وتعاليمَكَ. وكذلك سيشهد أتباع النبي الصادقون على الناس الذين أبلغوهم رسالة الله وكتابه، كما قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ ٨٤﴾[النحل: ٨٤]، وقال: ﴿وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ﴾[النحل: ٨٩]؛ ومن الواضح تماماً أن المراد من كلمة «هَؤُلَاءِ» - كالمراد من «هَؤُلَاءِ» في الآية 41 من سورة البقرة - ليسوا سوى أصحابَ النبيِّ ومعاصريه[580]. (فلا تتجاهل).
وقد خاطب الله تعالى المشركين أيضاً فقال: ﴿وَنَزَعۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا فَقُلۡنَا هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ فَعَلِمُوٓاْ أَنَّ ٱلۡحَقَّ لِلَّهِ﴾[القصص: ٧٥]، وخاطب معاصري النبي ص الذين كانوا يَعُدُّون أنفسهم ذريَّةَ إبراهيم (ع): ﴿لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ ٧٨﴾[الحج : ٧٨].
لِنَنْتَـبِهْ إلى مقطع الآية الذي يقول:"فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ "، فعندما يأتي الكلام على أداء «الشهادة» فإن مثل هذه الأوامر أكثر تناسباً مع المؤمنين العاديين من مناسبتها للنبيّ ولأشخاص يُفْتَرَضُ أنهم منصوبون ومعينون مِنْ قِبَلِ الله، وتُعْرَضُ عليهم أعمال العباد!! [581]
وكما علَّم القرآن الكريم المسلمين أن يسألوا اللهَ أن يجعلَهم أئمَّةً لأهل التقوى ويقولوا: ﴿وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74] أمرهم أيضاً أن يسألوا اللهَ تعالى أن ينيلهم مقام «الشاهِدين» ويقولوا: ﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلۡتَ وَٱتَّبَعۡنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ ٥٣﴾ [ال عمران: ٥٣ والمائدة 83] ؛ بناء على ذلك لا يمكن أن نحصر الشاهدين بأربعة عشر نفراً فقط. (فتأمَّل)
يتَّضح مما بينَّاه أعلاه بطلان ما قاله مُؤَلِّفَي الكتاب حول آيات الشهادة السبع التي أوردناها في بداية هذا المبحث (راجعوا ص 319)، ولكن الإنصاف يقتضي أن نُقِرّ أن مسؤولية الانحرافات وترسيخ الخرافات بين الناس تقع على عاتق المتقدِّمين الذين جمعوا في كتبهم كل خبر خرافي تحت عنوان «الآثار الصحيحة عن الصادِقِين»!! ثم بالغ الكُتَّاب المتأخِّرون بتكريم أولئك المتقدِّمين وتجليلهم مبالغة شديدة، حتى وصل الأمر إلى سعي الكُتَّاب وخرِّيجي الحوزة العلمية اليوم إلى تحميل معاني الأحاديث الخرافية على آيات كتاب الله، من خلال أنواع التلفيق والمغالطات والتأويلات الباردة غير المتناسبة مع معاني الآيات!!
نعم، إن إشكالات كتاب «علم پيامبر وامام در قرآن» [علم النبي والإمام في القرآن]، تأليف «أحمد المطهري» و«غلام رضا كاردان»، كثيرة للغاية ويحتاج بيانها جميعاً إلى كتاب مستقل، وهو أمر غير ميسورٍ لي في مثل ظروف التشرُّد والتنقُّل من بيت إلى بيت هذه التي أعيشها هذه الأيام. وليت أخينا الفاضل جناب الأستاذ «مصطفى الحسيني الطباطبائي» -حفظه الله تعالى من شر أعدائه - يقوم بنقد شامل لهذا الكتاب المشحون بالخرافات من أوله إلى آخره، و يبرز الإشكالات العديدة التي يطفح بها لإخوتنا وأخواتنا في الإيمان. إن شاء الله تعالى.
هذا وقد ذُكِرَتْ في ذلك الكتاب (ص 201 إلى 212) أمورٌ بيَّنَّا بطلانها في تنقيحنا الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 538 إلى 540) والكتاب الحاضر (ص 141 إلى 149).
وأورد الكتاب المذكور (في ص 141) مغالطةً حول الآية 124 من سورة البقرة[582] نقلها عن «تفسير الميزان»، ولعله أراد بهذا الاقتباس من تفسير الميزان أن يُرهِبَ القُرَّاء نظراً إلى الشهرة والاحترام الكبيرين اللذَين يحظى بهما مؤلف «تفسير الميزان»، العلامة محمد حسين الطباطبائي، بين الناس. ولكن من الواضح أن القول غير الصحيح لا تثبت صحته لمجرَّد انتسابه إلى أحد العلماء الكبار! ولقد ذكرنا توضيحات كافية بشأن الآية الكريمة 124 من سورة البقرة، في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 384 إلى 389) فلا نفصل الكلام عليها هنا، ولكننا نُذَكِّر هنا بهذه النقطة الواضحة وهي أنَّ الصفة المضادَّة لصفة «الظالم» هي «العادل» لا «المعصوم»[583] (فلا تتجاهل).
وينبغي أن نعلم أن الذي يصدر عنه مرة واحدة أو مرات نادرة أمرٌ مخالفٌ للعدل لا يخرج عن صفة «العادل» [أي لا تُنتَقَضُ عدالته] وإلا للزم أن لا ينال كل من حضرة آدم (ع) (الأعراف: 19 إلى 23) وحضرة يونس (ع) (الأنبياء: 87 و88، والقلم: 49، والصافات: 142 و143) وحضرة موسى (ع) (القصص: 16) وحضرة داود (ع) (ص: 24- 25) وابنه حضرة سليمان (ع) (ص: 35) الذين احتاجوا على الأقل مرة واحدة إلى غفران الله وسألوه المغفرة؛ العهدَ الإلهي أو النبوة والإمامة.
وعلى القارئ بالطبع أن ينتبه جيداً ويعلم أنه رغم أن القرآن قال عن حضرة آدم (ع): ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ١٢١ [584]﴾[طه: ١٢١] وأن الأنبياء اعتبروا أن الخسران الأخروي هو النتيجة الحتمية لعصيان الله -هذا بالطبع إن لم يُعقبه الذي عصى بالتوبة وإصلاح العمل والاستغفار- (الأنعام ويونس: 15، وهود: 63)، ورغم أنهم اعتبروا أنفسهم «قد ظلموا» (الأعراف: 23، والأنبياء: 87) واستناداً إلى أن كلمة «الظالمين» جاءت في الآية 124 من سورة البقرة مطلقة غير مُقيّدة، رغم كل ذلك يُصرُّ الشيوخ بكل عناد ولجاجة -لأنهم يعلمون أن ملاحظة الأمور المذكورة أعلاه تُطيح بكل مغالطاتهم- يُصرُّون على أن المراد من الموارد المذكورة أعلاه ترك الأولى على أكثر حدّ!! هذا في حين أنه من الواضح تماماً أن أهل النار الذين يقولون: ﴿فَأَغۡوَيۡنَٰكُمۡ إِنَّا كُنَّا غَٰوِينَ ٣٢﴾[الصافات : ٣٢]ليس مقصودهم أننا كنا نترك الأولى! (فلا تتجاهل). بناءً على ذلك فإن ترك الأولى ليس ضلالاً بل هو عدم التوفيق لاختيار الأفضل ومثل هذا الأمر لا يستوجب طبعاً الخسران الأخروي ولا العذاب الإلهي بل أكثر ما يستوجبه عدم الرقي في الدرجة.
آمل أن يكون هذا المقدار الذي عرضناه كافياً ليقظة القُرَّاء وأن لا أكون قد قصَّرْتُ في أداء واجبي في بيان هذا الأمر. ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآ﴾[البقرة: ٢٨٦]. آمين يا رب العالمين.
***
[566] كما جاء في حديث أَبُي الطُّفَيْلِ: عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ: "كُنْتُ عِنْدَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ (ع) فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ ص يُسِرُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ فَغَضِبَ وَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ ص يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ". (التاج الجامع للأصول، ج 3، ص 109، نقلاً عن صحيح مسلم). [567] علم پيامبر و امام در قرآن، [أي علم النبي والإمام في القرآن]، ص 13. [568] حول الآيات 94 و 105 من سورة التوبة، راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، من الصفحات من 198 إلى 200. [569] الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج 5، ص 295. (الـمُتَرْجِمُ) [570] المصدر السابق نفسه. (الـمُتَرْجِمُ) [571] كالجماع والاغتسال ببدن عار والتخلي وكل عمل تظهر فيه عورة الإنسان مثلاً. (الـمُتَرْجِمُ) [572] تدل الآيات 44 إلى 46 من سورة القصص دلالة بيِّنة على كَذِب الأخبار الواردة في كتب الحديث والتي تقول إن حضرة محمد (ص) وحضرة علي بن أبي طالب (ص) كانا قبل الأنبياء ومع جميع الأنبياء، لأنه عندما لا يكون النبي محمد ص ذاته مع الأنبياء وفي زم الأنبياء السابقين ولا يكون له علم بهم ولا يطَّلع على أحوالهم إلى بعد أن تجاوز سنه الأربعين سنة وجاءه الوحي بأخبارهم من عند الله، فمن باب أولى أن لا يكون وصيه مع الأنبياء السابقين ولا يكون له علم بهم. [573] هذا بمعزل بالطبع عن أن في مثل هذه الآيات عِظة و عبرة لجميع المسلمين. [574] علم پيامبر و امام در قرآن، [أي علم النبي والإمام في القرآن]، ص 108 - 109. [575] انتبهوا إلى الآيات من 36 فما بعد من سورة القصص، وسائر الآيات التي تتحدث عن آل فرعون. [576] ونص الآية: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ ٧٨﴾[الحج: 78] (الـمُتَرْجِمُ) [577] راجعوا الحديث الذي ذكرناه في الصفحة 189 في الكتاب الحاضر. [578] من المفيد الانتباه إلى معنى كلمة «أمة» الذي أوضحناه قبل بضع صفحات (ص 327). [579] سبق أن أوضحنا قبل عدة صفحات المعنى المقصود من هذه الآية بالتفصيل، راجع ص420-421. [580] قال رسول الله ص: "سَيَأْتِيكُمْ قَوْمٌ مِنْ أقْطَار الأَرْضِ يَتفقَّهُونَ فَإذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً" (المصنَّف، ج1، ص 53، وبحار الأنوار، ج1، ص 170). وجاء في رواية أخرى أنه ص قال: "سَيَأْتِيكُمْ أَقَوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَباً بِوَصِيَّةِ رَسُولِ الله وَأَفْتُوهُمْ" وفي رواية أخرى: "فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَحَيُّوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ" (كلاهما في سنن ابن ماجه، ج1، ص 90 - 91). وخاطب النبي ص أصحابه قائلاً: "إنّ النَّاسَ لَكمْ تَبَعٌ، وإن رِجالاً يأتونَكمْ مِنْ أقْطار الأَرْضِ يَتفقَّهُونَ في الدِّينِ فإذا أتَوْكُمْ فاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً" (بحار الأنوار، ج2، ص 62، والتاج الجامع للأصول، ج1، ص 73). [581] يعني أن أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله يناسب المؤمنين العاديين، أكثر مما يناسب أشخاصاً معصومين منصوبين مِنْ قِبَلِ اللهِ. (الـمُتَرْجِمُ) [582] ونص الآية: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ ١٢٤﴾[البقرة: 124]. (الـمُتَرْجِمُ) [583] لا يخفى -كما قلنا ذلك مراراً - أن موضوع عصمة الأنبياء (ع) في تبليغ الشريعة الإلـهية وتعليمها للناس أمر يؤيده القرآن الكريم (الجن: 26 حتى 28، والأعلى: 6) وهو موضوع خارجٌ عن بحثنا تماماً. واختلافنا مع المتاجرين بالخرافات بشأن مسألة العصمة وعلم الغيب و...، خارج عن هذا الموضوع تماماً. على سبيل المثال عندما نرى أن القرآن ينسب إلى النبي النسيان (الكهف: 24 و61 و63 و73، وطه: 115) لا نسعى إلى تأويل ذلك بمعان أخرى باستخدام أنواع التلفيقات الباردة. كما أننا لا نقول بشأن آياتٍ مثل قوله تعالى ﴿وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ﴾[محمد: 19] أو الآيات المشابهة [النساء: 106، وغافر: 55، والفتح: 2] أن الأنبياء -معاذ الله- يمكنهم أن يرتكبوا القتل والزنا والغدر والسرقة والقمار و ...!! حاشا وكلَّا، حاشا وكلَّا، حاشا وكلَّا، ويشهد الله أننا ننكر من أعماق قلوبنا الأساطير التي ذكرها المفسِّرون من أمثال الزمخشري أو الطبرسي أو الميبدي..... متأثرين بالإسرائيليات، عن حضرة داود (ع) وزوجة «أوريا» ولا نعتبر ذنب ذلك النبي الكريم - عليه آلاف التحية والثناء - سوى استعجاله في القضاء قبل سماعه كلام الطرف الآخر. ولكننا في الوقت ذاته لا نفسر قوله تعالى «ذَنْبِكَ» بـ «ذَنْبِ أمَّتِكَ» بل نقول لو أن الله أراد هذا المعنى فعلاً لعبَّر عنه بصورة أوضح، وكذلك كلمة «ذنب» لا نتنزل بها عن معناها الظاهر إلى معنى «ترك الأولى»، وفي الوقت ذاته الذي نقول فيه -وكفى بالله شهيداً- أن ذنوب أنبياء الله ليست من الكبائر، كما نرى مثلاً في سيرة النبيّ الأكرمصأنه لم يبرز عنه أيّ ذنب ذي أهمية، نقول اتِّباعاً للقرآن الكريم، دون أن نحمل القرآن على رأينا: إن ذنب النبيّ الناجم عن كونه بشراً كان صغيرةً لا تحتاج لمحوها إلا إلى الاستغفار (لأننا نرى أن الله تعالى أمر بالاستغفار منها) في حين أن ترك الأولى لا يستلزم الاستغفار بل يستلزم طلب التوفيق من الله، ولذلك نجد أن الله تعالى لم يأمر حضرة داود (ع) الذي لم يُصدر الحكم القضائي الأفضل بالاستغفار ولم يقل له: ﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ ...﴾[التوبة: 43]، ولذلك نقول: إن ذنب النبيّ الأكرمصكان أيضاً استعجاله وقلة صبره إلى ما قبل فتح مكة. لقد كان رسول الله بشراً في نهاية الأمر وكان شديد الشوق وحريصاً على إيمان الناس إلى درجة أن الله تعالى قال له: ﴿فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦﴾[الكهف: 6]، وقال له أيضاً: ﴿وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدۡرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧﴾[الحجر: 97]. ولذلك دعاه مراراً وتكراراً إلى الصبر، وقال له مثلاً: ﴿فَٱصۡبِرۡ لِحُكۡمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ ٱلۡحُوتِ﴾[القلم: 48]، وقال له كذلك: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ ٥٥﴾[غافر: 55]، وقال له أيضاً: ﴿فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ٦٠﴾[الروم: 60]، وقال له كذلك: ﴿وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ١٢٧﴾[النحل: 127] وأمثال هذه الآيات. من البديهي أن الإنسان المبعوث ص كان يُبدي أحياناً قلة صبر واستعجال للنصر (البقرة: 214) ويشتكي (يوسف: 86) ولو قليلاً، ولذلك بعد «فتح مكة» ودخول الناس في دين الله أفواجاً، قال تعالى له استغفر على استعجالك وقلة صبرك. بناءً على ذلك يَتَبَـيَّنُ أن المُفسِّرين الذين قالوا: ما علاقة «الفتح» بالاستغفار؟ (سورة الفتح: 1 و 2) لم يتأمَّلوا جيداً في الآية ولم ينتبهوا إلى سورة «النصر» المباركة وإلا لو أنهم قارنوا سورة «النصر» بالآيتين 55 و77 من سورة غافر، والآية 3 من سورة الشعراء والآية 6 من سورة الكهف وسائر الآيات التي ذكرناها أعلاه لأمكنهم أن يُدركوا أنه بعد «النصر» الإلهي وحصول «الفتح» للمسلمين، أمر الله التواب بالاستغفار عن قلة الصبر. على كل حال، نحن نعتبر أن «ذنوب» الأنبياء هي بهذه الحدود فقط لا أكثر. أضف إلى ذلك أن العقل أيضاً يشهد أنه لو كانت إمكانية الذنب معدومة تماماً لدى إنسانٍ ما، أي أن الله خلقه معصوماً لا يمكنه أن يذنب، لَمَا كان له أيُّ فضل في عدم ارتكاب الذنوب ولَمَا استحقَّ الثواب، ولكان الذي حافظ على التقوى وهو غير معصوم أفضل منه، خاصةً أنه لو كان للأنبياء والأئمَّة تلك العصمة التي يدَّعيها الخرافيون لَمَا كان من المعقول أن يكونوا قدوةً وأُسوةً للناس العاديين، لأنه لا يُمكننا أن نقول للشخص الذي لم تُسْلَبْ منه القدرة على الذنب أو الخطأ، اتَّبع شخصاً قد سُلبت منه القدرة على الذنب والخطأ وتأسّى به في كل أفعاله، أو بعبارة أخرى لا يُمكننا أن نقول لمن له جسم وغريزة عليك أن تُقلِّد النور!! أضف إلى ذلك أنه لا بُدَّ من الإتيان بِدليلٍ من كتاب الله على عصمة الأنبياء خارج إطار تبليغ الدين وتعليم الشريعة، والحال أنه لا يوجد في القرآن هكذا دليل. للأسف! إن الشيوخ غالباً ما يسعون إلى الخلط بين موضوع «العصمة في تبليغ الدين وتعليم الشريعة» وموضوع «العصمة خارج تلك الأمور»!! [584] لقد ترجمنا الآية بالصورة المذكورة استناداً إلى ما جاء في الآيتين 19 و22 من سورة الأعراف. إذا تأملنا في الآية 19 عرفنا أنه لا يُمكن أن نقول إن حضرة آدم (ع) ترك الأولى أو ترك النصيحة لكن حوَّاء أذنبت!! أو مثل هذا الكلام الذي لا دليل صحيح عليه.
نعم، لنعد الآن إلى مواصلة بحثنا حول ما ذكره الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في فصل «أعمال شهر رمضان» و «عيد الفطر» في «مفاتيح الجنان».
أورد الشيخ عبَّاس صلاةً نقلاً عن «إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس الخرافي الذي ذكر روايتين عن «الحارث الأعور» (إقبال الأعمال، ص 272) يقول في الرواية الأولى: يصلّي ركعتين يقرأ في الأولى بعد الحمد: التّوحيد ألف مرَّة! ولكنه يقول في الرواية الثانية: "ووردت التّوحيد في رواية أخرى مائة مرّة عوض الألف مرّة"؟!! وبالمناسبة ليس في هذه الرواية الثانية ذلك الدعاء الذي جاء في الرواية الأولى بعد جملة: "أَتُوبُ إِلَى اللهِ"!! ثم أورد في العمل الرابع من أعمال ليلة عيد الفطر دعاءً راويه عدوُّ القرآن «أحمد بن محمد السياري»[585]. وفي العمل الثاني من أعمال يوم عيد الفطر أورد دعاءً أشرنا إليه خلال نقدنا لـ «دعاء الافتتاح» فلا نُكرِّر الكلام عليه هنا[586].
في الصفحة 178[587] روى الشيخ عباس روايةً ذات سند عليل ومجهول نقلاً عن كتاب «إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس الخرافي ادّعى فيها أن من قرأ دعاءً ذا ثلاثة أسطر "غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةٍ"!! وهذه الرواية كذب يقيناً، ولابُدَّ على أن يتوب المُذنب من ذنبه لِيُغْفَرَ له، أمَّا إن لم يندم على ذنبه ولم يعزم عزماً صادقاً على عدم تكراره فلن ينفعه دعاءٌ من ثلاثة أسطر.
ثم بيَّن الشيخ عبّاس في الفصل الرابع من الباب الثاني (أعمال يوم عيد الفطر) كيفية صلاة العيد، وهنا ينبغي أن نعلم أنه لا سند للدعاء الذي ذكره لقنوت صلاة العيد!! ولهذا، وبسبب فقدان هذا الدعاء للسند، لم يذكره الحر العاملي في «وسائل الشيعة». لقد رأى الشيخ عبَّاس هذا الدعاء في «بلد الأمين» و«المصباح» للكفعمي و«إقبال الأعمال» للسيد ابن طاووس وهم جميعاً نقلوا الدعاء المذكور عن كتاب «مِصْبَاحُ المُتَهَجِّد» للشيخ الطوسي. لكن الشيخ الطوسي لم يذكر لهذا الدعاء أيّ سند، ولهذا السبب صرّح المَجْلِسِيّ بشأن هذا الدعاء قائلاً: "أَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْمِصْبَاحِ فَلَمْ أَرَهُ فِي رِوَايَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِوَايَةٍ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَهُ اخْتَارَهُ فِيهِ إِذْ لَا سَبِيلَ لِلِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِهِ" (بحار الأنوار، ج 87 ، ص381).
من الواضح أن قول الشيخ الطوسي ليس حُجَّةً لنا ما لم يأتنا بسند لروايته، ولكن الطريف أن الشيخ عبَّاس ترك الروايات المسندة في هذا الأمر وذهب وراء رواية فاقدة للسند في حين أنه توجد في «وسائل الشيعة»[588] رواية تقترب ألفاظها من رواية «المفاتيح» لكن الشيخ عبَّاس رجَّح الدعاء فاقد السند عليها!!
لقد قرأت في شبابي أحاديث عديدة حول أسماء الله الحسنى، وقد نظمت تلك الأسماء في قصيدة شعرية، وبما أن الشيخ عبَّاس أورد في قسم أعمال ليلة عيد الفطر من المفاتيح دعاءً يتضمن الأسماء الحسنى رأيت من المناسب أن أُدرج هنا تلك القصيدة التي نظمته في شبابي لتبقى ذكرى. والأسماء والصفات التي أوردتها في تلك القصيدة هي التالية:
1- الله 2- الإله 3- الرحمان 4- الواحد
5- الأحد 6- الصمد 7- المَلِك 8- القُدُّوس
9- السميع 10- الحنّان 11- المؤمن 12- المهمين
13- المتكبر 14- العزيز 15- الجبّار 16- الكبير
17- السبحان 18- البديع 19- البارئ 20- الحليم
21- القادر 22- العليّ 23- الأعلى 24- الباقي
25- القاهر 26- الباطن 27- الظاهر 28- الأوّل
29- الآخِر 30- الحيّ 31- الحقّ 32- الربّ
33- الغياث 34- الفاطر 35- الكفيل 36- الوِتر
37- النور 38- البَرّ 39- الوارث 40- الديّان
41- الكريم 42- الحافظ 43- الرحيم 44- الشافي
45- الحكيم 46- الذارئ 47- الرقيب 48- الكافي
49- الرائي 50- الرؤوف 51- الوافي 52- العليم
53- السيّد 54- البصير 56- المنّان 57- السلام
58- الفتّاح 59- الشهيد 60- الصادق 61- الغفور
62- العادل 63- العَفُوّ 64- الرازق 65- الحسيب
66- الطاهر 67- الصبور 68- الفالق 69- المُقيت
70- الفرد 71- القاضي 72- الخالق 73- القديم
74- المولى 75- الحميد 76- البرهان 77- القريب
78- القيّوم 79- الوَفيّ 80- القابض 81- الباسط
82- الخفيّ 83- المحيط 84- المُحيي 85- الكامل
86- الغنيّ 87- المصوِّر 88- الكاشف 89- الناصر
90- القويّ 91- الحفيّ 92- الواسع 93- مُنزّل الفرقان
94- الودود 95- الهادي 96- الوكيل 97- الرافع
89- الجليل 99- الباعث 100- الجواد 101- النافع
102- الخبير 103- التوّاب 104- الشكور 105- المانع
106- العظيم 107- الوهّاب 108- اللطيف 109- الصانع
110- المجيد 111- الجامع.
(ملاحظة: لم أجد داعياً لترجمة القصيدة لأن ترجمتها ستُخلُّ بنظمها وقافيتها وتُفقدها جمالها، أما معناها فهو لا يعدو ذكر الأسماء الحسنى التي أشار المؤلِّف إليها).
***
[585] وسائل الشيعة، ج 2، ص 954. وقد عرَّفنا بأحمد السياري في الصفحة 149 -150 من كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول». [586] راجعوا ص 303 -314من الكتاب الحاضر. [587] أو الصفحة 252 من النسخة المُعَرَّبة من المفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [588] وسائل الشيعة، ج 5، أبواب صلاة العيد، الباب 26، الحديث الثاني.
يتعلَّق هذان الفصلان بشهري ذي القعدة وذي الحجة.
ذكر الشيخ عبَّاس في أعمال اليوم الثالث والعشرين من ذي القعدة نقلاً عن السيد ابن طاووس قوله في «الإقبال»: "ورأيت في بعض تصانيف أصحابنا العجم رضوان الله عليهم أنه يُستحبُّ أن يُزَارَ مولانا الرضا عليه السلام يوم الثالث والعشرين من ذي القعدة من قُرب أو بُعد ببعض زياراته المعروفة"!
لاحظ أيها القارئ الكريم كيف أن ابن طاووس الخرافي لم يُبيّن لنا الكتاب الذي استقى منه ذلك الكلام ولا مؤلفه، وجعل كتاباً مجهولاً مستنداً لاستحباب زيارة حضرة الرضا (ع).
ثم كتب في أعمال يوم 25 من ذي القعدة أن لعبادة ليلته ثواب عبادة سبعين سنة وكفارة ذنوب مئة عام (أي ذنوب عمر كامل)[589]! إذن يُمكن للإنسان أن يرتكب الذنوب سبعين سنة ثم يصوم ذلك اليوم فلا يبقى عليه حساب ولا عذاب ويرتاح باله!!
ثم قال: هناك عملان مُستحبّان في هذا اليوم: "الأول: صلاة مروية في كتب الشيعة القُمِّيّين". لكنه لم يُبيّن لنا أيُّ قُمِّيٍّ ذكر تلك الصلاة ولا الكتاب الذي جاءت فيه ولا السَّنَة التي أُلِّف فيها ولا الراوي التي نُقلت عنه و......؟!! ولابُدَّ أن نُذكِّر هنا بأن الشيخ عبَّاس تعهد في بداية كتابه «المفاتيح» (ص 12) أن لا يذكر إلا الأدعية والأعمال المُعتبرة والمُسندة! فليت شعري! هل هذا الذي أورده هو معنى الأدعية والأعمال الموثوقة والمسندة؟!!
ثم أورد عن راوٍ غير موثوق يُدعى «الحسن الوشاء»[590]، حديثاً حول دحو الأرض (أي بسطها تحت الكعبة فوق الماء!!)![591] لاحظوا كيف لوَّثوا الإسلام بمثل هذه الخرافات المضحكة! وليت شعري! هل كان هناك قبل وجود الأرض معنى لتواريخ 25 أو 29 ذي القعدة أو 25 يناير أو......؟!! من هذا يتبيّن أن مُلفِّق هذا الدعاء لم يكن يعلم أن الأرض كانت موجودة ثم أهبط الله آدم وزوجته إلى الأرض ثم بُنيت الكعبة بعد هبوطهما؟!!
وكذلك أورد دعاءً لا سند له يُعرف بدعاء «دحو الأرض» رووه كلهم نقلاً عن كتاب الشيخ الطوسي وليس من المُستبعد أن يكون الدعاء من اختراعه! وكثيرٌ من جمل هذا الدعاء معيبة، فمثلاً يقول: "«اللهم داحي الكعبة» بدلاً من قوله: «يا داحي الأرض». أو يقول عن رسول الله ص: «المنتجب في الميثاق القريب يوم التلاق» مع أن «يوم التلاق» هو يوم القيامة ولا مفهوم مفيد له هنا لأن النبيّ ص اصطفاه الله وبعثه قبل يوم القيامة! وقال عن الأئِمَّة: «وولاة الجنة والنار»!! أفلا يعلم أنه إذا كان الأنبياء سيُسألون يوم القيامة فلا يُمكن بالطبع أن يكون الأئِمَّة ولاة الجنة والنار؟ وأنه ليس لِـلَّهِ ولاة لثوابه وعقابه؟ أو اعتبر الأئِمَّة خَزنة سرِّ الله وقد بيَّنا مراراً بطلان هذا القول.
وأورد في الصفحة 254[592] عن حضرة الجواد (ع) أنه أخبر من حوله عن موعد وفاته مسبقاً، وهذا كلام لا يتفق مع القرآن الذي قال: ﴿وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ ٣٤﴾[لقمان: ٣٤]ولا مع قول عليٍّ (ع) في نهج البلاغة (الخطبة 128). فهل يريد صاحب «المفاتيح» أن يقول إن الإمام الجواد -نعوذ بالله- لم يكن يعتقد بالقرآن ولا بقول جدّه؟!! هل كان الشيخ عبَّاس محباً لحضرة الجواد (ع)؟!
في بداية الفصل السادس -المُخصَّص لأعمال شهر ذي الحجة- يقول: إن صيام الأيام التسعة الأُوَل من شهر ذي الحجة يعدل صيام العمر كله. وهذا هو مضمون الحديث الثاني من أحاديث باب "اسْتِحْبَابِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّة" في «وسائل الشيعة» (ج 7، ص 334)[593]. ويجب أن نعلم أنه قد جاء في الحديث المذكور أن من صام أول يوم من العشر من ذي الحجة كتب الله له صوم ثمانين شهراً. ولكن جاء في الرواية التي قبلها أي في الحديث الأول في ذلك الباب أن من صام ذلك اليوم كتب الله له صيام ستين شهراً. وجاء في الرواية الخامسة من الباب ذاته أن من صام ذلك اليوم كان كفارة تسعين سنة؟!! ألا يتلاعب هؤلاء بدين الله؟!
من أعمال الشيخ عباس المُثيرة للعجب أنه ذكر في الفصل الخامس من كتابه (ص 252)[594] -تأسياً أعمى بالروايات- أن شهر ذي القعدة شهر ولادة حضرة إبراهيم (ع)، ولكنه بعد خمس صفحات ذكر في الفصل السادس أن شهر ذي الحجة هو شهر ولادة إبراهيم (ع)!!
ثم أورد الشيخ عبَّاس دعاءً ممتازاً جداً باسم «دعاء عرفة» منسوباً إلى سيد الشهداء حضرة الإمام الحسين (ع) وهو -حسب قول الكفعمي في حاشية «البلد الأمين»- منقول عن ابنَي «غالب الأسدي» ولا سند معتبر له. وعلى كل حال فهذا الدعاء دعاءٌ جيِّدٌ إذا عرف الإنسان معانيه ولا إشكال في قراءته عملاً بإذن الشريعة العام بالدعاء. أما الزيارة التي أوردها ابن طاووس في كتابه «إقبال الأعمال» فتشتمل على اصطلاحات العرفاء والصوفية مما يُبيِّن أنها من وضع بعض أتباعهم.
64في الصفحة 277[595] يوصي الشيخ عبَّاس بقراءة «الزيارة الجامعة الثالثة» ويذكر الدعاء المذكور في الباب الثالث الخاص بالزيارات بعد قصة السيد الرشتي (ص 553) وهو دعاء خرافي تماماً ويُعجب الاستعمار ومليء من لعن بعض المسلمين وإعلان البراءة منهم!! ورغم أن هذه الزيارة منقولة عن الإمام الصادق ÷ إلا أنه جاء فيها: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلَايَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ»!!
65اعتبر كتاب «المفاتيح» أن يوم الثامن عشر من ذي الحجة هو يوم «عيد الغدير»، وطبقاً للحديث الذي أورد جزأً منه في الصفحة 278 وجزأً آخر في الصفحة 281 فإن الإمام الصادق ÷ قال: "صِيَامُ يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ يَعْدِلُ صِيَامَ عُمُرِ الدُّنْيَا" (وسائل الشيعة، ج 5، ص 224) [ونقول إذا كان هذا اليوم عيداً حقاً فكيف يكون لصيامه أجر وثواب، خلافاً لعيدي الفطر والأضحى - أي الأعياد التي تحل مرة في السنة - التي لا يجوز الصيام فيها. وإن كان يوم الغدير عيداً حقاً فلماذا لم تُشرع له صلاة العيد جماعةً، كما شرعت لعيدي الفطر والأضحى؟!!]. ثم يقول: "وَهُوَ عِيدُ اللهِ الْأَكْبَرُ وَمَا بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً إِلَّا وَتَعَيَّدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَعَرَفَ حُرْمَتَهُ [ونقول كيف يحتفل الأنبياء السابقون وأتباعهم بواقعة الغدير التي لم تقع بعد؟!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!] وَاسْمُهُ فِي السَّمَاءِ يَوْمُ الْعَهْدِ الْمَعْهُودِ وَفِي الْأَرْضِ يَوْمُ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ وَالْجَمْعِ الْمَشْهُودِ[596] وَمَنْ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ يَغْتَسِلُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَزُولَ مِقْدَارَ نِصْفِ سَاعَةٍ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةَ الْحَمْدِ مَرَّةً وَعَشْرَ مَرَّاتٍ ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ﴾ وَعَشْرَ مَرَّاتٍ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَعَشْرَ مَرَّاتٍ ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ﴾عَدَلَتْ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِائَةَ أَلْفِ حَجَّةٍ وَمِائَةَ أَلْفِ عُمْرَةٍ. وَمَا سَأَلَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَحَوَائِجِ الْآخِرَةِ إِلَّا قُضِيَتْ كَائِناً مَا كَانَتِ الْحَاجَةُ"!![597].
إن الشيخ عبَّاس يتجاهل أن أحد رواه هذا الحديث: «علي بن الحسين العبدي» المهمل ومجهول الحال و«محمد بن موسى الهمداني» الضعيف والوضَّاع للأحاديث كما يقول علماء الرجال! لكنه يعترف قائلاً:
"ولا يخفى عليك أنّ السّيد في «الإقبال» قدّم ذكر سورة «القَدْر» على «آية الكرسي» في هذه الصّلاة، وتابعه العلامة المَجْلِسِيّ في «زاد المعاد» فقدّم ذكر «القَدْر» كما صنعتُ أنا في سائر كتبي، ولكنّي بعد التتبّع وجدت الأغلب ممّن ذكروا هذه الصّلاة قد قدّموا ذكر «آية الكرسي» على «القَدْر»، واحتمال سهو القلم من السّيد نفسه أو من النّاسخين لكتابه في كلا موردي الخلاف وهما عدد الحمد وتقديم «القَدْر» بعيدٌ غاية البُعد، كاحتمال كون ما ذكره السّيد عملاً مستقلاً مغايراً للعمل المشهور، والله تعالى هو العالم.."[598].
ثم نقل الشيخ عبَّاس حديثاً آخر عن «سهل بن زياد»[599] يقول إن الإمام الصادق ÷ سُئل: "هَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عِيدٌ غَيْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَالْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَعْظَمُهَا حُرْمَةً. قُلْتُ: وَأَيُّ عِيدٍ هُوَ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ قَالَ: الْيَوْمُ الَّذِي نَصَبَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ ص أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاه.......الخ"[600].
ونقول: لو أن النبيّ اعتبر يوم الغدير عيداً فلماذا لم يكن الراوي يعلم ذلك الأمر في زمن الإمام الصادق ÷ حتى سأل الإمام عن ذلك؟ ألم يسمع من آبائه أن هذا اليوم عيد؟ ثم لماذا لم يعمل حضرة علي (ع) بوصية النبيّ ولم يتخذ ذلك اليوم عيداً في فترة خلافته؟ ولم يُعرّف للناس هذا العيد والأعمال الخاصة به؟!! ولماذا لم يُعيّد النبيّ زمن إقامته في المدينة في هذا اليوم الذي كان أنبياء السلف أيضاً يُعيِّدون فيه؟!! في أيِّ كتاب مُعتبر من كتب السيرة النبوية قرأتم أن النبيّ ص كان يُعيِّد كل سنة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة؟!
ثم نقل الشيخ عبَّاس في هذا الفصل روايةً عن خبيث باسم «أبي النصر البزنطي» الذي عرّفنا به في التنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 257). هذا الكذاب اعتبر يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة أفضل وأعلى شأناً من ليلة القدر في شهر رمضان المبارك!!
ولكن الأكثر أهميةً من كل ذلك هو موضوع نصب علي (ع) بأمر الله خليفةً بعد رسول الله ص مباشرة في ذلك اليوم. وهذا ادِّعاء مخالف للتحقيق بل كذب. وَمِنْ ثَمَّ إذا كان أصل القضية كذب فمصير التعييد في ذلك اليوم وصحة أو سقم ما لفّقوه من العبادات والأدعية الخاصة به يُصبح معلوماً. (فتأمَّل)
النقطة المهمَّة التي من الضروري أن نعلمها هي أن علماءنا وكُتَّابنا -مع الأسف- غالباً ما يقولون في خطبهم وكتبهم أن النبيّ ص جمع الناسَ في الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة إلى جانب غدير خم ورفع يد عَلِيٍّ وقال: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ.... الخ". ولكنهم مع كل أسف لا يُشيرون إلى مُقدِّمات تلك الحادثة ويُبيِّنون واقعة الغدير بشكل مبتور وناقص ليخدعوا بذلك العوام!! والحقيقة هي أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص كان قد أرسل جماعةً بإمرة عَلِيٍّ (ع) إلى منطقة اليمن -حيث كانت تُقيم قبيلة «همدان»- لأجل الدعوة وجباية الزكاة. وبعد أن نفَّذ أمير المؤمنين علي ÷ المُهِمَّات التي أُوكلت إليه[601] ورأى أن أيام الحج قد اقتربت وهو يعلم أن رسول الله ص قد عَزَمَ هذا العام على الحج، لذا كان مستعجلاً للحاق بالنبيّ بسرعة كي لا تفوته فرصة أداء الحج مع رسول الله ص، لكن القافلة التي كانت معه وفيها أموال الزكاة ومن جملتها الجمال والشِّياه وأحمال أخرى كانت تسير ببطء وكان من الممكن إذا ظلَّ معها أن يصل متأخراً إلى النبيّ ولا يدركه إلى بعد أن يكون قد انتهى من مناسك الحج، لذا أناب عليٌّ شخصاً مكانه أميراً على القافلة وأسرع السير إلى مكة فوصل إلى النبيّ ص في الوقت المناسب. وبعد أداء مناسك الحج عاد عليٌّ إلى قافلته التي أصبحت على مشارف مكة فرأى أن المسؤولين عن القافلة تصرَّفوا ببعض أموال الزكاة فيها فركبوا على الجمال التي كانت من مال الزكاة ولبسوا بعض الحلل من مال الزكاة معتبرين أن لهم الحق في ذلك باعتبارهم من العاملين عليها (التوبة: 60)، فغضب عَلِيٌّ من هذا العمل الذي قاموا به دون إذن من النبيّ، ووبَّخ نائبه الذي ناب عنه في إمارة القافلة خلال غيبته، ونزع ما أخذه المسؤولون عن القافلة من أيديهم وقال: لا بُدَّ من تسليم هذه الأموال أولاً إلى رسول الله صليقوم هو عندئذ بإعطاء كل ذي حق حقه.
ثَقُلَ على أفراد القافلة هذا الالتزام الشديد والصرامة التي مارسها عَلِيٌّ (ع) في تنفيذه للأمور بشكل صحيح ودقيق، وانزعجوا منه، لذا عندما حضروا عند رسول الله ص بسطوا ألسنتهم بغيبة عَلِيٍّ (ع) عند النبيّ واشتكوا تشدُّدَه وصرامته معهم إلى النبيّ وأظهروا انزعاجهم من ذلك ومن جملة ذلك أن ذهب رئيس القافلة إلى النبيّ ص وأبدى سخطه وعدم رضاه عن مرافقة عَلِيٍّ في السفر بسبب تشدُّده، بيد أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص -خلافاً لما توقعوه- أيَّد دقة نظر عَلِيٍّ والتزامه التام بموازين الشرع ودافع عن عَلِيٍّ إلى درجة أن أمير القافلة ندم على ما قاله بحق عَلِيٍّ (ع). ولكن سائر أفراد القافلة أعربوا حيثما حلّوا عن تأذِّيهم وعدم رضاهم عما حصل فوصلت تلك الشكاوى إلى مسامع النبيّ المباركة. لذا قام النبيّ لأجل أن يُفهم مسؤولي القافلة المذكورة والناس الذين كانوا مع النبيّ في عودته من مكة إلى المدينة والذين كان كثير منهم قد سمع إساءة القول وطعن مسؤولي القافلة بحضرة عَلِيٍّ (ع)، أن يفهِمَهُم أنهم أخطؤوا، هذا من جهة، ولكي يُبيِّن من الجهة الأخرى تأييده لعمل عَلِيٍّ (ع) وتصويبه له[602]، جمع الناس قرب غدير خم وقال: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهذا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاه، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَه وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ "[603].
أمَّا لو أراد النبيُّ ص أن يُعيِّن عَلِيَّاً خليفةً له في حكم المسلمين وإمامتهم بعده مباشرةً لفعل ذلك في مكة عندما كان جميعُ المسلمين حاضرين في مناسك الحج ولم يفعله في منطقة غدير خم التي تبعد مئتي كيلومتر تقريباً عن مكة!!![604] عندما لم يبقَ معه لا أهل مكة ولا أهالي كثير من مناطق الجزيرة العربية الأخرى! (فلا تتجاهل).
ثانياً: لو أراد النبيّ ص الذي كان أفصح الناس بياناً، بيان إمارة عَلِيٍّ وخلافته في حكم المسلمين التي يُفترض أنها أحد أهم أصول الدين، لبيَّن ذلك بأوضح العبارات كأن يقول مثلاً: «أيُّها الناس عَلِيٌّ خليفتي فيكم بعد وفاتي»[605] لا أن يستخدم كلمةً لها -كما يقول علماء اللغة- 25 معنى ثم يتكلم في بقية الجملة عن محبّة عَلِيٍّ ومعاداته كي يكون ذلك قرينةً مُؤيّدةً لمعنى المحبة والنصرة والولاء لا معنى الخلافة والزعامة!! حتى أنه لم يستخدم كلمة «الوالي» (فَتَأَمَّل) (بشأن الآية 67 من سورة المائدة من الضروري مراجعة كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ص 623).
ثالثاً: لنفرض جدلاً أن أبا بكر وعمر كانا طالبا جاهٍ وأن حبَّ الرئاسة أو الحسد دفعهما إلى تخطّي أمر الله ورسوله وعصيانه! فالسؤال المُلِحّ الذي يطرح نفسه: لماذا لم يُعِر الأنصار (= أهل المدينة) الذين لم يتوانوا لسنوات طويلة بعد رحيل النبيّ عن بذل النفوس والأموال والأولاد في سبيل الله، والذين لم تكن في رئاسة أبي بكر أيُّ منفعة دنيوية لهم، والذين جاهدوا سنوات عديدة في سبيل عُلوِّ شأن الإسلام وطاعة النبيّ وكانوا إلى جانبه، لم يُعيروا أيَّ اهتمام لأمر الله ورسوله وبايعوا أبا بكر خليفةً للنبيّ ص طواعيةً ولم يُعطوا عَلِيّاً (ع) مقام الزعامة عليهم؟!!
ويجب أن نعلم أن أبا بكر وعمر كانا من المهاجرين ولم يكن لهما أقرباء كُثُر في المدينة ولا كان لهما هناك جيشٌ وأجهزةُ أمنٍ مُجهَّزةٌ تأتمر بأمرهم وتقاتل لأجلهم، مما يعني أن الأنصار كانوا يستطيعون بسهولة أن يُزيحاهما ويُبايعون عَلِيّاً مكانهما ويُجلسونه على مسند الخلافة. أضف إلى ذلك أنه يجب أن لا ننسى -كما يقول أخونا الفاضل جناب السيد مصطفى الطباطبائي أيّده الله تعالى- أن القول بأن عَلِيّاً بايع الخلفاء بالإكراه والإجبار وتجاهَلَ حقه الإلهي فيه إهانةٌ لذلك الإمام الهُمام وانتقاصٌ من قدره؟!
رابعاً: لماذا لم يستند حضرة عَلِيٍّ (ع) في تلك الأيام إلى حديث الغدير ولم يعتبر ذينك الشخصين مرتدَّيْن؟! في رأيكم هل يُعتبر من يتنكَّر لأحد أصول الدين مسلماً. (فَتَأَمَّل جداً). هل الذي يُزيح من اختاره الله ويرفضه مسلم؟! (فلا تتجاهل). لماذا لم يستشهد ابن عمة عَلِيٍّ (ع) «الزبير بن العوام» الذي كان من مجاهدي الإسلام الكبار وكان رجلاً شجاعاً، وكان في بداية الأمر غير موافق على اختيار أبي بكر لمنصب الخلافة بعد النبيّ ص، بحديث الغدير؟! ولماذا لم يستند عمُّ عَلِيٍّ جناب «العباس بن عبد المطلب» الذي كان من وجوه قريش، وابنه «عبد الله بن عباس» المُلقّب بحبر الأمة والذي كان مُفسِّراً للقرآن ومعظم الأحاديث المُتعلّقة بسيرة عَلِيٍّ (ع) منقولة عنه، وأخوه «الفضل بن العباس» وأخوه الآخر «قُثم بن العباس» الذي كان من أنصار عَلِيٍّ (ع) ولم يكن من الموافقين على خلافة أبي بكر، إلى حديث الغدير وإلى النصّ الإلهي على خلافة عَلِيٍّ وإمارته؟![606]
خامساً: رغم أن عَلِيّاً (ع) لم يستند إلى حديث الغدير، وطبقاً لما نقلته التواريخ، لم يكن عليٌّ راضياً -مثله مثل جناب العباس بن عبد المطلب أيضاً- عن إسراع الناس إلى السقيفة واستعجالهم في اختيار الخليفة دون مشاورة رأي كبار المهاجرين بمن فيهم عَلِيٌّ نفسه والعباس وأولاده والزبير و...... بشأن خلافة النبيّ، وقد أعرب بصراحة عن عدم رضاه عن ذلك الأمر واعترض على ما فعله الصحابة لأنه عندما بايع أبا بكر قال له: "[إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللهُ وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ] وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ص نَصِيباً"، بناءً على ذلك لا يُمكننا القول: إن الجو في ذلك الزمن كان جواً استبدادياً خانقاً لا يستطيع المسلم فيه أن يُظهر رأيه ومخالفته للحاكم وأن عَلِيّاً لم يكن قادراً على إبراز عقيدته، لأن امتناع عَلِيٍّ عن مبايعة أبي بكر مدة شهرين ونصف أو ثلاثة أشهر أو ستة أشهر -إن صحّ الخبر بشأن هذه المدة[607]- يدل على حريته في العمل ويدل على أن عَلِيّاً كان يعتبر نفسه أليق وأكثر أهليةً على إدارة شؤون المسلمين من أبي بكر وسائر الصحابة، لكنه لما رأى أوضاع المسلمين بعد النَّبِيّ الأَكْرَم ص مضطربةً بسبب ظهور مُدّعي النبوة ومانعي الزكاة وانتهاز اليهود والنصارى والمنافقين لفرصة ضعف المسلمين والصدمة التي صُدم بها المسلمون نتيجة رحيل رسول الله ص، قرَّر التخلّي عن رأيه الشخصي ورأي سائر أنصاره وعدم الإصرار عليه، وتقدّم بكل كرم نفس وإنكار للذات إلى مبايعة أبي بكر وأعطى أبا بكر بهذا المشروعية الكاملة لخلافته ولم يكن يمتنع أبداً عن نصحه وإرادة الخير له. (فَتَأَمَّل جداً). وإلا - [لو كان عليٌّ منصوبٌ ومُعَيَّنٌ مِنْ قِبَلِ الله لحكم المسلمين]-، لاستحال أن يقوم هذا الإمام الهمام الذي قال: "إِنِّي واللهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وهُمْ طِلاعُ الأرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ ولا اسْتَوْحَشْتُ. وإِنِّي مِنْ ضَلالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ والْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي ويَقِينٍ مِنْ رَبِّي. وإِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللهِ لَمُشْتَاقٌ وحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ. ولَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الأمَّةِ سُفَهَاؤُهَا وفُجَّارُهَا فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللهِ دُوَلاً وعِبَادَهُ خَوَلاً والصَّالِحِينَ حَرْباً والْفَاسِقِينَ حِزْباً.....". (نهج البلاغة، الرسالة 62) بمبايعة مرتدٍّ مثل أبي بكر تنكّر - حسب قولكم - لأصل من أصول الدين بل لقاوم انتخاب أبا بكر بغير وجه حق لمخالفته للشرع ولِأَمْر الله، وَلَرَفَضَ مُبايعته كما فعل «سعد بن عبادة» وَلَهَاجَرَ من المدينة إلى مكة أو إلى مكان آخر، ليسعى إلى هداية الناس وإرشادهم إلى حقيقة الأمر. لأنه ما من ريب في أن مُبايعة المعصوم لفرد بالخلافة تستوجب منحه المشروعية، فإذا كان ذلك الشخص المُبَايَع غير أهل للخلافة كانت مُبايعة المعصوم له سبباً في إضلال الأمة، ولا يرضى الإمام المنصوب من عند الله بضلال الأمة بالطبع. (راجعوا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ص 602 -603).
سادساً: يقول مُفسِّرو الشيعة في تفسيرهم لآية: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [608]...﴾[المائدة: ٣] التي هي جزء من الآية 3 من سورة المائدة وتفسيرهم للآية 67 من سورة المائدة أيضاً التي يتعلّق ما قبلها وما بعدها بأهل الكتاب، إنه لما نصب رسول الله ص عَلِيّاً خليفةً له على المسلمين يوم غدير خم، نزلت عليه الآية 3 من سورة المائدة. ويقولون: إن هذه الآية مُتعلّقة بولاية عَلِيٍّ (ع) وإمامته المنصوص عليها من الله!! هذا في حين أن العبارة التي ذُكرت أعلاه هي جزء من الآية 3 فقط ولو لاحظنا الآية بتمامها لعلمنا أنها لا تتناسب مع ادِّعائهم؛ لأن بداية الآية والآيتين اللتين قبلها والآيات التي بعدها كلها تتعلّق بفروع الأحكام والحلال والحرام ولا تتناسب مع البيان المُفاجئ في وسط الكلام دون مراعاة لسياق الآيات للولاية والإمامة المنصوص عليها من الله لعليٍّ (ع) (فَتَأَمَّل). ثم إن الادِّعاء بأن هذا الجزء من الآية نزل في غدير خم مخالف لقول الإمام الصادق ÷ الذي قال: "نزلت المائدة كملاً ونزل معها سبعون ألف ملك"[609]، ومخالف للأحاديث التي تقول: إن الآية موضع الاستشهاد نزلت في عرفة لا في غدير خم! باؤك تجرُّ وبائي لا تجرُّ؟!!
أما بالنسبة إلى الآية 67 من سورة المائدة فإن عَلِيّاً (ع) لم يعتبر في أيِّ وقت من الأوقات تلك الآية مُتعلّقةً بخلافته الإلهية وإلا لقام بتذكير المسلمين بها بعد وقائع السقيفة، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمام الحُجّة على أقل تقدير، ولدعا جميع المسلمين إلى طاعة أمر الله، لا أن يكتفي بالشكاية من عدم مشاورته في الأمر فقط!! وبصرف النظر عن إيمانه بأنه أولى بالأمر! (فَتَأَمَّل).
يقول المُفسّر الكبير وأخونا الفاضل السيد مصطفى الطباطبائي -حفظه الله تعالى من شرّ أعدائه- أنه مذكور في المصادر الشيعية أن عَلِيّاً نفسه قال إنه إذا مات ولي أمر المسلمين فعليهم أن يبادروا إلى اختيار إمام لهم قبل أي عملٍ آخر، مما يُبيِّنُ أن عَلِيّاً كان يعتبر رئاسة المسلمين وإمرتهم أمراً انتخابياً لا انتصابيّاً ولهذا السبب لم يقل أبداً إنه طالما كنت موجوداً أو كان أحد عشر فرداً من أولادي موجودون فعلى المسلمين أن يعتبروننا زعماءهم وبعد رحيلنا جميعاً فقط يُمكنهم أن يختاروا من يُدير زمام أمورهم!
ويُؤكِّد ذلك أن الآيات قبل الآية 67 وبعدها تتعلّق بأهل الكتاب، والقول بأن الآية 67 تنصُّ على خليفة إلهي بعد النبيّ -مثله مثل ادِّعاء هذا الأمر بشأن الآية الثالثة من سورة المائدة-، مُخِلٌّ بالسياق وغير متناسب مع موضوع الآيات. أضف إلى ذلك فإن ما تدَّعيه الأحاديث والروايات حول سورة المائدة يستدعي السؤال القائل: لماذا ذُكِرَتْ المُقدِّمَةُ في القرآن ولم يُذكر ذو المُقدِّمة فيه؟! وثالثاً: إن عدم وجود «واو» العطف في بداية الآية 68 يدل على أن الرسالة التي يجب تبليغها هي ما ذُكر في هذه الآية التي تلت الآية 67 مباشرةً وليس شيئاً آخر لا يتناسب مع سياق الكلام والآيات السابقة واللاحقة (لاسيما أننا نعلم أن النصارى في الدولة الرومانية البيزنطية الشرقية كانوا قد أعدّوا جيشاً لمهاجمة المسلمين في أواخر حياة النبيّ المباركة، وكانوا ينوون شنَّ حملة على المسلمين انطلاقاً من تبوك). فمثلاً لو قيل: "أبلغ فلاناً ما سأقوله لك وأعلن له ما أُريده وَكُن صريحاً وقاطعاً في كلامك" فإنه من المعقول أن يُقال إن مراد المتكلم من الجملة التي تأتي بعد «الواو» أمر كُليٌّ يتعلّق بطول الحياة بشكل عام، أما لو قال ذلك القائل دون «واو» عطف: "القَ فلاناً وأعلن له ما أُريده: كُن صريحاً وقاطعاً في كلامك" فإن هذا يدل على أن قصد المتكلم من الصراحة والقطع هو الصراحة والقطع في إعلان ما يُريده المتكلم والرسالة التي يذكرها. رابعاً: لو كانت الرسالة الواجب إبلاغها خلافةَ عَلِيٍّ لوجب أن تُختم الآية بإعلام الله نبيَّه بحمايته من المنافقين لا من الكافرين في حين أن نهاية الآية 67 وَ68 تُشير إلى حمايته من الكافرين. أضف إلى ذلك لو كان الموضوع الواجب تبليغه خلافة عَلِيٍّ بعد النبيّ لكان من المناسب أن يتمّ التأكيد على حفظ روح خليفةِ النبيّ (أي عَلِيٍّ) وحمايته من مؤامرات المنافقين المعارضين لخلافته ودسائسهم لا حماية النبيّ الذي كان جميع المسلمين مطيعين لأمره. (فَتَأَمَّل).
سابعاً: لا يُمكننا القول إنه لو لم يُبايع عَلِيٌّ (ع) أبا بكر، رغم أنه يعتبره - حسب قولكم - مرتداً، لربما تعرّض إلى الاغتيال. وذلك لأن الله لا يترك حماية حُجَّته التي نصبها لأجل هداية أمة خاتَم النبيين، كما حمى رسولَهُ ص -الذي كان في بداية بعثته أكثر وحدةً من عَلِيٍّ (ع)-، من شرّ المشركين. كتب العالم العراقي الشهير المرحوم الشيخ «محمد حسين آل كاشف الغطاء» في كتابه «أصل الشيعة وأصولها» يقول:
"ولكن يخطر على بالي أنّي جمعتُ ما وجدتُه في كتب تراجم الصحابة كالإصابة [في تمييز الصحابة] وأُسد الغابة [في معرفة الصحابة] والاستيعاب [في معرفة الأصحاب] ونظائرها من الصحابة الشِّيعة زهاء ثلاثمائة رجل من عظماء أصحاب النبي ص كلّهم من شيعة علي عليه السَّلام، ولعل المُتَتَبِّع يعثر على أكثر من ذلك"[610].
بناءً على ذلك لا يُمكن أن نقول إن عَلِيّاً كان وحيداً ولم يكن له أنصار ولم يكن أمامه من خيار سوى البيعة مضطراً! وكما لم يكن في عدم مبايعة «خالد بن سعيد بن العاص» وأخيه «أبان» ونظائرهما خطراً عليهما، كذلك لم يكن هناك خطر على حياة عَلِيٍّ إذا امتنع عن البيعة.
على ضوء ما ذُكر أعلاه ينبغي أن نعلم أن بيعةَ عَلِيٍّ، الذي كان تلميذ مدرسة النبيّ الأول، لأبي بكر أكبرُ دليل على أن خلافة أبي بكر لم تكن مغايرةً لأصول دين الإسلام، وأهمُّ سند وشاهد على مشروعية خلافة الخلفاء الراشدين، وامتيازٌ كبير وخاصٌّ لهم. (فلا تتجاهل). لقد كان لمُبايعة عَلِيٍّ لأبي بكر تأثير كبير على سائر المسلمين كما اعترف بذلك المرحوم «كاشف الغطاء» قائلاً:
"ولكنَّه [أي الإمام علي عليه السلام] باتفاق الفريقين [أي الشيعة والسنَّة] امتنع أوَّلاً عن البيعة، بل في صحيح البخاري - في باب غزوة خيبر-: أنَّه لم يُبايع إلاّ بعد ستة أشهر وتبعه على ذلك جماعة من عيون الصحابة كالزبير وعمّار والمقداد وآخرين"[611].
أي أن بيعة عَلِيٍّ (ع) لأبي بكر هي التي حملت أنصار عليٍّ (ع) وأتباعه إلى أن يُبايعوا أبا بكر أيضاً. (فَتَأَمَّل).
66أضف إلى ذلك أن عَلِيّاً (ع) الذي كان أعلم من الآخرين بأحكام البيعة والذي قال نفسه: "لأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ لا يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ ولا يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ" (نهج البلاغة، الرسالة 7). ولهذا السبب قال زمن خلافته لطلحة والزبير: "فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ فَارْجِعَا وتُوبَا إِلَى اللهِ مِنْ قَرِيبٍ، وإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ وإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ[612]. ولَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ بِالتَّقِيَّةِ والْكِتْمَانِ، وإِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا الأمْرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْخُلا فِيهِ كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ". (نهج البلاغة، الرسالة 54).
بناءً على ذلك واستناداً إلى تصريحات الإمام بشأن البيعة وبشأن حكم المسلمين -خاصةً ما ذكرناه في الرسالة 64 من نهج البلاغة- لا يُمكننا أن نقول إن حضرة عَلِيٍّ (ع) بايع أبا بكر مكرهاً ومجبراً!! إن من يعرف عَلِيّاً (ع) يعلم جيداً أنه من المستحيل على مثله أن يُبايع حتى ولو مجبراً وبالإكراه، شخصاً يرى أن خلافته مخالفةٌ صريحةٌ لأمر رسول الله ص! (فتأمَّل دون العصبيّة). إنهم ينسبون إلى عَلِيٍّ (ع) ما لم يقبله هو نفسه من الآخرين. (فَتَأَمَّل) فهل هم صادقون في ادِّعائهم حُبَّ عَلِيٍّ؟!
ثامناً: إن مشاركة عَلِيٍّ (ع) في مجلس الشورى المُكوَّن من ستة أشخاص الذي اقترحه عمر دليل واضح أيضاً على أن حضرته لم يكن يعتبر نفسه منصوصاً عليه من الله ومنصوباً في مقام الحكم والإمامة مِنْ قِبَلِ النبيّ ص. لأن كل مسلم -فضلاً عن عَلِيٍّ (ع)- يعلم أنه لا يجوز التشاور في أمر إلهي صريح بل المشاورة تكون فيما ليس فيه أمرٌ أو نهيٌ شرعيٌّ. هل شاور النبيّ مثلاً أحداً من الناس حول أي شهر من أشهر السنة ينبغي صومه؟!
بناءً على ذلك لو كان عَلِيٌّ (ع) يعتقد أنه مأمور مِنْ قِبَلِ الله بأن يتولّى خلافة المسلمين وإمارتهم، لَمَا جاز له أن يُشارك في الشورى بل كان من الواجب عليه أن يقول: إن تشاوركم في أمر منصوص عليه شرعاً هو من باب الاجتهاد في مقابل النص وهو أمر باطل!
هنا أرى من الضروري في هذه الأيام الأخيرة من عمري أن أكتب كلمات بشأن شورى الأشخاص الستة توعيةً لإخوتي في الإسلام لأن المشايخ لدينا في الغالب يُضلِّلون الناس حول هذا الموضوع وليس لهم اهتمام بإظهار الحقيقة، حتى أن بعض علمائنا الكبار الذين كان أحدهم أستاذاً جامعياً وكانت له بصيرة كافية وجيدة في تاريخ الإسلام وكان يتبرأ من جنايات التاريخ، لم يتجاوز ما يُعجب الناس وما تعوَّدوا سماعه في بيانه لحقيقة قصة شورى الأشخاص الستة في كتبه وخطبه ربما خوفاً من المشايخ والعوام!! ولكننا نعتبر أنفسنا مسؤولين عن توعية إخوتنا المسلمين وعن العمل لأجل الوحدة الإسلامية لذلك سنعرض للقراء المحترمين في هذا الصدد بعض الأمور باختصار كي يتأمَّلوا فيها أنفسهم وبعد التحقيق والتفكُّر يتَّبعوا ما يرونه حقاً، ونُقدِّم هذه السطور استناداً إلى تأليف كتبه أحد علماء مدينة بندر عباس المعاصرين الذي هو في نظرنا بعيد عن التعصب الذي نُشاهده لدى كثير من أهل السنة -مثل كثير من الشيعة- الذين يتعصَّبون لجميع أجزاء مذهبهم، بل نراه عالماً مُحقِّقاً لا فاضلاً مُقلِّداً ومُرادنا هو السيد «عبد الرحيم الخطيب» وكتابه المؤلف من جزأين الأول باسم «الشيخين» والثاني باسم «الصهرين» ونوصي بهذه المناسبة إخواننا بقراءة هذين الكتابين.
اعلَم أنه كبار وأعيان أهل المدينة، خوفاً من وقوع اختلاف ونزاع بين المسلمين حول مسألة الخلافة أصرُّوا على عمر أن يُعيِّن خليفةً له على المسلمين كي يُبايعه الناس؛ فاقترح عمر في نهاية المطاف أن يُرشِّح ستة أشخاص من كبار أصحاب رسول الله ص كانت لهم سوابق عظيمة ومؤثرة في نُصرة الإسلام والتضحية في سبيل إعلاء كلمة دين الله، وكان أولئك الستة هم:
1- حضرة عليٍّ (ع).
2- الزبير بن العوام ابن عمة عليٍّ (ع).
3- طلحة بن عبيد الله الذي كان مسافراً حين أُصيب عمر ولم يكن حاضراً في المدينة وكان من العشرة المُبشَّرة وقد شُلَّت يده بسبب ما أصابه من جراح في معركة أُحد.
4- عثمان بن عفان صهر النبي وعديل عليٍّ (ع).
5- عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المُبشَّرين وثامن فرد دخل إلى الإسلام بدعوة أبي بكر، وقد هاجر مرّة إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة وكان زوج أخت عثمان.
6- سعد بن أبي وقَّاص ابن عمة عبد الرحمن بن عوف فاتح القادسية.
دعا عمر أولئك الستة ما عدا طلحة الذي كان غائباً وقال لهم: "إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، لا يكون هذا الأمر إلا فيكم. وقد قُبض رسول الله ص وهو عنكم راضٍ. إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس". (أي إذا أحسنتم النيَّة وسلكتم الصراط المستقيم ووضعتم مصلحة الإسلام نُصب أعينكم فلا خشية من الناس عليكم لأن الناس ستُسلّم لكم وترضى بمن اخترتموه. أما الذي أخشاه فهو أن تختلفوا فيما بينكم فيُؤدي اختلافكم إلى وقوع النزاع بين المسلمين والهرج والمرج). وسيحضر ابني «عبد الله» اجتماعكم ويشهد سعيكم ولكن لا يحق له أن يُنتَخَب لهذا المنصب، ولديكم بعد رحيلي عن الدنيا ثلاثة أيام تجتمعون فيها وتتشاورون ولا بُدّ أن يتمّ اختيار الخليفة من بينكم في اليوم الرابع ويتولّى زمام أمور المسلمين.
ثم أمر عمر «صُهيب بن سنان الرومي» أن يُصلّي في الناس في المسجد إماماً تلك الأيام الثلاثة كي يجتمع أولئك المُرشَّحون الستة ويتشاورن فيما بينهم في أمر الخلافة مع ابنه عبد الله -الذي لم يكن من المُرشَّحين-. واجتمع المُرشَّحون -عدا طلحة الذي كان مسافراً- في بيت «المِسْوَر بن مخرمة». ولما سمع الناس أصوات المُرشَّحين تتعالى إلى خارج المنزل وعرفوا أن كلاً من المُرشَّحين كان يُدافع عن أهليِّته للخلافة، تعجَّب أحد كبار الأنصار ويُدعى «أبو طلحة الأنصاري» الذي كان مسؤولاً مع عددٍ من أصحاب النبيّ ص عن حراسة دار الشورى بأمر عمر، وقال: كنت أظنُّ أن كلاً منكم سيمتنع عن قبول مقام الخلافة خوفاً من مسؤوليَّتها الخطيرة، وأن كُلاً منكم سيكل هذه المهمة للآخر لكنني أرى الآن أنكم جميعاً حريصون على الخلافة وكُلاً منكم يُجادل الآخر لإقناعه بذلك وأنكم تتجادلون وتتنافسون على الخلافة. أُقسم بالله أنني لن أحرس هذا المنزل بعد الأيام الثلاثة التي أوصى بها عمر بل سأترك المنزل وأجلس في بيتي لأنظر ماذا تفعلون!
في ختام المطاف قام عبد الرحمن بن عوف لأجل إنهاء النزاع والمنافسة بين المُرشَّحين الذين كان لكل منهم أنصار فقال: أيُّكم يُخْرِجُ نفسه منها ويولِّيها غيره على أن يُوليّها أفضلكم؟ فأمسكوا عنه ولم يُجبه أحد من المُرشَّحين إجابةً صريحةً، فقال عبد الرحمن بن عوف: "أنا أخرِجُ نفسي، فرضي القوم بذلك وعليٌّ ساكت، فقال له: «ما تقول يا أبا الحسن؟» فقال: «أعطني موثقاً لتُؤْثِرَنَّ الحقَّ ولا تتَّبع الهوى، ولا تخصَّ ذا رحم لرحمه، ولا تألو الأمة». فقال: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت، ولكم عليَّ ميثاق الله أن لا أخصَّ ذا رحم ولا آلو المسلمين». فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، ومن ثم أخذ عبد الرحمن يستشير الصحابة وأُمراء الأجناد وأشراف الناس فيمن يصحُّ أن يُختارَ خليفةً من بين هؤلاء. وكان يستشير رؤساء القبائل الذين جاؤوا إلى المدينة للاطِّلاع على ما يجري في أمر الخلافة حتى أنه استشار عدداً من النساء العارفات ذوات البصيرة. يقول ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» ما يُشبه ما ذكره البخاري أن جميع الناس كانوا يميلون إلى عثمان ما عدا «عمار بن ياسر» وَ«المقداد بن الأسود» اللذين كانا يُفضِّلان عليّاً (ع)!
ولكن هناك مسألة في هذه الروايات ينبغي أن لا نغفل عن شرحها. تتفق جميع التواريخ بما في ذلك دائرة المعارف لفريد وجدي على أنه في صبيحة اليوم الرابع استدعى عبد الرحمن بن عوف في المسجد النبوي وأمام الملأ حضرة عليٍّ (ع) في بداية الأمر وبسط إليه يد المُبايعة، في حين أنه بناءً على ادِّعاء الأحاديث [كحديث البخاري وكلام ابن كثير] كانت أكثرية الناس القاطعة تُرجِّح عثمان، وعلى هذا كان من الواجب على عبد الرحمن طبقاً لتعهُّده أن يُبايع عثمان مباشرة ودون تردد ويُعرِّفه للناس خليفةً لا أن يمدّ يده بالبيعة أولاً لعليٍّ (ع)! (فتأمّل دون العصبيّة).
فمن الواضح أن نتيجة تحقيق عبد الرحمن بن عوف وتفحّصه للأمر بين وجوه الناس وأعيان أهل المدينة أفادت أن أياً من المُرشَّحَين الأصليَّين، أي عليّ وعثمان، لم يحظَ بأكثرية ساحقة، بل كان بعض الناس يُشير بعليّ وبعضهم الآخر يُشير بعثمان. بل ربما كانت الآراء التي تُشير إلى عَلِيّ أكثر قليلاً من التي أشارت إلى عثمان ولهذا السبب بدأ عبد الرحمن ببسط يده بمُبايعة عليّ ابتداءً أو أن رأيه الشخصي كان تقديم عليّ (ع).
نعم، في صبيحة اليوم الرابع أرسل عبد الرحمن بن عوف «المِسْوَر بن مخرمة» الذي عُقِدت مشاورات انتخاب الخليفة في منزله، ليطلب من عليٍّ (ع) وعثمان الحضور إليه، وذهبوا جميعاً لأداء صلاة الفجر في مسجد النبيّ. وكان كبار صحابة رسول الله ص -من المهاجرين والأنصار- ورؤساء القبائل وأُمراء الجند وسائر طبقات الناس قد اجتمعوا في المسجد ينتظرون ما آل إليه أمر الخلافة في دار الشورى. امتلأ المسجد بالناس حتى أن أعضاء مجلس الشورى لم يجدوا مكاناً يجلسون فيه إلا بصعوبة.
بعد انتهاء الصلاة وقف عبد الرحمن بن عوف على منبر النبيّ ص وعليه عمامته التي عمَّمه بها رسول الله ص، وقال: أيها الناس إني قد سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما عليّ وإما عثمان. فقم إليَّ يا عليّ فقام إليه عليّ فوقف تحت المِنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مُبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه ص وفِعْلِ أبي بكر وعمر؟ فقال علِيٌّ: «اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي». فأرسل يده ثم نادى: قم إليَّ يا عثمان فأخذ بيده وهو في موقف عليٍّ الذي كان فيه فقال: هل أنت مُبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه ص وفِعْلِ أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان ثم قال: اللهم اسمع واشهد اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان[613]. فأقعد عثمان على الدرجة الثانية من المِنبر وجعل الناس يُبايعونه. وطبقاً لما روته كتب التاريخ كان علِيٌّ (ع) -كما تعهّد- أول من بايع عثمان خليفةً بعد عبد الرحمن بن عوف، عندئذ بايع عامة الناس عثمان بالخلافة بمن في ذلك أولئك الذين كانوا يميلون قبل ذلك إلى عليٍّ. ورضي الجميع ببيعة عثمان. ورجع طلحة الذي كان مسافراً إلى المدينة بعد أن انتهى أمر تعيين الخليفة فبايع عثمان أيضاً.
هنا ينبغي أن نتأمل في عدة مسائل أحدها: لماذا لم يُجب حضرة عليّ (ع) على سؤال عبد الرحمن بن عوف إجابةً صريحةً وقاطعة؟
استناداً إلى ذكاء عليّ ودرايته الكبيرة ودقة فهمه وبُعد نظره في الأمور المختلفة والتزامه الشديد بأمر الشرع حتى في أدق الأمور وأصغرها، وهذه المزايا كانت مشهورة عنه يعرفها الخاص والعام، لذا في قضية دار الشورى هذه كان عليّ (ع) الوحيد الذي لم يقبل اقتراح عبد الرحمن دون قيد أو شرط خلافاً للآخرين الذين قبلوا اقتراحه دون قيد أو شرط؛ فعليٌّ -استناداً إلى الدراية التي كان يتمتع بها- لم يقبل اقتراحه لأنه رأى أن عبد الرحمن لم يلتزم بما تعهّد به في بداية الأمر من أن لا يخصَّ ذا رحم ولا يألو المسلمين. لقد كان عليّ يعلم أكثر من أيّ شخص آخر أن الإسلام ليس سوى القرآن والسنة وأن إضافة شرط «اتِّباع سيرة الشيخين والعمل بفعل أبي بكر وعمر» أمر زائد. هل كان أحد ينتظر من أبي بكر أن يعمل في زمن خلافته بشيء سوى القرآن والسنة حتى يحق لعبد الرحمن بن عوف أن يشترط مثل ذلك الشرط على الخليفة الثالث؟
والأمر الثاني: أنه مما يُؤسف له أن بعض الناس تحججوا بهذا العمل الذي فعله عبد الرحمن وكبَّروا الموضوع وقالوا: لو كان عمل الخليفتين الأول والثاني صحيحاً لرضي عليٌّ بشرط عبد الرحمن! مع أن المسألة ليست كذلك، بل من الواضح أن الأمر في غايته كان إعراباً من عليٍّ (ع) عن عدم رغبته في أن لم يُرد أن يكون مُقلِّداً لهما. هذا فحسب (فتأمَّل).
لقد كان مقام عليّ (ع) أرفع من ذلك والواقع أنه لا يجوز لأيّ مجتهد أن يكون مُقلِّداً لغيره بل عليه أن يعمل بالكتاب والسنة طبقاً لعلمه وتحقيقه فما بالك بالتلميذ الأول لمدرسة الإسلام حضرة عليّ الذي كان الخليفتان الأول والثاني ذاتهما يرجعان إليه لحلِّ غوامض الأمور ومعضلات المسائل[614].
من المعروف أنه في زمن «مالك بن أنس» فقيه المدينة المشهور وإمام المذهب المالكي، قام الخليفة العباسي [هارون] بإحضار «مالكٍ» واقترح عليه أن يقوم بجمع كتب وفتاوى سائر الفقهاء، ولا يُبقي إلا القرآن وكتاب «المُوطأ» لمالك فقط، كي يعمل الناس جميعاً بآرائه الفقهية، فرفض الإمام مالك هذا الاقتراح وقال: أنا لا أرضى بمثل هذا العمل أبداً ولا أتحمّل مثل هذه المسؤولية، ولا ينبغي للناس أن يُقلِّدونني بل إذا وجدوا أن استنباطي من الكتاب والسنة والأدلة التي استندتُ إليها صحيحةً فيُمكنهم أن يقبلوا رأيي. هل يُمكن لأحد أن يقول: إن مالكاً لم يكن يقبل بآراء نفسه وفتاواه؟!! لو قيل اليوم لآية الله منتظري أو گلپايگاني: هل أنت مستعد لحكم إيران طبقاً للكتاب والسنة وسيرة آية الله الخميني والمطهري؟ فقالا: بل نعمل بالكتاب والسنة وما يؤدي إليه عِلْمُنَا، فهل يعني ذلك أنهما يُخالفان السيد الخميني والمطهري ويعتبران أقوالهما ضلالاً وأعمالهما باطلةً؟!!
بناءً على ذلك فإذا قال عليّ: أعمل بالقرآن والسنة ولم يقبل شرطاً إضافياً فإنه قال قولاً صحيحاً مَبْنيَّاً على الموازين الشرعية والعقلية، لكن كلامه هذا ليس دليلاً على أنه كان معارضاً للخليفتين من قبله ومُخَطِّئاً لهما، وإلا لَمَا أثنى عليهما أحسن الثناء، ولو كان غير قادر على إعلان خطئهما فكان يستطيع على الأقل أن يسكت، في حين أنه -خلافاً لميل المُفَرِّقين بين المسلمين- كان يذكرهما بالخير في موارد متعددة. لو كان عليّ (ع) يرفض اعتبار معظم أعمال الشيخين عادلةً وجيدة فلماذا أقسم قائلاً: "ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم وَإن المُصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمهما الله وَجزاهما بأحسن الجزاء"[615].
كما لم يكن مضطراً أن يقول: "فتولّى أبو بكر تلك الأمور فيسَّر وشدّد وقارب واقتصد"، أو يقول: "فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً". أو يقول: "فلما احتضر بعث إلى عمر فولَّاه فسمعنا وأطعنا وناصحنا"[616].
هل تحتملون أن يقول مسلمٌ عاديٌّ بشأن غاصبي مقام الإمامة الإلهية مثل ذلك الكلام، فما بالك أن يقوله عليٌّ (ع)؟! هل يُدافع الفرد مغصوب الحق عن غاصبي مقامه الإلهي إلى درجة قوله: "واللهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً". (نهج البلاغة، الخطبة 240). هل يُرسل مغصوب الحق ابنَيْهِ العزيزين حضرات الحسنين لحراسة الغاصب والدفاع عنه كي لا يُصيبه أذى؟!! ألم يكن مغصوب الحق قادراً على أقل تقدير أن يسكت عن قول شيء بشأن الغاصب وأن يعتزل أمره ولا يُبدي اهتماماً به؟!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
وبالنسبة إلى عثمان يجب أن نعلم أنه لم يكن يعتبر أعمال الخليفتين قبله مخالفةً للكتاب والسنة ولم يكن قبوله للشرط الزائد الذي لا دليل عليه الذي اقترحه عبد الرحمن أمراً عجيباً، رغم أن دقة نظر حضرة عليٍّ امتيازٌ كبيرٌ خاصٌّ به ولا يُنكره أحد. لكن الأهم من كل شيء هو مُبايعة حضرة عليٍّ له الأمر الذي لا يترك حُجّةً لأحد[617]. (فلا تتجاهل). ولكن مع الأسف الشديد فإن علماءنا وكُتَّابنا يروون قضية خلافة عثمان في كتبهم أو من على منابرهم بالصورة التالية فقط:
أمر عُمَر في مرض موته صهيبَ الروميَّ أن يختار ستة أفراد من أصحاب النبيّ وأن يجمعهم في منزلٍ ليتشاوروا ويختاروا من بينهم خليفةً ويقوم على رؤوسهم، وأمر عُمَرُ صُهَيْبَاً قائلاً: إن اجتمع خمسةٌ ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتَّفق أربعةٌ فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثةٌ رجلاً منهم وثلاثةٌ رجلاً منهم فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيّ الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منه فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا [الثلاثة] الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس!!![618] ثم قال ذلك الكاتب: من الواضح تماماً إن الطريقة التي أمر عُمَرُ باتباعها في الشورى والترتيب الذي اتَّخذه لتعيين خليفته لم يكن ليُتيح لعليٍّ أن يصل إلى الخلافة، لأن عبد الرحمن بن عوف سيميل إلى عثمان قطعاً لقرابته منه!
وأقول: إن أغلبَ علمائنا يتجاهلون تماماً عيوب الرواية المذكورة!! في حين أننا لو تأملنا في متن هذه الرواية لاتَّضح لنا خطؤها وأنها رواية موضوعة لأنها تقول: أنه إذا اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فعلى صهيب أن يضرب عنقه ويفصل رأسه عن جسده!! في حين أنه من الواضح أنه إذا اجتمع خمسة ورضوا رجلاً خليفةً فإن الشخص الذي رضوه سيكون هو الخليفة ولن يبقى هناك مخالف يأبى ذلك ليقطع صهيبٌ عُنُقَهُ!!
وكذلك بالنسبة إلى ادِّعاء تلك الرواية أن عمر قال: إن اتَّفق أربعةٌ فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، لأنه عندما يجتمع أربعةٌ ويختارون شخصاً فإن من يُخالف ذلك لن يكون الشخصان الباقيان بل واحداً منهما فقط لأن الآخر سيكون هو الذي تمَّ اختياره للخلافة! والأمر ذاته ينطبق على مقولة: إن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فافعل كيت وكيت. وذلك لأنه عندما يختار ثلاثة أشخاص رجلاً فإن المُعترضين على ذلك لن يكونوا ثلاثة بل اثنين فقط إذ الثلاثة هم الذين قاموا بالاختيار والرابع هو الذي تمّ اختياره فلم يبقَ إلا شخصين مخالفين وَمِنْ ثَمَّ فبما أن الأكثرية مع ذلك الاختيار والمُعترضين أقلية فلا مشكلة في الأمر ورأي الأقلية لن يكون نافذاً ولن تكون هناك حاجة إلى الأمر بقتلهما! إن صدور مثل هذا الأمر غير محتمل من شخص قليل العقل فما بالك بأن يصدر عن عمر الذي كان -بمساعدة مشاوريه ومنهم حضرة عليّ (ع)- يُدير إحدى أكبر إمبراطوريات عصره وكان الجميع مطيعين له.
أضف إلى ذلك أنه جاء في ذلك الأمر المنسوب لعمر أن كل من خالف من أعضاء الشورى الستة أولئك وجب ضرب عنقه!! فهل كان شخص مثل عليّ (ع) أو الزبير أو سعد فاتح القادسية الذي كان لكل منهم أنصار ومؤيدون سيبقى جالساً مكتوف الأيدي حتى يُنفِّذ مأمور عمر أمره بضرب عنقه؟! هل كان مأمور عمر يستطيع أن يواجه عدة أشخاص ويقتلهم؟! ولنفرض أن الأمر كذلك فهل كان قتل أصحاب النبيّ الكبار في المدينة سيمرُّ بهذه البساطة، وهل كان أحد سيقبل بتنفيذ مثل ذلك الأمر؟ وهل كان قتلهم سيحلُّ مشكلة الخلافة أم على العكس سيُحدث فتنةً كبيرةً لا تُعلَم عاقبتُها؟ إن مثل تلك الفتنة التي ستنشب عندئذ لن تكون في صالح أيّ أحد وبالطبع فليس من المعقول أن يُصدر عمر مثل هذا الأمر!
والنقطة الأخرى أننا لو افترضنا جدلاً أن عمر أراد مثل ذلك المجلس التشاوري وأمر بإقامته بمثل ذلك الأمر المخالف للشرع، فهل كان عليّ (ع) سيُشارك في مثل مجلس الشورى ذاك؟! أضف إلى ذلك أنه لو كان عليّ (ع) يعتبر نفسه منصوباً مِنْ قِبَلِ الله فهل كان سيُشارك في ذلك المجلس التشاوري ويقبل بالتعهّدات التي أُخذت فيه ويُبايع من اختاره أصحاب ذلك المجلس ويمنح خلافته الغاصبة المشروعيَّةَ؟! لو كان الأمر واضحاً منذ البداية بأن أعضاء الشورى رتّبوا الأمر على نحو لن يُنتخب فيه عليٌّ فلماذا لم يرفض عليٌّ المشاركة في ذلك المجلس المرتب على ذلك النحو منذ بداية الأمر؟! هل كان يريد أن لا يفوته مشاركة الآخرين في تجاهلهم وإعراضهم عن الإمام المنصوص عليه من الله؟!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
والنقطة الأخرى أن راوي رواية قتل المخالفين تلك شخصٌ يُدعى «أبو مخنف» وهو ليس موثوقاً في نظر علماء الرجال[619].
وكذلك بالنسبة إلى الروايات التي تقول: إن على ثلاثة أشخاص أن يتنازلوا عن حقهم إلى ثلاثة آخرين فهي روايات متعارضة مختلفة فبعض المؤرخين ومنهم «ابن الأثير» يقول: بعد انتهاء مهلة الأيام الثلاثة التي حدّدها عمر، طلب عبد الرحمن بن عوف في صبيحة اليوم الرابع من أهل الشورى أن يتنازل بعضهم عن حقه لآخر فتنازل الزبير عن حقه لصالح ابن عمته عليّ وتنازل سعدٌ عن حقه إلى عثمان [في حين أن ابن خلدون قال في تاريخه: إن سعداً تنازل عن حقه إلى عليّ. وقد روى الطبري بالطبع أن حضرة عليّ ذهب إلى سعد وأقسم عليه أن لا يتحد ضده مع عبد الرحمن بن عوف لصالح عثمان] ولا يوجد هنا ذكر لطلحة. لكن بعضهم مثل «ابن كثير الدمشقي» يقولون: منذ اليوم الأول أراد عبد الرحمن من المُرشَّحين أن يتنازل بعضهم للآخر، فتنازل الزبير لعليٍّ وطلحةُ لعثمانَ وسعدٌ لعبد الرحمن، في حين أن التواريخ تقول: إن طلحة كان مسافراً وغائباً. كما أنه جاء في تلك الروايات أن عمر أمر «المقداد بن الأسود» أن يقتل المخالفين إذا لم يتَّفقوا بعد مُضيِّ مهلة الأيام الثلاثة، في حين أن الكل يعلم أن المقداد كان من مُحبّي حضرة عليٍّ (ع) وأنصاره الصادقين إلى درجة أنهم اعتبروه من شيعة عليّ (؟!) ففي هذه الحالة كيف يُمكن لِعُمَرَ أن يختاره لمثل هذه المهمة؟!! (فلا تتجاهل).
تاسعاً: النقطة الأخرى التي تُستغلُّ غالباً لتضليل العوام هي أنهم يقولون: لو لم يُعيّن رسول الله ص شخصاً خليفةً بعده مباشرةً وكانت مهمة انتخاب الخليفة تقع على عاتق شورى المسلمين فلماذا لم يجعل عمر أيّ شخص من الأنصار ضمن مجلس التشاور الذي عيَّنه؟! أو لماذا قام أبو بكر بتعيين عُمَر ونصبه خليفةً له من بعده؟!
أُقرُّ أن العوام لو خُدعوا بمثل هذا الإشكال لَمَا استطاع أحد أن يلومهم! لأن أغلب الناس، حسبما رأيت حتى اليوم، لا يعرفون أن مُعظم صحابة النبيّ ص في صدر الإسلام كانوا مُتَّفقين على أن زعيم المسلمين ينبغي أن يُختَارَ من المُهاجرين الذين كان أغلبهم من قريش، وأن هذا أقرب إلى ما كان رسول الله ص يميل إليه ويُعجبه. ذلك أن قريش بسبب ما كانت تمتهنه في ذلك العهد من التجارة [وخدمة بيت الله الحرام]، كانت أكثر معرفةً بأمور البلاد وبأحوال الناس وأكثر قدرةً على التعامل مع طبقات الناس المختلفة من الأنصار الذين كان أغلبهم يعمل بالزراعة ومعرفته بسائر مناطق الجزيرة العربية أقل من قريش.
ولم يكن هناك -ولِـلَّهِ الحمد والمنَّة- اختلاف في هذا الأمر بين أبي بكر الذي قال: «الأئمة من قريش» وحضرة عَلِيٍّ (ع) (نهج البلاغة، الخطبة 60 - 67)، بل كان اختلاف عَلِيٍّ مع الخلفاء يدور حول الأليق بمنصب الخلافة من بين المُهاجرين. (فَتَأَمَّل جداً). ولكنهم كانوا مُتَّفقين جميعاً على أن الخليفة ينبغي أن يكون قُرشياً يرضى به جميع المسلمين![620]
ولكن المسألة المهمة جداً هنا هي مسألة البيعة التي تُعتبر الطريق الأوحد لاكتساب الخليفة المشروعية، ولا فرق في أمر البيعة بين المهاجرين والأنصار. أي أنه حتى المُهاجر القُرشيّ لا تُصبح إمارته شرعيّةً ما لم يرضَ به الأنصار ويُبايعونه طوعاً، كما صرَّح حضرة عَلِيٍّ (ع) بشأن تعيين الخليفة فقال: "إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِـلَّهِ رِضًا " (نهج البلاغة، الرسالة 6، وجاءت هذه الرسالة أيضاً في كتاب «وقعة صفّين»). يقول أخونا الفاضل جناب السيد «مصطفى الطباطبائي» -حفظه الله تعالى-: "لو اكتفى عَلِيٌّ في رسالته تلك بقوله: "إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَلا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ" لكان هناك وجه لصحة فرضية من قال: إن قصد عَلِيٍّ من تلك الرسالة كان «الاحتجاج على الخصم» بما يؤمن به، ولكننا نلاحظ أن عَلِيّاً (ع) لم يكتفِ بهذه الجملة بل أعقبها بكلام ابتدأه بأداة الحصر «إنما» مُبيِّناً أن الشورى حق المُهاجرين والأنصار فقط وقال:"فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِـلَّهِ رِضًا ". وهذه الجملة لا علاقة لها بما يؤمن به الخصم كي نقول: إن عَلِيّاً أراد أن يُجادل خصمه بلسانه وبما يعتقد به، بل الجملة في مقام تقرير مبدأ شرعيٍّ بشأن انتخاب حاكم مجتمع المسلمين. (انتهى كلام الطباطبائي). وإلا فلم تكن هناك ضرورة أن يحتجَّ عَلِيٌّ (ع) على الخصم بمسألة «رضا الله» وينسب إلى الله تعالى نسبةً خاطئةً ومخالفةً للحقيقة!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
أجل لم يكن فارس ميدان الفصاحة مُضطّرّاً أن يحصر اختيار الخليفة بإجماع المُهاجرين والأنصار وأن يعتبر في الوقت ذاته أيضاً أن «رضا الله» يتحقَّق بذلك الإجماع!! بل كان بإمكانه أن يكتفي في الاحتجاج على الخصم بكتابة جملة: (إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ]. وقد واصل الإمام رسالته تلك قائلاً: "فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ[621] ووَلاهُ اللهُ مَا تَوَلَّى". ولم يكن الإمام مُضطّرّاً أن يستشهد في كلامه بالقرآن ويتأسَّى بقوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾[النساء : ١١٥].
على ضوء ما ذُكِرَ أعلاه، لو رجعنا إلى مسألة «البيعة» لعلمنا أن مُجرّد اقتراح شخص أو عدة أشخاص لمنصب الخلافة مِنْ قِبَلِ أبي بكر وعمر لم يكن وحده سبباً لصيرورة هذا الشخص خليفةً شرعاً ما لم ينلْ رضا ومُبايعة المُهاجرين والأنصار له بالخلافة (فاتَّقِ الله ولا تتجاهل). بناءً على ذلك فإن الشخص القُرَشيّ -في زمن الصحابة- الذي كان يستطيع أن ينال رضا «الأنصار» ومُبايعتهم له بالخلافة، يُصبح خليفةً شرعاً، أما لو كان ذلك الشخص المُعيّن لا يحظى برضا الأنصار الذين كانوا يُشكّلون الأكثرية فإن تعيين أبي بكر وعمر له لن يُفيده في شيء.
وبالمناسبة فقد اختلق بعضهم قصةً بشأن أن النبيّ عيَّن حتماً شخصاً بعده لمنصب الخلافة، نذكرها هنا لإيقاظ إخوتنا المؤمنين. مضمون القصة يقول: إن رجلاً شيعياً نزل ضيفاً على جماعة من السنة وعاهدهم أن لا يتطرق إلى أيّ بحث مذهبي فقبلوا منه ذلك. وقام في مجلسهم بمدح أبي بكر وتمجيده ولكنه قال في ختام كلامه: لقد كان أبو بكر أكثر حرصاً على خير المسلمين من النبيّ!! تعجّب أهل المجلس من كلامه وانزعجوا منه وقالوا: كيف تقول ذلك؟ كيف يُمكن أن يكون أبو بكر أكثر حرصاً من رسول الله ص على مصلحة المسلمين وخيرهم؟! فقال الرجل الشيعي: لأن أبا بكر لم يترك أمة الإسلام دون أن يُعيّن لها حاكماً بل نصب عمر خليفةً على المسلمين من بعده، ولكن حسب عقيدتكم ترك رسول الله ص أمته بلا حاكم ولم يُعيِّن لهم خليفة؟! ثم غادر الضيف المجلس!
إن ضعف هذا الاحتجاج واضح لأن رسول الله ص لم يترك الأمة بلا راعٍ بل ترك بينهم القرآن الكريم وسنته أي شريعة الإسلام التي من ضمنها قانون «البيعة»، وكان يجب على المسلمين بعد رحيل خاتَم النبيين أن يستفيدوا من تعاليمه ويتشاوروا فيما بينهم في أمر الحكم (الشورى: 38) ويحلّوا مسائلهم من خلال الشورى. ولو قام النبيّ بتعيين أحد خليفة على المسلمين لأصبح ذلك أمراً شرعياً ولم يكن هناك مجال لاكتساب التجربة وارتقاء المسلمين (فَتَأَمَّل). ولكن مُجرّد رأي أبي بكر وعمر أو غيرهما لم يكن له في نظر المسلمين أي حُجّية شرعية فإذا وقع بينهم خلاف في مسألة من المسائل كانوا مُلزمين، لإثبات رأيهم، أن يستشهدوا بالقرآن والسنة ويستندوا إليهما، ولم يكن لهما سبيل سوى هذا. بناءً على ذلك لم يكن أحد يُصبح خليفة بمُجرّد قول أبي بكر وعمر ما لم يُبايعه المُهاجرون والأنصار عن رضا فإن لم ينل رضاهم وبيعتهم لم يُعدَّ خليفةً. وَمِنْ ثَمَّ فإن قول أبي بكر وعمر كان بالنسبة إلى المسلمين مُجرّد اقتراح لهم الحق في أن يقبلوه أو يرفضوه. (فلا تتجاهل).
ومن الطريف أن نعلم أن أهل السنة أيضاً اخترعوا قصةً حكاها لي أحد الإخوة البلوش. مضمون القصة: إن عالماً سُنياً ذهب إلى النجف ونزل في ليلةٍ ضيفاً عند أحد علمائها. ولما أراد العالم الشيعي المُضيف أن يذهب في صباح اليوم التالي إلى الحوزة العلمية طلب منه ضيفه أن يصطحبه معه في طريقه إلى المدرسة ليُسافر من هناك فيما بعد. قبل المُضيف ذلك وفي الطريق سأل العالم السني مُضيفَه قائلاً: كيف حال مدارسكم في النجف؟ فبدأ العالم الشيعي يُحدّثه عن النشاطات المختلفة لتلاميذه في المدارس الشرعية ومن جملة ذلك الكتب التي يؤلفونها والدعاة الذين يُرسَلُون إلى المناطق المختلفة ليدعوا الناس إلى الإسلام ويُعلّموهم أحكام الدين وأنهم يُشاركون في الأعمال ذات النفع العام كما أن لطلاب الشريعة دور بارز في النضال السياسي ومُحاربة انحرافات حكومة العراق وهكذا. فسأل الضيف السني قائلاً: هل يؤمن فُضلاء حوزتكم الذين يقومون بهذه الأعمال بالإسلام؟!! تعجّب العالم الشيعي من سؤاله وقال: ما هذا الكلام الذي تقوله؟! بالطبع هم مؤمنون ويقومون بهذه الأعمال الإيمانية ويتحمَّلون في سبيل الإسلام السجن والتعذيب! فقال العالم السنِّي: إن هذا يُبيّن أنكم أكثر نجاحاً في عملكم من خاتَم النبيين ص لأنكم استطعتم خلال مدة عشر أو اثني عشر أو خمسة عشر عاماً من عملكم الدعوي والتربوي في الحوزة أن تُرَبُّوا مئات الفُضلاء المؤمنين، أما الرسول الخاتَم فإنه لم يستطع خلال مدة ثلاثة وعشرين عاماً أن يُربّي سوى ثلاثة أو سبعة مؤمنين في حين ارتدّ أكثر من تربوا بشكل مباشر على أيديه وأزاحوا الإمام الذي عيّنه الله عليهم حاكماً، عن منصبه، وكسروا ضلع ابنه نبيّهم وأسقطوا جنينها (أي حفيد النبي) وأضلّوا أكثر عالَم الإسلام!!! بعد هذا الكلام ودَّع العالم السنيُّ مُضيفَه وَذَهَبَ!
67عاشراً: المسألة المهمة جداً والتي تُعدُّ من معضلات التشيع التي لا تُحَلّ والتي تصافق جميع علمائنا تقريباً على كتمانها ولا يتعرَّضون لها بعد فراغهم من بحث حديث الغدير ويتوقعون أن مسألة النصّ على سائر الأئمة وعصمتهم أصبحت مُسلَّمةً أيضاً ووضعوا حديث اللوح الفاضح لحلِّ هذه المشكلة بالذات، هي أنه حتى لو أغمضنا أعيننا وآذاننا وقبلنا ما يقوله علماؤنا بشأن حديث الغدير دون تأمل، فلا خلاف في أن حديث الغدير حتى لو دلّ على الإمامة الإلهية فإنه يُثبتها لعَلِيٍّ (ع) فقط فكيف تُثبتون النصّ الإلهي على سائر الأئمة؟! هل تستطيعون أن تُقدِّموا لنا نصّاً حول إمامتهم الإلهية له عُشر شُهرة حديث الغدير؟!!
على القارئ الطالب للحق أن يعلم أن أحد أكبر علماء الشيعة القدامى هو الشيخُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَان العكبري البغدادي (ت 413هـ)، ويُلقّب بالشيخ «المُفيد» ويعتبرونه شيخ الأمة وعلَم الشيعة. ألَّف الشيخ المفيد كتاباً معروفاً ومُعتمداً كثيراً لدى الشيعة عنوانه «الإرشاد في معرفة حُجج الله على العباد»، ويهدف الكتاب إلى إثبات الإمامة الإلهية للأئمة الاثني عشر. خُصِّصَ الجزء الأول منه للمسائل المُتعلّقة بحضرة عَلِيٍّ (ع)، والجزء الثاني خصَّصه مؤلّفه لسائر الأئمة. بعد أن ذكر المسائل التاريخية في الجزء الأول لم يتورَّع الشيخ المفيد عن الإتيان بالقصص التي تُعجب العامة رغم ضعف سندها ووضوح بُطلان متونها، كالقصة التي أتى بها في الفصل 74 من الباب الثالث حول اكتشاف نبع للماء كان مستوراً تحت صخرة كبيرة مما أدّى إلى إسلام راهب نصراني مُعتزل في دير!
جاء في هذه القصة أن ساكن الدير قال لحضرة عَلِيٍّ (ع): "إِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِنَا وَنَأْثِرُ عَنْ عُلَمَائِنَا أَنَّ فِي هَذَا الصُّقْعِ عَيْناً عَلَيْهَا صَخْرَةٌ لَا يَعْرِفُ مَكَانَهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَلِيٍّ لِـلَّهِ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ آيَتُهُ مَعْرِفَةُ مَكَانِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى قَلْعِهَا".
وأقول: ألم يُفكّر شيخ الأمة وعلَم الشيعة في نفسه أنه لو تمَّ التعريف بوصيّ النَّبِيّ الأَكْرَم ص في كتب النصارى على ذلك النحو فلابُدَّ ولا ريب في أن تكون تلك الكتب قد عَرَّفَتْ -كما بيّن القرآن - بالنبيّ ذاته أيضاً، وَمِنْ ثَمَّ فلو كانت تلك الفرقة من النصارى تؤمن بتلك الآيات لوجب أن تعتنق الإسلام أولاً وبعد ذلك تطَّلع على خبر نصب عَلِيٍّ (ع) في منصب الخلافة في الغدير وتعرف وصيّ النبيّ أو -حسب قول مُلفّق القصة- كان عليها أن تنتظر حتى يأتي إليها وصيّ النبيّ ويكشف لها عن نبع الماء، لا أن يبقى أهل تلك الفرقة نصارى وساكنين في الدير حتى سنة 36 هجرية!!
68والطريف أن أهل الدير رغم أنهم لم يكن عندهم علم بأن في أرضهم نبع للماء لم يبنوا صومعتهم إلا في جوار ذلك المكان الذي اكتُشف فيه ذلك النبع؟! والأعجب من ذلك أن مُلفّق القصة لم يكن له علم بسيرة أمير المؤمنين علي ÷ لأنه قال في القصة: "ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ وَوَضَعَهَا حَيْثُ كَانَتْ فَأَمَرَ أَنْ يُعْفَى أَثَرُهَا بِالتُّرَابِ"!! مع أن الذين لهم علم بسيرة ذلك الإمام الجليل يعلمون جيداً أن حضرة عَلِيٍّ (ع) حفر في حياته المباركة كثيراً من الآبار ووقفها على المسلمين فإذا وجد نبع ماء في أرض الجزيرة العربية القاحلة ما كان سيُغطّيه أبداً بل كان سيتركه ظاهراً كي ينتفع الناس به، لكن مُلفّق القصة الجاهل بعَلِيٍّ (ع) لما أدرك أن أهل التفكير من سامعيه سيسألون: أين تقع تلك العين التي كشفها عَلِيٌّ في زمن معركة صفّين؟ اضطر -وهو يعلم أن تلك العين ليست سوى أسطورة من اختراعه ولا وجود لها في عالَم الواقع- إلى القول بأن الإمام أخفاها بعدما اكتشفها!!
ثم أتى جناب شيخ الأمة وعلَم الشيعة في الفصلين 76 وَ78 من الباب الثالث من الجزء الأول بأسطورة «ردّ الشمس» وَ«التكلم مع الثعبان»!![622]
69النقطة المهمة جداً التي نلفت إليها نظر القارئ المحترم بشدة هي أن الشيخ المُفيد لم يُقدّم لنا في الجزء الثاني من كتابه «الإرشاد» أيّ نصّ مُعتبر وموثوق يثبت الإمامة الإلـهية لسائر الأئمة، بل كل ما قدّمه لنا هو الادِّعاء وعدد من القصص وأحياناً بعض الأحاديث واضحة البُطلان أو الروايات التي لا تدل على المقصود!!! من هذا يُعلَم أنه لم يكن لديه نصوص مُعتبرة [في النصّ الإلهي على الأئمة]!! (فلا تتجاهل).
يُمكننا مثلاً أن نشاهد أحد أقواله المضحكة في الفصل المُخَصَّص لحضرة سيد الشهداء عليه آلاف التحية والثناء، حين يقول: "طاعته لجميع الخلق لازمة وإن لم يدعُ إلى نفسه للتقيّة التي كان عليها؟!!"[623]. وأقول: إذن فما ذنب الذين لم يعتبروا ذلك الإمام إماماً منصوباً من عند الله؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟
أو أنه صرَّح في الفصل المُتعلّق بحضرة السجاد (ع) أن محمد بن الحنفية «أخ الإمام الحسين لأبيه» ليس إماماً لعدم وجود نصّ على إمامته، ولكنه اعتبر حضرة السجاد (ع) صاحب منصب إمامة المسلمين في عصره دون ذكر نصّ مُعتبر على ذلك ولم يستند في ذلك إلا إلى حديث اللوح الفاضح!!![624] أو مثلاً نجده في الباب الخاص بالإمام الحسن العسكري (ع) لا يأتي بأيِّ شيء سوى أحاديث الباب 132 من المجلد الأول من أصول الكافي الذي يشتمل على 13 حديث، والعجيب أنه ليس هناك من تلك الأحاديث الثلاثة عشر حديث واحد صحيح[625]. (فَتَأَمَّل جداً).
ما ذكرناه هو مُجرّد نماذج بالطبع، وليس لبقية أبواب الجزء الثاني من «الإرشاد» من ناحية إثبات الإمامة الإلهية، وضع أفضل[626]. وإني لأتعجّب من السيد «محمد رضا الحكيمي» الذي خصَّص نصف أحد كتبه للحديث عن الشيخ المُفيد، ولكنه لم يُشر أيّ إشارة إلى عيوب مُؤلَّفاته!! علينا أن ندعو الله أن لا ينخدع الناس بتلك المدائح والثناءات وأنواع التمجيد.
تذكير: في نظرنا إن أفضل كتاب حول موضوع خلافة حضرة عَلِيٍّ (ع) الكتاب الشريف «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد] تأليف أخينا الفاضل المُحقق المُجاهد جناب «حيدر علي قلمداران» (رحمه الله). والذين يقرؤون كتباً من قبيل «عبقات الأنوار» أو «الغدير» أو..... من الضروري أن لا يغفلوا عن قراءة هذا الكتاب. وبالنسبة إلى إمامة سائر الأئمة من المُفيد أيضاً ما ذكرناه في الإصدار الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (الصفحات 609 إلى 676 و807 إلى 893 على الأقل).
بعد أن ثبت أن حديث الغدير لا يدل على الخلافة المباشرة لعَلِيٍّ بعد النبيّ وأن عيد الغدير لا يستند إلى دليل وسند شرعي، نأتي الآن إلى الكلام على صلاةٍ رواها كذّابون وضُعفاء مثل «محمد بن سنان»[627] و«داود بن كثير الرقي»[628] وأتحفوا بها المسلمين ولفّقوا في نهايتها دعاءً تنضح منه رائحة النفاق والشقاق والتفرقة! فمثلاً لما كان أبو بكر مشهوراً بين المسلمين بلقب «الصديق»، اعتبر هذا الدعاء حضرة عَلِيٍّ (ع) «الصديق الأكبر»[629]، كما اعتبر عَلِيّاً: «الْحُجَّة عَلَى بَرِيَّتِهِ الْمُؤَيَّد بِهِ نَبِيُّهُ وَدِينُه». أي أن هذا الدعاء اعتبر عَلِيّاً حُجّة الله مع أن هذا مخالف لقول عَلِيٍّ نفسه الذي قال: «تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ » (نهج البلاغة، الخطبة 91). والله تعالى إضافةً إلى تأييد نبيّه ودينه بعَلِيٍّ (ع)، أيّد دينه أيضاً بأفراد آخرين فتلك الصفة ليست خاصةً بعَلِيٍّ (ع) وحده. في هذا الدعاء اعتُبر عَلِيٌّ (ع): "خازِناً لِعِلْمِهِ [أي علم الله]، وَعَيْبَةَ[630] غَيْبِ اللهِ، وَمَوْضِعَ سِرِّ اللهِ...". وهذه الأقوال مخالفة للعقل والقرآن لأن علم الله عين ذاته ولا يحتاج علم الله إلى خازن وحافظ للخزانة (راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، صفحة 427 وصفحة 870)، وغيبُ الله وسرُّه خاصٌّ بذاته الأحدية ولا يحتاج إلى عَيْبَة وأمين! في هذا الدعاء اعتُبر عَلِيٌّ شاهداً على الخلق، وهذه الصفة -كما أوضحنا في الصفحات السابقة (ص 320 فما بعد)- لا إطلاق لها بل هي مُقيَّدة بشهادته على مُعاصري حضرته.
واعلم أن أعداء الإسلام والمسلمين -كما نشاهد ذلك في أحاديث موضوعة أخرى- أساؤوا القول بنحو الكناية بحق الشيخين أو الخلفاء الثلاثة الأوائل. وفي هذا الدعاء أيضاً إشارة إلى الجبت والطاغوت و..... في حين أنه بعد فتح مكة لم يبقَ ثمَّة أثر للجبت والطاغوت والأوثان كي يبرأ المسلمون منها!! هل يُفيد مثل هذا الدعاء ونظائره سوى بثّ سوء الظن والعناد والعداء بين المسلمين؟!
كتب الشيخ عبَّاس بعنوان العمل التاسع من أعمال يوم الغدير يقول: "أن يهنّئَ من لاقاهُ من إخوانه المؤمنين بقوله: اَلْحَمْدُ للهِ الّذى جَعَلَنا مِنَ الْمُتَمَسِّكينَ بِوِلايَةِ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ وَالأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ".
من البديهي أنه لا يوجد مسلمٌ مخالفٌ لهذه الجملة لأن جميع المسلمين يُحبّون عَلِيّاً (ع) ويعتبرونه أُسوةً لهم، ولكن إذا عرف القارئ المحترم الرواية التي أُخذت عنها تلك الجملة الصحيحة لتعجّب كثيراً قطعاً! جاء الحديث المذكور في كتاب «إقبال الأعمال» (ص 464) ويدَّعي أن الملائكة الكاتبين الذين يكتبون أعمال العباد يرفعون القلم في عيد الغدير لمدة ثلاثة أيام عن مُحبي أهل البيت وشيعتهم ولا يكتبون ذنوبهم [كي يرتكبوا ما شاؤوا من الأفعال!!] وأن ذلك اليوم هو يوم الصفح عن مُذنبي شيعة أمير المؤمنين علي ÷!!![631]
اعلم أنه لا يوجد في زماننا شخص عدوٌّ -نعوذ بالله- لعَلِيٍّ أو مُنكر لوجوب ولايته ومحبّته أو لا يرى أنه إمام وقدوة للمؤمنين. في حين أننا رأينا ضمن الأعمال والأدعية المنسوبة إلى عيد الغدير جملاً تتضمن لعن مُنكري ولاية عَلِيٍّ والبراءة منهم، بشكل مُتكرّر، مع أنه لا أحد يُنكر قضايا الغدير وكل المسلمين يعلمون أن رسول الله ص أوصى في غدير خم بموالاة حضرة الأمير (ع)، ولكن هؤلاء الكُتَّاب يريدون أن يُثبتوا بالقوة أو بالأحاديث الموضوعة خلافة عَلِيٍّ (ع) المباشرة للنبيّ!! هذا رغم أن عَلِيّاً (ع) نفسه وأنصاره -كما مرّ معنا في الصفحات السابقة- لم يكونوا يدّعون الخلافة المنصوص عليها من الله. (فلا تتجاهل).
يطلب الداعون في هذه الأدعية من الله تعالى مراراً أن يجعلهم من المُتمسكِّين بولاية عَلِيٍّ (ع) في حين أنهم بسبب البِدع والعقائد غير المُستندة أو الموضوعة التي ابتدعوها والتي تُخالف عقائد ذلك الإمام الجليل وأعماله جعلوا أنفسهم في زُمرة مُخالفي الإمام أو أعدائه! ولذلك نقول: إن مُجرّد الدعاء والادِّعاء لا يُصبح شيئاً بل على الإنسان أن يُثبت بعمله أنه مُحبّ فعلاً لأمير المؤمنين (ع) وليس عدواً له.
في فضل يوم المباهلة[632] يقول إن جبريل هبط في ذلك اليوم بآية التطهير[633] التي نزلت في علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام. وقد تكلمنا بالتفصيل في التنقيح الثاني لكتابنا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 613 إلى 620) عن آية التطهير فلا نكرر الكلام هنا. ويقول أيضاً: "في هذا اليوم أيضاً تصدّق أمير المؤمنين (عليه السلام) بخاتمه على الفقير وهو راكع، فنزل فيه الآية إنّما وَليُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ [المائدة: 55]."
أقول: حول موضوع تصدُّق أمير أو إعطائه الزكاة أثناء الركوع في الصلاة يُراجَع ما جاء في الكتاب الشريف: «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص 145 إلى 148). وما ذكرناه في كتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 621 حتى 628).
ثم يقول في أعمال يوم 25 من ذي الحجَّة: "وهو اليوم الذي نزلت فيه ﴿هَلۡ أَتَى...﴾في شأن أهل البيت لأنّهم كانوا قد صامُوا ثلاثة أيّام وأعطوا فطورهم مِسكيناً ويتيماً وأسيراً وأفطروا على الماء"!!!
هنا أذكر ذِكرى كنت قد أوردتها أيضاً في مقدمة تفسير «تابشى از قرآن» [شعاع أو قبس من القرآن]:
"جاءني يوماً أحد الخطباء الدينيين وقال: هل تؤمن بأن سورة الإنسان (الدهر) في الجزء 29 من القرآن نزلت بشأن أمير المؤمنين عليّ ÷ وأهل بيته؟ قلت له: نعم، أؤمن بذلك، ولكن ما موقفك أنت؟ فأنا أعتقد أنك لا تؤمن بذلك، بل لا تعتبر الإمام عليّاً (ع) مُتَّبِعاً للعقل ولا للقرآن، وأنك تُقَلِّلُ من شأن القرآن!! فاستاء الرجل وقال: لماذا تتهمني؟! فقلتُ له: لا أتَّهمك بل أدَّعي أمراً لديَّ الدليلُ عليه، وسأثبت لك الآن على نَحْوٍ يجعلك أنت نفسك تُقرُّ بما أقول. هل تعتقد أن هذه السورة نزلت من أولها إلى آخرها بشأن عليٍّ (ع)؟ قال الرجل: نعم. قلتُ: حسناً، جاء في بداية السورة﴿إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ﴾[الانسان: ٢]، وجاء في تفاسير الشيعة أن المقصود من الإنسان هنا هو الإمام عليٌّ، أتؤمن بذلك؟ قال: أجل. قلتُ: حسنٌ جداً. ثم قال تعالى بعدها: ﴿مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ﴾[الانسان: ٢]، هل تؤمن - كما جاء في الآية - بأن الإمام عليّاً خُلِقَ من نُطفةِ حضرة أبي طالب وفاطمة بنت أسد، فتأمَّل الرجل قليلاً وسكت ولم يُجِبْ، ثم قال: كلا إن علياً خُلِق من نور، وكان موجوداً قبل أبيه بمئات آلاف السنين. قلتُ: إذن تَبيَّنَ أنك لا تؤمن بأن هذه الآية وهذه السورة نزلت بشأن عليٍّ عليه السلام، فلماذا أقررت بنزولها بشأن عليٍّ في بداية الأمر؟ ولماذا كتبتم في تفاسيركم[634] بأن هذه السورة نزلت بشأن عليٍّ عليه السلام؟؟ أضِف إلى ذلك أنه جاء في [بعض] تفاسير الشيعة أنَّ الحسن والحسين مرضا فنذر عليٌّ وفاطمة [وفضَّة جارية لهما] إنْ برئا مّما بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام، فلمَّا شفيا، فقام عليٌ - استعداداً للصوم - بشراء ثلاثة أصواع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزته خمسة أرغفة، فوضعوا الأرغفة بين أيديهم ليفطروا أول يوم من أيام الصوم، فوقف عليهم سائل وقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكينٌ من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه بأقراص الخبز الخمسة!!! وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء - بما في ذلك أَمَتُهُم فِضَّة - وأصبحوا صياماً!! فلما أمسوا في اليوم الثاني ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم، فآثروه بأقراص الخبز الخمسة، وباتوا مرَّةً أُخرى لم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صياماً، ووقف عليهم أسيرٌ في الثّالثة عند الغروب، ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ عليٌّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله ص، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: كذا وكذا... فنزل عندئذٍ قوله تعالى: ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا ٨﴾[الانسان: ٨]؟!
هل تقبل بهذه القصَّة؟ قال: بلى. قلتُ: حسناً، إن كانت هذه القصة صحيحةً، فإن علياً وأهل بيته عليهم السلام لم يتَّبعوا الحكمة والعقل ولا اتَّبعوا القرآن، بل خالفوا أمر الله بعملهم هذا. قال: كيف؟ قلتُ: أولاً: ألم يكُ يكف ذلك السائل أو اليتيم نصف رغيفٍ من الخُبْز؟ هل كان ذلك السائل أو اليتيم يريد فتح دُكَّانٍ لبيع الخُبز؟ ثم أليس الأقربون أولى بالمعروف؟ ألم يكن بمقدور الإمام عليّ أن يعطي السائل نصف رغيف من الخبز ويطعم نفسه وزوجه وأولاده بقية الأرغفة حِفْظاً لصحتهم وسدَّاً لجوعهم. ألم يخالف بإعطائه كل الأرغفة للمسكين وترك أولاده جوعى قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ فَتَقۡعُدَ مَلُومٗا مَّحۡسُورًا ٢٩﴾[الاسراء: ٢٩]وآية ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا ٦٧﴾[الفرقان: ٦٧]؟؟[635] ألم يخالف بذلك أيضاً حكم العقل الذي جعله الله حجَّةً على الإنسان؟! ألم يكن النبي ص والإمام (ع) تابعين للقرآن؟ كيف لا وقد أمر الله تعالى رسوله باتِّباع القرآن فقال: ﴿ٱتَّبِعۡ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ﴾[الانعام: ١٠٦]؟ ألم يكن أهل بيته مأمورون بالعمل بأمر الله تعالى هذا؟ وإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه باتِّباع العقل، فكيف لا يتِّبع عليٌّ وأهلُ بيته العقل والقرآن؟ كيف يترك أولاده المساكين ضعافاً وجوعى؟ وهل الإمام الذي لا يعرف واجباته العقلية ولا أوامر القرآن إمامٌ؟ ثم ما ذنب الجارية [فضَّة] حتى يُعطى خُبزُها للآخرين؟!![636]
فما جاء في التفاسير مخالفٌ للقرآن ومخالفٌ للعقل، ومُضْعِفٌ للقرآن، ويُظْهِرُ أهل بيت رسول الله ص وكأنَّهم جاهلين بالقرآن.
و اللهُ لا ينزِّل أي آياتٍ في الثناء على شخص جاهل بالقرآن لا يتَّبع العقل، ولا يوحي سورةً في مدحه. إننا نؤمن أن القرآن مجموعة من الحقائق وأنه مُطابق للفطرة وأن حضرة عليٍّ وحضرة الزهراء - عليهما السلام - كانا عاقلين وعالمين بالشريعة، وأن ما ذكره الرواة الخرافيون تهمةٌ لهم.
إذا تأمَّلْنا الآية الشريفة وتدبرناها بعيداً عن التعصُّب للاحظنا أن المِسْكِين وَاليَتِيم وَالأَسِير عُطف بعضهم على بعض بواو العطف التي تدل على الجمع بين المعطوفات، فأكثر ما يمكن قوله: إن الثلاثة: المسكين واليتيم والأسير، جاؤوا إلى باب بيت عليٍّ (ع) مع بعضهم في ليلة واحدة، فأعطاهم الأرغفة في تلك الليلة فقط، وطبخ خبزاً آخر للسحور من صاعي الشعير الباقيين[637]. (فتأمَّل) إن كلمات مسكين ويتيم وأسير لم تُعطف على بعضها بحرف "ثُمَّ" فلا ضرورة لتفسير الآية الكريمة بأن السائلين جاؤوا في ثلاثة أيام متوالية، وعندئذٍ فلا يبقى ثمَّة مبرِّرٌ أن يقوم خمسة أشخاص صائمين جائعين بإعطاء ثلاثة جائعين خمسة أرغفة من الخبز، بل الأكثر تناسباً مع تعاليم الشرع أن يتم إعطاؤهم ثلاثة أرغفة على أكثر تقدير، (ولا دليل على استحباب التصدق برغيف الأمة الفقيرة فضة أيضاً!![638]) ويتم إبقاء رغيفين ليُطْعَمَ منها طفلين تعافيا للتوّ من مرضهما ولا يُبقَيَا جائعين!
فما جاء في الروايات مخالفٌ للقرآن ومخالفٌ للعقل والمنطق، كما أنه يُظْهِرُ أمير المؤمنين علي (ع) وأهل بيته جاهلين بالشريعة!!. فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا؟
***
[589] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبة)، ص 342. (الـمُتَرْجِمُ) [590] لقد عرَّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 151 فما بعد. [591] ذكر أستاذ الشيخ عبَّاس القُمِّي -أي الميرزا حسين النوري الطبرسي- في كتابه «مستدرك الوسائل» (ج 1، ص 593) رواية تقول: إن يوم 29 ذي القعدة هو يوم هبوط الكعبة! [592] أو ص 344 من النسخة المُعَرَّبة من المفاتيح. (الـمُتَرْجِمُ) [593] ونص الحديث في الوسائل: "مَنْ صَامَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ- كَتَبَ اللهُ لَهُ صَوْمَ ثَمَانِينَ شَهْراً، فَإِنْ صَامَ التِّسْعَ كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَوْمَ الدَّهْر ". (الـمُتَرْجِمُ) [594] الصفحة 342 من النسخة المُعَرَّبة من «المفاتيح». (الـمُتَرْجِمُ) [595] الصفحة 376 من النسخة المُعَرَّبة من «المفاتيح». (الـمُتَرْجِمُ) [596] لما كان حبل الكذب قصير فإنه ذكر في الدعاء المنقول عن الشيخ المفيد أن هذا اليوم هو يوم «الجمع المسؤول»! [597] وسائل الشيعة، ج 5، ص 224. [598] مفاتيح الجنان، النسخة المُعَرَّبة، ص 378. (الـمُتَرْجِمُ) [599] عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 86 فما بعد. [600] وسائل الشيعة، ج 7، ص 323، الحديث 1. [601] دعا عليٌّ (ع) الناسَ في اليمن إلى الإسلام وقضى بين المسلمين وأشرف على جباية الزكاة. [602] لا شك أن هدف النبي ص من كلامه بحق عليٍّ في ذلك الموقف لا يقتصر على ما ذكره المؤلف بل من الواضح أنه يدل على رغبة النبيِّ ص ببيان استقامة عليٍّ (ع) ونزاهته ومكانته العظيمة في الإسلام وشدة قربه من النبي ووجوب نصرته وحرمة قتاله، ولا يخفى أن الله تعالى ألهم رسوله قول ذلك في ذلك المقام واللحظات الأخيرة من عمره الشريف لعلمه تعالى بانقسام المسلمين في المستقبل ومحاربة فريق منهم - أي الناكثين والقاسطين والمارقين- لعليٍّ عليه السلام. (الـمُتَرْجِمُ) [603] الجملة الأولى "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلاهُ" أخرجها الترمذي وابن ماجه في سننهما وأحمد في مواضع من مسنده، والحاكم في المستدرك، والطبراني في مواضع من معجمه، وَحَكَمَ غير واحدٍ من أساطين المحدِّثين بتواترها، منهم: الإمام السيوطي في كتابه: "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة"، والإمام المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير"، والعلامة الزرقاني شارح المواهب اللدنّيّة بالمنح المحمّديّة للقسطلاني، والفقيه المحدث محمد بن جعفر الحسني الإدريسي الشهير بالكتاني في كتابه: "نظم المتناثر من الحديث المتواتر". أما الحديث بتمامه فقد الإمام أحمد في مسنده، ج 1، ص118 و119، وبأرقام 950 و951 في الطبعة التي حققها أحمد محمد شاكر، وقال: إسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك، عن «زيد بن أرقم» مرفوعاً، ج3، ص109، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجَاه بطوله. وأخرجه من طريق آخر عن «زيد بن أرقم» في ج 3، ص533، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. وأورده الذهبي في تلخيصه مُقِرَّاً بصحته. ورواه النسائي في «السنن الكبرى»، ج 5، ص 136 وص 155، وفي «خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»، ص21 طبعة التقدم بمصر، وص93 ط الحيدري، وص35 ط بيروت. وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير عن حبشي بن جنادة (ج4، ص16، رقم 3514) وقال الهيثمي في المجمع (ج9، ص106): رجاله وُثِّقُوا. وأخرجه البزَّار في مسنده (ج3، ص34، رقم 786) وقال الهيثمي (ج9، ص105): رجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة. (الـمُتَرْجِمُ) [604] من الضروري أن نذكِّر بنقطة هامة توعيةً للقراء المحترمين وهي أن عليهم أن يُلقوا نظرةً إلى خريطة الجزيرة العربية كي يلاحظوا أن غدير خم يبعد عن مكة حوالي 200 كيلومتر شمالاً أو أكثر. إن الانتباه إلى هذه النقطة يلفت انتباهنا إلى كذب ما يدَّعيه مشايخنا من أن النبيّ أدلى بحديث الغدير في مكان كان أهل كل منطقة يتفرقون فيه عن القافلة ليتجهوا نحو أوطانهم!! إذْ من الواضح أنه لم يكن من الضروري لأهل القبيلة الفلانية القاطنين في شرق مكة مثلاً أن يقطعوا مئتي كيلومتر شمالاً كي يفترقوا عن القافلة ويتجهوا نحو الشرق!! فمثلاً إذا أراد أهل اليمن -التي تقع جنوب مكة- العودة إلى بلادهم أو أراد أهل الطائف أيضاً أن يرجعوا إلى موطنهم أو أراد بعض أهل العراق العودة إلى ديارهم لفعلوا ذلك من ميقاتهم الذي يقع على بعد حوالي 95 إلى 110 كيلومترات شمال شرق مكة لا أن يقطعوا مسافة 200 كيلومتر شمال مكة ثم يختاروا طريقهم للذهاب إلى بلدانهم!! (فَتَأَمَّل). بناءً على ما تقدم فإن الذين بقوا ضمن قافلة النبيّ بعد قطع مئتي كيلومتر بعيداً عن مكة كانوا من الذين يقصدون العودة إلى المدينة وأطرافها أو العودة إلى المناطق الواقعة في طريقهم نحو المدينة فحسب. [605] من الضروري في هذا الموضوع مراجعة التنقيح والإصدار الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 657. [606] اعلم أن أنصار عَلِيٍّ (ع) كانوا أكثر ممن ذكرناه في المتن، والذين ذكرناهم هم نماذج منهم فقط، وبما أننا ذكرنا اسم «الزبير» فينبغي أن ننتبه إلى أن علماءنا يُضلّلون الناس بشأن «الزبير بن العوام»، ومن الضروري أن نتعرّف قليلاً على أحواله. كان «الزبير» ابن عمة عَلِيٍّ (ع) ومن مجاهدي الإسلام الكبار ومن العشرة المُبشَّرين. أسلم وعمره ستة عشر عاماً، وشهد غزوات الرسول جميعها وهاجر إلى الحبشة والمدينة وبذل تضحيات في فتح مصر. كان «الزبير» من أنصار عَلِيٍّ (ع) الصادقين وقد صرّح عليٌّ قائلاً: "مَا زَالَ الزُّبَيْرُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ المشؤوم عَبْدُ اللهِ فَأَفْسَدَهُ". (نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 453). إن الناس لدينا لم يسمعوا عن الزبير إلا أنه خرج في حرب عليٍّ (ع)، في حين أن ذلك ليس هو القصة بتمامها، ورغم أن الزبير كان سنة 36 للهجرة في صفِّ المحاربين لعليًّ (ع) إلا أنه قبل وقوع القتال بين الفريقين ندم وتنحَّى عن الجيش جانباً، فلما رأى الثوار الهائجون أن خروج شخصية بارزة مشهورة كالزبير سبب لضعفهم في مواجهة جيش عليٍّ (ع) قام شخص انتهازيٌّ يُدعى «عمرو بن جرموز» باغتيال «الزبير» على حين غرّة. بناءً على ذلك فإن «الزبير» اغتيل خارج المعركة. ولكن مما يُؤسف له أن علماءنا وكُتَّابنا لا يُشيرون إلى نُصرة الزبير لعليٍّ (ع) مُدّةً طويلةً من عمره ولا إلى ندمه وعدم مشاركته في الحرب ضدّ عليٍّ (ع)، ويبالغون في تضخيم حضوره في جيش مخالفي عليٍّ (ع) سنة 36 للهجرة!! وعلى كل حال كلامنا هنا هو أننا نلفت نظر القراء الكرام إلى أن مثل تلك الشخصية الكبيرة لو فهمت من حديث غدير خم في السنة العاشرة للهجرة النصَّ على خلافة عليّ (ع) لَمَا كتم ذلك قطعاً ولَمَا تجاهله. (فَتَأَمَّل) [607] إذا أخذنا اهتمام عليٍّ الشديد بصيانة الإسلام بعين الاعتبار وأخذنا بعين الاعتبار أيضاً الفتن المتلاحقة للمرتدين ومُدَّعي النبوة التي بدأت بعد رحيل النبيّ ص، فإنه من المستبعد أن يتأخر ذلك الإمام الجليل الذي كان من أعظم مجاهدي الإسلام وفدائييه مدة 3 أشهر أو 6 أشهر عن بيعة أبي بكر وإكمال مشروعية خلافته. وهذا الادِّعاء لا يتوافق مع قول أمير المؤمنين الذي قال -في الرسالة 62 من نهج البلاغة-: ".... فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسْلامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ". [608] يقول أخونا الفاضل جناب السيد مصطفى الطباطبائي طبقاً للنص الصريح لهذه الآية تمَّ دين الله بالقرآن وسنة النَّبِيّ الأَكْرَم صالقطعية ووصل إلى كماله ولم يبقَ فيه نقص أو شيء لم يُقَل بعد، حتى يأتي آخرون بعد النبيّ فيُكمِّلونه! ولهذا السبب ورد عن الأئمة الكرام أحاديث عديدة يقولون فيها: اعرضوا ما رُوي عنا على القرآنفما وافق القرآن فاقبلوه وما خالفه فارفضوه. أما في الموارد التي سكت عنها الدين فإن القرآن قد بيَّن لنا الطريق التي يجب على المسلمين أن يسلكوها وهي تشاور العلماء والمحققين المسلمين في الأمور واتِّخاذهم القرارات بشأنها لا اتِّباع الفتاوى الشخصية لهذا أو ذاك! (فَتَأَمَّل) [609] مجمع البيان للطبرسي، مُقدّمة تفسير سورة المائدة. [610] الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، الطبعة السابعة، ص 145. [611] أصل الشيعة وأصولها، ص 192 - 193. من الملفت للانتباه أن المرحوم كاشف الغطاء روى في كتابه هذا ذاته ستة أحاديث تدل على منزلة عليّ الخاصة ومكانته المتميزة في الإسلام. وذكر الحديث السادس قائلاً: "6- الحديث المشهور: «عليٌّ مَعَ الحقِّ وَالحقُّ مَعَ عليٍّ»". ولكن يا ليته ذكر في متابعة كلامه أن «ابن أبي الحديد» شارح نهج البلاغة المعروف قال: "قد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى بهذا وصرح به تلامذته وقالوا: لو نازع عقيب وفاة رسول الله ص وسل سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدم عليه، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه، ولكنه مالك الأمر وصاحب الخلافة إذا طلبها وجب علينا القول بتفسيق من ينازعه فيها وإذا أمسك عنها وجب علينا القول بعدالة من أغضى له عليها، وحكمه في ذلك حكم رسول الله ص لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال «عليٌّ مَعَ الحقِّ وَالحقُّ مَعَ عليٍّ يدور حيثما دار» وقال له غير مرة «حربك حربي و سلمك سلمي»". (شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، درا المعرفة ودار الكتاب العربي و...، المجلد الأول، ص 211 و 212 ، في شرح الخطبة رقم 38). [612] من الواضح تماماً أنه في العمل الذي لا يتمُّ بالإجبار والإكراه فإنه بعد تحقق عقد البيعة لا يُسمع ادِّعاء عدم الرضا القلبي بها، والشاهد على ذلك أن حضرة أمير المؤمنين علي ÷قال عن الزبير يدعوه للدخول في البيعة ثانيةً: "يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ ولَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وادَّعَى الْوَلِيجَةَ؛ فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ وإلا فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ". (نهج البلاغة، الخطبة 8). [613] تاريخ الطبري، ج 5، ص 2786، والكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 3، ص 37، والبداية والنهاية، ابن كثير، ج 4، ص 146. [614] كان النصح الخاص والمودة الصادقة سائدان بين كبار الصحابة، وإذا حصلت كدورةٌ بين بعضهم أحياناً فإن ذلك لم يكن يذهب بأصل الصداقة والأُخُوَّة بينهم وسرعان ما كانت تلك الكدورة تنتهي بالصلح والصفاء. كان الخلفاء يقبلون دائماً وصايا حضرة عليّ (ع) واقتراحاته. فالكل يعلم أن أبا بكر قَبِلَ رأي عليّ (ع) بشأن مبدأ تاريخ الإسلام وأنه كان يُشاور عليَّاً (ع) في أموره. وكان عليٌّ يقوم بمهمَّة تقسيم الغنائم في زمن خلافة الشيخين. وفي زمن فتوح الشام رجَّح أبو بكر رأيَ عليّ (ع) على آراء الآخرين وعمل به. وكانت أمور القضاء أيضاً في فترة خلافة الشيخين بيد عليّ. وكان عمر كثيراً ما يُرجع المُستفتين في المسائل الفقهية إلى حضرة عليّ. (راجعوا كتاب «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص 120 و121) والإصدار الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات 427 - 428 و 600 حتى 603). وعلى الأقل فالمشهور بيننا أن عمر كان يقول: «أقضانا علي» أو يقول: «أعوذ بالله من مسألة ليس لها أبو الحسن» أو يقول: «عجزت النساء أن تلد مثل عليّ». وقد روى الشيعة والسنة أخباراً تُفيد أن عمر عدل عن رأيه بعد أن سمع رأي عليّ. والمعروف أن عمر كان يقول: «إذا حكم عليّ بأمر خلافاً لرأيي فاتَّبعوا رأيه» إلى حدّ أن عمر قام مرّةً بحبس غلام، فصادف عليّ في طريقه الغلام والمأمورين وسأل عن الموضوع فلما علم بحال الغلام حكم ببراءته فأعادوا الغلام إلى أهله فسأل عمر المأمورين: لماذا لم تُنفِّذوا أمري؟ فقالوا له: ألم تقل أنت نفسك مرات عديدة إذا حكم عليّ خلافاً لحكمي فاعملوا بقوله؟ وقد فعلنا بما أمرت! (من الضروري مراجعة حاشية الصفحة 120 من كتاب «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد]). أيها القارئ اللبيب: هل يقوم غاصبو الخلافة عادةً باحترام من غُصب حقه والرجوع إليه إجلاله وإكرامه والثناء عليه وتمجيده والعمل برأيه، أم يقومون بإبعاد الناس عنه وحرفهم عنه؟!! [615] نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 هـ)، وقعة صفّين، ص 89. [616] إبراهيم بن محمد الثقفي (ت 283هـ)، الغارات، ج 1، ص306. ولا تنحصر جمل عليّ (ع) في تأييد الشيخين بالموارد المُشار إليها أعلاه ولكن ما ذكرناه نماذج تكفي في بحثنا هنا. وندعو القراء الكرام إلى الرجوع إلى الكتاب القيم: «راهى به سوى وحدت اسلامى» [أي طريق نحو الوحدة الإسلامية، تأليف السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي]، ص من 163 حتى 182. [617] راجعوا حاشية الصفحة 359 من الكتاب الحاضر. [618] انظر تاريخ الطبري، ج 3، ص 294، والكامل في التاريخ لابن الأثير، أحداث سنة 23 هــ ، ذكر قصة الشورى. (الـمُتَرْجِمُ) [619] قال الدَّارَقُطْنِيّ عنه (في الضعفاء والمتروكون، رقم 449): "إخباريٌّ ضعيفٌ". انتهى. وقال عنه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (الترجمة رقم 1621): "عن يحيى [بن معين] قال: أبو مخنف ليس بشيء، وهذا الذي قاله ابن معين يوافقه عليه الأئمة، فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته وباسمه حدَّث بأخبار من تقدَّم من السلف الصالحين ولا يبعد منه أن يتناولهم، وهو شيعيٌّ محترق". انتهى. وقال: الذهبي في ميزان الاعتدال (ج3، الترجمة رقم 6992): "لوط بن يحيى أبو مخنف، أخباريٌّ تالفٌ، لا يُوثَقُ به". انتهى. (الـمُتَرْجِمُ) [620] أُؤكد هنا على ضرورة ملاحظة ما ذُكر في الكتاب القيم «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص من 82 إلى 104). [621] لاحظوا أن الإمام اعتبر المُهاجرين والأنصار الذين -حسب قولكم- أزاحوا الإمام المنصوب مِنْ قِبَلِالله جانباً وولّوا غيره مكانه: «مؤمنين»!! في حين أنه كان يستطيع في مقام مُحاججة الخصم أن يكتب بدلاً من ذلك عبارة «أكثر الناس» مثلاً أو نظائرها ولا ينصُّ على أن أولئك الأفراد «مؤمنين». (فَتَأَمَّل) [622] راجعوا بشأن هاتين الأسطورتين كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات]، ص 114 حتى 116 و 251 حتى 253. [623] حقاً إنه لمن الظلم والبُعد عن الإنصاف نسبة التقيّة إلى حضرة سيد الشهداء رضوان الله تعالى عليه. [624] بشأن حديث اللوح الفاضح راجعوا كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، الصفحة 166 فما بعد، فصل «نظرة إلى أحاديث النص وبيان درجتها من الصحة» والتنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، القسم المتعلق بتمحيص أحاديث الباب 183 من المجلد الأول من أصول الكافي، ج2، ص 862 إلى 893. [625] راجعوا بشأن هذه الأحاديث الثلاثة عشر كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 663 - 664. [626] في نظرنا من المُفيد للأفراد المُحققين إذا واجهوا عالماً خرافياً أن يقولوا: ليس عندنا أيّ نقاش بشأن دلالة حديث الغدير، ونحن نفترض أن حضرة عَلِيٍّ (ع)منصوص عليه ومنصوب من عند الله وخليفة مباشر لرسول اللهص، فائتنا بنصٍّ مُعتبر واحد على النصّ الإلهي على سائر الأئمة! [627] عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 304 إلى 308. [628] عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 399 - 400 و 458. [629] كما أنه في دعاء الصفحة 281 و 282 من المفاتيح المنقول عن الشيخ المفيد تمّ تلقيب عَلِيٍّ بـ «الفاروق بين الحق والباطل» أُسوةً بلقب الفاروق الذي اشتُهر به عمر. [630] معنى كلمة «عيبة» الوعاء والخزانة التي توضع فيها الثياب. [631] جاء في جزء من الرواية المذكورة ما يلي: "وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَأْمُرُ اللهُ فِيهِ الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ أَنْ يَرْفَعُوا الْقَلَمَ عَنْ مُحِبِّي أَهْلِ الْبَيْتِ وَشِيعَتِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ الْغَدِيرِ وَلَا يَكْتُبُونَ عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنْ خَطَايَاهُمْ كَرَامَةً لِمُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ........ وَيَوْمُ الْبِشَارَةِ وَالْعِيدِ الْأَكْبَرِ....... وَيَوْمُ الصَّفْحِ عَنْ مُذْنِبِي شِيعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ..... وَيَوْمُ عِيدِ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ .... وَهُوَ يَوْمُ التَّهْنِيَةِ يُهَنِّي بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَإِذَا لَقِيَ الْمُؤْمِنُ أَخَاهُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِـلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِوَلَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَئِمَّةِ عليهم السلام.". وفي هذه الرواية أمور عجيبة أخرى أيضاً ولكننا نكتفي بما ذكرناه منها هنا. [632] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 381. (الـمُتَرْجِمُ) [633] يقصد بآية التطهير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣﴾[الأحزاب: 33]. (الـمُتَرْجِمُ) [634] يُنْظَر مثلاً تفاسير: التبيان للشيخ الطوسي، وتفسير فرات الكوفي، وتفسير البرهان للشيخ البحراني، وتفسير نور الثقلين للحويزي، ومن المعاصرين تفسير الأمثل لآية الله ناصر مكارم الشيرازي، كلها ذيل تفسيرهم للآية 8 من سورة الإنسان. [635] والآية 41 من سورة الأنعام. [636] من الطريف أنه يظهر من القصة أن المسكين واليتيم والأسير كانوا في تلك الأيام الثلاثة مراقبين تماماً لذلك البيت! وكانوا لا يأتون لطلب الصدقة إلا في لحظة الإفطار بالضبط، عندما تكون أيدي أصحاب البيت قد امتدَّت إلى الخبز لتفطر عليه، ولم يأتِ أحدٌ من أولئك الثلاثة الطالبين للصدقة متأخراً ولو ثلاثة دقائق عن وقت الإفطار بما يعطي الفرصة لأهل البيت أن يأكلوا ولو لقمة أو لقمتين من خبزهم، وينفقوا ما بقي منه!!. [637] إذا كان كل صاع يساوي 2400 أو 2176 غراماً، فإن ثلاثة أصواع من الشعير تعدل 6,5 كغ من الشعير وهذا يكفي لِـخَبْزِ 15 رغيفاً! [638] لم أسمع حتى الآن أحداً يقول إن الآيات المذكورة نزلت في فضة أيضاً!
هذا الفصلان مُخَصَّصَان لشهري مُحَرَّم وَصَفَر. يقول مؤلف المفاتيح: "قال الشيخ الطوسي: يُسْتَحَبُّ صيام الأيام التسعة من أول محرَّم، وفي اليوم العاشِر يُمسِك عن الطعام والشراب إلى بعد العصر، ثم يُفطِر على قليل من تربة الحسين عليه السلام"!![639] وأقول: هل يملك الشيخ الطوسي الحق في التشريع حتى يضيف من عند نفسه مستحبات أو مكروهات على الشريعة؟!! هل الإسلام يأمر بأمور مخالفة للصحة؟!! هل هؤلاء يريدون خيراً للإسلام والمسلمين؟!
وفي الصفحة 290 ينسب إلى أمير المؤمنين علي ÷ صلاةً راويها «وهب بن منبِّه» الذي كان مروِّجاً للإسرائيليات!! ثم يقول عن شهر صفر: "اعلم أنّ هذا الشّهر معروف بالنّحوسة"!! وأقول: هل هناك خرافة أوضح من أن نعتبر شهراً من هشور السنة نحساً؟! إن مثل هذه الأقاويل التي لا دليل عليها هي التي تجعل بعض من المفكِّرين يسيئون الظن بالإسلام.
ثم يقول الشيخ عبَّاس: "روى الشّيخ [الطوسي] في «التّهذيب» و«المصباح» عن الإمام الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: عَلَامَاتُ الْمُؤْمِنِ خَمْسٌ: صَلَاةُ الْخَمْسِينَ، وَزِيَارَةُ الْأَرْبَعِينَ، وَالتَّخَتُّمُ فِي الْيَمِينِ، وَتَعْفِيرُ الْجَبِينِ، وَالْجَهْرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم "[640].
هذه الرواية ذكرها الشيخ الطوسي في «مِصْبَاحُ المُتَهَجِّد» (ص 730) ولم يذكر لها سنداً، لأنه كان يعلم أن رواتها من الضعفاء والمجاهيل. لكم الأهم من ذلك هو متن الرواية المعلول والمعيب لأنه وضع «الصلاة» التي أوصى بها القرآن الكريم إلى جانب "التَّخَتُّمِ فِي الْيَمِينِ" أو «زِيَارَةِ الْأَرْبَعِينَ» المروية عن ابن فضال الواقفي وعن «سعدان بن مسلم» الذي لم يُوَثَّق!! وليت شعري لولم يقم المسلم بتلك الأمور ألا يُعَدُّ مؤمناً؟!! هذا في حين أن ما نقرؤه في كتاب الله يخالف لهذا الكلام. لقد بين لنا القرآن الكريم علامات المؤمن بصراحة ووضوح ولا نجد بينها ثلاثة من العلامات المذكورة في الرواية. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣﴾[الانفال: ٢، ٣].
وقال عزَّ مِنْ قائل: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٧ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩﴾[المؤمنون : ١- ٩].
نعم، لقد ذُكِرَت في القرآن الكريم علامات متعددة ليس بينها ثلاثة من تلك العلامات المذكورة في الرواية في حين أن لدينا في طهران كثير من الناس يتختَّمون باليمين أو يقرؤون زيارة الأربعين ولا يعطون الزكاة لأنهم مقلدون لعلماء حصورا الزكاة في أجناس تسعة فقط ووضعوا لها شروطاً عجيبة من النادر تحققها!![641]
لماذا أصبح حالنا هكذا؟ لأن كتابَ المفاتيح أصبح له بين الناس مشترين أكثر من القرآن، ولا أحد من العلماء يقول للعوام إنكم لا تفهمون المفاتيح ولكن أكثر العلماء يقولون للعوام إن القرآن ظنّيّ الدلالة وعليكم أن تدرسوا في الحوزة العلمية سنوات عديدة كي تتمكَّنوا من فهم القرآن بصورة ظنّيّة!!
***
[639] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 387- 388. (الـمُتَرْجِمُ) [640] ذكر الشيخ عبَّاس القُمِّيّ هذه الرواية مرة ثانية بعد زيارة عاشوراء غير المشهورة (ص 468 من المفاتيح) ! [أو ص 593 من النسخة المُعَرَّبَة للمفاتيح]. [641] من الضروري في هذا المجال مراجعة كتاب «حقايق عريان در اقتصاد قرآن - زكات» [أي الحقائق الجلية في اقتصاد القرآن - الزكاة]، تأليف المرحوم حيدر علي قلمداران.
يتعلَّق هذا الفصل بشهر ربيع الأول. يقول مؤلف المفاتيح:
"فيها في السّنة الثّالثة عشرة من البعثة هاجر النّبي ص من مكّة إلى المدينة المنوّرة فاختبأ هذه اللّيلة في غار ثور، وفاداه أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بنفسه فنام في فراشه غير مجانب سيوف قبائل المشركين، وظهر بذلك على العالمين فضله ومواساته وإخاءه النّبي ص؛ فنزلت فيه الآية: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ﴾[البقرة: ٢٠٧]."[642]. انتهى.
أقول: إن هذا الكلام صحيح تماماً وكل المسلمين يؤمنون به، ولكنكم تقولون: لا شيء يخفى على الإمام سواءً كان من أمور الماضي أم الحاضر أم المستقبل (الباب 106 من أصول الكافي)[643]، بناءً على ذلك فالإمام عَلِيٌّ كان عالماً «بما كان وما يكون وما هو كائن» وَمِنْ ثَمَّ كان يعلم أنه لن يصل إليه أذَىً من المشركين، وَمِنْ ثَمَّ، فالذي يُقدم على عمل خطير حسب الظاهر ولكنه يعلم أنه لن يُصيبه منه أيّ ضرر، ليس له في الإقدام على هذا العمل أيّ امتياز أو فضيلة. أضف إلى ذلك أنه في ليلة المبيت ذاتها ذهب رسول الله ص برفقة أبي بكر إلى غار ثور وكان أبو بكر قد جهّز للنبيّ مُقدّمات السفر من الزاد والراحلة وسائر اللوازم، ولم يكن أبو بكر عالماً بالمستقبل عندما كان في غار ثور مع النبيّ وواجه الاثنان خطر المشركين، ونزلت الآية 40 من سورة التوبة في شأن رسول الله ص وأبي بكر. فإن كنتم من أتباع عَلِيٍّ ومُحبّيه حقَّاً فإن ذلك الإمام الجليل كان مظهراً للإنصاف والعدل، فلماذا لا تُشيرون أدنى إشارة إلى جهود أبي بكر طيلة سفر الهجرة إلى المدينة الذي تمّ خفاءً وكان محفوفاً بالمخاطر؟!
ومما يُؤسَفُ له أن بعض علمائنا يقولون عن الآية -التي لا مُنكر لنزولها في شأن أبي بكر- كلاماً للعوام مضمونه أنه ليس في وجود أبي بكر مع رسول الله ص في غار ثور أيّة فضيلة، مثلما لم يكن لوجود صاحبَيْ يوسف (ع) المُشْرِكَيْن برفقة يوسف (ع) في السجن أيّ فضيلة!!! مع أنه من الواضح تماماً أن مُصاحبة المشركَيْن ليوسف في السجن لم يكن باختيارهما ورغبتهما بعكس مُصاحبة أبي بكر للنَّبِيّ الأَكْرَم ص طول الهجرة وفي غار ثور الذي كان باختياره ورغبته، ووضع نفسه وماله على طبق من الإخلاص وخاطر بهما -دون أيّ معرفة بالمستقبل- في مرافقته للنبيّ ص.
أو يقولون: إن المُراد من المعيّة الإلهية التي ذُكرت في الآية 40 من سورة التوبة [أي جملة: إِنَّ اللهَ مَعَنَا ]: الإحاطة الإلهية بكل شيء التي تشمل إحاطته تعالى بالكفار أيضاً مع أنه ليس في هذا أيّ فضيلة خاصة لأبي بكر!! ولكن هذا الكلام لا يعدو المغالطة والخداع للعامة، لأنه ليس المقصود من تلك الجملة في الآية الإحاطة والقيّومية الإلهية التكوينية لأن النبيّ لا يقول لمُرافقه في لحظة الخطر: لا تحزن لأن الله معنا مثلما هو مع الكفار والحيوانات والجمادات!! إنهم بكلامهم الناشئ من التعصب هذا لا يُراعون حتى مقام النبيّ ص أيضاً!! من البديهي أن المراد من المعيّة الإلهية في الآية 40 من سورة التوبة معيّة التأييد والرحمة والنصرة. أي أن النبي قال لصاحبه: إن لطف الله وحمايته معنا أنا وأنت مثلما قال تعالى لموسى وهارون -عليهما السلام-: ﴿قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ ٤٦﴾[طه: ٤٦]فهل قال الله تعالى لموسى وهارون الخائفين من بطش فرعون: إنني معكما كما أنا مع فرعون وسائر الموجودات؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟! إن الله قال عن معيَّته الخاصة -أي معيّة اللطف- للمتقين: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ ١٢٨﴾[النحل: ١٢٨]. بناءً على ذلك فإن المعيّة الإلهية في الآية 40 من سورة التوبة تدل على فضيلة كبيرة لأبي بكر لأنها معيّة التأييد والحفظ والنصرة الخاصة بالمؤمنين الصادقين والمتقين الحقيقيين.
أو أنهم يقولون: إن أبا بكر لم يكن مؤمناً إيماناً صحيحاً لأن المؤمن إيماناً راسخاً لا يخاف من شيء إذا كان مع نبيّ الله!! وهذا أيضاً كلام باطل لأن القرآن الكريم قال: ﴿لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا﴾[التوبة: ٤٠]. فأولاً: أنتم فسَّرتم كلمة «لَا تَحْزَنْ » على معنى «لا تخف» وهذا تحريف لمعنى الآية ومخالف للإنصاف العلمي! وفي نظرنا لا يصحّ لشخص من أتباع عَلِيٍّ أن يترك الأمانة جانباً ويُترجم الآية على نحو مغلوط! (فتأمَّل دون العصبيَّة).
وثانياً: إن حزن أبي بكر الذي لا يعلم الغيب أمرٌ في محلّه ولا يستحق اللوم أو الذمّ، لأن رسول الله ص كان في الظاهر في معرض الخطر تماماً وإذا كان في معرض الخطر فإن كل مجاهداته وتعاليمه وشريعته أيضاً كانت في معرض الخطر وفي رأينا كل مسلم صادق يجب أن يحزن في مثل هذا الموقف. فكيف تعتبرون حزن أبي بكر وغمّه هنا أمراً قابلاً للذمّ؟ أضف إلى ذلك أن حزن الإنسان لوحدته وفقدانه الأمن خاصةً لمن لا يعلم الغيب أمر طبيعي لا ملامة عليه فيه.
ثالثاً: ثم إن النهي في هذه الآية ليس نهي تحريم بل نهي المُداراة والتسلية. فقد قال تعالى مراراً لرسوله: «لَا تَحْزَنْ »، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ١٢٧﴾[النحل: ١٢٧]. وقال تعالى على لسان الملائكة الذين أرسلهم إلى حضرة لوط (ع): ﴿وَقَالُواْ لَا تَخَفۡ وَلَا تَحۡزَنۡ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهۡلَكَ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٣٣﴾[العنكبوت: ٣٣]، وقال سبحانه لنبيّه الأكرم: ﴿فَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٧٦﴾[يس: ٧٦]، فهل ارتكب النبيّ عملاً مُحرّماً في حزنه بسبب عداوة الكفار له ومكرهم به؟ بالطبع لا. إذن فإن النهي في الآية 40 من سورة التوبة لم يكن نهي تحريم بل نهي مواساة وتسلية. إن كنا صادقين في قولنا: إننا شيعة عَلِيٍّ (ع) فعلينا أن نكون مُنصفين وصادقين وأن نقتدي بالإمام في إنصافه وعدله، أما مُجرّد الادّعاء فلا يُفيدنا في شيء (فَتَأَمَّل).
ثم يقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ بشأن يوم التاسع من ربيع الأول: "اليوم التاسع: عيد عظيم وهو عيد البَقْر وشرحه طويل مذكور في محله"[644]. ولكنه لم يُوضّح لنا لماذا عُدّ هذا اليوم عيداً؟! إن قصدهم هو اليوم الذي طُعن فيه الخليفة الثاني في محراب الصلاة بخنجر كافر مجوسيّ وتُوفي بتلك الطعنة. لكنهم بدلاً من لعن ذلك المجوسي القاتل الذي قتل صهر عَلِيٍّ (ع) وأبو زوجة رسول الله ص، والبراءة منه، اعتبروا ذلك اليوم عيداً عظيماً ولم يعتبروا الشخص الذي نال شرف مُبايعة عَلِيٍّ له بالخلافة، شهيدَ المحراب، وكم من أعمال غير معقولة ولغو يقومون بها في ذلك اليوم! ويعلم من أمضى زماناً في الحوزات العلمية الشيعية ماذا يفعلون!!
قال المَجْلِسِيّ عن هذا اليوم في كتابه «زاد المعاد» (ص 404 فما بعد):
"وأما اليوم التاسع من ربيع الأول، فاعلم أن بين علماء العامة والخاصة خلافاً في تاريخ وفاة عمر بن الخطَّاب -عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ وَالعَذَابُ[645]-، والأشهر بين الفريقين أن قَتْلَهُ كان في اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وقال بعضٌ في اليوم السابع والعشرين أيضاً. ومستند هذين القولين نقل المؤرخين، ويظهر من الكتب المعتبرة - وكما هو مشهور الآن بين عوام الشيعة - أن قتله كان في اليوم التاسع من ربيع الأول، وكان ذلك مشهوراً أيضاً في السابق بين جمعٍ من محدِّثي الشيعة، وقد أشار السيد الأجل علي بن طاووس في كتاب «الإقبال» إلى أن ابن بابويه نقل رواية عن الإمام الصادق ÷ في أن مقتل ذلك الملعون كان في التاسع من ربيع الأول...".
لست أدري لماذا يُصِرُّ هؤلاء الكُتَّاب كلَّ هذا الإصرار على بثّ الفرقة بين المسلمين وإبعاد بعضهم عن بعض، رغم كل تأكيدات الإسلام على الوحدة والاتِّحاد؟!! ويلٌ للمسلمين من أولئك الكُتَّاب!
ثم قال الشيخ عبَّاس [في البند الخامس من أعمال يوم 17 ربيع الأول][646]:
"ويدعو بالدّعاء «اَللّهُمَّ أَنْتَ حَيٌّ لا تَمُوتُ .... الخ» وهو دعاء مبسوط لم أجده مسنداً إلى المعصوم، لذلك رأيت أن أتركه رعاية للاختصار فمن شاء فليطلبه من «زاد المعاد»".
وعلينا أن نسأل الشيخ عبَّاس: وهل لبقية الموضوعات التي نقلتَهَا في كتابك سندٌ صحيحٌ؟!! بالطبع لا!! ثانياً: إن الرواية التي ليس لها سند صحيح يجب تركها وطرحها جانباً، لا أن نحيل القراء لأجلها إلى كتب أخرى!
ويقول أيضاً نقلاً عن الشيخ الخرافي سيد ابن طاووس:
"قد وجدت النّصارى سوجماعة من الملمين يعظّمون مولد عيسى (عليه السلام) تعظيماً لا يعظّمون فيه أحداً من العالمين، وتعجّبتُ كيف قنع من يعظِّم ذلك المُولد من أهل الإسلام كيف يقنعون أن يكون مولد نبيّهم الذي هو أعظم من كلّ نبيّ دون مولد واحد من الأنبياء... الخ"[647].
وينبغي أن نقول: هل النصارى الذين يحتفلون بيوم مولد عيسى (ع) ويُنفقون أموالاً طائلةً في ذلك اليوم يفعلون ذلك لأمْرِ عيسى (ع) لهم بذلك؟! بالطبع لا. وفي الإسلام كذلك، فلا يُحبِّذ الشارع صرف الأموال على إضاءة المصابيح وطباعة أنواع الأوراق و..... لأجل ولادة الأنبياء والأولياء، في حين أنه لدينا كل هذا العدد من الفقراء والمرضى والأُميِّين في المجتمعات الإسلامية. ولهذا السبب فلم يُقم أمير المؤمنين علي ÷ في فترة خلافته أيّ مراسم خاصة للاحتفال أو للعزاء في مناسبات ولادة أو وفاة رسول الله ص أو أبنائه أو ولادة أو وفاة حضرة الزهراء (ع)، ولم يُعلن عطلةً عامةً في تلك المناسبات، ولم يعترض على الخلفاء الذين سبقوه بسبب عدم إقامتهم مثل تلك الاحتفالات أو العزاء لأجل ولادة النبيّ أو رحيله ص؟! فهل ترغبون أن يُقلّد المسلمون النصارى في هذه الأمور ؟!
***
[642] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 397. (الـمُتَرْجِمُ) [643] حول أحاديث الباب 106 من أصول الكافي راجعوا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، صفحة 541 إلى 581. [644] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 397. (الـمُتَرْجِمُ) [645] هكذا ذكر المصنِّف، ولكن هذه العبارة غير موجودة في الترجمة العربية لكتاب «زاد المعاد»، تعريب وتعليق علاء الدين الأعلمي، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، باب فضائل شهر ربيع الأول، ص 253. ويبدو أن هذه العبارة كانت موجودة في الأصل الفارسي الذي نقل عنه المؤلف البرقعي، وأن المُعَرِّب أي علاء الدين الأعلمي حذفها من ترجمته لقباحتها. (الـمُتَرْجِمُ) [646] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 398. (الـمُتَرْجِمُ) [647] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، البند السادس من أعمال 17 ربيع الأول، ص399. (الـمُتَرْجِمُ)
هذا الفصل يتعلّق بأشهر ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخِرة. هنا أيضاً ينقل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ قول السيد ابن طاووس الخرافي وقول الآخرين. وعلينا أن نقول إن الأمر الذي لا يوجد في كتاب الله وسنة رسول الله ص وصايا حوله لا يحق للسيد ابن طاووس ولا للآخرين أن يُقرّروا لنا مُستحبّات أو مكروهات دينية بشأنه[648].
في هذا الفصل أوصى صاحب «المفاتيح» بإقامة المأتم لأجل حضرة الزهراء (ع) وقد أوجدوا استناداً إلى هذه التوصية أياماً عديدةً باسم الأيام الفاطميّة أصبحت دُكاناً مُزدهراً يتكسب به المدّاحون وقُرّاء المراثي الذين يقرؤون في مجالسهم أشعاراً في المديح أو في ذكر المصائب غالباً ما تكون غير واقعية ويُقيمون مجالس العزاء والنياحة ولطم الصدور وضرب البدن بالسلاسل....الخ، وتُصرف أموالٌ كثيرةٌ على هذه الأعمال. وللأسف فقد أصبحت هذه الأعمال منبعاً لكسب المال مِنْ قِبَلِ عدد من الخرافيين الجهلة الانتهازيين الذين يقرؤون الأشعار في تلك المجالس ويقرؤون النياحات ويأخذون على ذلك الأجر والمال من الناس!! وقد زادت تلك المنقولات غير الصحيحة وغير المُعتبرة والموضوعة والمُفتراة من شدة العداء بين الشيعة والسنة وزادت من التفرقة بين المسلمين وتباعدهم عن بعضهم وتشتتهم كي يستطيع الاستعمار أن يستفيد من هذه الفُرقة على نحو أفضل! في حين أن الإسلام وشريعة خاتَم المُرسلين لم تضع ضمن برامجها أو عباداتها الاحتفال بولادة الأشخاص أو إقامة المآتم ومجالس العزاء السنوية بمناسبة وفاة الأشخاص، وكما لاحظنا في آخر الفصل المُتعلّق بشهر ربيع الأول قلّد المسلمون أصحاب الملل الأخرى (كالنصارى) في قيامهم بمثل هذه الأعمال.
إن المدَّاحين وقُرَّاء المراثي يُكرّرون في تلك المجالس القضايا التي وقعت قبل ألف وأربعمئة عام مع أن الله سبحانه وتعالى قال لنا: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤﴾[البقرة: ١٣٤ و 141]. ولو انتبه المسلمون إلى هذه الآية وتدبّروها جيداً لَمَا قاموا بصرف كل تلك الأوقات والأموال على إقامة مجالس قتل عمر أو مراسم العزاء التي تُطرح فيها أمور خرافية ومكذوبة ويُغالَى فيها بحقّ عباد الله وتُقام مجالس ضرب الأبدان بالسلاسل..... الخ التي توجب ترويج الخرافات وتعميق الفجوة بين المسلمين، بل لصرفوا هذه الأموال على بناء المدارس والمستشفيات وعلى مجالس تعليم القرآن وسائر الأمور ذات النفع العام.
***
[648] مثلاً لا يُعْلَم ما سند الزيارة التي أوردها صاحب «المفاتيح» نقلاً عن السيد ابن طاووس على أنها خاصة بالثالث من جمادى الآخرة!
هذا الفصل خاص بأعمال النيروز وأعمال الأشهر الروميّة!! وقد أشرنا في مُقدّمة الكتاب الحالي (ص 37) إلى أن الشيخ عبَّاس أورد في هذا الفصل روايةً عجيبةً نقلاً عن المَجْلِسِيّ[649]، ونُصِرُّ أن يقرأ الأطباء وطلاب الطب وأهل الفكر والتحقيق هذا الفصل بالتأكيد، وأن يُطْلِعُوا الآخرينَ عليه كي يعرف الناس ما فعله أمثال المَجْلِسِيّ بشعبنا؟!
في هذا الفصل ذكر الشيخ عبَّاس خواصاً لماء شهر «نيسان» مع أن التعرض لمثل هذه الأمور لم يكن من وظائف رسل الله الذين أرسلهم الله للتبشير والإنذار فحسب وقد أمر القرآن الكريم مراراً النبيَّ ص أن يقول: ﴿إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ﴾[الاعراف: ١٨٨]. فكيف لا يستيقظ الناس رغم وجود مثل هذه الآيات الواضحة بل يقبلون كل خرافة تأتيهم باسم الدين؟ الله أعلم.
والمسألة الأخرى أن الشيخ عبَّاس أورد في كتابه «منتهى الآمال» (ج 2، ص 187) حديثاً عن الإمام الصادق (ع)[650] قال فيه: "إِنِّي قَدْ فَتَّشْتُ الْأَخْبَارَ عَنْ جَدِّي رَسُولِ اللهِ ص فَلَمْ أَجِدْ لِهَذَا [العيد] خَبَراً وَإِنَّهُ سُنَّةٌ لِلْفُرْسِ وَمَحَاهَا الْإِسْلَامُ، وَمَعَاذَ اللهِ أَنْ نُحْيِيَ مَا مَحَاهُ الْإِسْلَام.... الخ".
ولا يخفى أن الأخبار المُتعلّقة بعيد النيروز الذي كان عيداً للمجوس قبل الإسلام، أخبارٌ مُتناقضةٌ ومُتعارضةٌ فبعضها اعتبر هذا العيد غير إسلامي كالحديث الأخير وبعضها يخالف ذلك! ولم يُصادف كاتب هذه السطور أيّة رواية موثوقة تُؤيد النيروز، ولذلك فربما كانت الأحاديث المُوافقة للنيروز مِنْ وَضْع مَنْ أرادوا إشاعة الاحتفال بهذا اليوم بين المسلمين! والله تعالى أعلم.
***
[649] رُوي الحديث المذكور عن شخص مهمل يُدعى «عيسى بن هارون»! ولا يخفى أن السيد ابن طاووس نقل الحديث في كتابه «مهج الدعوات» (ص 356، انتشارات سنائي) عن نافع عن عمر، أما المجلسي فقد روى الرواية في كتابه «بحار الأنوار» (ج 95، 419) وكتابه «زاد المعاد» (ص 534) عن نافع عن عبد الله بن عمر، وتبع مؤلف المفاتيح ما جاء في «زاد المعاد». [650] هكذا قال المؤلِّف البرقعي وهي من هفواته، لأن الذي جاء في كتاب «منتهى الآمال» أن الحديث قاله الإمام الكاظم (ع) لا الإمام الصادق (ع). علماً أن ابن شهرآشوب المازندراني روى أصل هذا الخبر في كتابه: «مناقب آل أبي طالب عليهم السلام»، ج4، ص319، كما يلي: "وَحُكِيَ أَنَّ [أبا جَعْفَر] الْمَنْصُورَ تَقَدَّمَ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (ع) بِالْجُلُوسِ لِلتَّهْنِئَةِ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَقَبْضِ مَا يُحْمَلُ إِلَيْهِ، فَقَالَ ÷: إِنِّي قَدْ فَتَّشْتُ الْأَخْبَارَ عَنْ جَدِّي رَسُولِ اللهِ ص فَلَمْ أَجِدْ لِهَذَا [العيد] خَبَراً وَإِنَّهُ سُنَّةٌ لِلْفُرْسِ وَمَحَاهَا الْإِسْلَامُ، وَمَعَاذَ اللهِ أَنْ نُحْيِيَ مَا مَحَاهُ الْإِسْلَام". انتهى. (الـمُتَرْجِمُ)
الباب الثالث من «المفاتيح» خاص بالزيارات وقد خصَّص مؤلِّفُهُ مُقدّمةَ هذا الباب لبيان «آداب السفر» واعتبر بعض الأيام منحوسة بالنسبة إلى السفر!! في حين أنه عندما يكون السفر مباحاً أو لطلب العلم أو لكسب الرزق الحلال ولا يكون سفر معصية فلا إشكال في الشروع في السفر في أيّ يومٍ من الأيام. ويكفي أن يبدأ الإنسان سفره باسم الله وبذكر الله ويتصدّق ويدعو الله عملاً بالإذن العام للدعاء، ولو دعا بالدعاءين اللذين ذكرهما الشيخ عبَّاس في الصفحة 307 [651] فلا إشكال في ذلك وهما دعاءان مناسبان في مثل هذا الموقف. أما القصة التي أوردها حول خاتَم الفيروزج وحول الأسد الذي يفهم اللغة العربية (؟!!) فهي من وضع أشخاص خرافيين ولا علاقة لها بالإسلام والمسلمين.
وأورد الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 310 [652]حديثاً ممتازاً جداً عن سيرة الرسول الأكرم ص مع أصحابه في السفر وهو حديث مفيد للغاية وفيه دروس عظيمة[653].
[651] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 408. (الـمُتَرْجِمُ) [652] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 410-411. (الـمُتَرْجِمُ) [653] ونص الحديث كما أورده الشيخ عباس: "ومن الأخلاق الكريمة للنّبي ص أنّه كان مع صحابته في بعض الأسفار فأرادوا ذبح شاة يأتون بها، فقال أحدهم: عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخ جلدها، وقال الآخر: عليّ طبخها، فقال ص: عليّ الاحتطاب، فقالوا: يا رسول الله! نحن نعمل ذلك فلا تتكلّفه أنت، فأجاب: أنا أعلم أنكم تعملونه ولكن لا يسرّني أن أمتاز عنكم، فإنّ الله يكره أن يرى عبده قد فضّل نفسه على أصحابه". انتهى. (الـمُتَرْجِمُ)
بعد بيانه آداب السَّفَر عَقَدَ مؤلِّف «المفاتيح» باباً باسم: «في آداب الزيارة»!.
فنقول وبالله التوفيق: اعلم أن زيارة القبور، بالصورة الشائعة اليوم بيننا، لم تُشرع في الإسلام، وكل ما كُتب في هذا المجال هو من وضع المذاهب المنحرفة وأكاذيب أهل الخرافات، وإلا فإن رسول الله ص -كما لا يخفى على أحد- دُفن في منزله وفي غرفة عائشة، وكانت عائشة تسكن في تلك الغرفة طول حياتها، ولم يأتِ أحدٌ من أصحاب النبيّ طول تلك المدة التي تصل إلى أربعين عاماً أو ثلاثين ونيّف -أي في الواقع حتى سنة 91 هجرية- إلى غرفة عائشة طارقاً بابها قائلاً: نريد أن نزور مرقد رسول الله ص أو نريد أن نُسلّم على حضرته أو نتوسل به إلى الله ونستشفع به ونجعله واسطتنا إلى الله سبحانه!! وهذا بحدّ ذاته دليلٌ بيِّنٌ على أن الزيارة لم تُشرع في الإسلام وأنه لم يكن هناك بين مسلمي صدر الإسلام وأصحاب النبيّ وتابعيهم شيء باسم «زيارة قبور الصالحين وأئمة الدين والتوسل بهم إلى الله»، بل نشأت هذه الرسوم والطقوس ودخلت إلى الإسلام في فترة لاحقة!
عندما اختلط المسلمون بأتباع الملل الأخرى وعندما كان السلاطين والحكومات الجائرة يأخذون أموال الناس ظُلماً وبغير وجه حقّ ويبنون بها الأضرحة، بدأت تروج بين المسلمين مسألة تعظيم قبور الصالحين وتقديسها وبناء القباب الذهبية والأضرحة الفضية عليها، وكان حُكّام الجور يقومون ببناء المقابر الفاخرة للصالحين وأئمة الدين كي يكسبوا بهذا الجاه بين الناس ويصرفوا فكر الناس عن العمل بالقرآن وأحكام الإسلام والجهاد لأجل وحدة المسلمين ويجعلوهم يصرفون اهتمامهم إلى عبادة القبور وزياراتها وإقامة المآتم ومجالس العزاء.
ولو أردنا أن نذكر هنا الأحاديث الكثيرة التي جاءت في ذمّ تقديس القبور وتعظيمها وشدّ الرحال إليها لاحتجنا إلى كتاب ضخم، لكننا نحيل القارئ في موضوع القبور وزيارتها إلى كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]، حيث تم توضيح هذه المسألة بشكل كامل ومفصَّل، ونكتفي هنا بذكر حديثين من كتاب «المُصَنَّف» الذي يُعَدُّ من كتب الحديث القديمة والمعتبرة، وألَّفه الحافظ «عبد الرزَّاق الصنعاني» الذي كان من قدماء الشيعة:
1- "نَهَى رَسُولُ اللهِ ص عَنْ تَجْصِيصِ [654] القُبُورِ، وَتَكْلِيلِهَا [655]، وَالكِتَابَةِ عليها ". (المُصَنَّف، ج 3، ص 507)
2- وقال رسول الله ص: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُصَلَّى إليه، فإنَّهُ اشتدَّ غضبُ اللهِ على قومٍ اتَّخَذُوا قُبُور أنبيائِهِم مَسَاجِدَ ". (المُصَنَّف، ج1، ص 406)
أخذ صاحب المفاتيح، بدءاً من الصفحة 311 فما بعد، ببيان آداب الزيارة[656] وذكر للزيارة 28 أدباً مع أنه لم يَذكُرْ أحدٌ من العلماء مثل هذه الآداب حتى لزيارة بيت الله الحرام أو للذهاب إلى المسجد!! إن هؤلاء القوم بسبب غلوِّهم في صالحيهم وعظمائهم يكتبون كُتُبًا في مناسك زيار القبور وآدابها!! فهل علَّمنا رسول الله ص هذه الآداب والسُّنَن؟ هل بيَّنَ رسولُ الله ص آداباً وسُنَناً لزيارة قبور الأنبياء والصالحين؟! لا وَاللهِ.
مثلاً كتبوا في كُتُب الزيارة لدينا: إذا أردتَ زيارة النّبي ص في ما عدا المدينة الطيّبة من البِلاد فاغتسل وَمثِّل بين يديك شِبْه القبر واكتب عليه اسمه الشّريف ثمّ قف وتوجّه بقلبك إليه وزُرْهُ....الخ"!![657]، في حين أن مثل هذا العمل ليس عملاً عقلانياً. فليت شعري هل تحضر روح رسول الله ص لدينا لمجرد أنَّنا بنينا مقبرةً كاذبةً له؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
والعجيب أنه جاء في أكثر الزيارات صفحات عديدة مليئة بالمدح والثناء والغُلوّ في حق الأئمة (ع)! فليت شعري! هل أَمَرَ الأئِمَّةُ أنفسُهُم أن نقرأ لهم صحائف طويلة في المُبالغة في مدحهم والغُلوّ في شأنهم وأن نقف أمام قبورهم ونقوم بكيل المدائح لهم والإكثار من تمجيدهم كي يرضوا عنا؟! كيف وقد نهى أمير المؤمنين علي ÷ من قام يمدحه وقال: "... فَلا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ، لإخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وفَرَائِضَ لا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا؛ فَلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ ولا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي؛ فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ؛ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلا أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي؛ فَإِنَّمَا أَنَا وأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلالَةِ بِالْهُدَى وأَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى". (نهج البلاغة، الخطبة 216).
إن أمير المؤمنين علي ÷ هو ذاته الشخص الذي لَقِيَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الأنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ[658] فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ؟! فَقَالُوا: خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا...[659] فنهاهم عن ذلك ولم يرضَ أن يتذلَّلوا بين يديه ويخضعوا له ويعظموه بهذه الطريقة. فإذا كان الأمر كذلك فهل يرضى مثل هذا الإمام الكريم بما يقوم به المدّاحون وقرّاء الزيارات من الغلوّ في حقه والتجاوز في مدحه وتقبيل عتبة مقبرته وضريحه والمبالغة في مدحه وتمجيده؟! في رأينا إن الإمام عَلِيّاً (ع) بريءٌ من واضعي مثل تلك الزيارات وقارئيها. والعجيب أنهم لم يضعوا لزيارة رسول الله ص واحد بالمئة مما وضعوه لزيارات الأئِمَّة.
ومن العجائب أنك تقرأ في حاشية الصفحة 312 من «المفاتيح» أنه من المُستحسن أن يتمثل الزائر بالأشعار التالية:
ها عبدك واقف ذليل بالباب يمدُّ كفَّ سائلِ!
يا أكرم من رجاه راجٍ عن بابك لا يُرَدُّ سائلٌ!
ويقول أيضاً (أبياتاً بالفارسية ترجمتها كما يلي):
أيها الملِك إن لَزِمَكَ كلبٌ فلعَـــــلِّي أكــون أنا كلبُـــــكَ
أنا كُلَيبٌ قفز من محبســـه تعلــق بغصـنِ وردةِ هـــواكَ
نظرةٌ منــك علـى كلبِـــكَ لا تطردني بحجرةٍ من عندكَ
هذا في حين أن من الشرك بالله أن يعتبر الإنسان نفسه عبداً لغير الله. ألم يكن هؤلاء القوم أتباعاً لعليٍّ (ع) الذي قال: "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً". (نهج البلاغة، الرسالة 31).
كل تلك الكلمات والأشعار تملّق وتزلّف، في حين أن الإمام كان داعياً إلى الحق ولم يكن يُحبّ المُتملّقين المُتزلّفين وكان يكره المدح والتملّق. إن الإمام الذي نهى عن مدحه والثناء عليه يكره قطعاً أن يصف أحد من الناس نفسه بأنه كُليبه! ليت شعري! هل كان الإمام يلعب بالكلاب حتى يعتبر الناس أنفسهم كلاباً له؟! عندما كان الإمام حياً بحياته الدنيوية كان يكره التملّق والمديح والآن بعد أن فقد الحياة الدنيوية وانتقل إلى عالَم البقاء، لم يعد له أيّ علم بالدنيا وبالمُتملّقين الذين يَعُدُّون أنفسهم كلاباً له! [660]
ثم كتب صاحب المفاتيح (ص 313)[661]: "العاشر: تقبيل العتبة العالية المباركة.."!.
ونقول: إن مثل هذه التوصية تدل على غرور كاتبها وتكبُّره ولم يكن الأئمة الكرام مُعجبين بأنفسهم ولا مُتكبِّرين.
أو قال أيضاً: "الثالث: أن يغتسل لزيارة الأئمَّة عليهم السلام وأن يدعو بالمأثور من دعواته"!!.
ونسأل: هل قال رسول الله ص إن كل من أراد أن يلتقي بحضرته أو يزوره فعليه أن يغتسل ويقرأ الأدعية الواردة عنه وأن يُقبِّل عتبة منزله؟! وإذا لم يكن هناك أمر بفعل ذلك في زمن حياة النبيّ والإمام فكيف ورد مثل هذا الأمر تجاه قبورهم؟! ثانياً: لم يكن لقبور النبيّ والأئمة حتى سنوات عديدة بعد وفاتهم حرمٌ وضريحٌ وعتبةٌ و.... الخ؛ وَمِنْ ثَمَّ فلا يُمكن أن تصدر عنهم مثل تلك الأوامر بل من الواضح أنها وُضعت بعد زمانهم بمرحلة بعيدة. (فلا تتجاهل).
وكتبوا في كُتُب الدعاء والزيارة: "إذا ذهبتَ إلى زيارة رسول الله ص فقبّل منبره وافعل كيت وكيت عند عمود «حنانة» وامسح عينيك بالعمود..".
سبحان الله! ألا يعلم هؤلاء الكُتَّاب أن منبر رسول الله ص قد اندثر منذ مئات السنين وأن عمود «حنانة» خَرِبَ وزال منذ عهد بعيد وأن تغييرات كثيرة قد لحقت بمسجد الرسول، ولكنهم يظنُّون أن الباب والجدران والأعمدة الموجودة حالياً في المسجد النبوي هي ذاتها التي كانت للمسجد زمن رسول الله ص!
كما نجد في كتب الدعاء وَالزيارة أموراً وموضوعات مخالفة للتواريخ المعتبرة والتي تدل على أن ملفقيها كانوا جهلة بالتاريخ، فمثلاً جاء في آداب زيارة الإمام الحسين (ع) في كتاب «المفاتيح» هذا (ص 416 - 417)[662]: "التّاسع: أن يدخل الحائر المقدّس من الباب الشّرقي على ما أمر الصّادق صلوات الله وسلامه عليه يوسف الكناسي."!! هذا مع أنه لم يكن هناك بناء على قبر الإمام الحسين (ع) في زمن الإمام الصادق (ع)، وبالتالي لم يكن هناك باب شرقي ولا غربي! ويبدو أن الخرافيين نسُوا ما رووه عن الإمام الصادق (ع) أنه قال ضمن حديثٍ[663] - جاء في المفاتيح أيضاً (ص 423) [664]-: ".... زِيَارَةُ جَدِّيَ الْحُسَيْنِ (ع) فَإِنَّهُ غَرِيبٌ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ يَبْكِيهِ مَنْ زَارَهُ وَيَحْزَنُ لَهُ مَنْ لَمْ يَزُرْهُ... وَيَرْحَمُهُ مَنْ نَظَرَ إِلَى قَبْرِ ابْنِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ وَلَا حَمِيمَ قُرْبَهُ وَلَا قَرِيب...". أو جاء في الصفحة 355 من المفاتيح عن «صفوان الجمَّال»[665] أنه ذهب لزيارة قبر أمير المؤمنين ÷ مع الإمام الصادق (ع) وفيه: " قال لي (أي الإمام الصادق): يا صفوان! أنخ الرّاحلة فهذا قبر جدّي أمير المؤمنين (ع)، فأنختُها... إلى أن بلغنا الذّكوات والتّلول، فوقف (عليه السلام) ونظر يمنةً ويسرةً وخطَّ بعكازته فقال لي: اطلب فطلبت، فاذا أثر القبر، ثمّ أرسلَ دُموعَه على خدّه..... الخ"!!
فهذا يُبَـيَّنُ أنه حتى ذلك العهد لم يكن هناك حرمٌ حتى يذكر الأئِمَّة آداباً له، فكل ما ذُكر من آداب زيارة الحرم إنما تم وضعه بعد عهد الأئِمَّة بِمُدَّة، وكذلك أذون الدخول، موضوعةٌ كلُّها.
ومثل ذلك الرواية التي أوردها صاحب «المفاتيح» ص 342 [666] "عن السيد عبد الكريم بن طاووس عن «محمد بن علي الشباني» قال: خرجت أنا وأبي وعمِّي حسن ليلاً متخفِّين إلى الغريّ لزيارة أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وكان ذلك سنة مائتين وبضع وستين سنة وكنت طفلاً صغيراً فلمَّا وصلنا إلى القبر الشريف، وكان يومئذٍ قبراً حوله حجارة سوداء ولا بناء عنده...". فهذا الخبر أيضاً يدل على أنه حتى عهد الإمام المذكور - على أقلّ تقدير - لم يكن لقبر الإمام عليٍّ (ع) أي بناء أو فناء أو قبّة أو ضريح، بل تَمَّ بناء هذه الأبنية فيما بعد مِنْ قِبَلِ السلاطين الجبَّارين وأصحاب السلطة الذين يَغُرُّون النَّاس.
لكن رغم ذلك فإن مؤلِّف «المفاتيح» كتب أن أحد آداب الزيارة تقبيل عتبة الحرم، أو كتب في البند العشرين من آداب زيارة حرم الإمام الحسين:
"قال السّيد ابن طاووس (رحمه الله) يُستحبُّ للمرء إذا فرغ من زيارته (ع) وأراد الخروج من الرّوضة المقدّسة أن ينكبّ على الضّريح ويُقَبِّله.....الخ"![667]
هذا في حين أن تلك الأضرحة - كما أوضح كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] - بناها الأمراء الجبابرة والخادعين للعوام من المال الحرام أو المال الذي فيه شبهة بعد زمن الأئِمَّة ولا علاقة لعَمَلِهِم بالدين.
ويقول مؤلِّف «المفاتيح» في آداب الزيارة (ص 315)[668]: "الخامس والعشرون: الإنفاق على سَدَنَة المشهد الشّريف.."!!
لكن هذا الكلام ضدّ ما أمر به الأئِمَّة. فمن حيث المبدأ إذا نذر شخص نذراً للكعبة فإن عليه أن يُعطي نذره للحُجَّاج الذين نفق زادهم أو سُرقت أموالهم أو أضاعوها أو كانوا فُقراء من الأساس، لأن الكعبة لا تحتاج إلى المال. وقد جاء في وسائل الشيعة ( ج 9، الباب 22 من أحكام الطواف) عدة أحاديث عن رسول الله صو حضرات الصادِقَيْن - عليهما السلام - مضمونها أن من أهدى أو نذر شيئاً للكعبة فليقم ويُنَادِ في زوَّار بيت الله الحرام أَلَا مَنْ قَصَرَتْ بِهِ نَفَقَتُهُ أَوْ قُطِعَ بِهِ طَرِيقُهُ أَوْ نَفِدَ طَعَامُهُ فليأتِ... ثم يعطي كُلَّ مُنْقَطَعٍ بِهِ وَكُلَّ مُحْتَاجٍ مِنَ الـحُجَّاج من المال الذي نذره للكعبة، ولا يعطي لِـحَجَبَة الكعبة وسدنتها منه. والحِكْمَة في ذلك أن لا يزداد عدد الأشخاص الطُّفيليين العاطلين عن العمل الذين يكسبون المال تحت اسم خُدّام الحرم وحَجَبَتِهِ وينصرف الناس إلى أعمال أكثر فائدة وأن لا يُقدم أشخاص كثيرون أكثر مما يلزم على العمل في خدمة نظافة المسجد وأن تكون نيَّتهم إذا اتَّجهوا إلى هذا العمل التقرّب إلى الله بخدمة بيته لا اتِّخاذ ذلك باب رزق لكسب الأموال من الناس (فَتَأَمَّل).
يجب على القارئ المحترم أن ينتبه إلى أن المسؤولين عن إدارة مراقد الأئمة وأضرحتهم وخُدّام العتبات والمزارات وأقربائهم ينتفعون كثيراً من تشييد هذه المزارات ومن إقبال الناس الجاهلين بالقرآن عليها وقد أدّى هذا إلى بناء البيوت والدكاكين والفنادق حول المزارات وأدّى الإقبال على شراء الأراضي المجاورة للمزارات إنشاء القبور فيها إلى ارتفاع أسعارها كثيراً، هذا إضافةً إلى الأموال التي تُوقف على تلك البُقَع باسم النذور والصدقات والأوقاف مما يَصُبُّ في جيوب عددٍ مُعَيَّنٍ من الأشخاص وهذه المنافع والمصالح هي التي تدفع أفراداً من مُضلِّلي العوام إلى ترويج زيارات القبور وحثِّ الناس عليها! (فَتَأَمَّل جداً).
ومع الأسف لا تختصُّ هذه المسألة بالناس في بلادنا بل يُشاهد مثلها في بلدان المسلمين الأخرى، كما ذكر ذلك الكاتب المصري المشهور «مصطفى لطفي المنفلوطي» في كتابه «النظرات» حيث ذكر قيام عدد من الذين يَغُرُّون عوام الناس بإشاعة ما يُشبه تلك التوصيات بينهم عند زيارتهم لقبر «عبد القادر الجيلاني»!! جاء في كتاب «النظرات»:
"على زائر قبر عبد القادر الجيلاني أن يتوضأ ويصلي ركعتين بخشوع وحضور للقلب، ثم يتوجه بوجهه إلى القبر الشريف وبعد السلام على صاحب القبر يقول: يا صاحب الثقلين(؟!!) أعنِّي على قضاء حاجتي وَحَلِّ مشكلتي وَزوَالِ حُزْني وأَمِدَّني بمددك. أعنِّي يا محيي الدين يا عبد القادر، أعنِّي أيها الوليُّ عبد القادر، أعنِّي أيها السلطان عبد القادر، أعنِّي أيها الملِك عبد القادر، أعنِّي يا خواجه عبد القادر.
نعم إن الناس يُقدِّمون لخُدَّام الضريح مالاً وفيراً ويصرفون أموالاً طائلةً في أيام ولادته وَوفاته.!" (فَتَأَمَّل)
وللأسف، فإن الناس لا يعلمون أن واضعي نصوص الزيارات تلك لم يكونوا أصحاب علم بالقرآن وغالباً ما نسبوا إلى القرآن أموراً غير صحيحة، ويظنُّ الناس أن لنصوص الزيارات هذه أصل في الشرع ومُعتبرةٌ شرعاً! فمثلاً جاء في «المفاتيح» في زيارة رسول الله ص قول الزائر ضمن زيارته: "اَللّهُمَّ اِنَّكَ قُلْتَ: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا﴾ إِلهي فَقَدْ أَتَيْتُ نَبِيَّكَ مُسْتَغْفِراً تائِباً مِنْ ذُنُوبي....الخ"[669].
لاحظوا كيف استنبط واضعو هذه الزيارة استنباطاً باطلاً من تلك الآية القرآنية الكريمة!! إذ يعلم من لهم معرفة بالقرآن وتفسيره أن الآية المذكورة تتعلق بالمنافقين الذين لم يرضوا بالتحاكم إلى رسول الله ص ولم يقبلوا قضاءه فيما وقع بينهم من نزاع، وفضَّلوا التحاكم إلى يهوديّ وقضاءه بينهم فكان في ذلك إهانة كبيرة لرسول الله ص وشريعته ودليل على كفرهم، كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥﴾[النساء : ٦٥]. وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم تَبَيَّنَ لنا بوضوح أن الآيات من 59 إلى 65 من سورة النساء تتحدّث عن وقوع تنازع بين المسلمين وأنه يجب على المؤمن أن يستسلم لحكم الله ورسوله ويقبله من صميم قلبه وأن عدمَ قبول حكم الله وترجيح حكم آخر على حكم الله ورسوله دليلٌ على عدم الإيمان، وَذَكَرَتْ الآيات أن المنافقين ارتكبوا مثل هذا الإثم[670]. بناءً على ذلك فإن الآية 64 من سورة النساء تتعلّق بلا ريب بالمنافقين الذين آذوا رسول الله ص وكان من الواجب عليهم وعلى كل من آذى النبيّ أثناء حياته الدنيوية أن يذهب إليه ويعتذر منه ويطلب منه السماح والعفو والمغفرة، وأن يطلب منه أن يستغفر الله له، ولا علاقة لهذه الآية بسائر المؤمنين. فهل كان سائر المؤمنين منافقين وآذوا النبيّ؟! هل اتَّجه المؤمنون جميعهم إلى رفض حكم النبيّ (ورفض التحاكم إلى الشرع) حتى يكون من الواجب عليهم أن يذهبوا إلى صاحب الشريعة ويعتذروا منه ويطلبوا منه الغفران؟!
ومن حيث المبدأ لم يأمر الله كلَّ من أذنب في هذه الدنيا أن يذهب إلى رسول الله ص ولم يَقُلْ إنه يجب على المُذنبين بعد مئة سنة أو ألف سنة من رحيل رسول الله ص أن يذهبوا إليه رغم أنه ليس في إمكانهم الوصول إليه!! وإذا كان المنافقون قد أُمروا بالذهاب إلى النبيّ فإن القصد من ذلك في الآية هو أن يلتقي أولئك الأشخاص بحضرته شخصياً ويجلسوا في محضره المبارك ويطلبوا العذر منه من مسافة مُتعارف عليها ويدل على هذا أن الآية تقول بصراحة «جاؤوك» ولم تقل أنهم كانوا يُكلِّمون رسول الله ص من على بُعْدِ عدة أزقة وشوارع!! بناءً على ذلك فإن الآية المذكورة تتعّلق بزمن الحياة الدنيوية للنبيّ ص ولا علاقة لها بما بعد رحيله عن الدنيا، أما ما يفعله الناس اليوم فهم لا يذهبون إلى لقاء النبيّ ذاته ص بل يذهبون إلى جوار مرقده ومن المعلوم أن مرقد الشخص غير ذات الشخص. أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
هل تعتقدون أن الآيات التي تقول: ﴿وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسۡعَىٰ ٨ وَهُوَ يَخۡشَىٰ ٩ فَأَنتَ عَنۡهُ تَلَهَّىٰ ١٠﴾ [عبس : ٨، ١٠] تدل على أنه لو جاء شخص اليوم أيضاً إلى قبر النبيّ فإن النبيّ سيتلهّى عنه ويتصدّى للاهتمام بشخص آخر؟!!! لا ريب أن كل عاقل مُنصف يعلم أن هذه الآية مُتعلّقة بزمن النبيّ ولا يعتبرها شاملةً لغير ذلك من الموارد. بناءً على ذلك فلماذا تجعلون الآية 64 من سورة النساء التي لا اختلاف بين المسلمين في شأن نزولها، عامَّةً شاملةً لجميع الأزمنة، دون دليل على ذلك؟!
وعلى كل حال فليس المطلوب ممن كانت له حاجة أو أراد التوبة أن يذهب إلى قبر النبيّ أو الإمام. ولكن انظروا كيف استنبط صُنَّاع الزيارات من تلك الآية القرآنية الكريمة نتيجة باطلةً؟! نعم، يقول قساوسة النصارى إن كل من أذنب فعليه أن يذهب إلى القسيس ويعترف أمامه كي يغفر الله له ذنبه. وفي نظرنا لا يُستبعد أن يكون بعض الأفراد من اليهود والنصارى والمجوس قد قاموا بعد إظهارهم الإسلام ببثِّ عقائدهم بين المسلمين بصورة أحاديث أو نصوص زيارات، أما القرآن الكريم فإن الله تعالى قال لنا فيه -خلافاً لقول النصارى- إنه أقرب إلينا من حبل الوريد وأنه يجب على كل إنسان أن يستقيم إلى الله ويتوجه إليه دون واسطة ويدعوه مباشرةً كما قال تعالى: ﴿فَٱسۡتَقِيمُوٓاْ إِلَيۡهِ وَٱسۡتَغۡفِرُوهُ﴾[فصلت: ٦][671].
وقال صاحب «المفاتيح» في الأدب الثّالث عشر من آداب الزيارة: "أن يقف للزّيارة مستقبلاً القَبْرَ مُستدبِراً القبلةَ وهذا الأدب ممّا يخصّ زيارة المعصوم على الظّاهر"!! من هذا يتبيَّن أن الغلاة يُرجِّحون القبر على القبلة!! وأتى الشيخ عبَّاس برواية عن «علي بن يقطين» فيها أنه ركب من البقيع في المدينة جملاً مسرَّجاً وانطلق به إلى الكوفة فطوى الأرض وَوصل إلى بيت إبراهيم الجمَّال في الكوفة من ليلته ثم عاد في الليلة ذاتها إلى المدينة!!
هذا في حين أن النَّبِيّ الأَكْرَم ص لم يطوِ الأرض في هجرته من مكة إلى المدينة بل استغرقت هجرته عدة أيام، فكيف يذهب علي بن يقطين إلى الكوفة ويعود منها بطيّ الأرض؟!! ولا يخفى أن هذه القصة منقولة من كتاب «عيون المعجزات» المليء بالروايات الموضوعة الفاقدة لأي سند صحيح.
وكتب مؤلِّف «المفاتيح» تحت عنوان الأدب التاسع من آداب الزيارة:
"أن يقف على باب الحرم الشّريف ويستأذن ويجتهد لتحصيل الرّقّة والخضوع والانكسار والتفكير في عظمة صاحب ذلك المرقد المنوّر وجلاله، وأنّه يرى مقامَه ويسمَعُ كلامَهُ وَيَرُدُّ سَلامَهُ".
لكن هذا الكلام مخالفٌ للقرآن الذي قال: ﴿فَإِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ﴾[سورة النمل: 80 والروم: 52]، وقال كذلك: ﴿... وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢﴾[فاطر: ٢٢]. ومخالفٌ لكلام أمير المؤمنين ÷ الذي قال عن أهل القبور: "وأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً، وأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً، لا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ ولا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ ولا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ.." (نهج البلاغة، الخطبة 230) [672].
ولكن الأعجب من كل ذلك أن صاحب «المفاتيح» يوصي الزائر في الأدب السادس عشر من آداب الزيارة "أن يزُور بالزّيارات المأثورة المرويّة عن سادات الأنام (عليهم السلام) ويترك الزّيارات المخترعة التي لفّقها بعض الأغبياء من عوام النّاس فأشغل بها الجُهَّال"[673].
وليت شعري! هل أورد الشيخ عباس نفسه في كتابه شيئاً سوى آداب وزيارات مخترعة؟! وقد بيَّنَّا في كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] عدم صحة كثير من الزيارات التي جمعها الشيخ عباس في المفاتيح. (فَلْتُرَاجَعْ ثَمَّةَ).
ثم كتب الشيخ عبَّاس تحت البند 26 من آداب الزيارة يقول:
"السّادس والعشرون: الإنفاق على المجاورين لتلك البُقعة من الفقراء والمساكين المتعفّفين والإحسان اليهم لاسيّما السّادة وأهل العلم المنقطعين الذين يعيشُون في غُربة وضيق وهم يرفعون لواء ا لتّعظيم لشعائر الله..."[674].
وعلينا أن نقول للشيخ عبَّاس: أيها الرجل الخرافي! إن الأعمال والشعائر التي ابتدعها الخُرافِيُّون والمبتَدَعُون حول قبور الأئِمَّة والصالحين ليست شعائر الله بل شعائر الناس وشعائر الخرافيين والمبتدعين وشعائر أصحاب الدكاكين المذهبية أما النبي والأئِمَّة فهم بريئون من هذه الشعائر.
***
[654] جاء في كتاب «المصنف» كلمة «تقصيص» القبور: بدلاً من تجصيص القبور. قال الزمخشري في الفائق: "تقصيص القبور: هو تجصيصها. والقصة: الجصة؛ وليس أحد الحرفين بدلاً من صاحبه لاستواء التصرف؛ ولكن الفُصَحَاء على القاف". انتهى. (الـمُتَرْجِمُ) [655] تكليلها: أي رَفْعِها بِبِناء مِثل الكِلَل وهي الصَّوامِع والقِباب، وقيل: هو ضَرْب الكِلَّة عليها وهي سِتْرٌ مُرَبَّع يُضْرب على القُبور، وقال غيره: التكليل أن يطلى فوقها شبه القصة (قاله ابن الأثير في النهاية). وقال الزمخشري في الفائق: "التَّكليل: أن يحوطها ببناء، من كلَّل رأسَه بالإكليل.... وقيل: هو أن يضرب عليها كُلَل". (الـمُتَرْجِمُ) [656] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص412 فما بعد. (الـمُتَرْجِمُ) [657] راجعوا الكتاب الحاضر، ص 39 - 43. [658] دَهَاقِينُ الأنْبَارِ (دهاقين: جمع دهقان: معرب «دهبان»: رئيس القرية. أي جماعة من رؤساء القرى في منطقة الأنبار في العراق) فَتَرَجَّلُوا لَهُ (أي نزلوا من على خيولهم) واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ: (أي ركضوا أمامه). (الـمُتَرْجِمُ) [659] انظر نهج البلاغة، قسم الحكم والأمثال، الحمة رقم 35. (الـمُتَرْجِمُ) [660] سأل سائقُ سيارةٍ أجرةٍ مرَّةً كاتبَ هذه السطور: هل كان إمام الزمان يُربّي الكلاب؟ أو يُسرُّ من اللعب بالكلاب أو من التملّق والتزلّف إليه؟ فقلتُ له: ما الذي يحملك على هذا السؤال؟ فقال: كنت في مسجد «گوهرشاد» في مدينة مشهد فرأيت الشيخ «أحمد الكافي» (وكان قارئاً مشهوراً للمراثي ومُضلِّلاً للعوام وكان يكسب مالاً وفيراً من عمله هذا وقد تعرّضت سيارته لحادث سير أودى بحياته هو وعياله في أوائل الثورة الإيرانية) قد صعد المنبر في مجلس كان يضمُّ عشرات الأشخاص من المُعمَّمين والعلماء وأخذ بقراءة المراثي والبكاء والعويل وقال: أيها الناس ضعوا رؤوسكم جميعاً على الأرض وضعوا رجلاً على الأرض وارفعوا الرجل الأخرى وقولوا جميعاً: يا إمام الزمان نحن كلنا كلابك عو عو عو عو. ففعل الحاضرون جميعاً مثلما قال: وقالوا: نحن كلابك عو عو عو عو وكرّروا هذه الجملة عدة مرات!!! فانزعجت وحزنت من كلامه هذا كثيراً وقلت في نفسي: ماذا أقول في هذه المدة القصيرة لهذا السائل الذي ساء ظنه بالإسلام كثيراً من رؤية هذه الحادثة كي أمنعه من سوء الظن بأصل الإسلام والقرآن الكريم، ولم أستطع أن أُعطيه جواباً مُفيداً بل اكتفيت بقولي له: لا يجوز لك أن تُعمِّم نظرتك هذه تجاه الشيوخ والمُعمَّمين جميعاً وعلينا أن نتأمل القرآن ونتدبره. وبهذه المناسبة أرجو من العلماء المسؤولين ومُريدي الخير والإصلاح أن يبذلوا أقصى جهدهم لتعريف الناس بالإسلام الحقيقي وأن لا يُوفِّروا أيّ جهد في هذا المسعى. والواقع أنني ما ألَّفْتُ كتابي الحالي وسائر مؤلفاتي إلا لهذا الغرض؛ آملاً أن تكون مُفيدة في ذلك، وما ذلك على الله بعزيز. [661] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 414. (الـمُتَرْجِمُ) [662] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 535. (الـمُتَرْجِمُ) [663] رواه ابن قولويه في «كامل الزيارات»، ص 325، ونقله عنه المجلسي، بحار الأنوار، ج 98، ص 73. (الـمُتَرْجِمُ) [664] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 541. (الـمُتَرْجِمُ) [665] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 466 - 467 . (الـمُتَرْجِمُ) [666] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 451 . (الـمُتَرْجِمُ) [667] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 542 . (الـمُتَرْجِمُ) [668] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 416 . (الـمُتَرْجِمُ) [669] روى هذه الزيارة كل من «الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ» و «ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ» و «مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ» وقد عرفنا بالثلاثة في التنقيح الثاني لكتابنا «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 298، و187 - 188، و179 على الترتيب). وراجعوا بحار الأنوار، ج 97، ص 150-151. [670] حول هذه الآية من سورة النساء راجعوا ما ذكرناه من توضيحات في الصفحات 218 إلى 228 من الكتاب الحاضر. [671] لأن الله قريبٌ يُجيب دعوة الداعي إذا دعاه كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ ١٨٦﴾[البقرة: 186] (الـمُتَرْجِمُ). [672] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 199 و 200. [673] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 415 . (الـمُتَرْجِمُ) [674] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 416 . (الـمُتَرْجِمُ)
عنونه الشيخ عبَّاس بعنوان: "في ذِكر الاِسْتِئذانِ لِلدُّخولِ في كُلٍّ منَ الرَّوضاتِ الشَّريفة"، لذا نسأله: هل يحتاج من أراد زيارة قبر إلى إذنٍ للدخول؟ وإن كان عليه الاستئذان للدخول فمن الذي سيأذن له؟
يقول صاحب «المفاتيح»: "الأوّل: اذا أردت دخول مسجد النّبي (ص] أو أحد المشاهد الشّريفة لأحد الأئِمَّة (عليهم السلام) فقُلْ: اَللّهُمَّ اِنّي وَقَفْتُ عَلى بابٍ مِنْ أبْوابِ بُيُوتِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ،.... وَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَكَ وَخُلَفاءَكَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَحْياءٌ عِنْدَكَ يُرْزَقُونَ، يَرَوْنَ مَقَامي، وَيَسْمَعُوَن كَلامي، وَيَرُدُّونَ سَلامي....... الخ"[675]. فنسأل: هل تريد القول إن قبور الأئِمَّة وأحفاد الأئِمَّة هي «بُيُوتُ النبيِّ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ»!! أليس هذا كذبٌ محضٌ؟! هل لا يزال بيت رسول الله ص باقياً حتى اليوم؟! هل كان صحابة رسول الله يزورون قبره المُطَهَّر ويطلبون منه الإذن لزيارة قبره؟!
ثم إنه رغم أن أئمة الدين والصالحين أحياء عند ربِّهم ولكن حياتهم هذه في دار البقاء وعند ربِّهم لا في هذه الدنيا الفانية. فهم «أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ» [آل عمران: 169] وليسوا «أحياءَ عِنْدَ خَلْقِهِ أو عِنْدَ قُبُورِهِمْ!» (فتأمَّل). ولم يكن رسول الله ص -رغم أن مقامه أعلى من الجميع- عليماً بكل شيء عندما كان حيَّاً بين الناس في هذه الدنيا الفانية قبل رحيله عنها، ولم يكن يرى كل مكان في آنٍ واحد، ولم يكن قادراً على أن يُجيب عدة أشخاص في وقت واحد، وليس من وظيفة النبيّ أو الإمام أن يكون مُطَّلعاً على ما يجري في كل مكان وعالماً بكل شيء. أضف إلى ذلك أن الله تعالى وصف أولياءه الأحياء المُنعَّمين عنده بأنهم: ﴿لا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٣٨﴾أي أن أولياء الله الصالحين هم في دار البقاء لا خوف عليهم ولا حزن يعتريهم. في حين أنهم لو كانوا مُطَّلعين على أحوال أهل الدنيا الفانية وأقوالهم، لأصابهم الحزن والغمّ على الدوام.
بناءً على ذلك يُعلَم أن ما لفَّقه أهل الغُلوّ مثل الكفعمي وأمثاله مُعارض للقرآن، لأن القرآن قال إن أنبياء الله لا علم لهم بالدنيا بعد رحيلهم عنها وأنهم يوم القيامة يقولون: لا علم لنا بأحوال الأمة بعد أن تَوَفَّيْتَنَا (البقرة: 259، والمائدة: 109 و117).
ثم يقول الشيخ عبَّاس مُبيِّناً ألفاظ طلب إذن الدخول إلى قبر أمير المؤمنين: ".... أَأَدْخُلُ يا مَوْلايَ؟ أَأَدْخُلُ يا أَميرَ الْمُؤْمِنينَ؟ أَأَدْخُلُ يا حُجَّةَ اللهِ؟!...". في حين أن القرآن بيَّن لنا أنه ليس للناس بعد الأنبياء حُجَّةٌ (النساء: 165) كما صرَّح أمير المؤمنين ÷ أيضاً أن الحجَّة الإلـهيّة اُخْتُتِمت بالنبي ص فقال: "تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا محمَّدٍ ص حُجَّتُه". (نهج البلاغة، الخطبة 91).
ثم يقول الشيخ عباس: "ثمّ قَبِّل العتبةَ الشّريفةَ وَاَدْخُلْ". هذا مع أننا نعلم أنه لم يكن زمن الأئِمَّة عتبة لقبورهم حتى يأمروننا بتقبيلها بل إن الملوك الظلمة، والوزراء اللصوص هم الذين بنوا كل تلك الأضرحة والمقابر ذات الأبّهة والفخامة والجلال!!
ثم ما هو سند الكفعمي وأمثاله ودليلهم على أذون الدخول تلك؟! وليت شعري! هل يملك الكفعمي حق التشريع ويحق له أن يضيف شيئاً إلى تعاليم الإسلام؟! لماذا لم يذكر الكفعمي لنا سند ما يدَّعيه ودليله؟
ثم يضيف مؤلِّف «المفاتيح» قائلاً: " [إذن الدخول] الثّاني: [هو] الاستئذان الّذي رواه المجلسي (قُدِّسَ سِرُّهُ) عن نسخةٍ قديمةٍ من مؤلّفات الأصحاب للدّخول في السّرداب المقدّس وفي البقاع المنوّرة للأئمة (عليهم السلام)"!! انتهى.
ونسأله: أيُّ نسخةٍ قديمةٍ؟ ولماذا لم تذكر لنا اسم مؤلِّفها؟ هل مثل هذا يُعَدُّ سَنَداً ودليلاً شرعيّاً؟! هل مجرَّد كون نسخة ما قديمةً يوجب شرعيتها؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
ومن الطريف أنه لفق ما شاء من أمورٍ، ضِمْنَ إذن الدخول هذا، لا تتفق مع الدين ولا ما التاريخ، مثل قوله: "اللّهُمَّ فَلَكَ الْحَمْدُ وَالثَّناءُ... كَما جَعَلْتَ نَبِيَّنا خَيْرَ النَّبِيّينَ،..... وَمُلُوكَنا اَفْضَلَ الـمَخْلُوقينَ...". فالجملة الأخيرة واضحة الكذب إذ نعلم جميعاً أن ملوكنا لم يكونوا أفضل المخلوقين! أو قوله: "فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سادَةٍ غائِبينَ، وَمِنْ سُلالَة طاهِرينَ، وَمِنْ أَئمَّةٍ مَعْصُومين...". مع أن الأئِمَّة أنفسهم لم يعتبروا أنفسهم معصومين! أو قوله: "وَاللهُ أَكْبَرُ الَّذي أَظْهَرَهُمْ لَنا بِمُعْجِزات يَعْجَزُ عَنْهَا الثَّقَلانِ..."! ونسأل بأي معجزة أظهر الله تعالى لنا الإمام الحسن (ع) مثلاً؟ ومتى قال الإمام الحسن (ع) عن نفسه: أنا حُجَّة الله؟!
ثم العجيب أنهم يطلبون إذن الدخول ثم يدخلون دون أن يأذن لهم أحد؟!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
***
[675] العجيب أن الشيخ عبَّاس نفسه يقول: " في روايات عديدة أنّ النّبي ص يبلغه سلام المُسلمين عليه، وصلوات المُصلّين عليه حيثما كانوا، وفي الحديث أنّ ملكاً من الملائكة قد وُكّل على أن يردَّ على من قال من المؤمنين صَلَّى اللهُ عَلى مُحَمَّد وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيقُول في جوابه: «وعليك»، ثمّ يقول المَلَك: يا رسول الله! إنّ فلاناً يُقرئُك السّلام، فيقول رسُول الله ص: «وعليه السّلام»" (مفاتيح الجِنان، ص 330) [أو في ص 436 من النسخة المُعَرَّبَة. (الـمُتَرْجِمُ)]. فنسأل الشيخ: كيف تقول إذن أيها الشيخ إن الأئِمَّة يرون مقامي ويسمعون كلامي، مع أنَّكَ تُقِرُّ هنا بأنَّ رسولَ الله ص نفسَه لا يرى الزائر ولا يسمع كلامه بل الله تعالى خصَّص مَلَكاً وظيفته أن يخبر النبيَّ بسلام من سلَّم عليه؟!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟! (فتأمَّل).
ثم يقول الشيخ عبَّاس [في بداية الفصل الثالث[676]] الصفحة 318:
"اعلم انّه يُستَحبُّ أكيداً لكافة النّاس ولا سيّما للحجّاج أن يتشرّفوا بزيارة الرّوضة الطّاهرة والعتبة المنوّرة لمفخرة الدّهر مولانا سيّد المرسلين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامُه عليه، وترك زيارته جفاء في حقّه يوم القيامة. وقال الشّهيد (رحمه الله): فإنْ تَرَكَ النّاسُ زيارَتَهُ فعلى الإمام أن يجبرهم عليها، فإن ترك زيارته جفاءٌ محرّمٌ..."!!
عندئذٍ إذا سأل أحدٌ هؤلاء المُبتدعة: لو أن شخصاً مؤمناً كان يقطن في قبيلة بعيدة عن المدينة أثناء الحياة الشريفة لرسول الله ص في هذه الدنيا ولم يقم بزيارته ص هل كان يُعتبر مُجافياً للنبيّ؟ فلن يجيبوه عن سؤاله سوى بإثارة اللغط والصياح واتِّهامه والافتراء عليه! من هذا يَتَبَـيَّنُ على أحوال أصحاب النبيّ وأعمالهم بعد رحيله ص [677] أو تجاهل ذلك كي يُثبِتَ صحَّةَ خرافاتِهِ!!
ثم أورد الشيخ عبَّاس عقب ذلك مباشرةً (ص 319) حديثاً غير معتبر راويه «إسماعيل بن مِهران»[678] ادَّعى فيه أن الإمام الصّادق (ع) قال: "إِذَا حَجَّ أَحَدُكُمْ فَلْيَخْتِمْ حَجَّهُ بِزِيَارَتِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ ". (بحار الأنوار، ج 97، ص 139). أو ادَّعى نقلاً عن راويين ضعيفين هما: «هارون بن مسلم» وَ«مسعدة بن صدقة»[679] أن رسول الله ص قال: "مَنْ زَارَنِي حَيّاً أَوْ مَيِّتاً كُنْتُ لَهُ شَفِيعَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [680]. وقد بيَّنَّا عيوب هذه الأحاديث وسائر الأحاديث التي جاءت في هذا الفصل في كتاب «زيارت وَزيارتنامه» (ص 230 فما بعد) فلا نُكرِّر ذلك هنا.
للأسف، يسعى تُجَّار الخرافات دائماً أن لا يعلم الناس أن تعيين الشفيع وتكليفه بالشفاعة أمرٌ منوطٌ بالله وحده وليس متروكاً للناس، وأن الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم من دار الفناء إلى دار البقاء لا تبقى لهم صلة بهذه الدنيا الفانية ومُجرياتها. وأن الأئِمَّةَ أنفسَهم الذين يحثُّ تُجَّارُ الخرافاتِ الناسَ دائماً على ويُرغِّبونهم زيارة مراقدهم بذلك قد صرَّحوا بما يُخالف هذا الأمر!! مِنْ ذلك قول الإمام الباقر (ع): "كَانَ رَسُولُ اللهِ ص وَالِاسْتِغْفَارُ لَكُمْ حِصْنَيْنِ حَصِينَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ، فَمَضَى أَكْبَرُ الْحِصْنَيْنِ وَبَقِيَ الِاسْتِغْفَارُ؛ فَأَكْثِرُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ مِمْحَاةٌ لِلذُّنُوبِ؛ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ ٣٣﴾[الانفال: ٣٣]" [681]. (بحار الأنوار، ج 90، ص 279 وَ281). بناءً على ذلك لا يُمكننا اليوم الوصول إلى شخص رسول الله ص وعلينا إذا أذنبنا أن نستغفر الله أنفسنا.
[676] تحت عنوان: "في زِيارَة النّبيّ والزّهراء والأئمّة بالبقيع صلوات الله عليهم أجمعين في المدينة الطيّبة". مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 421. (الـمُتَرْجِمُ) [677] يُراجَع الكتاب الحاضر، حاشية الصفحة 198، وكتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] الصفحة 12 فما بعد. [678] عرَّفنا بحاله في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ج2، ص 662 - 663 و 813. [679] عرَّفنا بحاله في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ج1، ص 216-217. [680] هذا الحديث الموضوع أصله في كتاب «قرب الإسناد» للحِمْيَري، ص 31، ونقله عنه صاحبا الوسائل والبحار وغيرهما. انظر مثلاً بحار الأنوار، ج 97، ص 139 . (الـمُتَرْجِمُ) [681] راجعوا الصفحة 187 من الكتاب الحالي.
ورغم ما سبق، نجد الخرافيين مثل مؤلِّف «المفاتيح» يحضُّون الناس، للأسف، على زيارة مراقد أولياء الدين الصالحين ومن جملتهم حضرة فاطمة الزهراء (ع) التي لا يَعَلَمُ أحدٌ موضع قبرها، ويذكر: أن هناك ثلاثة أمكنة يُحتمل أن يكون قبرها فيها، ويقول: "ومن زارها في هذه الثلاثة مواضع كان أفضل"!![682]، ويحثّ على قراءة جُمَل ركيكة[683] في زيارتها!! مثلاً جاء في الزيارة التي ذكرها مخاطبة الزائر لحضرة الزهراء بقوله: "فَإِنّا نَسْأَلُكِ إِنْ كُنَّا صَدَّقْنَاكِ إلَّا أَلْحَقْتِنَا بِتَصْدَيقِنَا لَهُمَا"! وليت شعري! هل الأئِمَّة مأمورون بإيصال الناس إلى مقامات مختلفة في الآخرة؟! وهل وقوف الإنسان ساعةً مقابل قبر حضرة الزهراء وتملُّقه لها وتزلُّفه إليها يُعجبها ويجعلها ترضى عنه وتسعى لرفع مقامه عند الله؟! 70أضف إلى ذلك أن الأموات ليس لهم الأذن التي يسمعون بها الأصوات الطبيعية في هذا العالَم وهم لا يستطيعون السماع دون آلة السمع، والله وحده هو الذي لا يحتاج إلى آلة للسمع، كما قال أمير المؤمنين ÷ في وصف الحق تعالى: "وَالسَّمِيعِ لا بِأَدَاةٍ وَالْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ " (نهج البلاغة، الخطبة 152)، وقال: "بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ " (نهج البلاغة، الخطبة 179). أما سائر الكائنات فهي بحاجة إلى آلة خاصَّة لأجل الرؤية والسمع.
ولكننا نعلم أن واضعي هذه الزيارات ليس لديهم آذان صاغية لهذه الحقائق، لأن غرضهم، إضافةً إلى الانتفاع، إيجاد الفُرقة بين المسلمين كي يبتعدوا عن بعضهم فتضعف قوتهم. كما نقرأ في زيارة حضرة الزهراء (ع) (ص 323)[684] بعد مقدار من التملُّق والتزلُّف إلى تلك السيدة الطاهرة المُطهَّرة: "وَمَنْ جَفاكِ فَقَدْ جَفا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَمَنْ آذاكِ فَقَدْ آذى رَسُولَ اللهِ....... أُشْهِدُ اللهَ وَرُسُلَهُ وَمَلائِكَتَهُ أَنّي رَاضٍ عَمَّنْ رَضَيتِ عَنْهُ، ساخِطٌ عَلى مَنْ سَخِطْتِ عَلَيْهِ، مُتَبَرِّئٌ مِمَّنْ تَبَرَّأْتِ مِنْهُ....."!.
يُريد هذا الزائر أن يقول: إن أصحاب أبيك الذين تعلّموا وتربّوا على يديه سنوات طويلة، أي المُهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله تعالى في آيات عديدة من كتابه، قد جفوكِ وعلينا أن نُظهر العداوة تجاه أولئك الأشخاص كي نُفرح قلوب أعداء الإسلام!! وعليه فلو فرضنا -على سبيل الفرض المحال- أن فاطمة (ع) بُعثت اليوم وعادت إلى الدنيا الفانية وقالت: لست حاقدةً على أحد ولست ساخطةً على أحد، وكُفُّوا عن إثارة هذه الضجَّة والفتنة ومدُّوا أيدي الوحدة والاتِّحاد بعضكم إلى بعض، واسعَوا في حلّ مشكلات الإسلام والمسلمين، لأجابوها قائلين: كلا! يجب عليك أن تكوني ساخطةً! فإن رضيتِ فنحن غير راضين!! نعم! لأن ازدهار تجارتهم رهين باستمرار هذه الاختلافات والأحقاد!
سمعتُ مرَّةً قارئَ مرثيَّةٍ يقرأ في مأتم حضرة الزهراء (ع) البيت التالي (بالفارسية):
عُمَـــــر دَرْ زد بــــه پهـــــلويش شكست از كينه بازويـش...الخ
أي: ضرب عُمَر خاصرتها بالباب وكسر من حقده عضدها...الخ
فلما نزل من المنبر قلتُ له: إن جميعَ مُؤرِّخي الشيعة ومُحدِّثيهم مُتَّفقون على أن عليّاً (ع) أنْكَحَ الخليفةَ الثاني عمرَ بن الخطاب ابنةَ حضرة فاطمة (ع) ذاتها [أي أم كلثوم] (الكافي، ج 2، ص311، طبع الهند، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج3، ص 380، ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب، ج 3، ص162، ومسالك الأفهام للشهيد الثاني، باب النكاح، طبع إيران وسائر الكتب المعتبرة الأخرى). ووُلِدَ لأمير المؤمنين عليٌّ (ع) من عُمَر حفيدين باسم: زيد الأكبر وَرُقيّة. ثم قلتُ لقارئ المرثيّة هذا: لو كان ما تقوله صحيحاً فكيف أقدم عليٌّ على هذا العمل وأنْكَحَ ابنةَ حضرة الزهراء (ع) قاتلَ أُمِّها، وكيف رضيت ابنةُ فاطمة بهذا العمل وتزوّجتْ قاتلَ أمِّها؟ وكيف رضي أخَوَا أم كلثوم حضرات الحسنين ذوي الشهامة والنخوة بزواج أختهما من قاتل أمهما؟! فقال في الإجابة: لم أكن أعلم هذا الأمر!! وأقول: آهٍ! ما الحيلة مع مثل هؤلاء الجاهلين إلى هذا الحدّ، ورغم جهلهم يقرؤون المراثي ويأخذون على ذلك الأموال من الناس ويبثُّون كلَّ سَنَةٍ الفرقة والعداوة بين المسلمين؟!!
ثم في فصل «زيارة أئمة البقيع» ذكر الشيخ عبَّاس في نصّ الزيارة قول الزائر خطاباً للأئمة: "يا مَوالِيَّ يا أَبْناءَ رَسُولِ اللهِ، عَبْدُكُمْ وَابْنُ أَمَتِكُمُ الذَّليلُ بَيْنَ أَيْديكُمْ..."!! [685] هل من يقول مثل هذا الكلام يعرف رسول الله ص وله أدنى اطِّلاع على سيرة ذلك النبيّ الكريم؟ كلا والله. هل كان رسول الله ص يسمح لأصحابه أن يُخاطبوه بمثل هذه الصورة أم أنه كان سينهاهم عن ذلك حتماً؟ من هذا نعلم أن صُنَّاع تلك الزيارات لم يكن لهم أيّ معرفة بسيرة نبيّ الإسلام ص وحضرة عليٍّ (ع) ولم يكونوا يعلمون أن أمير المؤمنين علي ÷ قال: "وَلا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرَّاً" (نهج البلاغة، الرسالة رقم 31).
والنموذج الآخر لجهل هؤلاء المُبْتَدِعِين أنهم يقولون في الزيارة: "وَهذا مَقامُ مَنْ أَسْرَفَ وَأَخْطَأَ وَاسْتَكانَ وَأَقَرَّ بِما جَنى، وَرَجا بِمَقامِهِ الْخَلاصَ، وَأَنْ يَسْتَنْقِذَهُ بِكُمْ مُسْتَنْقِذُ الْهَلْكَى مِنَ الرَّدَى، فَكُونُوا لي شُفَعاءَ....."!! وينبغي أن نقول لهذا الجاهل الخرافي: أولاً: إن تعيين الشفيع واختياره خاصٌّ بالله وليس بأيدي عبيد الله (بل لِـلَّهِ الشفاعة جميعاً). ثانياً: ألا تعلم أن رسول الله ص وأئمة الإسلام الأجلاء الكرام ما كانوا يُحبُّون أثناء حياتهم الدنيوية أن يُفصح لهم الناس عن ذنوبهم وخطاياهم. فمثلاً إذا ارتكب أحدهم الزنا أو السرقة أو..... فجاء إليهم وأخبرهم عما اقترفت يداه وطلب منهم العفو والشفاعة أو إقامة الحدِّ عليه كي يتطهّر من عواقب ذنبه وخطيئته كانوا يُعرضون عنه ولا يُعيرونه اهتمامهم، كما قال عليّ (ع): "... مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ فَيَفْضَحَ نَفْسَهُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ أَفَلَا تَابَ فِي بَيْتِهِ؟ فَوَاللهِ لَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ إِقَامَتِي عَلَيْهِ الْحَدَّ..."[686]. فإذا كان الأمر كذلك فكيف يُمكن أن يرضى ذلك الإمام الجليل أن يحضر المسلمون بعد وفاته من أماكن بعيدة إلى قبره ليُقِرُّوا أمامه بإسرافهم وخطئهم وجُرمهم وذنوبهم ويطلبون منه نجاة أنفسهم؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
يجب أن نقول للأشخاص الذين ضلُّوا الطريق وأذنبوا: اذهبوا وتوبوا توبةً صادقةً وقوموا بأعمالٍ خَيِّرَةٍ تكفيراً عن ذنوبكم فإن الحسنات يُذهبن السيئات ولا تكشفوا عن ذنوبكم لأحد غير الله، لأنه لا يملك أحد غير الله إنقاذكم من العذاب كما قال تعالى لنبيّه الكريم: ﴿أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ١٩؟﴾[الزمر: ١٩]. فإذا كان رسول الله ص لا يستطيع أن يُنقذ إنساناً من عذاب الله فكيف يُمكن للآخرين فِعْلُ ذلك؟! إن الذين يطلب الزُّوَّارُ منهم إنقاذهم من عذاب الله هم أنفسهم خائفون من عذابه تعالى ولا يستطيعون أن يتكلَّموا دون إذن من الحق تعالى، وهم أنفسهم يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة أي أعمال الخير التي تُقرِّبهم منه تعالى، وَمِنْ ثَمَّ فبدلاً من تملُّقهم وإظهار الذل أمام مراقدهم يجب الاقتداء بأعمالهم واتِّباع أقوالهم.
ثم أورد الشيخ عبَّاس في الصفحة 337 [687] أموراً بهدف ترغيب الناس بقراءة نصوص زيارات أئمة الدين وتشجيعهم على زيارة قبورهم. وينبغي أن نقول: أيها الخرافي الجاهل! اذهب وتعلّم القرآن والسنة والسيرة كي تعلم كيف كان عمل رسول الله ص واعلم أن كلمات الآخرين ليست حُجَّةً عليك.
ثم ذكر الشيخ عبَّاس زيارةً لشهداء أُحد -رضوان الله عليهم- لم يأتِ المَجْلِسِيّ لها بسند (بحار الأنوار، ج 97، ص 221 و222). ولا ندري هل كانت هذه التلفيقات وليدة الفراغ والبطالة أم كان وراءها هدف آخر؟ الله أعلم.
ثم روى في الصفحة 339[688] عن أستاذه -الذي كان يعتقد بتحريف القرآن[689]- إن قبر رسول الله ص والأئمة أشرف من الكعبة!! في حين أن النبيّ نفسه كان يذهب إلى زيارة الكعبة ويركع أمامها ويسجد. نعم هذه هي معلومات هؤلاء الغُلاة!! ولا يخفى أن الشيخ عبَّاس ذكر في الصفحة ذاتها حديثاً يدَّعي أن الصلاة في مسجد النبيّ الأكرم ص تُعادل عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد ولم يستثنِ المسجد الحرام (بحار الأنوار، ج 97، ص 147، وفروع الكافي، ج 4، ص 556). ومن المُثير للانتباه أن نعلم أن راوي هذا الحديث الكاذب «عدي بن الحكم» الذي كان أيضاً من القائلين بتحريف القرآن!! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ؟
***
[682] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 424. (الـمُتَرْجِمُ) [683] راجعوا الصفحة 68 من الكتاب الحالي. [684] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 425. (الـمُتَرْجِمُ) [685] وذكر الشيخ عبَّاس ما يُشبه هذا القول أيضاً في زيارة الإمام الحسين (ع) في العيدين. [686] فروع الكافي، ج 8، ص 188. [687] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 439-440 . (الـمُتَرْجِمُ) [688] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 448. (الـمُتَرْجِمُ) [689] يقصد الحاج الميرزا حسين نوري الطَّبْرَسِيّ صاحب كتاب «مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل»، والذي ألَّف كتاباً في إثبات تحريف القرآن سمَّاه: «فصل الخطاب في تحريف الكتاب»!!! وقد ذكر بعض تلامذته كصاحب الذريعة (آقا بزرگ الطهراني) وصاحب «أعيان الشيعة» (السيد محسن الأمين العاملي) أنه تراجع عن بعض ما فيه في آخر عمره واقتصر على القول بوقوع النقص في مصحف عثمان عن المصحف المنزل!! (وتوفي سنة 1320 هـ.) (الـمُتَرْجِمُ)
قال أمير المؤمنين علي ÷: "هَلَكَ فِيَّ رَجُلانِ مُحِبٌّ غَالٍ ومُبْغِضٌ قَالٍ"، وقال: "يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وبَاهِتٌ مُفْتَرٍ" (نهج البلاغة، الحكمة 117 و469)[690]. ولحسن الحظ لا يوجد في زماننا أحد مُبغضٌ لعليٍّ، ولكن المُحِبِّين الجاهلين - الذين هم أسوأ من الأعداء- كثيرون!!
ولما كُنَّا قد تعرَّضنا في كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] (ص 259 فما بعد) إلى نقد الزيارات المذكورة في هذا الباب فإننا نُحيل القُرَّاء المحترمين إلى ذلك الكتاب ونذكر هنا على نحو الاختصار بعض الأمور في هذا الموضوع.
يقول الشيخ عبَّاس: "فإذا بَلَغْتَ بَابَ حِصْنِ النَّجَفِ فَقُلْ ....."[691] في حين أنه لم يكن في زمن الإمام بوَّابة للنجف بل لم تكن هناك قرية حتى يأمر الإمام بأننا إذا وصلنا إلى باب حصنها أن نقول كذا وكذا! من هذا يَتَبَـيَّنُ أن جميع هذه الأقوال وُضِعَتْ في القرون اللاحقة!! أو يروي في فضل زيارة أمير المؤمنين حديثا فيه: "... وَاللهِ يَا ابْنَ مَارِدٍ مَا يُطْعِمُ اللهُ النَّارَ قَدَماً اغْبَرَّتْ فِي زِيَارَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) مَاشِياً كَانَ أَوْ رَاكِباً .."[692].
بناءً على هذا الكلام فإن أهل العراق جميعهم من أهل الجنة ولن يرى أحدهم النار أصلاً، لماذا؟ لأنهم يزورون مرقد عليّ (ع)! في حين أنه لو التقى مسلمٌ بعليّ (ع) أثناء حياته أو زاره لم يكن ذلك موجباً لدخوله الجنة، لكن يبدو أن قبر الإمام في نظر الغُلاة أكثر أهمية من الإمام نفسه!! ثم جاء في آخر الحديث: "يَا ابْنَ مَارِدٍ اكْتُبْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَاءِ الذَّهَبِ ". نعم، يجب كتابة موضوعات هؤلاء الجاهلين الغُلاة بماء الذهب لأنها تُؤدِّي دوراً مهماً في إضلال الناس وإبعادهم عن القرآن وتشغلهم بالخرافات وهذا كلُّه يُعجب المُستعمرين ويُسعدهم!
أو يروي الشيخ عبَّاس خبراً لا اعتبار له يقول: "بِظَهْرِ الكُوفَةِ قَبْرٌ لا يلُوذُ بِهِ ذو عاهةٍ إلا شَفَاهُ اللهُ "![693] ولو سألهم سائلٌ فقال: فلماذا إذن يذهب مراجع التقليد الساكنون في النجف إلى بلدان أوروبا للعلاج كلما أُصيبوا بمرض أو يُحضرون لهم طبيباً من تلك البلدان، بدلاً من ذهابهم إلى مرقد حضرة عليّ (ع)؟! أضف إلى ذلك أن أمير المؤمنين ÷ نفسه كان يمرض! فكيف يكون الذهاب إلى قبره سبباً للشفاء؟! فبماذا يُجيبون؟ اللهم حُلَّ لنا هذا اللغز!
أو يقول: «اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا الْحَرَمَ حَرَمُكَ وَالْمَقَامَ مَقَامُك »!! أي هذا الحرم الذي بناه الظلمة بالمال الحرام أو المال الذي فيه شُبهة هو حرمُكَ يا ألله! فليت شعري! هل علَّم الأئِمَّةُ أنفسُهُم هذه الجمل للمؤمنين، وهل كان الأئِمَّةُ يُزكُّون أنفسَهم ويرفعون من شأن ذواتهم إلى هذا الحدّ؟ وهل كانوا مُعجبين بأنفسِهِم ومُصابون بالغرور إلى هذا الحدّ؟ أم أن الوضَّاعين نسبوا إليهم نصوص الزيارات هذه كذباً وزوراً؟ إن الذين وضعوا هذه الزيارات ما كانوا يعرفون الله حق المعرفة ولا كان لهم علمٌ بسيرة النبيّ والأئمة عليهم السلام.
وجاء في فصل «في الزِّيَارَات المُطْلَقَة» في وصف حضرة الأمير (ع) أن الزائر يقول: «انْتَجَبْتَهُ بِعِلْمِكَ وَجَعَلْتَهُ هَادِياً لِمَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِكَ وَالدَّلِيلَ عَلَى مَنْ بَعَثْتَهُ بِرِسَالَاتِكَ وَدَيَّانِ الدِّين .......الخ» أليس هذا الكلام كفراً؟ ألا يُخالف كلام عليّ؟ إن لم يكن مثل هذا الكلام كفراً فما الكفر إذن؟! هل كان عليٌّ الذي كان يأمر بالاقتداء بسُنة النبيّ (نهج البلاغة، الخطبة 205) مُتَّبعاً لرسول الله ص أم دليلاً للرسول؟[694] لماذا لم يعهد الله بهداية الأُمَّة إلى دليل الأنبياء؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
لعنة الله على الذين أشاعوا بين المسلمين وأتباع القرآن كل خرافة وكل كلام باطل باسم المدائح والثناء والتمجيد وإظهار المحبَّة و...... يجب أن يتمّ إفهام الناس أن الإسلام ليس دين المدائح والنياحة والأعمال غير المنطقية وقد نهى رسول الله ص عن مثل هذه الأعمال، كما قال: «احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَاب»[695]. وقال عن النياحة: «النِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ»[696]. و: «نَهَى رسول الله ص عَنِ الرَّنَّةِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَنَهَى عَنِ النِّيَاحَةِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَيْهَا»[697]. وعندما قُتل جناب جعفر بن أبي طالب -رضوان الله عليه- قال النبيّ لفاطمة (ع): «لَا تَدْعِي بِذُلٍّ وَلَا ثُكْلٍ وَلَا حُزْنٍ»[698]. وجاء في الحديث أيضاً: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ ص قَالَ لِفَاطِمَةَ (ع): إِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَخْمِشِي عَلَيَّ وَجْهاً وَلَا تَنْشُرِي عَلَيَّ شَعْراً وَلَا تُنَادِي بِالْوَيْلِ وَلَا تُقِيمِي عَلَيَّ نَائِحَةً» [699]. وقال ص: «لَعَنَ الْخَامِشَةَ وَجْهَهَا وَالشَّاقَّةَ جَيْبَهَا وَالدَّاعِيَةَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور»[700]. وقال ص: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ، وَلا من سَلَقَ، ولا من خَرَقَ، ولا مَنْ دعا بالويل والثبور"[701]. وقال: "إِنَّمَا نَهَيْتُ عَنِ النَّوْحِ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ نَغَمِ لَعِبٍ وَلَهْوٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ وَصَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَان"[702]. وقال: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ"[703]. ونهى النبيّ ص الناس عن النياحة عندما استُشهد عمّه جناب حمزة بن عبد المطلب (ع)[704]. وقال: "صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ يُبْغِضُهُمَا اللهُ إِعْوَالٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ وَصَوْتٌ عِنْدَ نَغْمَةٍ يَعْنِي النَّوحَ وَالْغِنَاءَ"[705]. وقال أيضاً: "ضَرْبُ الْمُسْلِمِ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ إِحْبَاطٌ لِأَجْرِهِ"[706]. وقال الإمام الباقر (ع) أيضاً: "أَشَدُّ الْجَزَعِ الصُّرَاخُ بِالْوَيْلِ وَالْعَوِيلِ وَلَطْمُ الْوَجْهِ وَالصَّدْرِ وَجَزُّ الشَّعْرِ مِنَ النَّوَاصِي وَمَنْ أَقَامَ النُّوَاحَةَ فَقَدْ تَرَكَ الصَّبْرَ وَأَخَذَ فِي غَيْرِ طَرِيقِهِ"[707].
***
إن سائر زيارات أمير المؤمنين علي ÷ التي جاءت في «المفاتيح» -وتعرّضنا لنقدها باختصار في كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات]- معيبة أيضاً لاسيما الزيارة السادسة التي جمعت كل ما أمكنها من عبارات كُفرية وخرافية!! وأحد رواة هذه الزيارة هو «سيف بن عَميرة» الذي لُعن على لسان الأئمة[708]. في هذه الزيارة وُصِف عليٌّ (ع) بأنه: «باب الله» وَ«عين الله» وَ«جنب الله» وَ«وجه الله» وَ«قسيم الجنة والنار» وَ......، ثم اعتبر عليّاً «نور الأنوار» مما يُبيِّن أن مُلفِّق هذه الزيارة كان من المُتأثِّرين بعقائد الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا يقولون: إنَّ اللهَ خلقَ العقلَ الأوَّلَ أو نورَ الأنوار ثم خلق العقلُ الأولُ كلَّ شيءٍ أو خُلق كلُّ شيء من نور الأنوار!! كما اعتبرت الزيارة علياً «حبل الله المتين» في حين أن أمير المؤمنين علي ÷ اعتبر أن القرآن هو «حبل الله المتين» (نهج البلاغة، الخطبة 156 وَ176 وَ190).
وجاء في هذه الزيارة أيضاً: «السَّلَامُ عَلَى الْأَصْلِ الْقَدِيمِ وَالْفَرْعِ الْكَرِيمِ. السَّلَامُ عَلَى الثَّمَرِ الْجَنِي». وهذا يُبيِّن أن واضع هذه الزيارة مُتأثِّرٌ بالنصارى وقد دسَّ فكرة التثليث في هذه الزيارة! ويأتي الزائر الغافل ويقرأ الزيارة المذكورة ولا يدري أنها تتضمن عبارات مشوبة بالشرك، ويتقرَّب بقراءتها إلى الله!! ولقد ذكرنا في كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] (الصفحة 272) رأي الشيخ محمد حسن النجفي صاحب «الجواهر» بهذه الزيارة، لذا من الضروري قراءة الكتاب المذكور بشأن هذه الزيارة والزيارة السابعة؟
وفي فقرة «وداع الأمير عليه السلام» (الصفحة 365)[709]يقول الشيخ عبَّاس:
"فإذا شئت وَدَاعَهُ فَوَدِّعْهُ بهذا الوداعِ الّذي أوْرَدَهُ العلماءُ تِلْوَ ما ذكروه مِنَ الزّيارة الخامِسة".
إن مما يُثير العجب أن الخرافيين -من جهة- يعتبرون عليّاً حاضراً وناظراً في كل مكان ويدعونه ويُنادونه في كل الأحوال قائلين: «يا علي مدد»، ومن الجهة الأخرى يعتبرونه موجوداً في حرمه فقط فإذا غادروا الحرم ودَّعوه!! والواقع أن كلا الأمرين خطأ لأن الإمام (ع) قد غادر هذه الدنيا المادية الفانية نهائياً وإلى غير رجعة بعد استشهاده وانتقل إلى دار البقاء ولم تعد له صلة بدنيانا المادية وهو مُتنعِّم بنعمِ ربِّه.
[690] وجاء أيضاً عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله في هذا المعنى: "وسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ ومُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وخَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالاً النَّمَطُ الأوْسَطُ، فَالْزَمُوهُ والْزَمُوا السَّوَادَ الأعْظَمَ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وإِيَّاكُمْ والْفُرْقَةَ.....". (نهج البلاغة، الخطبة 127) (الـمُتَرْجِمُ) [691] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 455. (الـمُتَرْجِمُ) [692] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 450. والحديث رواه الشيخ الطوسي في التهذيب، ج 6، ص 21-22. و المَجْلِسِيّ في بحار الأنوار، ج2، ص 147 نقلاً عن كتاب فرحة الغري. (الـمُتَرْجِمُ) [693] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 450. [694] وقع المؤلف البرقعي هنا بهفوة كبيرة إذ ظن أن معنى جملة: «وَالدَّلِيلَ عَلَى مَنْ بَعَثْتَهُ بِرِسَالَاتِكَ» أن عليا دليلٌ ومرشدٌ للنبي ص والعياذ بالله، ولم يُفَرِّق بين الدليل للشيء، والدليل على الشيء، فالدليل على الشيء هو الذي يدل الناس ويُرشد الآخرين إليه، فمعنى الجملة: إن الله جعل عليَّاً دليلاً يرشد الناس إلى رسول الله وإلى سنته وشريعته. وهذا المعنى موضع اتفاق بين المسلمين فليس في هذه الجملة أي عيب فضلاً عن أن تكون كفراً!! والعجيب أن المرحوم البرقعي علَّق على هذه الجملة غير المعيبة وترك التعليق على الجملة التي بعدها وهي وصف عليٍّ (ع) بأنه: "دَيَّان الدِّينِ بِعَدْلِكَ"!! مع أن الدَّيَّان: اسمٌ من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المحاسِبُ المُجَازِي، والحَكَمُ القاضي بين العباد يوم الدِّين. فنسبة هذه الصفة لغير الله هي الغلوّ المحض الذي لا يقبله الله ولا رسوله ص ولا عليٌّ (ع). (الـمُتَرْجِمُ) [695] وسائل الشيعة، ج 12، ص 132، الحديث الأول. [696] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 376. ووسائل الشيعة، ج 2، ص915. [697] وسائل الشيعة، ج 2، ص 915، وج 12، ص 91، ورُوي في مسند زيد (ص 175) عن عليّ (ع) أنه قال: "نهى النبيُّ ص عن النوح". [698] وسائل الشيعة، ج 2، ص 915، و ج 12، ص 91. [699] وسائل الشيعة، ج 2، ص 916، وقال حضرة سيد الشهداء (ع) - مُتَّبعاً سنة جده الكريم - لأخته زينب: "يا أُخيّة! إنّي أُقْسِمُ عليكِ فَأَبِرِّي قَسَمِي: لا تَشُقِّي عليَّ جَيْبَاً ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت!". (الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 97). [700] مُسَكِّنُ الفؤاد، زين الدين العاملي، ص 108. ومستدرك الوسائل، ج 1، ص 144. [701] مسند الإمام زيد، ص 175. وقد أورد الشهيد الثاني هذا الحديث في كتابه بالصورة التالية: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخدود وشقَّ الجيوبَ" (مُسَكِّنُ الفؤاد، ص 108). [702] مستدرك الوسائل، ج 1، ص 144- 145. [703] المُصنَّف، ج 3، ص 559. ووسائل الشيعة، ج 12، ص 91. ومستدرك الوسائل، ج 1، ص 143. [704] المُصنَّف، ج 3، ص 561. [705] مستدرك الوسائل، ج 1، ص 144. [706] الكُلَيْنِيّ، فروع الكافي، ج 1، ص 224. وكذلك قال أمير المؤمنين علي ÷ أيضاً: "مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ حَبِطَ عَمَلُهُ" (نهج البلاغة، الحكمة 144). [707] فروع الكافي، ج 1، ص 222. [708] وقد عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، في الصفحات 105 إلى 106. [709] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 478. (الـمُتَرْجِمُ)
أورد الشيخ عبَّاس تحت هذا العنوان زيارةً خاصةً بيوم عيد الغدير وذكر لها ثوابات عجيبة وغريبة، وناقل هذه الثوابات راوٍ غير موثوق يُدعى «ابن أبي نصر [البزنطي]»[710] وقد تكلَّمنا في كتابنا الحاضر هذا (ص 347 فما بعد) إلى حدٍّ ما على عيد الغدير وما يتعلّق به من مسائل فلا نُكرِّر ذلك هنا، ونُحيل القُرَّاء المحترمين إضافةً إلى ما ذكرناه هناك إلى الكتاب القيم «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] ونأمل أن لا يغفلوا عن مطالعته.
للأسف، إن التأكيد والإصرار على مسألة الغدير بعد مئات السنين من عهد الخلفاء الراشدين ليس فيه أيّ منفعة لمسلمي عصرنا، فما الفائدة التي نجنيها من الإصرار على إثبات خلافة زيد أو عمرو في هذا الزمن الذي وقعت فيه الفُرقة بين المسلمين وأصبح أتباع كل مذهب يُعادون أتباع المذاهب الأخرى وصار المسلمون في غاية الضعف وتأخَّروا عن الشعوب الأخرى؟! ربما كان من الأفضل أن يستلم علي (ع) زمام الخلافة مباشرةً بعد رحيل رسول الله ص، ولكن ما علاقة هذا الأمر بزمننا الحاضر؟ فهذا الأمر خرج الآن عن قدرتنا ولا نستطيع الآن أن نخلع أبا بكر من الخلافة ولا أن نولِّيَها علياً (ع). ولهذا السبب جاء إرشاد القرآن لنا بشأن الأمم السابقة: ﴿تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ وَلَا تُسَۡٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٣٤﴾[البقرة: 134 وَ141].
ألا ترون أيها الشيعة الذين تهتمُّون ليل نهار وفي السر والعلن بأمر الخليفة أو الإمام المُحِقّ وغير المُحِقّ قبل ألف سنة، أن حُكَّامَكُم اليوم أسوأ بكثير من حُكَّام صدر الإسلام؟ فلماذا لا تهتمُّون بيومكم هذا ولا تسعون إلى تحصيل حقوقكم؟!
نعم، لقد تمَّ خلط الحق بالباطل في زيارات «المقصد الثاني» بهدف خداع عوام الناس وجاء في نصّ الزيارة -بحُجَّة إظهار المحبَّة والولاء لأمير المؤمنين (ع)- عبارات مفادها أنك آمنتَ حين كان الآخرون مشركين، وصدَّقْتَ حين كان الآخرون مكذِّبين، وجاهدتَ ولم يجاهد الآخرون...... الخ.
وينبغي أن نقول: أحد هؤلاء الأفراد الفاقدين للإيمان هو واضع هذه الزيارة ذاته الذي أراد إثارة الفتنة، وإلا فأيّ فائدة تعود علينا من إساءة الكلام بحق الأسلاف ومن ذمِّهم والقدح بهم بعد قرون متمادية من رحيلهم؟! نعم، من المعلوم أن أصحاب رسول الله ص كانوا في البداية مشركين وكافرين ومُكذِّبين ولكنهم آمنوا بالتدريج وَقَبِلَ اللهُ المنَّان منهم إيمانهم بل أثنى على فريق منهم في كتابه. فما علاقتكم الآن بما كانوا عليه في الماضي؟ خاصةً الأشخاص الذين ذكرهم أمير المؤمنين علي ÷ بالخير وأثنى عليهم.
لكن واضع هذه الزيارة أخذ بالتملُّق لأمير المؤمنين للوصول إلى مقصده -الذي لم يكن خيراً قطعاً- وأخذ يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدَ الْوَصِيِّينَ وَيَا سَيِّدَ الْمُسْلِمِين وَيَا مَوْلَى المُؤْمِنين، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِمَامَ الْمُتَّقِينَ، وَيَا سَيِّدَ الأَوْصِياء، وَيَا وَارِثَ عَلْمِ النَّبِيِّين (في حين أن العلم لا يورث وراثة)، أشهد أنك كذا وكذا ....الخ".
وينبغي أن نقول: مهما كانت لأمير المؤمنين (ع) من فضيلة فهذا لا علاقة له بِكَ يا واضِعِ هذه الزيارة. إن حضرة الأمير (ع) كان يسعى أكثر من أيّ شخص آخر لأجل الوحدة الإسلامية واتِّحاد المسلمين وكان يبذل التضحيات في هذا السبيل، أما أنت فلا تسعى إلا في إيجاد الفُرقة، فما علاقتك به؟! نعم، لقد اعتبر هذا المُفَرِّق للمسلمين آياتٍ من القرآن مُختصَّةً بعَلِيٍّ (ع) وقال مثلاً: "أَشْهَدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الشَّاكَّ فِيكَ مَا آمَنَ بِالرَّسُولِ الْأَمِينِ "!! يُريد أن يُصوِّر أن عَلِيّاً أصل من أصول الدين لأن الإيمان بأصول الدين جميعها واجب. هذا في حين أن عَلِيّاً كان يعتبر نفسه تابعاً للدين ولا يعتبر نفسه لا من أصول الدين ولا من فروعه. ثم قال واضع الزيارة: "الدِّينِ الْقَوِيمِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَكْمَلَهُ بِوَلَايَتِكَ يَوْمَ الْغَدِيرِ"!! وهذا افتراء على اللهِ الذي قال: ﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٤﴾[الانعام: ١٤٤] لأن الله تعالى بيَّن لنا أصول الدين بشكل واضح في القرآن ولم يذكر فيها موضوع الولاية[711]. (فَتَأَمَّل جداً).
71ثم قال: "أَشْهَدُ أَنَّكَ..... الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم "!! فنسأل واضع الزيارة: فهل كان عَلِيٌّ (ع) يمزح عندما كان يقول في كل يوم مرَّات عديدة في صلواته: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، إذْ كان هو نفسه الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ؟! أم أن عليّاً كان يقصد اللهم اهدني إلى نفسي؟! إنَّ هذا يُبيِّنُ أن واضع هذه الزيارة لم يكن من أهل العلم بالقرآن الكريم الذي جاء فيه: ﴿قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٦١﴾[الانعام: ١٦١]. فبناءً على ما بيَّنه القرآن الكريم لم يكن النبيّ ولا عَلِيٌّ «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» بل كانا قد هُديا إلى «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» وكانا يدعوان الناس إلى «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم».
ولو كان واضع هذه الزيارة على معرفة بالقرآن الكريم لأدرك أنه ليس من الأصلح في حقِّ عَلِيٍّ (ع) أن يُصَوَّرَ بأنه هو الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيم لأن كتاب الله يقول: ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ١٦﴾[الاعراف: ١٦]، فهل يُمكننا القول: إن الشيطان كان يقعد فقط على طريق عَلِيٍّ (ع)؟! لاحظ أيها القارئ المحترم أيّ خيانة للقرآن الكريم قام بها واضع هذه الزيارة وكيف فسَّر آيات الله بِرَأْيِه، وكيف يُكرّر قوله في الزيارة إن كل من لا يؤمن بتلفيقاته هذه فهو ضالٌّ قد عدل عن الحق أو عاند الحق، هذا في حين أن الواقع أن واضع الزيارة ومُلفِّقها هو الذي لم يكن له إيمان حقيقي بالله وكتابه وإلا لم يضع صفحات عديدة من الأمور الدينية وينسبها لأئِمَّة الدين الكرام.
نعم، لقد تمَّ التلاعب في هذه الزيارة بمعاني كثير من آيات القرآن ومن جملتها الآية 153 من سورة الأنعام المكية[712]. ولو رجع القارئ المحترم إلى القرآن الكريم للاحظ أن الله تعالى قال في الآيتين اللتين قبلها: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ١٥١ وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ١٥٢﴾[الانعام: ١٥١، ١٥٢].
ثم بعد ذلك قال: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾[الانعام: ١٥٣].
فأولاً: هذه السورة مكية ولم تكن مسألة الولاية وخلافة عَلِيٍّ (ع) مطروحةً أصلاً في الفترة المكية من عهد الرسالة. ثانياً: كما لاحظتم لا علاقة للآيات المذكورة أعلاه بحضرة الأمير (ع) ورغم ذلك فإن واضع الزيارة يقول: "وَأَشْهَدُ أَنَّكَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ "!! وَمِنْ ثَمَّ فقد لعب في الواقع بمعنى آيات القرآن. وكل من كان له أدنى معرفة بالقرآن يعلم أن النبيّ والإمام ليسا «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» بل هما سالكا «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم» والهاديان إلى «الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم». كما قال تعالى لنبيِّه [بعد أن تلا عليه ما حرَّمه وما أمره به من وصايا]: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢ صِرَٰطِ ٱللَّهِ﴾[الشورى: ٥٢، ٥٣]. ولم يقل: «وَإِنَّكَ لَأَنْتَ الصِّرَاطُ». (فلا تتجاهل).
72ثم يقول: "لَعَنَ اللهُ مَنْ سَاوَاكَ بِمَنْ نَاوَاك "، وفي هذا الكلام مخالفة لأمير المؤمنين نفسه الذي قال في الخطبة 164 من نهج البلاغة مُخاطباً عثمان: "إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ؟! مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ وَلا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ، وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وَآله) كَمَا صَحِبْنَا، وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ولا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْحَقِّ مِنْكَ، وأَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا، وقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالا...... الخ".
وعلى كل حال، فإن الآيات التي أتى بها واضع الزيارة في نصِّ زيارته إما آيات عامة وليست خاصة بعَلِيٍّ (ع) وحده -هذا رغم أن عَلِيّاً (ع) من أفضل مصاديق الآيات المذكورة- (فَتَأَمَّل). أو أنها لا علاقة لها بحضرة الإمام أصلاً. فمثلاً يقول: "وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيكَ مِنْ قَبْلُ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٥٤ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ ٥٥ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ٥٦﴾"[713]. مع أن هذه الآيات لا تتعلّق بعَلِيٍّ (ع).
لننتبه إلى أن واضع الزيارة كان جاهلاً تماماً (أو معانداً جداً) فيما ذكره بشأن الآية 54 من سورة المائدة، إذ لم يكن مُطَّلعاً حتى على تفاسير الشيعة، وإلا لعلم أن هناك 13 طائفة -ثلاثة منهم في السنة الأخيرة من الحياة المباركة لرسول الله ص والبقية في زمن خلافة أبي بكر- ارتدُّوا عن الإسلام ومنهم الأسود العنسي الكاهن في اليمن ومُسيلمة الكذاب في اليمامة وطُليحة بن خويلد من بني أسد وَ...... -المذكورين بالتفصيل في كتب التفسير والتاريخ- وقد حاربهم المسلمون في زمن خلافة أبي بكر فهزموهم جميعاً بفضل الله وبنُصرته وانتصر الإسلام. ويجب أن نلاحظ أن الفعل في الآية 54 جاء في زمن المستقبل (فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ...) ولما كانت سورة المائدة آخر سورة طويلة نزلت وأخبرت الآية عن ارتداد عدد من الناس وقد تحقق ما أخبر به القرآن عندما ارتدّت جماعات من الناس -كما ذكرنا- في السنة الأخيرة من حياة رسول الله ص وارتدَّ آخرون بعد رحيله ص.
بناءً على ذلك فإن أوضح مصداق لقوله تعالى: «يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ» هم مجاهدو الإسلام زمن أبي بكر الذين حاربوا المُرتدِّين. (فلا تتجاهل). ورغم أن الآية المذكورة غير منحصرة بحضرة عَلِيٍّ (ع) إلا أن هذا لا يتنافى مع كون عَلِيٍّ (ع) في صدر مصاديق الآية بسبب دعمه ومعاونته التامَّة لأبي بكر في الحروب المذكورة.
أما قول ذلك الفريق من علماء الشيعة الذين يقولون: إن مصداق الآية المذكورة عَلِيٌّ (ع) الذي حارب أهل البصرة والشام، فهو قولٌ غيرُ صحيح لأنه رغم أن حضرة الأمير حارب بشدة من خرجوا عليه وحاربوه إلا أنه لم يعتبرهم مُرْتَدّين (فلا تتجاهل)، ولم يستأصلهم بل تعامل معهم كمسلمين ولم يقل عنهم إنهم كانوا كافرين أو مُرْتَدّين[714]، في حين أن الآية التي تمّ الاستشهاد بها تتكلم عن المُرتدِّين ولهذا السبب عُرفت حروب أبي بكر في التاريخ بـ «حروب الرِّدَّة» أما حروب حضرة عَلِيٍّ (ع) ضدَّ الخارجين عليه فعُرِفت بقتال القاسطين والناكثين والمارقين. نعوذ بالله تعالى من العصبيَّة.
في الزيارة الخاصة الثانية أيضاً نجد كثيراً من قرائن الكذب، من ذلك وصْفُ عَلِيٍّ بأوصاف يبرأ منها الإمام (ع)، كقول الزائر مثلاً: «يا عصمة الأولياء، يا خالص الأخلاء » وهي عبارات ينبغي أن يأتي واضع الزيارة ويُوضِّح لنا مُراده منها! أو قوله: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا قَسِيمَ الْجَنَّةِ وَلَظَى. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَنْ شَرُفَتْ بِهِ مَكَّةُ وَمِنًى "؟!! في حين أن الإمام لم يصف نفسه أبداً بمثل هذه الأوصاف بل كان يعتبر نفسه مُكلَّفاً بتعظيم مكة ومِنى وزيارتهما ويُؤمن بالثواب على ذلك وكان يحجُّ بقصد نيل الأجر والثواب عند الله. كما قال: "أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الْحَرَامِ الْمَبْرُورِ حَجُّهُمْ"[715]. فليس في ذكر هذه الجمل المُسجَّعة سوى غُلُوٍّ نهى الإسلام عنه (النساء: 171) والكل يعلم أن حضرة الإمام كان يكره المديح. هل يُمكن أن يُسَرَّ الإمام من وقوف الناس مقابل قبره ليقوموا بكل هذا التملُّق والتزلُّف وكيل المدائح والإطراء؟ كلا والله. بل إنه سيُخاصم يوم القيامة قارئ هذه الزيارة كما قال تعالى: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦﴾[الاحقاف: ٥، ٦].
ماذا سيُجيب هؤلاء القوم عَلِيّاً إذا قال لهم يوم القيامة: هل قرأتم في القرآن أنه يجب عليكم أن تدعوني حتى بعد وفاتي أو تأتوا من مناطق بعيدة إلى قبري وتطلبوا مني حوائجكم وتقرؤوا أمام قبري صحائف من المدائح لي وأنواع الثناء؟! لماذا وبأمر من وضعتم لأجلي هذه العبارات المشوبة بالغُلوّ والتملُّق؟! لماذا جعلتموني وسيلةً لكم وكنتم في حياتي تُؤذونني، ثم لم تكفُّوا عن إيذائي بعد وفاتي بل أقمتم كل هذه الفتن واللغط والضجيج بحُجَّة موالاتي ونُصرتي وأصبحتم أعداء بعضكم بعضاً وأرقتم في هذا السبيل هذه الدماء كلَّها؟!
ومن حيث المبدأ، لم يطلب الله منا مدح الماضين ولم يكن رسول الله ص وأئمة الإسلام الكرام يُحبّون هذا التملُّق والمدائح والمراثي. وبدلاً من هذه الأعمال الأَوْلَى أن يُقرأ كتاب الله ويُفهَم ويُعمَل بتعاليمه. لم يطلب الله ورسوله منا مثل تلك الأعمال. ولم يوصِ الأئمة أثناء حياتهم في هذه الدنيا الفانية أحداً بأن يأتي ويحضر عند قبورهم ويتملّقهم ويمدحهم، بل كانوا ينهون عن المديح، أما الآن وقد ذهبوا ورحلوا عن هذه الدنيا وانتقلوا إلى دار البقاء ولم يعد لهم علم بمدائحنا فما فائدة مثل هذه الأعمال؟! إن الذي لم يكن يرضى بالمدائح في حال حياته الدنيوية كيف يُمكننا أن نقول إنه أوصى بفعل ذلك بعد وفاته وأمر أن تُقرأ عشرات الصفحات في مدحه؟! ولكن ما العمل، إننا لا نستطيع أن نُفهم هذه الحقائق للعوام! ما أحسن ما قاله الشاعر:
(أربعة أبيات بالفارسية) وترجمتها كالتالي:
إنني محتار في أمر عُبَّاد الأموات هؤلاء
هذه الطائفة التي تقتل الحيّ وتعبد الميت!
أذلُّوه بالجفاء عندما كان حياً
فإذا مات أعزُّوه ورفعوه بأيديهم!
عندما كنا لم نكن شيئاً
كان يقتلنا غمُّ الوحدة
وعندما ذهبنا أصبح الكل صديقاً لنا
نمنا واستيقظ الجميع!
[710] عرَّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 257. [711] راجعوا الصفحات 306 - 318 من الكتاب الحاضر. [712] نصُّ الآية هو: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾[الأنعام: 153]. (الـمُتَرْجِمُ) [713] حول الآية 55 من سورة المائدة من الضروري مراجعة «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص 145 فما بعد)، و «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» الصفحات 317 و 411 إلى 414 و 622 - 623. [714] لو رجعنا إلى الكتب التي أُلِّفت حول سيرة أمير المؤمنين علي ÷لرأينا أن حضرة الأمير لم يتعامل أبداً مع الذين حاربوه بوصفهم مُرتدّين وكفرة. وليس لديَّ اليوم الكتب اللازمة لبيان هذا الأمر لذا سأنقل كنموذج فقط ما ذكره محمد بن جرير الطبري في وقائع سنة 36 للهجرة حيث قال إنه بعد انتصار عَلِيٍّ في معركة الجمل على مُناوئيه: ".... وأقام عليُّ ابن أبي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة، وَنَدَبَ الناسَ إلى موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم فطاف على من معهم في القتلى فلما أُتي بكعب بن سور قال: زعمتم أنما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يقول الذي كانوا يطيفون به يعني أنهم قد كانوا اجتمعوا عليه ورضوا به لصلاتهم، وجعل عَلِيٍّ كلما مرَّ برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء هذا العابد المجتهد. وصَلَّى على قتلاهم من أهل البصرة وعلى قتلاهم من أهل الكوفة وصَلَّى على قريش من هؤلاء وهؤلاء فكانوا مدنيين ومكيين ودفن على الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء ثم بعث به إلى مسجد البصرة أن من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان فإنه مما بقي ما لم يعرف خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله عز وجل لا يحل لمسلم من مال المسلم المتوفى شيء". (تاريخ الأمم والملوك، دار القاموس الحديث، ج 5، ص 222). فكما نلاحظ لم يعتبر حضرة عَلِيٍّ (ع) من خرجوا لحربه مُرتدّين ولا كافرين بل تعامل معهم بوصفهم بُغاة. ولم يغنم عَلِيٌّ (ع) في جميع حروبه سواءً في الجمل أم النهروان أم صفين شيئاً من أموال مُحاربيه، وصلَّى على قتلاهم. وتعامل الإمام في صفين مع الأسرى المقبوض عليهم بالصورة التالية: أولاً: اقترح عليهم طاعته ومُبايعته فإن قبلوا أطلق سراحهم وإن لم يقبلوا فكان يأخذ سلاحهم ويستحلفهم بالله أن لا يخرجوا إلى مُحاربته من جديد ثم يُطلق سراحهم، أما إن رفضوا الاقتراحَين فكان يحتفظ بهم أَسْرَى مُعتقلين لديه. وقال عليٌّ (ع) عن أهل الشام: "أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ ونَبِيَّنَا وَاحِدٌ ودَعْوَتَنَا فِي الإسْلامِ وَاحِدَةٌ ولا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإيمَانِ بِاللهِ والتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ ولا يَسْتَزِيدُونَنَا" (نهج البلاغة، الخطبة 58)، إلى درجة أنه لم يكن يرضى أن يقوم أتباعه بسبِّ أهل الشام وقال: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ، اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ" (نهج البلاغة، الخطبة 206). من البديهي أن هذا السلوك يبيِّن بوضوح أن الإمام لم يكن يعتبرهم مرتدين أو كافرين! (فلا تتجاهل). [715] الصحيفة العلوية، دعاؤه في اليوم الثلاثين من الشهر.
نقل الشيخ عبَّاس تحت هذا العنوان[716] ثلاثة زيارات لم تُرْوَ أيُّ واحدةٍ منها عن اللهِ ورسولِهِ ص، بل الزيارة الأولى مروية عن صاحب كتاب «المزار القديم» والشّيخ «محمد بن المشهدي»[717]، والزيارة الثانية منقولة عن صاحب «المزار القديم»، والزيارة الثالثة منقولة عن الشيخ المفيد والسيد ابن طاووس وأمثالهما! ونريد أن نسأل: ما هي مكانة «الشيخ محمد بن المشهدي» أو صاحب المزار القديم في الدين حتى يأتوا ويُقدّموا للناس زيارات يقرؤونها؟ هل تعليم أمور الدين والمناسك والعبادات أمرٌ منوطٌ بالله ورسوله فقط أم هو من مسؤولية الشيخ فُلان والزاهد المُتظاهر بالتقوى عِلّان؟!
وبشأن هذه الزيارة نُذكِّر بأن من كتبها اعتبر أن يوم 27 رجب هو يوم بعثة النبي ص وقد سبق أن قلنا (ص 245 فما بعد) إن هذا القول محلُّ تأمُّل جداً وأن التحقيق يُوصلنا إلى ما يُخالف ذلك وأن الأقوى والأرجح أن بعثة النبيّ وقعت في ليلة القدر في شهر رمضان.
لقد بلغ واضع الزيارة المدى في التملُّق والتزلُّف والغُلُوّ مما لا يقبله حضرة الأمير ولا نفع فيه لقارئ تلك العبارات. أضف إلى ذلك أن الفضائل التي يذكرها الزائر مُختصةٌ بعَلِيٍّ (ع) الذي كان عالماً وعابداً وزاهداً وعاملاً بأوامر الله وجاهد جهاداً كبيراً في سبيله، وثواب كل ذلك يعود بالطبع على الإمام نفسه ولن يُعطي الله ثواب هذه الأعمال لأحد من زائريه!
وبالطبع، فإن عدداً من العبارات التي وردت في هذه الزيارة، في غير محلِّها وغُلُوٌّ واضح كقوله مخاطباً عليَّاً (ع): "السَّلامُ عَلى أَبِي الأَئِمَّةِ وَمَعْدِنِ النُّبُوَّة " ويجب أن نسأل: كيف يكون عَلِيٌّ (ع) «مَعْدِنُ النُّبُوَّة َ»؟! والاعتراض الآخر أن واضع الزيارة أدخل فيها تعصباته الجاهلة كي يُثير الفتنة ويبثّ الفرقة والاختلاف بين المسلمين لذلك خاطب عَلِيّاً قائلاً: "السَّلَامَ عَلَيْكَ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، السَّلَامَ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْفَارُوقُ الْأَعْظَمُ "! لأنه كان يعلم أن أهل التاريخ والسيرة لقَّبوا أبا بكر بلقب «الصديق» ولقَّبوا الخليفة الثاني بلقب «الفاروق»، فأراد واضع الزيارة التفاخر والقول: بل نحن لدينا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم! وفي نظرنا إن من يريد الخير للمسلمين ويريد وحدتهم لا يفعل مثل هذا الفعل وإلا فلا أعتقد أن هناك مسلماً لا يعتبر حضرة عَلِيٍّ (ع) صِدِّيقَاً. (فَتَأَمَّل).
وجاء في بعض عبارات هذه الزيارة: "وَلَكَ عِنْدَ اللهِ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَالْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالشَّأْنُ الْكَبِيرُ وَالشَّفَاعَةُ الْمَقْبُولَة "! في حين أن واضع الزيارة لم يكن يعلم أو يعلم ولكنه تجاهل أن الأنبياء أنفسهم لا يملكون حق الشفاعة بنحو مطلق ولا يُمكنهم التشفُّع لشخصٍ ما لم يأذن لهم الله بدايةً بذلك بحق هذا الشخص بالذات. (طه: 109، وهود: 45 وَ74 و76، والتوبة: 80). أو اعتبر حضرة عَلِيٍّ (ع) «تاج سرِّ رسول الله ص» فهل الذي وضع مثل هذا التعبير عن حضرة الأمير من مُريديه الحقيقيين ومن المُتَّبعين حقيقةً لحضرته؟! (فلا تتجاهل).
هنا يجب أن نسأل المدَّاحين والمُتَمَلِّقين: ما هي النتيجة التي حققتموها من تلفيقكم لهذه النصوص المُخالفة لتعاليم الأئمة سوى دفع عوام الشيعة إلى الغرور؟! حتى قال أحد شعرائهم:
در مذهب عارفان آگـــاه الله على است على است الله!!![718]
أي: في مذهب العارفين العالِمِين اللهُ عليٌّ وعليٌّ هو الله!!!
وقال شاعر آخر:
از گرمى روز محشرم غمّ نيست تا سايهيِ مرتضى على بر سر ماست!!!
أي: لا خوف علينا من حرارة يوم المحشر
طالما كان ظلُّ المرتضى عَلِيّ فوق رؤوسنا
وقال شاعر ثالث:
لي خمسةٌ أُطفي بهم نارَ الجحيم الهاوية
المُصطفى والمُرتضى وابناهما والفاطمة!!!
أو يقولون: "إذا كان عندي عَلِيٌّ فأيُّ غم لديّ؟!!".
نعم، إن نتيجة ذلك الغُلوّ والتملُّق والمدائح المُغالية هي مثل هذه الأقوال الكفرية والخرافية! ومن ذلك ما نجده في آخر نصِّ الزيارة التي وضعها ذلك الوضَّاع الخبيث حين يقول: "مُتَعَوِّذاً بِكَ مِنَ النَّارِ هَارِباً مِنْ ذُنُوبِيَ الَّتِي احْتَطَبْتُهَا عَلَى ظَهْرِي ". فينبغي أن نقول لهذا المُغالي الضال: اذهب وتُب من ذنوبك توبةً صادقةً واترك عَلِيّاً الخيالي الذي اخترعته في ذهنك وانظر ماذا قال عَلِيٌّ الحقيقي واتَّبِعْهُ. إن ذلك الإمام الحق وإمام المتقين يقول: "لا ملجأ إلا الله"[719]، فلا تُضِلّ الناس بهذه الزيارات الموضوعة ولا تَغُرَّهُمْ بها.
وقال الشيخ عبَّاس في نهاية الزيارة:
"أقول: وَرُوِيَ بسندٍ مُعتَبَرٍ أن الخَضِرَ (ع) أسرع إلى دار أمير المؤمنين عليه السلام يوم شهادته وهو يبكي ويسترجع فوقف على الباب فقال: رحمك الله يا أبا الحسن، كنت أول القوم إسلاماً وأخلصهم إيماناً....الخ"[720]. وذكر العبارات ذاتها التي جاءت في الزيارة.
وينبغي أن نقول: أولاً: لا دليل شرعي على خَضِرَكُمْ الموهوم الذي لا يزال حياً حتى الآن، لاسيما أن الله تعالى قال: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِ﴾[الانبياء: ٣٤، ٣٥]، وثانياً: إن كثير من عبارات هذه الزيارة معيبة ومُنْتَقَدَة ولا يقرأ جناب الخَضِر عبارات معيبة خاطئة. إنهم يتصوَّرون أن أولياء الله مثلهم يُحبُّون التملُّق وكيل المدائح!!
***
[716] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 496. (الـمُتَرْجِمُ) [717] هو الشيخ محمد بن جعفر بن علي المشهدي الحائري مؤلِّف كتاب «المزار» المشهور بمزار محمد ابن المشهدي، أو «المزار الكبير»، فرغ من تأليفه سنة 573 هـ. ق. (وتُوُفِّيَ بعد 594 هـ)، وكان من شيوخ الإمامية في القرن السادس الهجري، واشتُهر بكتابه «المزار» هذا. (الـمُتَرْجِمُ) [718] أعتقد أن هذا البيت هو للشاعر صغير الأصفهاني. [719] راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 263 و 265 و ..... [720] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 501. (الـمُتَرْجِمُ)
بيَّن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في هذا الفصل فضيلة الكوفة ومسجدها وقد ذكرنا سابقاً توضيحات حول هذا الموضوع (ص 35). في هذا الفصل نقل الشيخ عباس أموراً من كتاب «مصباح الزائر» للسيد ابن طاووس الخرافي مضمونها أنه إذا كنت في الكوفة ومسجدها فقل كذا وكذا. ونسأل: هل ما جاء في كتاب «مِصباح الزائر» هو من عند الله أو علَّمه رسول الله ص للمسلمين؟!
ثم أورد زيارةً لأمير المؤمنين (ع) في مسجد الكوفة. ونسأل: أليس مسجد الكوفة مسجد الله؟! هل يختلف مسجد الكوفة عن سائر المساجد؟! أليست المساجد لِـلَّهِ ولا يجوز أن ندعو مع الله أحداً؟ فهل يجوز أن ندعو غير الله في المسجد ونكيل له المدائح ونتملّقه بصنوف الإطراء والثناء؟! لا سيما عبارات وجُمَل لم يقل الإمام أيّ واحدة منها بحق نفسه أو أولاده!! هل عَلِيٌّ حاضر في المسجد وحاضر في مرقده في الوقت ذاته ويسمع كلامكم؟! في هذه الزيارة يقول الزائر ما يُشبه قول المشركين (سورة الزمر: 3): "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَ أَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ زُلْفَى، أَنْتَ وَلِيِّي وَسَيِّدِي وَوَسِيلَتِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ "!!
ونسأل: لو كان الإمام حياً في دنيانا الفانية هذه وقال: لست راضياً عن هذه المدائح ولست وسيلتكم[721]، أولم تقرؤوا أقوالي في «نهج البلاغة» (الخطبة 110) إذ اعتبرت أن وسيلة التقرب إلى الله هي الإيمان والعمل لا الأشخاص؟! ألم تقرؤوا قول حفيدي: "مَنْ تَوَجَّهَ بِحَاجَتِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ أَوْ جَعَلَهُ سَبَبَ نُجْحِهَا دُونَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلْحِرْمَانِ، وَاسْتَحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَوْتَ الْإِحْسَان"[722]. فما هذه الأوهام التي تقولونها عني؟ متى سمَّيتُ نفسي الصديق الأكبر والفاروق الأعظم؟ متى اعتبرت نفسي "الْحَبْلَ الْمَوْصُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِه"؟ ما معنى قولكم عني أنني "خَاصَّةُ نَفْسِ الْمُنْتَجَبِين"؟ لماذا تقولون كلاماً مشوشاً مثل: "أَنْتُمْ نُورُ اللهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا أَنْتُمْ سُنَّةُ اللهِ"؟ هل عَلِيٌّ تابع لسنة الله أم هو ذاته سنة الله؟ كل عالم يعلم أن هذه الجمل خرافات وأوهام فكيف لم يعلم بذلك كُتَّاب تلك الأدعية والزيارات؟!
ثم روى الشيخ عبَّاس بعد ذلك أسطورة حول حضرة الأمير (ع) وصفها بأنها «معجزة[723] لأمير المؤمنين عليه السلام» فقال: "في بنت عزباء كانت قد غاصت في ماء فيه العلق فَوَلَجَتْ علقة في جوفها فَنَمَتْ وَكَبُرَتْ مما امتصته من الدم، فَعَلا بذلك بطن البنت، فحسبها إخوتها حُبْلى فراموا قتلها، فأتوا أمير المؤمنين عليه السلام ليحكم بينهم...الخ"[724].
هذا في حين أن دودة العلق مهما كَبُرَت لا يُمكنها أن تصل إلى حدِّ يجعل البطن كبيرةً. ثم إنه طبقاً لهذه الأسطورة لم يَقُمْ عَلِيٌّ (ع) باستدعاء قابلةٍ ماهرةٍ، وإلا لو فعل ذلك لأدركَتْ القابلةُ الماهرةُ ببساطة أن المرأةَ ليست حاملاً. وثالثاً: قال في آخر هذه القصَّة: "وفي بعض الروايات: أنه (ع) مدَّ يده فأتى بِقِطَع من الثَّلْج من جِبال الشام وجعله عند الطَّسْت فانْسَلَّت العلَقَة". والجملة لا تحتاج إلى تعليق. أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
ثم عنون صاحب المفاتيح فقرةً بعنوان: «أعمال باب الفَرَج المعروف بمقام نوح (ع)»[725]، هذا في حين أن مدينة الكوفة بُنيت في زمن الخليفة الثاني ولم تكن هناك أيّ مدينة في ذلك قبل ذلك، فما علاقة هذه المدينة ومسجدها بحضرة نوح (ع)؟ الله أعلم!
وليت شعري! هل قام رسول الله ص بهذه الأعمال وهل كان يقرأ تلك الكلمات العجيبة والغريبة، فمثلاً يقول الزائر: "لَا تَجْعَلْ هَذِهِ الشِّدَّةَ وَلَا هَذِهِ الْمِحْنَةَ مُتَّصِلَةً بِاسْتِيصَالِ الشَّأْفَة ". أيُّ إمام صالح من أئمة الدين الكرام أجرى على لسانه مثل هذه الجمل الركيكة؟! قارنوا هذه العبارات بالأدعية المُعتبرة المروية عن رسول الله ص كي تعلموا الفرق بين الثرى والثريا![721] من الضروري الرجوع إلى الصفحة 200 فما بعد من الكتاب الحالي، فقرة: الشبهة السابعة. [722] الصحيفة السجادية، الدعاء الثالث عشر. [723] في الغالب عندما ينسب كُتَّابنا الأعمال الخارقة للطبيعة إلى غير الأنبياء يستخدمون كلمة «الكرامات» خداعاً للعوام، ولكن الشيخ عباس هنا يستخدم بصراحة كلمة «المعجزة». [724] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 505-506 . (الـمُتَرْجِمُ) [725] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 514. (الـمُتَرْجِمُ)
في بداية الفصل السادس (ص 404)[726] ينسب الشيخ عبَّاس حديثاً إلى الإمام الصادق ÷ راويه شخص ضعيف غير ثقة يُدعى «مُحَمَّدُ بْنُ جُمْهُورٍ الْعَمِّيُّ»[727] ومتن الحديث شاهد على كذبه.
وفي المقصد الثالث من الفصل السابع في هذا الباب أورد الشيخ عبَّاس ثلاث زيارات، روى الأولى منها الكُلَيْنِيّ عن «الحسن بن ثُوير» الذي لم يُوثَّق ولا نعلم حقيقة حاله، عن «يونس بن ظبيان» الخبيث الملعون الذي لعنه الإمام الرضا (ع) ألف مرّة لأنه كان يدَّعي أنه يُوحى إليه وقال: "كنت في بعض الليالي وَأنا في الطواف فإذا نداء من فوق رأسي: يا يونس! إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ [طه: ١٤]، فرفعت رأسي فإذا ج (أي جبريل)"[728] والراوي الآخر هو «المُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ» وهو مجروح وضعيفٌ للغاية[729]. وعلامات الكذب الفاضح تطفح من نصِّ هذه الزيارة إذْ جاء فيها مثلاً:
"بَكَى لَهُ (= حضرة سيد الشهداء) جَمِيعُ الْخَلَائِقِ وَبَكَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَنْ يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا وَمَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى ".
ويجب أن نسأل هذا الوضَّاع الجاهل: وهل بكى أيضاً بنو أُميّة الذين كانوا من سكان الأرض؟! وهل بكى الكُفَّار والمنافقون الذين كانوا لا يريدون الإسلام؟! وكيف بكى أهل الجنة وهم في دارٍ لا خوفٌ عليهم فيها ولا هم يحزنون؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
والزيارة الثانية مروية عن «سلمة بن الخطاب البراوستاني» الذي هو من المجروحين الضعفاء أيضاً[730] (بحار الأنوار، ج 98، ص 172). والزيارة الثالثة أيضاً مروية عن عدد من الغلاة والضعفاء أحدهم «المُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ» (راوي الزيارة الأولى)!! وليس لباقي الزيارات في هذا الفصل وضع أفضل من هذه الزيارات الثلاث، ونُحيل القُرّاء في ذلك إلى كتاب «زيارت وَزيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] (ص 318 فما بعد).
[726] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 523. (الـمُتَرْجِمُ) [727] لقد عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 315-316، والرواية المذكورة أعلاه نقلها المجلسي في بحار الأنوار، ج 97، ص 435. [728] رجال الكِشِّيّ، طبع كربلاء، ص 309. وتتمة الرواية: "فغضب أبو الحسن (ع) غضباً لم يملك نفسه ثم قال للرجل: اخرج عني لعنك الله وَلعن من حدثك وَلعن يونس بن ظبيان ألف لعنة يتبعها ألف لعنة كل لعنة منها تبلغك قعر جهنم". (الـمُتَرْجِمُ) [729] للتعرف على حاله راجعوا كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 86. وكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 171 فما بعد. [730] للتعرف على حاله راجعوا كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 501.
أما «الزيارة السابعة» المشهورة بـ «زيارة وارث»[731] فلا يُعْلَمُ حال رواتها. وهذه الزيارة مجموعة من الكلام الموضوع ومن الأكاذيب والأمور المخالفة للعقل والشرع أي أنها جمعت عيوب الروايات السابقة مجتمعةً، فمثلاً يروي الشيخ عبَّاس في بدايتها عن الإمام الصادق ÷ قوله: "... فإنّ أبي حدّثني عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله ص: إنّ ابني هذا الحسين (عليه السلام) يُقتل بعدي على شاطئ الفرات، ومن اغتسل من الفرات تساقطت خطاياه كهيئة يوم وَلَدَتْهُ أمُّهُ"!!
ومن الواضح أن هذا الادِّعاء غير صحيح بل يجب على المُذنب أن يتوب، وإن كان للناس حقٌّ في ذمَّته فعليه أن يُؤدِّيه لهم، وإن كان قد ظلم أحداً فعليه أن يستسمح المظلوم ويطلب منه العفو وأن يُحِلَّه ممَّا أذنبه في حقِّه، وإن كان قد أضلَّ الناس وقال لهم أموراً غير صحيحة أو كتم حقائق عنهم فعليه أن يُبيِّن الحق وهكذا.... كي يستحق رحمة الله تعالى وفضله وكرمه.
ثانياً: يقول الشيخ عبَّاس: "فإذا أتيتَ بابَ الحائرِ فقِفْ وَقُلْ كذا وكذا "، أو يقول: اقرأ إذن الدخول أو يقول: "ثم ائتِ بابَ القُبَّةَ مِنْ حيث يلي الرأس وَ قُلْ ...." أو يقول: "ثم قُمْ وَصِرْ إلى عند رجلي القبر وقِفْ عند رأس عَلِيّ بن الحسين (ع) وَ قُلْ ....."[732]. ولكن -كما ذكرنا سابقاً (ص 462)- لم يكن لمرقد الإمام الحسين (ع) زمن حضرة الصادق (ع) بناء حتى يكون له باب وقُبَّة و......الخ.
ثالثاً: يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ الْمُقِرُّ بِالرِّق "!! من هذا يُعلَم أن واضع الزيارة -كما قلنا سابقاً (ص375)- لم يكن له علم بسُنن رسول الله ص وسيرته وسيرة عَلِيٍّ (ع).
رابعاً: يقول: "فإن خشع قلبك ودمعت عينك فهو علامة الإذن، ثم ادخل وقُلْ ....."[733]. وأقول: إذن لو لم تدمع عيني الزائر فمعنى ذلك أن إذن الدخول لم يصدر له، وَمِنْ ثَمَّ فلا يجوز لغير الباكين أن يدخلوا! فلماذا لا تمنعون غير الباكين من الدخول؟ أليسَ مِنْ عاقلٍ يقول لواضع مثل ذلك الحديث: ما معنى هذه الجمل؟ أو لو سأل شخص: ماذا تقصدون من جملة: "بِإِيَابِكُمْ مُوقِنٌ بِشَرَائِعِ دِينِي وَخَوَاتِيمِ عَمَلِي "! فبماذا سيُجيب واضع هذه الزيارة ومُلفِّق عباراتها؟
ولا نحتاج هنا إلى تعليق حول ما ذكره مؤلِّف «المفاتيح» بشأن تُربة الإمام الحسين ونترك للقُرَّاء أنفسهم الحكم، ونكتفي هنا بذكر هذا النموذج وهو أنه أتى بحديث عن «الحسن بن محبوب» (بحار الأنوار، ج 98، ص 133) يدَّعي فيه أنه إذا كانت المسبحة مصنوعة من تُربة الإمام الحسين (ع) وكانت في يد الإنسان فإنها تُسبِّح الله ولو لم يُسَبِّح صاحبها!!!
[731] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 548- 522 تحت عنوان «الزيارة السابعة»، وقد كرَّر الشيخ عباس «زيارة وارث» في المفاتيح عدة مرات، فكررها في ص 570 تحت عنوان «زيارة الحسين (ع) في عيدي الفطر والأضحى»، وفي ص 575 تحت عنوان: «زيارة الحسين (ع) في يوم عرفة» (الصفحات المذكورة كلها في النسخة المُعَرَّبَة بالطبع). (الـمُتَرْجِمُ) [732] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 552. (الـمُتَرْجِمُ) [733] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 549. (الـمُتَرْجِمُ)
والزيارة الأخرى الشائعة جداً بين الناس لدينا هي الزيارة المعروفة بـ «زيارة عاشوراء». ولقد نقل مؤلِّف «المفاتيح» زيارتين ليوم عاشوراء: الأولى منقولة عن أحد الرواة سيئي السمعة الذي ضعَّفه علماء الرجال جميعهم ومنهم «العلَّامة الحلي» الذي قال عنه: «صالح بن عقبة بن قيس.... كذَّاب غالٍ لا يُلتفت إليه». وقد رُويت عن هذا الراوي أحاديث عجيبة وغير معقولة بشأن الإمام الحسين منها أنه قال: "وَمَنْ ذُكِرَ الْحُسَيْنُ عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِنَ الدُّمُوعِ مِقْدَارُ جَنَاحِ ذُبَابٍ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللهِ، وَلَمْ يَرْضَ لَهُ بِدُونِ الْجَنَّة "!![734] وأبوه «عقبة بن قيس أيضاً» مجهول الحال.
والراوي الآخر غير الموثوق لهذه الزيارة هو «سيف بن عَميرة»[735]. وأما راوي الزيارة الثانية فهو فرد مجهول يُدعى «علقمة بن محمد الحضرمي»!!
يقول في هذه الزيارة: "إِنِّي حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُم"!! فواضع هذه الزيارة يدَّعي أنه سيُحارب من حارب حضرة سيد الشهداء (ع) الذين هلكوا منذ مئات السنين!! إن كان صادقاً فيما يقول فلماذا لا ينصر اللهَ وكتابَه ولا يسعى لأجل وحدة المسلمين واتِّحادهم، ولماذا لا يُحارب الذين يستأكلون بالدين ويصنعون المذاهب للمسلمين ويُسبِّبون افتراق المسلمين بعضهم عن بعض، ولماذا يقوم هو نفسه بوضع زيارات باسم الدين؟! ولماذا لا يُحارب الذين يخترعون ثوابات عجيبة وغريبة لا تتناسب مع العمل لمن قرأ زيارة من عدة أسطر أو عدة صفحات كي لا يغترَّ العوامُّ بهذه الأكاذيب؟!
في هذه الزيارة يُعرب الزائر مراراً عن براءته من الظالمين ويلعنهم ولكنه لا يقول شيئاً بشأن بعض علماء الشيعة مثل العلامة الحلي والخواجة نصير الدين الطوسي اللذَيْن كانا من نُدماء سلاطين المغول المُتوحِّشين الظالمين ووزرائهما، أو الشيخ البهائي ومير داماد والمجلسي، وخاصةً المُحقّق الكَرَكي الذي كان من مُؤَيِّدي السلاطين الصفويِّين الفسقة الظلمة آكلي لحوم البشر، بل يُثني على هؤلاء العلَماء ويمتدحهم ويُعلي من شأنهم، ولكنه في الوقت ذاته يُظهر المحبَّة والولاء والعزاء لحضرة سيد الشهداء -عليه آلاف التحية والثناء- الذي لم يكن بأيّ وجه من الوجوه مُمالئاً ولا مُهادناً للظالمين!! فعليهم أن يعلموا أن لا علاقة لهم بذلك الإمام الجليل! وعليهم أن يعلموا أن مُجرّد قراءة زيارة لا يُفيدهم شيئاً، ولا أثَرَ له، بل عليهم أن يتَّبعوا سيرة أولئك الأئمة الأجلاء عملياً في حياتهم. إن الفوز والفلاح يكونان بالعمل لا بالكلام.
في الدعاء الذي أوصى به بعد صلاة الزيارة دسَّ الراوي كلَّ ما أمكنه من عقائده الخرافية باسم الدعاء والزيارة، ومن جملة ذلك قوله: "بِاسْمِكَ الَّذِي جَعَلْتَهُ عِنْدَهُمْ وَبِهِ خَصَصْتَهُمْ دُونَ الْعَالَمِينَ وَبِهِ أَبَنْتَهُمْ وَأَبَنْتَ فَضْلَهُمْ مِنْ فَضْلِ الْعَالَمِينَ حَتَّى فَاقَ فَضْلُهُمْ فَضْلَ الْعَالَمِينَ جَمِيعَاً ".
وهذه الجمل كذبٌ واضحٌ فمن أين علم الواضع أن لدى الأئمة اسم خاص بهم دون العالَمين؟! ولقد قال الأئِمَّةُ مراراً: إن كلَّ من نال فضلاً أو مقاماً فإنما يناله بالعمل والمجاهدات والتقوى والطاعة لا باسمٍ وُضع لديه وخُصَّ به. إن الله تعالى أنزل أسماءه الحسنى ومعارف الإسلام لجميع عباده وقد بلَّغها رسول الله ص لجميع الناس على حدٍّ سواء (الأنبياء: 109) وعلى الجميع السعي لتعلُّمها. نعم، إن الدعاء الذي يرويه شخص مجهول مثل «محمد بن خالد الطيالسي» أو راوٍ ضعيف مثل «سيف بن عَميرة» لن يكون أفضل من هذا.
والأعجب من ذلك أنه بعد هذا الدعاء ينسب إلى الإمام الصادق ÷ قوله[736]: "فَإِنِّي ضَامِنٌ عَلَى اللهِ لِكُلِّ مَنْ زَارَهُمَا بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ وَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ أَنَّ زِيَارَتَهُ مَقْبُولَةٌ..... وَحَاجَتَهُ مَقْضِيَّةٌ مِنَ اللهِ بَالِغاً مَا بَلَغَتْ (؟!)..... قَالَ آلَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَنْ زَارَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ قَبِلْتُ زِيَارَتَهُ وَشَفَّعْتُهُ فِي مَسْأَلَتِهِ بَالِغاً مَا بَلَغَ وَأَعْطَيْتُهُ سُؤْلَهُ ثُمَّ لَا يَنْقَلِبُ عَنِّي خَائِباً وَأَقْلِبُهُ مَسْرُوراً قَرِيراً عَيْنُهُ بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَشَفَّعْتُهُ فِي كُلِّ مَنْ يَشْفَعُ....."[737]!!
هنا ينبغي أن نسأل: أين بيَّن الله تعالى لنا هذا الضمان الذي لم يطَّلع عليه أحد سوى عدة أفراد مجهولين أو ضعيفي الرواية؟! وإذا كان النبيّ قد قال: ﴿مَآ أَدۡرِي مَا يُفۡعَلُ بِي وَلَا بِكُمۡ﴾[الاحقاف: ٩] فكيف لحفيده أن يضمن الآخرين؟!
ومن الطريف أنه جاء في هذه الزيارة -على خلاف ما جاء في سائر الزيارات- قول الزائر مُخاطباً الله عزّ وجلّ: "اكْفِنِي يَا كَافِيَ مَا لَا يَكْفِي سِوَاكَ فَإِنَّكَ الْكَافِي لَا كَافِيَ سِوَاكَ وَمُفَرِّجٌ لَا مُفَرِّجَ سِوَاكَ وَمُغِيثٌ لَا مُغِيثَ سِوَاكَ وَجَارٌ لَا جَارَ سِوَاكَ خَابَ مَنْ كَانَ جَارُهُ سِوَاكَ وَمُغِيثُهُ سِوَاكَ وَمَفْزَعُهُ إِلَى سِوَاكَ وَمَهْرَبُهُ إِلَى سِوَاكَ وَمَلْجَأَهُ إِلَى غَيْرِكَ (سِوَاكَ) وَمَنْجَاهُ مِنْ مَخْلُوقٍ غَيْرِك".
أما في الزيارات والأدعية الأخرى فاعتُبر النبيُّ والإمام كافيان ومُغيثان!![738] من هذا يُعلَم أن الذين جمعوا هذه الأدعية والزيارات لم يكونوا ينتبهون إلى التناقضات فيما ذكروه!! (فَتَأَمَّل).
ثم في الصفحة 471[739] يروي عن عدد من الضعفاء أحدهم «يونس بن عبد الرحمن»[740] (بحار الأنوار، ج 98، ص 365) أن الإمام الصادق ÷ قال لـ «سدير»: "...... وَمَا عَلَيْكَ يَا سَدِيرُ أَنْ تَزُورَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ (ع) فِي الْجُمْعَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَرَاسِخُ كَثِيرَةٌ. قَالَ لِي: اصْعَدْ فَوْقَ سَطْحِكَ ثُمَّ تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ تَنْحُو نَحْوَ الْقَبْرِ وَتَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ تُكْتَبُ لَهُ زَوْرَةٌ وَالزَّوْرَةُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ "!! أي أن قراءة جملة من سطر واحد لها ثواب حجَّة وعمرة!
ثم كتب الشيخ عبَّاس: "تذييل: في فضل تُربة الحسين (ع) المُقدَّسة وآدابها ". وسوَّد عدَّة صفحات في فضل تُربة الإمام الحسين (ع)! هذا في حين أن حرم الإمام الحسين (ع) قد فُرِشَ بالمرمر ولا يستطيع أحد أن يأخذ حتى مثقالاً من تراب ذلك القبر. ولكن للأسف صار لدينا في زماننا مئات الدكاكين في قم ومشهد والكاظمين والنجف وكربلاء و...... لبيع قطع التّربة الممهورة حيث يبيعون قطعاً من التربة بأشكال مختلفة فإذا كانت التُّربة من مشهد طُبع عليها:
تربة أقدس مشهد مُقدّس
وإذا كانت من كربلاء طُبع عليها:
تُربة أعلى مال كربلا
ثم روى صاحب المفاتيح عن «ابن المشهدي» الخرافي (المزار الكبير، 119) روايةً تقول: "إن الحور العين إذا أبصرنَ بواحد من الأملاك يهبط إلى الأرض لأمْرٍ ما، يستهدين منه السُّبَح والتُّرَب من طين قبر الحسين (ع) "!![741].
يُعلَم من هذا أن هناك شيء ناقص في الجنة التي وصف الله أهلها بقوله: ﴿وَهُمۡ فِي مَا ٱشۡتَهَتۡ أَنفُسُهُمۡ خَٰلِدُونَ ١٠٢﴾[الانبياء: ١٠٢]، وقوله: ﴿لَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١﴾[فصلت: ٣١]، وهو تُربة قبر الإمام الحسين (ع)؟!!
ثم يقول الشيخ عبَّاس في الصفحة ذاتها: إن تُرْبَةَ الإمام الحسين دواء من كل داء وشفاء من كل سقم!! هذا، ولكن إذا أكل شخص من هذا التراب المُلوَّث ولم تتحسَّن حاله قالوا: إن عقيدته فاسدة وهو منحرفٌ، ولكن في الواقع أن مرادهم أو المعنى الحقيقي لهذا الكلام أنه لم يَعُدْ بالإمكان خداعه واستحماره!! وبعبارة أخرى يكون قد تعرَّف على الدين والقرآن ولم يَعُدْ يُخْدَعُ بالخرافات.
أجل، لقد أصبح بيع قطع التربة مصدر عيش وكسب، في حين أن مؤلِّف المفاتيح يقول في الصفحة 475: "من باع تراب قبر الحسين (ع) فكأنما تبايع على لحمه (ع)" [742]. (فَتَأَمَّل).
والأعجب من ذلك كله -كما ذكرنا ذلك سابقاً (ص 192 فما بعد)- مسألة زيارة النُّواب الأربعة! ونسأل: هل كان النُّواب الأربعة أعلم الناس في زمانهم؟ هل كانوا أصحاب منصب مِنْ قِبَلِ الله عزّ وجلّ؟! هل زيارة قبرهم جزء من أحكام الله وسُنة رسول الله ص؟ إن أكثر ما يُمكن قوله بشأن أولئك الأفراد أنهم كانوا أشخاصاً يأخذون الأموال الشرعية من الناس ويُوصلونها - حسب قولهم- إلى الناحية (أي إمام الزمان). بِنَاءً عَلَيْهِ فإننا نسأل: إذا كان الإمام قد غاب بأمر الله فهل يحتاج إلى الأموال؟!
ويقول صاحب المفاتيح: "وهم قد فاقوا جميع أصحاب الأئمَّة عليهم السلام وخواصِّهم مرتبةً وفضلاً وفازوا بالنيابة عن الإمام (ع) وسفارته والوساطة بينه وبين الرعية خلال سبعين سنة"[743].
ونقول: كثيرٌ من وُكلاء الأئمَّة عليهم السلام ونُوَّابهم ومُمثِّليهم تبيَّن فيما بعد، كما يشهد بذلك التاريخ، أنهم أشخاص غير عدول وخائنين ومُحتالين. كبعض العمال الذين ولَّاهم حضرة أمير المؤمنين علي ÷[744] أو وُكلاء ونُوَّاب حضرة الكاظم[745] الذين أوجدوا بعد وفاته مذهب «الوقف» وسبَّبوا الفُرقة بين أبناء أمة الإسلام وكانوا سبباً في ضلال فريق من المسلمين! أو وُكلاء سائر الأئمة[746] الذين لم يكونوا ذوي سيرة حسنة. (فَتَأَمَّل).
ويقول في زيارتهم (ص 493): "أَشْهَد.... أَنَّكَ مَا خُنْتَ فِي التَّأْدِيَةِ وَالسَّفَارَة "!![747] في حين أن الزائر لا يعرف ذلك النائب ولا علم له بأحواله فكيف يشهد على ما لا علم به، فكلامه ليس سوى ادِّعاء. فمثلاً: كان «أبو عَمْرو عثمان بن سعيد العَمْري» أول من ادَّعى الوكالة لإمام الزمان والنيابة عنه وكان يأخذ المال من الناس تحت هذا العنوان، ولكننا لا نملك أيَّ دليلٍ قاطع على صدقه سوى ادِّعائه فقط!! ومن الواضح أن شهادة المُدَّعي لصالح نفسه لا تُسمَع. أضف إلى ذلك أن وجود مُوكِّله ذاته (الإمام الغائب) موضع شك وريب من الأساس، دَعْكَ مِمَّن ادَّعى الوكالة عنه! (فَتَأَمَّل). خاصةً أنه لا بُدَّ أن تكون الشهادة في الإسلام مبنيَّةً على العلم، وأن شهادة الزور والشهادة دون علم حرام.
بناءً على ذلك، فإن مُجرَّد عنوان الوكيل أو النائب أو السفير والمُمثّل لا ليكفي ولا يدل على أعلميّة صاحبه أو عدالته أو تمتعه بتأييد الله له، ولا يُمكننا أن نخترع زيارة له ونشتغل بمدحه والثناء عليه بعد وفاته دون دليل شرعي صحيح.
ويروي مؤلف «المفاتيح» (ص 477) قصةً طويلةً لا يُعلَم من هم رواتها لامرأة بغدادية ورجل حنبلي المذهب نقلاً عن كتاب «تاريخ بغداد»!!
ثم يكتب في (الصفحة 493): "وينبغي أيضاً أن يُزار في بغداد الشيخ الأجل الأفخم ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكُلَيْنِيّ عطَّر الله مرقده، وقد كان زعيم الشيعة وأوثقهم وأثبتهم في الحديث، وقد صنّف كتاب الكافي في خلال عشرين سنة وهو الكتاب القيّم الّذي تقرّ به عُيون الشّيعة، وهو منّة منّ بها على الشّيعة ولاسيّما رجال الّدين منهم، وقد عدّه ابن الأثير مجدّد مذهب الإمامية في بدء القرن الثّالث...."[748].
ونقول: من المُفيد أن يعلم القارئ المحترم أنني كتبتُ خلال شهر كتاباً باسم «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ولم يكن بالطبع خالياً من الإشكالات، وبعد الخروج من السجن الرابع، قُمت بتهذيب ذلك الكتاب وإصلاحه وسمَّيته «التنقيح الثاني» لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول». وقد محَّصتُ فيه الجزء الأول من «أصول الكافي» سنداً ومتناً وبيَّنتُ بالدلائل الواضحة أن أكثر أخباره مخالفة للقرآن ومُناقضة للعقل أو مُتعارضة مع حقائق التاريخ!! وقراءة ذلك الكتاب تُبيِّن أن الكُلَيْنِيّ كان -على أقل تقدير- شخصاً عديم الاطِّلاع جاهلاً بالقرآن وأنه لم يكن يُميِّز بين الأخبار الصحيحة والخرافية السقيمة، ونحن نعتقد أنه لم يكن شخصاً مُغرضاً وأنه جمع كل تلك الخرافات العجيبة نتيجة لقلة معرفته واطِّلاعه، وإلا لو كان الكُلَيْنِيّ قد جمع ودوَّن تلك الخرافات عالماً وعامداً لكان خائناً للإسلام والقرآن قطعاً. وعلى كل حال، فلا يستحق الأمر أن يُبنى على قبره أو قبر الشيخ الصدوق ضريحٌ وتُكتب لهما زيارة وتُضيّع أوقات الناس بقراءتها؟!!
[734] وسائل الشيعة، ج 10، (أبواب المزار وما يُناسبه)، ص396. وقد عرّفنا بحال هذا الراوي في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 310 إلى 312، وفي كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 65 و 69. [735] عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 105 إلى 106. [736] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 587 - 588. (الـمُتَرْجِمُ) [737] المَجْلِسِيّ، بحار الأنوار، ج 97، ص 310 -311 . (الـمُتَرْجِمُ) [738] راجعوا على سبيل المثال ما ذكرناه في الكتاب الحالي صفحة 59 و صفحة 228. [739] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 595 - 596. (الـمُتَرْجِمُ) [740] عرّفنا به في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» ، ص 214-215. [741] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 597. [742] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، حاشية الصفحة 600. [743] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 619. [744] من الضروري في هذا الموضوع مراجعة كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 269 - 270. [745] حول وُكلاء الإمام الكاظم هؤلاء يُراجع كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 163 و 196 - 197. [746] حول وُكلاء سائر الأئمة من الضروري مطالعة الصفحات من 848 إلى 861 من كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول». [747] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 619. [748] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 620.
ذهبتُ يوماً من الأيام إلى مسجد جمكران الذي يقع على بُعد فرسخ من مدينة قم، وتوجد في هذا المسجد بئر صغيرةٌ، يكتب العوام رسائل إلى إمام الزمان يذكرون فيها حوائجهم ويُلقون برسائلهم في تلك البئر!! وكانت هناك قرب المسجد منضدة عليها أوراق مطبوعة تُباع كل ورقة منها بتومانين (20 ريال إيراني)، فكل من أراد كتابة رسالةٍ إلى إمام الزمان يشتري ورقةً من تلك الأوراق ويملؤها! ألقيت نظرةً على تلك الأوراق فرأيت أن أعلاها يحتوي على عبارات مطبوعة تحتها عدة أسطر فارغة ينبغي أن يملأها المشتري ويكتب فيها حاجته ثم في أسفل الورقة توجد عبارات أخرى أيضاً مطبوعة تقول: يا حسين بن روح (أحد النُّواب الأربعة) أوصل هذه الرسالة إلى إمام الزمان!! فكان الزوار يشترون تلك الأوراق ويكتبون فيها حاجاتهم ويرمونها داخل البئر. سألتُ الذي كان جالساً خلف تلك المنضدة يبيع تلك الأوراق: إن هذا النائب (الحسين بن روح) مات قبل ألف ومئتي عام فكيف يُمكن لمن مات أن يستلم رسالةً ويوصلها إلى إمام الزمان؟! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب! فقال لي: هنا حوزة علمية ولو كان في هذا العمل إشكال لاعترض عليه علماء قم ومراجعها؟! لم أرَ حيلة سوى السكوت لأن الأمر لا يقتصر -مع الأسف الشديد- على عدم اعتراض العلماء والكُتَّاب على هذه الخرافة بل تجد في كتبهم تقريراً لها، ومن جملة ذلك ما قاله صاحب كتاب «المفاتيح» إذْ كتب يقول:
"وغير خفيّ إنهم في مماتهم أيضاً وسائط، فمن اللاّزم أن يُبَلَّغَ الإمامُ (عليه السلام) ما يُكتَبُ في الحاجات والشّدائد من الرّقاع عن طريقهم وبوسيلتهم، كما عُرف في محلّه"!![749].
وينبغي أن نقول: أجل، هذه هي معلومات هؤلاء العلماء والمُحدِّثين والكُتَّاب الذين جذبوا الناس إليهم وحرَفوهم عن جادَّة الصواب! وما من أحد يسأل: كيف يُمكن لميت أن يوصل رسائل الناس إلى الإمام الحيّ؟! يبدو أن هؤلاء القوم لا يؤمنون بما يقوله القرآن الكريم من أن الأحياء والأموات لا يستوون (فاطر: 22)، فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ؟؟
في الصفحة 510 يقول: "إن الملك (الشاه) عبّاس الأوّل نزل مشهد الرّضا (ع) في الخامس والعشرين من ذي الحجّة سنة ألف وستّ.... الخ"[750].
وأقول: أحد أسباب جهل شعبنا وتخلفه وشقائه هو أنه لما بدأت أوربا تستيقظ من نوم القرون الوُسطى بعد استفادتها من الثقافة الإسلامية التي كانت قد وصلتها عن طريق اسبانيا (الأندلس)، وبدأ الأوربيون بالصناعات والتقدُّم في العلم والفنون والسياحة والتعرُّف على بقاع العالَم المختلفة، كان سلاطين العالَم الإسلامي ومن جملتهم الصفوية مشغولين باللهو واللعب وخداع الناس والأعمال التي لا فائدة منها مثل السير مشياً على الأقدام إلى مشهد! لم يكن الشاه عبّاس يُقيم الصلاة وكان يشرب الخمر وكان مُجرماً قتل أحد أبنائه واقتلع أعين ابنيه الآخرين وارتكب جرائم عديدة أخرى، ولكن ليقوم بخداع العامة عطَّل عدّة آلاف من أفراد الجيش مُدَّة ستة أشهر كاملة ليسيروا على الأقدام بأُبَّهة وفخفخة إلى قبر الإمام الرضا في مشهد ويعودوا منه!! في حين أن شعب بلاده كان إذا احتاج إلى رصاصة واحدة وجب عليه أن يشتريها من أوربا وكذلك لم يكن يمتلك إبرة خياطة فإذا احتاج إليها اضطر إلى شرائها من الدول الأجنبية! فبدلاً من سعيه في عمارة مملكته التي كانت مُتأخِّرة عن الشعوب الأوربية من ناحية الصناعة والعلوم والفنون، وسعيه لأجل اتِّحاد المسلمين ووحدتهم، اهتمَّ بالسير مشياً على الأقدام إلى مشهد وصرف أموالاً طائلةً على تعظيم القبور وبناء القُبَّة والمنارات المُذهَّبة والفضية كي يهتمَّ الناس بالمرقد وبعبادة القبور، وعلى حدِّ قوله صنع كعبةَ حوائجَ للفقراء.
ألم يكن الشيخ البهائي يعرف جيداً الشاه عبَّاس[751] وأجداده ويعرف أيَّ أُناس كانوا؟؟ ومع ذلك نجده يُخاطب الملك على تقواه قائلاً:
مقراض به احتياط زن اى خادم ترسم ببُرى شهپر جبريل أمين
أي: اضرب المقراض بِحِيطَةٍ وَحَذَرٍ أيها الخادم فإني أخشى أن تقطع جناح جبريل الأمين!
أليس في تصوير جبريل عظيم الشأن بأنه كالفراشة التي تحوم حول الحرم الذي بُني من الأموال التي سُلبت ونُهبت من أهالي مدينة «هرات»، إهانةٌ للدين وتحقيرٌ له؟! هل يجوز إهانة مُعلِّم رسول الله ص أي جبريل الأمين؟! هل كان مدح الشيخ البهائي للشاه عبَّاس السفاك للدماء علامة على شدة تقوى الشيخ البهائي؟! لو فرضنا أن أمير المؤمنين علي ÷ اطَّلع على هذه الأعمال هل كان سيرضى عن «غلامَ شاهِ الرجال» و«كلب عتبة عَلِيٍّ»؟؟[752] هل لدينا في شريعة الإسلام تذهيب للقُبَّة والقبور وهل يجوز إنفاق أموال بيت المال في مثل هذه الأمور؟! هذا على فرض أن هذه الأموال حلال فكيف إذا كانت حراماً؟! (فَتَأَمَّل جداً).
ثم تكلم الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في الصفحة 511 [753]عن المعجزات والكرامات التي ظهرت في مشهد الرضا، وقد ذكرنا سابقاً في هذا الكتاب بعض التوضيحات اللازمة حول هذا الأمر (ص 250 حتى 270) فلا نُكرِّر ذلك هنا[754]. وإن مما يُؤسف له أن أمر الخرافات وصل في بلادنا إلى حدّ أن امتلأت مدننا بمجالس التوسل برُقيَّة، مع أن حضرة سيد الشهداء (ع) لم يكن لهم ابنةٌ باسم «رُقيّة» أصلاً!! فهل يجهل المدَّاحون وقُرَّاء المراثي هذا الأمر أم يتجاهلونه كي يُواصلون استرزاقهم من عملهم في غفلة من الناس؟!
***
[749] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 619. (الـمُتَرْجِمُ) [750] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 636. [751] ينبغي أن نعلم أن الشاه عبَّاس وأجداده، وجماعة القزلباش أساساً لم يكونوا من الشيعة بل كانوا على مذهب «أهل حق» [العليّ اللهية] الباطل والمُنحرف من أساسه!! (فلا تتجاهل). [752] هي ألقاب كان يتلقب بها الشاه عبَّاس الصفوي ليُظهر نفسه للعامة بمظهر المُحبّ والمُوالي لعلي بن أبي طالب وآل النبيّ. وقصده من «غلام شاهِ الرجال» أي غلام عليّ (ع). (الـمُتَرْجِمُ) [753] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 637. (الـمُتَرْجِمُ) [754] ويُراجع أيضاً كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] ص 358 - 361.
كتب الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في آداب السرداب أموراً تبعث على الأسف. لقد اخترعوا لهذا السرداب، الذي كان منزل حضرة العسكري (ع) قبل ألف ومئتي عام وتهدَّم بعد ذلك مراراً وجُدِّد بناؤه، إذنَ دخولٍ وآدابٍ وأدعيةً؟!! ولست أدري هل عملهم ذاك وليد الجهل أم ناتجٌ عن الفراغ والبطالة؟ إن قالوا: إن جدران السرداب وبابه تباركت بسبب مُلامستها لتُربة بدن الإمام فينبغي أن نُفهمهم أن ذلك الباب وتلك الجدران التي تباركت بذلك حسب قولكم قد زالت منذ مُدّة مديدة، ولكن الأهمّ من ذلك أن نسأل: هل علَّم رسول الله ص -الذي هو الجدُّ الكريم للأئمة جميعهم- أصحابه آداباً وأدعيةً خاصةً بجدران وباب منزله؟! فإن لم يفعل ذلك فلماذا زاد هؤلاء السادة هذه الآداب على الدين من عند أنفسهم؟! هل لتقبيل الجدران والباب وقراءة الأدعية عندها سبب سوى التملُّق الذي يُحبُّه السلاطين والجبابرة؟ ما أسوأها من خيالات واهية!
لو أردنا أن نستعرض الآداب التي اخترعها الخرافيون والغُلاة جملةً جملةً لاحتجنا إلى كتاب ضخم! لذلك سنكتفي بذكر بعض الجمل كنموذج كي يقف القارئ على جهل واضعي هذه الآداب أو مقدار علمهم.
يقول الشيخ عبَّاس: "روى الشيخ الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي (رح) في كتابه الشريف «الاحتجاج» أنه خَرَجَ التَّوْقِيعُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ حَرَسَهَا اللهُ إلى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ .... الخ".
ونقول: أولاً: لم يُشاهد أحدٌ أحداً ساكناً في الناحية المُقدَّسة ولم يرَ خطَّ كتابته، فمن أين نعلم أن ما يُقال عن الناحية المُقدَّسة صحيح وصادق؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟
ثانياً: لم يكن محمد الْحِمْيَرِيِّ من النُّوَّاب الأربعة وبالطبع لا ينبغي أن يصل بواسطته شيء من ناحية إمام الزمان إلى الناس؟!
ثالثاً: عاش أحمد بن أبي طالب الطبرسي (مؤلف كتاب الاحتجاج) بعد خمسة قرون من عهد الْحِمْيَرِيِّ، ولا أحد يعلم الرواة الواسطة بينهما!!
رابعاً: والأهمُّ من كل ذلك ضرورة التأمل في متن هذا الخبر الذي صدر -حسب قولكم- من الناحية المُقدَّسة لنرى هل يتوافق مع العقل والقرآن أم لا.
جاء في هذه الرسالة: "..... إِذَا أَرَدْتُمُ التَّوَجُّهَ بِنَا إِلَى اللهِ وَإِلَيْنَا فَقُولُوا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى : سَلَامٌ عَلَى آلِ يس. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا دَاعِيَ الله ".
ينبغي أن نعلم -كما قلنا ذلك مراراً وتكراراً- أن الذي يريد التوجه إلى الله سبحانه وتعالى لا يحتاج أبداً إلى أيّ واسطة أو وسيلة[755] توصله إلى الله لأن الله ليس بعيداً عنا بل قريب منا وهو سميع وعالم بجميع الموجودات وبصير وخبير بنا، وأعلم بنا وبأحوالنا من أنفسنا وأقرب إلينا من حبل الوريد.
ثانياً: هذه العبارة التي تقول: "..... إِذَا أَرَدْتُمُ التَّوَجُّهَ بِنَا إِلَى اللهِ وَإِلَيْنَا " عبارة مهملة وخاصةً أن كلمة «وإلينا» لغو زائد هنا؛ لأننا عندما نجعل شخصاً ما وسيلةً لنا فسنكون مُتوجِّهين إليه بالضرورة. فهل يقول الإمام مثل هذا الكلام؟!
ثالثاً: جاء في العبارة: "فَقُولُوا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: سَلَامٌ عَلَى آلِ يس " وفسَّرها بأن «آل يس» تعني آل رسول الله صالذين هم نحن!!
وهذا كذب وافتراء على الله تعالى وقد قال سبحانه: ﴿فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٤٤﴾[الانعام: ١٤٤]. نعم، قال تعالى في كتابه بعد السلام على موسى وهارون: ﴿سَلَٰمٌ عَلَىٰٓ إِلۡ يَاسِينَ ١٣٠ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٣١ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٣٢﴾[الصافات : ١٣٠، ١٣٢][756]، ولكن هذا الوضَّاع اعتبر «الألف واللام» في بداية كلمة «إِلْ يَاسِينَ» كلمة منفصلة وأضاف إلى ألفها مداً كي يصنع منها كلمة «آل» في حين أن الألف في كلمة «إِلْ يَاسِينَ» مكسورة واللام فيها أيضاً ساكنة، ولكن الوضَّاع الجاهل جعل اللام مكسورةً فتلاعب بآية من آيات القرآن بكل وقاحة!! لكنه غفل عن أن الله تعالى قال في الآية اللاحقة: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 132] أي أنه أتى بضمير المُفرد في حين أنه لو كان المقصود «آل» لوجب أن يكون الضمير ضمير جمع أي لوجب أن يقول تعالى: «إِنَّهُم مِنْ عِبَادِنَا » كما جاء بشأن «آل لوط» أو «آل فرعون» حيث كان الضمير الذي يرجع إليهم ضمير الجمع «إنهم» (فلا تتجاهل). فليت شعري! هل يعتبر واضعو الحديث التلاعب بآيات القرآن أمراً جائزاً؟!
ثم يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا دَاعِيَ الله " وهذه كذبة أخرى. لأنه إن كان المقصود داعياً خاصاً عيَّنه الله ونصبه، ففي هذه الحالة لا يشمل هذا العنوان سوى رسول الله ص لا شخصاً آخر، كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ﴾[الاحزاب : ٤٥، ٤٦]، وكما أطلق الله تعالى على رسوله ص في الآيتين 31 و 32 من سورة الأحقاف لقب «داعي الله». أما إن لم يكن المقصود داعياً منصوباً في هذا المقام مِنْ قِبَلِ الله فعندئذ لابُدّ على جميع المؤمنين -طبقاً لأمر القرآن- أن يكونوا دُعاةً إلى الله وهذا المعنى لا يختصُّ بفرد دون الآخر، كما قال تعالى: ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾[ال عمران: ١٠٤][757].
ثم يقول: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَابَ اللهِ وَدَيَّانَ دِينِه ". وهذا أيضاً كذب آخر لأن الله ليس له باب[758]، ولأن ديَّان الدين هو الله وحده، فهو وحده مالك يوم الدين، وهو الذي يُحدِّد جزاء كل إمام ومأموم.
ويقول كذلك: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ اللهِ وَدَلِيلَ إِرَادَتِه " وهنا ينبغي أن نسأل: أين اعتبر الله تعالى في كتابه الإمام حُجَّةً؟ وهل يوحَى إلى الإمام أو يُطلعه الله على إرادته حتى يكون دليل إرادة الله؟! للأسف لما رأى هؤلاء الوضَّاعون أن الشيعة يقبلون قبولاً أعمى كل ما تُلفِّقه أقلامهم قاموا بنسج ما أمكنهم من خرافات وإشاعتها بين الناس!
ثم أورد مؤلف المفاتيح تحت فقرة: «ذِكر الصلاة عليه» (ويقصد إمام الزمان) (ص 533)[759] دعاءً مروياً عن إمام الزمان يبتدئ بجملة: "اللَّهُمَّ عَظُمَ الْبَلَاءُ وَ بَرِحَ الْخَفَاء ......" ومضمونه -كما سبق أن ذكرنا في هذا الكتاب (ص 72 و73)- كُفرٌ وشركٌ ومُعارضٌ لآيات الله. ومع ذلك يقول الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن مثل هذا الدعاء الشركي: "أقول: هذا دعاء شريف وينبغي أن يُكرَّر الدعاء به في ذلك الحرم الشريف وفي غيره من الأماكن"!! نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الضَّلَالَةِ.
نكتفي بهذا المقدار حول موضوع «الزيارة» ونأتي الآن للكلام على «دُعَاء النُّدْبَة».
[755] حول موضوع «الوسيلة» راجعوا ما ذكرناه في هذا الكتاب الحالي، ص 200 فما بعد. [756] إذا انتبهنا إلى الآية 123 من سورة الصافات علمنا أن اسم النبي المشار إليه بالسلام كان «إلياس» و«إلياسين» وذلك مثل اسمي «سيناء» و«سينين» اللذين يُشيران إلى جبل واحد أو «ميكائيل» و«ميكائين» أو «إسرائين» و «إسرائيل» وكلاهما اسم شخص واحد. وقد قال شاعر العرب: يقول أهل السوق لما جينا هذا وربُّ البيت إسرائينا ولا بُدّ من الانتباه بالطبع إلى أن وزن الآيات هنا كما هو في سورة التين، جاء بالياء والنون لذا تمّت الاستفادة من الاسم الثاني. [757] اعلم أن «مِنْ» في الآية المذكورة أعلاه «بيانية» وليست «تبعيضية». أولاً: لأن القرآن وصف من تنطبق عليهم هذه الآية بالمُفلحين ومن المعلوم أن الدين يريد فلاح جميع المؤمنين لا بعضهم. ومن اللازم أن نعلم بشأن هذه الآية أن كلام الله هنا أتى على منوال قولنا: «ليكن لي منك صديق» ومن ثَمَّ فإن أمر الله هنا أمر عام ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣﴾فالوصيَّة التي ذُكرت في آخر هذه السورة هي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ذاته. ويدل على ذلك أيضاً قوله -عزّ وجلّ-: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ٧٨ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٧٩﴾[المائدة: 78 ، 79]، فهذه الآية أيضاً شاهد على هذا المعنى لأن الله لم يقصّ علينا شيئاً من أخبار الأُمم الماضية إلا لأجل أن نعتبر بحالهم. وقد أشار [جلال الدين السيوطي] إلى اعتراضٍ على القول بأن واجب الأمر بالمعروف يقع على عاتق جميع المسلمين، ومفاد الاعتراض أن الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر يُشترط فيه معرفة المعروف والمُنكر، في حين أن كثيراً من الناس يعيشون في الجهل ولا يعرفون أحكام الله! لكن هذا الكلام لا ينطبق مع ما فرضه الله على كل مسلم من كسب العلم، والحكم الذي يجب حمل خطاب القرآن عليه هو أنه لا يجوز على المسلم أن يكون جاهلاً بفرائضه وأن المسلم مأمور بكسب العلم والتمييز بين المعروف والمُنكر، خاصةً أنه عندما تكون كلمة «المعروف» مُطلقةً يكون المُراد تلك الأمور التي يعرفها العقل السالم والطبع السليم، و «المُنكر» ضده أي ما يستقبحه العقل والطبع السليمين وليس من الضروري لمعرفة المعروف والمُنكر أن يقرأ المسلم حاشية ابن عابدين على «الدُّر المُختار» أو «فتح القدير» أو «المبسوط»! إن مُرشد المسلم الوحيد نحو معرفة المعروف والمُنكر -بشرط سلامة الفطرة- كتاب الله وسُنَّة رسوله التي نُقلت إلينا بطريق التواتر وبالعمل المُتَّصل منذ صدر الإسلام وحتى اليوم ولا يُمكن لأيّ مسلم أن يجهلها ولا يكون المسلم مسلماً ما لم يعلمها، بناءً على ذلك فالذين يُنكرون عمومية واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ويمنعونها أجازوا في الحقيقة أن يبقى المسلم جاهلاً بتعاليم دينه إلى درجة لا يُميِّز فيها بين المعروف والمُنكر! مع أن مثل هذا الأمر لا يجوز شرعاً". (نقلاً عن الكتاب الشريف «الشيخ محمد عبده، مصلح بزرگ مصر» [الشيخ محمد عبده مصلح مصر الكبير] تأليف مصطفى الحسيني الطباطبائي، انتشارات قلم، ص 112 - 113). [758] حول موضوع نسبة الباب والبوَّاب لِـلَّهِ عزّ وجلّ يُراجَع كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، ص 285 و 316. [759] مفاتيح الجنان (النسخة المُعَرَّبَة)، ص 662 - 663. (الـمُتَرْجِمُ)
اعلم أن رسول الله ص قال: "مَا مِنْ شَيْءٍ [لَيْسَ شَيْءٌ] أَكْرَمَ عَلَى الله تَعَالَى مِنَ الدُّعاء ِ"[760]. ولكن ينبغي أن لا نغفل في الوقت ذاته (أو نتغافل) عما رُويَ عن الأئِمَّة من قولهم: "خُذُوا مَا رَوَوْا وذَرُوا مَا رَأَوْا ". لذلك يجب على المسلم أن يُدقّق في أخذه للمطالب الشرعية ولا يتسامح في ذلك ولا يقبل كلَّ شيء دون التأمُّل فيه ومُلاحظة مصدره وسنده، وعليه أن ينتبه بشكل خاص إلى عدم تعارضه مع كتاب الله. لكن الواقع أننا نرى في كتب الأدعية أن كثيراً من العلماء والكُتَّاب يذكرون الدعاء الذي دعا به العالم الفلاني أو الزاهد الفلاني في مكان ما وأعجبهم، ويتصرّفون حياله كتصرُّفهم مع الدعاء ذي السند الصحيح ومع الأمور المُوافقة للقرآن الكريم!! مع أن الواقع ليس كذلك بل كل ما في الأمر أن ذلك العالم الفلاني رأى ذلك الدعاء مناسباً ووضع مضامين الدعاء من بنات أفكاره عملاً بإذن الشرع العام بالدعاء وسجَّع ألفاظه وأراد حسب ظنِّه أن يُظهر محبَّته، ولحسن الحظ أنه لم ينسب كلامه إلى النبيّ أو الإمام، لكن المُحدِّثين السُّذَّج الذين جاؤوا بعده تعاملوا مع دعائه وكأن صاحب الدعاء قد نقل مضامين دعائه عن الإمام إما مباشرةً أو عبر وسائط من الرواة!! كما لم يُدقّقوا النظر في أن عدم ذكر الراوي أو الرواة وعدم الانتساب إلى الإمام دليل واضح على أن الناقل الأول لهذا الدعاء لم يكن يعتبره منسوباً إلى الإمام.
وعلى كل حال، فإن كثيراً من الأدعية ونصوص الزيارات وأذون الدخول المذكورة في الكتب التي حققنا فيها إما لا يصل سندها إلى النبيّ ولا الإمام وهي من بنات أفكار الآخرين وليست مأثورة ولا مروية عن الإمام مثل كثير من الأمور المذكورة في كتاب «المفاتيح» والكتب المُشابهة له، أو مُسندة لكن سندها معلول مخدوش لا يُعتمد عليه. وأحد أكثر هذه الأدعية شُهرةً ورواجاً «دُعَاء النُّدْبَة». ولهذا الدعاء قصة أذكرها هنا ليُسجِّلها التاريخ وتطَّلع عليها الأجيال اللاحقة فينتبهوا ويتيقَّظوا، أما أهل زماننا فقد أصابني اليأس من استيقاظهم.
[760] مستدرك الوسائل (الطبعة الحجرية)، ج 1، ص 361، والتاج الجامع للأصول، ج 5، ص 109.
قبل سنوات قام أحد أصدقائي واسمه حُجّة الإسلام «علي أحمد الموسوي» بتدوين تقريري الذي أوردته بشأن «دُعَاء النُّدْبَة» ، وأخرجه في كُتيِّبٍ من 24 صفحة من القطع الصغير عنوانه «بررسى دعاى ندبه» [أي دراسة وتمحيص دُعَاء النُّدْبَة]، وقد أثار كُتيِّبه هذا ضجَّةً في أوساط المشايخ المُتاجرين بالخرافات! وقد التزم الكاتب في الصفحة السادسة من كُتيِّبه المذكور قائلاً: "إن لم يقبل أحد كلامنا فليذهب وليُحَقِّق ويفحص فإذا وجد سنداً ودليلاً فليُرينا إيَّاه وله منا مبلغ عشرة آلاف تومان أجر تعبه، وإن لم يجد دليلاً فنرجو أن لا يلجأ إلى السباب والشتائم وإثارة اللغط والتهمة والافتراء".
لكن المشايخ طبق عادتهم عارضوا هذا الكتاب دون أن يكون بأيديهم سند قويٌّ يُظهرونه للناس، لذلك قمت بنفسي بكتابة تقرير حول مضامين هذا الدعاء وكنت أرغب بشدّة أن يُنشَر مقالي في مجلة «مكتب اسلام» كي يطَّلع عليه جميع قُرَّاء المجلة ولكنني لما كنت أعلم أن مسؤولي تلك المجلة الخرافيين والمُتعصِّبين لن ينشروا مقالي في مجلتهم، قمت بنشره في مجلة «رنگين كمان» [أي قوس قزح]. وقد نُشر المقال على شكل مُلحق بصورة رسالة من ثمان صفحات من القطع الصغير[761].
وقد قلت هناك: "«إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ في أُمَّتِي وِشُتِمَ أَصْحَابي فَليُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلمَهُ فَإنْ لَمْ يفعلْ فعليه لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[762]. ولكن هناك عدد من العلماء يلزمون الصمت أمام البِدع والخرافات خوفاً على كساد سوقهم وتضاؤل عدد مُريديهم، وهناك عدد آخر من العلماء يُؤَيِّد البِدع ويُصَوِّبُهَا لأنه يريد الوصول إلى المرجعية وجذب عامة الشعب إليه، ولكن علينا أن نعلم أن البِدعة لا تظهر ويعلو شأنها ويُصبح لها أتباع وأنصار إلا عندما يتمّ إزاحة القرآن جانباً ويقلّ أتباعه أو يضعُف شأنه حتى يصل الأمر إلى حدّ أن الناس يُرجِّحون دعاءً أو فتوى أو حديثاً موضوعاً على القرآن! في هذه الأيام ثار لَغَطٌ ومعركةٌ من الآراء حول صحة أو بُطلان «دُعَاء النُّدْبَة»؟ وإننا لنتعجَّب ونأسف كيف يتجاهل أنصار هذا الدعاء القرآن وكأنه شيئاً لم يكن ويُسقطوا القرآن من الاعتبار ولا يهتمُّون به! إن هناك جمل عديدة في هذا الدعاء يُؤَدِّي الاعتقاد بها إلى إسقاط القرآن من الاعتبار. وسنقوم ببيان بعض هذه الجمل ونُميط اللثام عنها طلباً لرضا الله".
كما قلت في ذلك الكُتيِّب:
"لما قرأتُ مجلة «مكتب اسلام» تعجَّبت كثيراً لأنني لم أكن أتوقع من كُتَّابها الأفاضل أن يكتبوا في مَوْضِعٍ منها أن «دُعَاءَ النُّدْبَة» مصدر إلهام للنضال الاجتماعي والكفاح ضد الظلم، في حين أن «دُعَاءَ النُّدْبَة» مصدر إلهام لقبول الظلم والسكوت عنه حتى يأتي إمام الزمان ويقوم هو بإصلاح الأوضاع، إذ يقول «دُعَاءُ النُّدْبَة»: "أَيْنَ الْمُعَدُّ لِقَطْعِ دَابِرِ الظَّلَمَةِ أَيْنَ الْمُنْتَظَرُ لِإِقَامَةِ الْأَمْتِ وَالْعِوَجِ أَيْنَ الْمُرْتَجَى لِإِزَالَةِ الْجَوْرِ وَالْعُدْوَان ......؟" معنى هذه الجمل أن على الشعب أن ينتظر إمام الزمان وأن لا يُحرِّك ساكناً، وكأن الشعب ليس مُكلَّفاً إلا بندب حاله والبكاء والعويل بأننا غرباء ولا ناصر لنا..... الخ، كي يُرضوا أنفسهم بهذه الكلمات ويُنفِّسُوا عن غضبهم ويُمَكِّنوا الظالمين من الركوب على ظهورهم إلى أن يأتي الإمام! ما أكثر ما يُسِرُّ الاستعمار أن ينشغل عشرات الآلاف من الناس بالندب والعويل ولا يتوجَّهوا إلى مقاومته! لو سألتَ كل واحد من قُرَّاء «دُعَاءِ النُّدْبَة»: ما الذي يتوجب فعله أمام كل هذا الكفر والجور والظلم؟ لقال: يجب أن يأتي إمام الزمان ويقوم هو بالإصلاح!
ألم يكن من الأجدر أن تُبيِّن مجلة «مكتب اسلام» هذا الموضوع الواضح أو لا تقول شيئاً ضده، بل تقول للقُرَّاء إنه من الواجب حالياً على الدولة والشعب أن يسعوا في الإصلاح ويتَّحدوا، لا أن يجعل الناس العويل والندب شعارهم ومدار أعمالهم.
سأل جاهلٌ مجلةَ «مكتب اسلام» في العدد ستة من السنة 13 عن «دُعَاءِ النُّدْبَة» وقال: إن الإمام حاضر وناظر في كل مكان ونحن الذين لا نستطيع إدراك هذا الأمر!! ولم تردّ هذه المجلة على هذه الجمل الشركية التي تُثبت لشخص غير الله صفة اللامكانية والحضور في كل مكان وهي صفة خاصة بالله تعالى الذي ليس جسماً ولا جوهراً ولا محدوداً فمن يصف الإمام بصفات إلهية يقع في الشرك..... ما هو الدليل على حضور الإمام في كل مكان؟ أيُّ دليل عقلي أو شرعي يُصوِّب هذا الشرك؟![763]
لقد كان الجدير بمجلة «مكتب اسلام» أن تُرشد ذلك السائل لا أن تسكت هنا وتبسط الكلام المُفصَّل للدفاع عن «دُعَاءِ النُّدْبَة»!! هل نفي الشرك أفضل أم إثبات دعاء لا يرى أنصاره فيه سوى دعاءً مُستحبَّاً؟! والعجيب أن لهذا الدعاء أنصار أكثر من أنصار التوحيد!...... لقد قال تعالى في مئة آية من القرآن: لا تدعوا غيري ولا تعتبروا أحداً غيري قاضياً للحاجات، فهل هناك دليل شرعي يُجيز دعاء الإمام أو الرسول؟ أليس في «دُعَاءِ النُّدْبَة» دعاء غير الله؟ أليس التوقي من الشرك واجباً؟ لماذا تعتبرون الذين يُنادون المسيح أو بوذا مشركين إذن؟
رغم ذلك نشر السيد رشاد الزنجاني نشرةً فسَّر فيها جميع الآيات التي تقول لا تدعوا غير الله حسب هواه وقال: إن المقصود منها دعاء غير الله على نحو العبادة لا على نحو الواسطة!![764] إنه يتصور أن هناك بُعداً ومسافةً بين الخالق والمخلوق أو أن هناك واسطةً بينهما، أو أن الله غير مُطَّلع على دعاء عباده أو أنه أصم -والعياذ بالله- أو أن غير الله أكثر رحمةً ورأفةً من الله! وفسَّر قوله تعالى: ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ﴾[غافر: ٦٠]بمعنى "ادْعُوا المُقَرَّبين مني"!! بل إنه اعترض بنفسه على الآخرين لماذا يُفسِّرون القرآن برأيهم!! إنك تردُّ التفسير استناداً إلى قواعد عُرف اللغة العربية ولكنك تقوم بالتفسير برأيك خلافاً لقواعد العربية وتأتي الناس بالشرك بدلاً من التوحيد!73إنهم يتصورون أن فتوى لا سند لها أو كتابَ دعاء ألَّفه زاهد قديم من أهل الغُلُوّ يُعتبران سنداً ودليلاً على صحة البِدع! لقد تجرَّأ «دُعَاءُ النُّدْبَة» على الله فقال: "وَقُلْتَ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم". في حين أن الله تعالى لم يسأل أحداً أجراً بل أمر رسوله أن يقول: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ » ولم يلتفت إلى أن هذه الآية القرآنية تتضمن كلمة «قُلْ» وأنه لا يجوز أن نزيد في القرآن أو نُنقص منه! أيها القارئ العزيز! ارجع إلى الآية 47 من سورة سبأ لتُدرك الحقيقة.
والخلاصة أنه لا يجوز للكاتب الفاضل المُتديّن أن يكتب شيئاً إرضاءً لميل العامة ولا يفعل كما تفعل سائر المجلات اليوم التي تعرض طبقاً للطلب! ولتصحيح سند «دُعَاءِ النُّدْبَة» ذكرت مجلة «مكتب اسلام» في العدد سبعة من السنة ذاتها قول عدة شيوخ قُدماء من أهل الغُلوّ وصفهم علماء الرجال بالتقوى واعتبرَتْ قولهم سنداً، ولا ندري لماذا تُعتبر تقوى أهل النهروان مردودة أما تقوى أهل الغُلُوّ مقبولة! والواقع أن قول أياً منهم لا يُعدُّ سنداً ولا حُجَّةً. ولكن مجلة «مكتب اسلام» وقعت هنا في عدة أخطاء: الأول: أنها قالت إن واضع «دُعَاءِ النُّدْبَة» «الْبَزَوْفَرِيَّ» ثقةٌ وكان أستاذاً للشيخ المفيد وعاش زمن الغيبة الصغرى ولعلَّه[765] أخذ هذا الدعاء عن الإمام. إننا لنتعجَّب من غفلة هؤلاء الفُضلاء، فأولاً: اسم «الْبَزَوْفَرِيِّ» الذي كان ثقة وكان شيخ الشيخ المفيد هو«الْحُسَيْن بْن علي بن سُفْيَانَ» ولكن مؤلف «دُعَاءِ النُّدْبَة» اسمه «محمد بن الْحُسَيْن» وهو شخص مجهول الحال. ثانياً: لم يكن أيّ منهما لا الأب ولا الابن في عهد الغيبة الصغرى.
74 ثالثاً: لم يكونا من وُكلاء الناحية المُقدَّسة حتى يأخذا هذا الدعاء من الإمام[766].
ونحمد الله أنه بعد كل تلك الحوارات والنقاشات بين الطرفين ثبت وتحقق أن «دعاء الندبة» ليس له سند ولم يظهر رجل ليأخذ جائزة العشرة آلاف تومان التي عرضها كاتب كُتيِّب «دراسة وتمحيص دعاء الندبة» أي حضرة حُجَّة الإسلام والمسلمين السيد المُجاهد الحاج «سيد علي أحمد الموسوي» -دامت فيوضاته-. وعلى كل حال نسأل الله للجميع اليقظة والتوفيق. والسلام". (انتهى)
ينبغي أن نعلم أن «الْحُسَيْنَ بْنَ علي بن سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيِّ» الذي أثنوا عليه ومدحوه هو نفسه راوي الحديث الذي اخترع اثني عشر مهدياً للناس!!! وللاطِّلاع على الحديث المذكور من الضروري مراجعة الحديث التاسع في الكتاب الشريف «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، كي تعرفوا الأشخاص الذين كان يروي عنهم جناب «حسين البزوفري»!
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور علي شريعتي (رحمه الله) كتب بعض المطالب حول «دُعَاءِ النُّدْبَة» فردَّ عليه الحاج الشيخ «محمد تقي الشوشتري». وسنذكر هنا لفائدة القراء المحترمين ما قاله الدكتور المرحوم وبعض ما ذكره العلامة الشوشتري في الردِّ عليه[767]. نأمل أن يتأمل القارئ الكريم بما نذكره هنا:
"لقد أشار «دُعَاءُ النُّدْبَة» إلى هذه المسألة وسأل: «لَيْتَ شِعْرِي! أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوَى؟ بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى؟ أَم بِرَضْوَى أَمْ غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى [768]....؟» ولا أدري لماذا يبحث هذا الدعاء -الذي راج كثيراً في أيامنا هذه وأصبح يُخاطَب فيه إمام الزمان في كثير من الأوساط الدينية واشتدَّ رواجه وانتشاره في السنوات الأخيرة إلى درجة أنه قد تشكلت جماعات خاصة لهذا الموضوع-، أقول: لا أدري لماذا يبحثون عن حضرة المهدي في ذي طُوى أو في جبل رضوى الذي كان مكان «محمد بن الحنفية»، الذي كانت فرقة الكيسانية تعتقد أنه هو إمام الزمان وأنه توارى عن الأنظار في جبل رضوى وسيظهر في المستقبل منه وكان أتباعه يتوجهون إلى ذلك الجبل ويدعون ويندبون ويتضرَّعون في أسفل ذلك الجبل وهم مُتوجِّهون إليه لأجل أن يخرج محمد بن الحنفية من غيبته ويقوم. وفضلاً عن ذلك فإنه لم يكن لسيرة حضرة المهدي لا في حياته ولا في غيبته الصغرى ولا غيبته الكبرى ولا بعد الظهور أيّ علاقة بجبل رضوى. والغيبة أساساً ليست على هذا النحو بأن يكون الإمام مُختفياً في مكان خاص بل هو حاضر وناظر في كل مكان ولكننا نحن الذين لا نستطيع أن نُميِّز ذلك ونُدركه".
وقبل أن أذكر بقية ما قاله المرحوم شريعتي ألفت انتباهكم إلى هذه النقطة وهي أنه خلافاً لصنيع مسؤولي مجلة «مكتب اسلام» الذين لزموا الصمت أمام ادِّعاء حضور الإمام في كل مكان، قال العلامة الشوشتري في ردِّه: «إن حضرة المهدي (ع) لما كان إنساناً فلا بُدَّ أن يكون مُستقرَّاً في مكان ما، وأن يتحرَّك ويكون في أماكن مختلفة في أوقات منفصلة، وإلا فإن الذي هو موجود في جميع الأوقات وعلى الدوام في كل مكان هو الذات الأحدية المُقدَّسة جلَّ وعلا» (فتأمّل جداً ولا تتجاهل).
الآن نُواصل نقل كلام المرحوم شريعتي، قال:
"بناءً على ذلك فإن السؤال: أين استقرت بك النوى؟ لا ينسجم حسب الظاهر مع نوع غيبة حضرة المهدي الموعود للشيعة الإمامية. إن القراءة المُتمعِّنة لنصّ «دُعَاءِ النُّدْبَة» الذي لا يذكر أسماء أئمتنا بصراحة وبترتيب، وبعد ذكره لحضرة الأمير (ع) -الذي يُطنب في ذكر مناقبه وفضائله- يقفز فجأة ومباشرة إلى مخاطبة الإمام الغائب، تُقَوِّي طرح ذلك السؤال في الذهن.
وعلى كل حال فإنني أطرح هذا الأمر بوصفه سؤالاً علميَّاً فقط، لا حكماً نهائياً وقطعياً؛ آملاً أن أسمع إجابةً منطقيَّةً ومعقولةً على سؤالي هذا بدلاً من السبّ والاتِّهام، وأن يرتفع هذا الإبهام في ذهني وإن قام شخص ذو اطِّلاع ومعرفة بتوضيح هذه المسألة يكون قد منَّ عليَّ بفضله وأكون له من الشاكرين". (انتهى كلام الدكتور شريعتي).
حول سند هذا الدعاء قال العلامة الشوشتري مخاطباً المرحوم شريعتي:
((أما بالنسبة إلى سند «دُعَاءِ النُّدْبَة» فإن كتاب «البحار» ينقل من كتاب «المزار» لعلي بن طاووس قائلاً: «ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي قُرَّةَ: نَقَلْتُ مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيِّ (رض) وَذَكَرَ أَنَّهُ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ (ع) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى بِهِ فِي الْأَعْيَادِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ: الْحَمْدُ لِـلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً، اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ قَضَاؤُكَ فِي أَوْلِيَائِك.......»، ثم نقل الدعاء حتى آخره ثم قال: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَشْهَدِيِّ فِي الْمَزَارِ الْكَبِيرِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ قُرَّةَ: نَقَلْتُ مِنْ كِتَابِ أَبي جَعْفَر مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيِّ. أقول وذكر مثل ما ذكره السيد ([أي ابن طاووس] سواء[769]..». والظاهر أن مفهوم هذه الفقرة في الخبر المذكور «وَذَكَرَ أَنَّهُ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ (ع)»: هو أن «الْبَزَوْفَرِيِّ» روى الدعاء عن إمام الزمان، وبناءً على ذلك يكون «دُعَاءُ النُّدْبَة» من إنشاء وصياغة حضرة الإمام نفسه[770]، مثل «دعاء الافتتاح»[771]، ويُحتمل أيضاً أن يكون «دُعَاءُ النُّدْبَة» من إنشاء وصياغة «الْبَزَوْفَرِيِّ» إذ من الممكن أن يكون معنى الفقرة المذكورة وجوب قراءة «دُعَاءِ النُّدْبَة» لأجل فرج إمام الزمان وظهوره، وعلى كل حال أصل سند الدعاء هو هذا الذي ذُكر في «البحار»، وأما ما جاء في كتاب «زاد المعاد» من قول مؤلفه: ""وأما «دُعَاءُ النُّدْبَة» المُشتمل على العقائد الحقَّة والتأسف على غيبته (عج) فمَرْويٌّ بسندٍ مُعتبرٍ عن الإمام جعفر الصادق (ع) إذ إن قراءته مسنونةٌ في الأعياد الأربعة أي يوم الجمعة ويوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى ويوم عيد الغدير"". فالظاهر أن مؤلفه لم يرجع إلى المُستندات بل نقل ذلك من أماكن خارجية فوقع في الخطأ إذا لو نُقل هذا الدعاء عن حضرة الصادق (ع) لنقل ذلك صاحب «البحار» الذي موضوعه ذكر الأسانيد والمُستندات.)). (انتهى من كلام العلامة الشوشتري).
قارن أيها القارئ المحترم كلام العلامة الشوشتري هذا بما ذكرناه قبل صفحات في الكتاب الحاضر (أي في حواشي الصفحتين 458 و 461) نقلاً عن الصفحة 4 من كُتيِّب «دراسة وتمحيص دعاء الندبة».
ثم كتب العلامة الشوشتري يقول:
((نعم، جاء في النصوص المُعتبرة(؟!)[772] التي وصلتنا عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) أن مكان حضرة المهدي في عهد الغيبة الصغرى وعهد الغيبة الكبرى أيضاً جبل رَضْوَى"!)).
ثم نقل روايةً عن «محمد بن الحسن الصفار» الذي كان متساهلاً في أخذ الحديث، ونقل روايةً أيضاً عن كتاب «الغيبة» لأبي عبد الله النعماني الذي كان حاطب ليل يجمع في كتابه كل ما وصل إليه ولا يُعتمد على ما في كتابه من أخبار، ومن الواضح تماماً أن مُجرّد نقل أمثال هؤلاء الأشخاص لحديثٍ ما لا يستوجب الثقة به، ويدل على ذلك أن أحد رواة الحديث الذي نقله العلامة الشوشتري عن كتاب «الغيبة» للنعماني هو «منصور بن يونس» الذي ضُعِّف في رجال الكِشِّيّ (ص 398).
بناءً على ذلك فإن العلامة الشوشتري لم يُقدّم لنا سوى الادِّعاء ولم يأتنا بأيِّ نصّ من «النصوص المُعتبرة» التي تحدّث عنها في حين أنه كان من الواجب عليه أن يُبرز لنا نموذجاً واحداً على الأقل من تلك «النصوص المُعتبرة».
ثانياً: إن الادِّعاء بأن محلَّ اختفاء المهدي في الغيبة الصغرى جبل رضوى مخالف للادِّعاء بأن المهدي إنما غاب بهدف عدم وصول الأعداء إليه وللخلاص من شرِّهم! إذ لو كان مكانه في الغيبة الصغرى معروفاً لكان بإمكان أعدائه أن يصلوا إليه.
ثالثاً: لقد ثبت في كتاب «شَاهْرَاه اتِّحَاد» [طَرِيق الاتِّحاد]، (ص 237 إلى 265) أن «النصوص المُعتبرة» (؟!) التي نُشاهدها اليوم في الكتب حول إمامة الأئمة الاثني عشر تمَّ وضعها فيما بعد، وهي، خلافاً لما يدَّعونه، نصوص غير مُعتبرة بأيِّ وجه من الوجوه.
إذا كان الإمام اللاحق غير معروف للناس في زمن كل واحد من الأئمة فكيف من الممكن أن يُقدِّم الأئمة، ومن جملتهم الإمامين الباقر والصادق -عليهما السلام- للناس «نصوصاً مُعتبرةً» (؟!) حول الغيبة وحول مرَّات الغيبة وحول أماكن اختفاء الإمام الثاني عشر؟!!
كتب الأستاذ محمد باقر البهبودي يقول:
"وأمَّا قولهم: «فُلانٌ كَيْسَانِيٌّ» كان يُعتقد بأنَّ محمَّد بن علي بن الحنفيَّة هو الإمام الرَّابع وأنه لم يَمُت بل غاب في جبل رضوى وسيخرج ويملأ الأرض قِسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظُلماً وجوراً......... [أو يقولون:] «فُلَانٌ ناووسيٌّ» كان يُعتقد بأنَّ جعفر بن محمَّد هو المهدي وسيُبعث ويملأ الأرض قِسطاً وعدلاً............... [أو يقولون:] «فُلَانٌ وَاقِفِيٌّ» كان يُعتقد بأنَّ موسى بن جعفر لم يَمُت بل غاب في جبل رضوى وسيخرج ويملأ الأرض قِسطاً وعدلاً!
فقد كانت القُدماء من أصحابنا [أي الشيعة] في عهد الغيبة الصغرى وبعدها، يَعُدُّون هذه المُعتقدات طعناً ولا يعملون بما تفرَّد أحدٌ من هؤلاء الفِرق مشياً على سيرتهم المعهودة في أصحاب الضعف والمُتأخِّرون منهم يُوردون أحاديثهم في أبواب الفقه فإذا كانت مُوافقة لرأيهم يَسْكُتُون عن الطعن فيهم وإذا كانت مُخالفة لرأيهم يردُّون أحاديثهم بالطعن فيهم مشياً على الخُطَّةِ التي أبدعها [شيخ الطائفة] أبو جعفر الطوسي في كتابه «تهذيب الأخبار» (أو تهذيب الأحكام)......!!
فإن سياق الإمامة في الأئمة الاثني عشر بأعيانهم وأشخاصهم -على ما نعرفهم اليوم- لم يكن مُتحقِّقاً من أول الأمر وإنما تحقَّق دوراً فدوراً وعهداً فعهداً....... ولذلك نرى الخواصَّ [من أصحاب الأئمة] منهم كانوا يَفِدُون إلى الإمام الحاضر ويَلْتَمِسُون منه أن يُعَرِّفهم الإمام القائم من بعده فلا يُجِيبُهُم إلا عند ضيقِ المجال والأمن من الأعداء...... ولذلك قَلَّتِ النُّصوصُ وعَمِيَتِ الأنباءُ عنهم ودَخَلَتِ الشُّبُهَات المُظْلِمةُ في صدورهم. كُلَّما مَضَى إمامٌ من أئمة العِترة الطَّاهرة، اختلفت الشيعة في الإمام القائم من بعده لا يدرون بمن يَأْتَمُّون وإلى ماذا يَرْجِعون؟ مع أنَّ فيهم كِبار الفُقهاء والمُتكلِّمين نُروّاها من عهد الغيبة الصغرى وقبله بقليل لَمَا آل بهم الأمر إلى هذه التَّفرقة الفاضحة والقول بالأهواء الباطلة..... وَلَمَا وقعت الحيرة لِأساطين المذهب وأركان الحديث سنوات عديدة وكانوا في غِنَىً أن يتسرَّعوا إلى تأليف الكتب لإثبات الغيبة وكشف الحيرة عن قلوب الأئمة بهذه الكثرة" (معرفة الحديث، الشيخ محمد باقر البهبودي، مركز انتشارات علمى وفرهنگى، ص 90 حتى 94 و 109)[773].
بناءً على ذلك فلم يأتِ العلامة الشوشتري بدليل على ادِّعائه وربما يكون الأمر على عكس ما ادَّعاه تماماً، ويكون واضعو الأحاديث والأدعية قد أخذوا جبل رضوى وذي طُوى من فرقة الكيسانية أو الواقفية أو..... الذين كانوا من الناحية التاريخية مُتقدّمين على مُدَّعي غيبة ابن حضرة العسكري من باب مُنافسة الفِرق المُتنازعة وطردهم من الساحة الدينية، لا العكس.
ومن الناحية العقلية أيضاً لا يُمكن تصور أن يكون «دُعَاءُ النُّدْبَة» منسوباً إلى أحد الأئمة لأن الأئمة من الإمام الأول حتى الإمام الحادي عشر كانوا جميعاً عقلاء وكاملين وكانوا يعلمون أن الإمام الثاني عشر لم يأتِ إلى الدنيا بعد ولم يغب فكيف يُمكن مُخاطبة من لم يأتِ إلى الدنيا بما جاء في هذا الدعاء من قول الداعي: "لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوَى بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى أَ بِرَضْوَى أَمْ غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى...... بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا.......".
هل يصحُّ أن يقول الإمام الصادق أو الإمام الجواد أو..... لحفيدهما الذي لم يُولد بعد ولم يغب: "أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوَى بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى أَ بِرَضْوَى أَمْ غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى"؟!! ألم يكن الأئمة يعلمون أنه لم يُولد بعد ولم يسكن في الجبل بعد؟! لعلَّهم يقولون: إن الإمام الثاني عشر قرأ هذا الدعاء لنفسه واشتكى وندب من فراق نفسه لنفسه!!! هل من الممكن أن لا يعلم الإمام موضع نفسه ويقول: لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوَى بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى؟!! ألا يستحي الذين ينسبون هذا الدعاء إلى الإمام؟!
وإشكالنا الآخر على العلامة الشوشتري أنه تجاهل تماماً المضامين المعيبة لنصِّ الدعاء!! في حين أنه كان من الواجب عليه أن يُبيِّن عيوب هذا الدعاء لإيقاظ الناس وتوعيتهم. وإنه لمما يستدعي العجب كثيراً أن نجده بدلاً من بيان عيوب هذا الدعاء يقول في ختام رسالته: "بالطبع، ما أحسن زيادة الأعمال الصالحة[774]، ولعلَّهم يتوسلون بهذا الدعاء على أمل الفرج إذ قال تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »"!!
ونقول: إن الله تعالى قال: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡ﴾[غافر: ٦٠]ولم يقل: «ادعوا مخلوقاتي والمُقرَّبين مني»، هذا في حين أن الناس يقرؤون «دُعَاءَ النُّدْبَة» المليء بالأخطاء والعيوب، ونظائره، في كل مكان وفي كل وقت ويعتبرون الإمام -الذي له مكان مُستقرٌّ فيه على حدِّ قولك وله حركة وسير في أوقات أخرى - حاضراً ناظراً في كل مكان وسميعاً لدعائنا!! وَمِنْ ثَمَّ فلا علاقة أبداً لقراءة أدعية مثل «دُعَاءِ النُّدْبَة» بدعاء الله، وهذا أمر لا يخفى بالطبع على العلامة الشوشتري! (فَتَأَمَّل).
للأسف، لقد ابتعدت الأمة الإسلامية اليوم عن سُنَّة رسول الله ص وتلوَّثت بالبدع، وأصبح الناس يقومون بأعمال باسم دين الله لم تكن في صدر الإسلام ولم يفعلها رسول الله ص، ومن جملة ذلك قراءة «دُعَاءِ النُّدْبَة». وإذا أراد أحدٌ اليوم أن يُفْهِمَ الناس هذه الحقيقة منعه المُتكسِّبون بالدين الذين قاموا بهذه الأعمال باسم الدين على مدى سنوات ونالوا بذلك المال والجاه، واتَّهموه واتَّهموا كلَّ مُصلح يريد توعية الناس وتخليصهم من البدع بمئات التُّهم والافتراءات، وأثاروا حوله لغطاً وضجَّةً حتى لا يُصغي أحد إلى كلامه ويبتعد الناس عنه. والناس أيضاً مُقصِّرون بالطبع، لأنهم لا يُبدون استعداداً للتفكُّر والتأمُّل في المسائل الدينية ولعلَّهم لا يعتبرون أن من واجبهم أن يفهموا ما يُعرض عليهم من أمور الدين ويتفكَّروا فيه!! وصفة الناس هذه هي التي أدَّت إلى رواج البدع بينهم. وبالطبع ينسب مُروِّجو البدع أيضاً بدعهم إلى دين الله وإلى الرسول والإمام ولا يتحقَّق الناس أو يفحصوا مدى صحة هذه النسبة وسُقمها. وأصبح وضعنا اليوم مطابقاً تماماً للحديث الذي قاله حضرة العسكري:
75 "سَيَأْتِي زَمَانٌ عَلَى النَّاسِ... السُّنَّةُ فِيهِمْ بِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ فِيهِمْ سُنَّةٌ،... كُلُّ جَاهِلٍ عِنْدَهُمْ خَبِيرٌ... لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمُخْلِصِ وَالْمُرْتَابِ لَا يَعْرِفُونَ الضَّأْنَ مِنَ الذِّئَابِ عُلَمَاؤُهُمْ شِرَارُ خَلْقِ اللهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إِلَى الْفَلْسَفَةِ[775] وَالتَّصَوُّف... الخ"[776] (سفينة البحار، ج2، ص57).
في مثل هذه الأحوال يجب على أهل العلم بالقرآن ومسائل الإسلام أن يبذلوا كل جهدهم لأجل إيقاظ المسلمين ويتحملوا في هذا السبيل العذاب والمشقة والمرارة كي يخلوا مسؤوليتهم ويُبرئوا ذمَّتهم أمام الله وينالوا الأجر الجزيل عند ربِّهم.
وعلى كل حال فإحدى الأعمال التي تتم باسم الدين ولا سند لها في الشريعة قراءة «دُعَاءِ النُّدْبَةِ» الذي تخالف كثيرٌ من جُمَلِه كتاب الله تعالى والعقل والتاريخ، ونحن، أداءً لواجبنا الديني، سنذكر فيما يلي بعض هذه المخالفات بلغة سهلة كنموذج فقط:
1- الخطأ المُرتَكَب في هذا الدعاء بشأن الآية 47 من سورة «سبأ»[777].
2- يقول الدعاء مخاطباً الإمامَ عليّاً (ع): "يَا ابْنَ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ". من هذا يُعْلَمُ أن واضع الدعاء متأثِّرٌ بالأحاديث الموضوعة التي تقول إن المقصود من «النَّبَإِ الْعَظِيمِ» في قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ١ عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ ٢﴾[النبا: ١، ٢]هو الإمام عليٌّ (ع)، وَمِنْ ثَمَّ فالداعي يريد القول إن إمام الزمان ابنُ عليٍّ (ع) النبإ العظيم! هذا في حين أن سورة ص (الآيات 67 - 68) وسورة النبأ كلاهما نزل في مكة، وفي الفترة المكية من الدعوة لم يكن هناك تساؤل ولا اختلاف مع النبي بشأن ابن عمِّه حتى يُنزِل اللهُ آيةً بهذا الشأن بل كان المشركون مختلفين مع النبي بشأن القيامة. ولقد تحدثنا عن معنى «النبأ العظيم» في الكتاب الحالي بما فيه الكفاية فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ (ص 46 - 48).
3- يقول: "ثُمَّ جَعَلْتَ أَجْرَ مُحَمَّدٍ -صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ- مَوَدَّتَهُمْ فِي كِتَابِكَ فَقُلْتَ: ﴿لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾[الشورى: ٢٣]"!
إن مُلَفِّق هذا الدعاء يدَّعي - كسائر الخرافيين - أن أجر رسول الله ص على رسالته هو مودَّتُنا لأهل بيته ومحبتنا لهم، ولكن هذا الادِّعاء يتعارض مع القرآن والعقل والتاريخ[778]. وقد تكلمنا على الآية الكريمة 23 من سورة الشورى بما فيه الكفاية في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (الصفحات 633 إلى 635، والصفحة 773)، فلا نكرر الكلام عليها هنا، ونذكِّر هنا فقط بأنه يُلاحَظ في الآيات 21 و22 و23 من سورة الشورى المكّيّة، أن الخطاب فيها موجَّه لمشركي مكة الذين لم يكونوا مؤمنين بالنبيِّ أصلاً فلا معنى لمطالبة النبيِّ لهم بأجرٍ على رسالته (أي محبة أهل بيته، حسب قولكم)، فكيف يمكن أن يطالب النبي ص الذين لا يؤمنون برسالته ويحاربونه أجراً على رسالته لهم (محبة أهل بيته، حسب قولكم)؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟! ثانياً: لم يكن الإمامان الحسن والحسين -عليهما السلام - قد ولدا بَعْد في مكة، حتى يقول النبيُّ للمشركين إن الأجر الذي أطلبه منكم على رسالتي هو أن تُحِبُّوا الحسن والحسين! ثالثاً: لو أخذنا كلمة «الْقُرْبَى» على المعنى الذي تقولون به فإن معنى الكلمة سيكون أوسع بكثير من «أهل البيت» الذي تدَّعونه. فبأي دليل فسَّرتم كلمة «الْقُرْبَى» في الآية بمعنى «أهل البيت» ثم قَصَرْتُم معنى «أهل البيت» أيضاً على المعنى الذي يعجبكم؟!
على ضوء الإشكالات المتعددة في تفسيركم للآية، فإن الذين هم على اطِّلاع كافٍ بالتاريخ وبسيرة النبي ص يعلمون جيداً أن النبيّ الأكرم ص إضافة إلى ارتباطه القبلي والعشائري بأهل مكة كانت تربطه صلات قرابة بكثير من أهلها أيضاً، لذا قال الله تعالى للنبي ص قل لأهل مكة إنني لا أسألكم أي أجر على كل ما أتحمله من مشقة وعناء في دعوتكم إلى دين الله تعالى وتوحيد الله، ولكنني أتوقع منكم المودة وعدم العداء بحكم القرابة التي بيني وبينكم والتي لا علاقة لها بالاختلاف الذي بيننا بل تقرون بها أنتم أيضاً، وأن تتصرفوا معي تصرُّفاً سليماً غير عدائيٍّ، لأن معاداتكم لي وتآمركم عليّ لا يتَّسِقُ مع مقتضى القرابة التي بيني وبينكم.
وعلى هذا فلاحظوا كيف أن من لم يميِّز بين «ذي القُرْبَى» أو «ذوي القُرْبَى» وبين «فِي الْقُرْبَى»، جاء ولفَّقَ من عند نفسه دعاءً وتلاعب بمعاني آيات القرآن! ثم نسب بوقاحة إلى الله قائلاً: اللهم أنت جعلت أجر رسالة النبي محبة أقربائه!! فاتبع بذلك الشيطان وارتكب الحرام غافلاً عن قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ...وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٣﴾[الاعراف: ٣٣]وقوله سبحانه: ﴿لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ ١٦٨ إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم...وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ١٦٩﴾[البقرة: ١٦٨، ١٦٩]
4- وجاء في الدعاء: "يَا ابْنَ مَنْ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى دُنُوّاً وَاقْتِرَاباً مِنَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى "!!
من الواضح أن هذه الجُمَل تشير إلى قوله تعالى في القرآن الكريم: ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤ عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦ وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٧ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ٨ فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ ٩ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ ١٠﴾ [النجم : ٤، ١٠].
في هذه الآيات الكريمة يُبيِّن الله تعالى لنا أوصاف جبريل الأمين وكيف ظهر للنبي ص واقترب منه وأوحى إليه آيات الله. لكن ملفِّق ألفاظ الدعاء جعل تلك الأوصاف للنبيِّ ص وأن إمام الزمان هو ابن النبيّ الذي وصفه بتلك الصفات حسب تصوُّره، فقال: "يَا ابْنَ مَنْ دَنا فَتَدَلَّى...الخ"!! ثم زاد من عنده عبارةً تستوجب الكفر فقال: "دُنُوّاً وَاقْتِرَاباً مِنَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى"!! يريد أن يقول إن جد إمام الزمان اقترب كثيراً من ذات العليّ الأعلى!! هذا مع أن «الدنو» يشير إلى القرب المكاني لذا استفاد القرآن في التعبير عنه من مقياس القوس لبيان مقدار المسافة، وَمِنْ ثَمَّ فإن واضع «دُعَاءَ النُّدْبَةِ» أثبت المكان والتحيُّز لِـلَّهِ تبارك وتعالى!! وعموماً عندما يرى ملفِّقو الأدعية أنهم حصلوا على القافية، يقولون كل ما شاؤوا قوله مهما كان. نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الضَّلَالَةِ.
5- بالنسبة إلى آية التطهير (الأحزاب: 33) وحول موضوع «الوسيلة» يُراجَع ما ذكرناه في كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، (ص 613 إلى 620) و الكتاب الحالي (ص 200 فما بعد).
6- جاء في الدُّعَاء: "فَكَانُوا هُمُ السَّبِيلَ إِلَيْك ". أو جاء: "يَا ابْنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيم ". وقال: "يَا ابْنَ السُّبُلِ الْوَاضِحَة ". أو قال: "أَيْنَ السَّبِيلُ بَعْدَ السَّبِيل ؟"!!
لقد تكلمنا عن هذا الموضوع بقدر الكفاية في الكتاب الحالي (ص 426 إلى 430) لذا سنكتفي هنا بذكر هذه النقطة فقط وهي أن القرآن الكريم بعد أن بين لنا حُرْمَةَ الشرك وَحُرْمَةَ قتل الأولاد خشية الإملاق - أي الفقر - وَحُرْمَةَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَحُرْمَةَ قَتْلِ النَّفْسَ المُحَرَّمة، أي بعد أن أوصانا باجتناب المُحَرَّمات والعمل بالواجبات، قال عقب ذلك: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٥٣﴾[الانعام: ١٥٣]، واعتبر الدين الإبراهيمي الخالص النقي غير المحرَّف صِرَاطَه المُسْتَقِيمُ [الأنعام: 161][779]، وقال لرسوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢ صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلۡأُمُورُ ٥٣﴾[الشورى: ٥٢، ٥٣].
بناءً على ذلك فالقرآن الكريم يعتبرُ النبيَّ سالكاً للصراط المستقيم لا الصراط ذاته! ومن البديهي أن النبيَّ الأكرم وَحضرات الأئِمَّة سالكون لسبيل الله وللصراط المستقيم وليسوا هم السبيلَ نفسَه. ولكن ما العمل! لقد لفَّقَ واضع الدعاء كلَّ ما أراده وما أملاه عليه هواه، ولزم علماؤنا الصمت حيال ذلك!!
7- وصف واضع الدعاء عليّاً (ع) بأنه «حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ» في حين أن الله تعالى قال في القرآن: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ [ال عمران: ١٠٣]، وبالطبع يجب على الإمام عليٌّ (ع) نفسه العمل بهذه الآية، وكل عاقل ومنصف يدرك أن الآية لا تقول إنَّ عَلَى عَلِيٍّ (ع) أن يعتصم بنفسه، ولا تقول إن على النبيِّ أن يعتصم بعليٍّ (ع)!! أضف إلى ذلك أن التكليف يجب أن يكون قابلاً للعمل مِنْ قِبَلِ الجميع، ولا يوجد الإمامُ عليٌّ (ع) بشخصه في زماننا، كما أن كثيراً من الأقوال المنسوبة إليه ليست من كلامه وليس لنا من سبيل للوصول إليه حتى نسأله أي الأقوال قالها فعلاً وأيُّها لم يقله ونُسِبَتْ إليه كذباً، لذا فلا نستطيع أن نعتصم به، ولكن الله عندما يكلِّفنا بأمر ويأمرنا به فإنه يُكَلِّفنا بأمر يكون في مُتناول أيدينا دائماً، وليس هذا سوى القرآن الكريم الذي يجب أن نعتصم به ونتمسَّك بتعاليمه، بل نَزِن به أيضاً كل الأقوال المنسوبة إلى عَلِيٍّ وأولاده عليهم السلام.
وكما قلنا في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارة المزارات وأدعية الزيارات] (ص 273) كان حضرة عَلِيٍّ (ع) نفسُه يعتبر القرآنَ حَبْلَ الله، ولم يُؤْثَر عنه أنه اعتبر نفسَه حبل الله! وكان يقول: "إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظ أَحَداً بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ وَسَبَبُهُ الْأَمِينُ" (نهج البلاغة، الخطبة 176) فمن هذا يُعْلَمُ أن عليّاً (ع) كان عليه هو أيضاً أن يتمسَّك بهذا الحبل ويعتصم به لا أنه هو نفسه الحبلَ، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُصۡلِحِينَ ١٧٠﴾[الاعراف: ١٧٠]ولا ريب أن الأئِمَّة كانوا يتمسكون أكثر من الآخرين بكتاب الله وبحبل الله، لا أنهم كانوا هم أنفسهم حبل الله، وَمِنْ ثَمَّ فإن الذي صاغ عبارات هذا الدعاء خالف القرآن وخالف الأئِمَّة فيما لفَّقه من ألفاظ!
8- وجاء في الدعاء: "يَا ابْنَ مَنْ هُوَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَى اللهِ عَلِيٌّ حَكِيم "!! والمقصود من أُمِّ الْكِتَابِ اللوح المحفوظ. وقد جعل صفة «علي» بمعنى الاسم أي عَلِيّ بن أبي طالب (ع) وأن إمام الزمان ابنُه!! نعم إن واضعي الدعاء بدلاً من أن يصنعوا للآخرين أدوية مفيدة وطائرات وأساطيل بحرية عظيمة و.... صنعوا من صفة «علي» اسم «عَلِيّ» !!!
وعلى القارئ المحترم أن يعلم أن الله تعالى قال في القرآن الكريم: ﴿حمٓ ١ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٣ وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ٤﴾[الزخرف: ١، ٤].
كما تلاحظون تتعلق الآيات المذكورة التي وردت في سورة الزخرف المكيَّة بالقرآن، وصفتا عَلِيٌّ حَكِيمٌ صفتان للقرآن وليسا اسماً، ولا علاقة لهما بحضرة عَلِيٍّ (ع)، وأساساً لم تكن مسألة ولاية عَلِيٍّ (ع) وخلافته مطروحةً بأي شكل من الأشكال في مكة ولم يكن المشركون مؤمنين بالقرآن من أساسه، ولو أردنا أن نعتبر «علياً» في هذه الآيات اسماً لأدى ذلك إلى جعل آيات القرآن غير متناسبة وغير مرتبط بعضها ببعض ولتجاهلنا بلاغة القرآن. (فتأمَّل)
9- ويقول الدعاء: "وَسَأَلَكَ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ فَأَجَبْتَهُ وَجَعَلْتَ ذَلِكَ عَلِيّاً ". وسبق أن قلتُ معلقاً على هذه الجملة في المقال الذي نشرته مجلة «رنگين كمان»:
"نشر شيخ خرافاتي نشرةً قال فيها إن المقصود من الآية 84 من سورة الشعراء التي قال فيها إبراهيم (ع): ﴿وَٱجۡعَل لِّي لِسَانَ صِدۡقٖ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ٨٤﴾[الشعراء : ٨٤]عليَّ بن أبي طالب!! لماذا؟ لأجل أحاديث الغلاة الموضوعة ولحفظ دعاء الندبة!! ونحن لن نخوض في الكلام مع هذا الشيخ, ولكننا نتوقع من كُتَّاب مجلة «مكتب اسلام» الذين هم أصحاب علم وفضل أن لا يُؤَيِّدوا التعصب الباطل والخرافات, بل يقوموا ببيان الحقائق ويُراعوا تعاليم القرآن قبل أي شيء آخر. إن مجلة «مكتب اسلام» كتبَت تقول إن المقصود من «علياً» في قصة إبراهيم التي ذُكِرت في «دُعَاء النُّدْبَة», أي جملة: "وَجَعَلْتَ ذَلِكَ عَلِيَّاً" هو «عليٌّ» الوصفي الذي معناه «العالي والكامل». حسناً جداً، إننا نقبل بذلك، ولكن ماذا نفعل مع ذلك الشخص الذي يعتبره عدد من العوام حجة الإسلام والذي جاء ونشر نشرةً معارضةً لنظرية «مكتب اسلام»؟ يقول ذلك الشيخ إن المقصود من كلمة «علياً» هنا - طبقاً لتفسير الأئِمَّة واتفاق علماء الشيعة جميعاً-: «عليُّ» الاسم، أي علي بن أبي طالب (ع) !! من الذي يتوجب عليه أن يوقف حجة الإسلام هذا عند حدِّهِ ويمنع هذه التفاسير الباطلة؟ ألم ترَ مجلة «مكتب اسلام» هذه التفاسير؟ وإن رأتها فلماذا تجاهلت الذين يُسقطون القرآن من الاعتبار؟..... الخ".
10- وجاء في الدعاء: "وَأَوْدَعْتَهُ عِلْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى انْقِضَاءِ خَلْقِك "!! في حين أن هذا القول يُناقض القرآن الذي بيّن لنا أن النبي لا يعلم متى تقوم الساعة ولا يعلم ماذا تكسب كل نفس غداً أو بأي أرض تموت ولا يعلم ما يفعل الله به وبالآخرين يوم القيامة (الأعراف: 187، لقمان: 34، الأحقاف: 9). ولو كان رسول الله ص يعلم كل شيء لأجاب فوراً عن المسائل التي كان الناس يرجعون فيها إليه وَلَمَا كان بحاجةٍ إلى انتظار الوحي. ولكننا نعلم أنه لما سُئل النبيُّ عن الأسئلة التي جاء جوابها في سورة الكهف، انتظر عدة أيام لينزل عليه الوحي ولم يكن يدري أي جواب يجيب به قبل نزول الوحي عليه. فذلك الادّعاء مخالف لحقائق التاريخ ولسيرة النبي ص.
ولا يخفى أن ذلك الادعاء الباطل يتطابق مع أحاديث الباب 106 من «أصول الكافي» للكليني، وكذلك الجملة التي تقول: "أَيْنَ بَابُ اللهِ الَّذِي مِنْهُ يُؤْتَى؟" تتطابق مع ما جاء في أحاديث الباب 70 من «أصول الكافي», وجملة: "أَيْنَ وَجْهُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَوْلِيَاء؟" مشابهة لما جاء في الباب 46 من «الكافي» (باب النوادر)، لذا يجب على القارئ المحترم أن يطالع الأبواب 106 و 70 و46 والصفحات 303 و435 من كتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» كي يتبين له سقم تلك الجمل وعدم صحتها.
وجملة: "أَيْنَ وَجْهُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْأَوْلِيَاء؟" تشابه بالطبع خرافات الصوفية أيضاً الذين يقولون إن كل من أراد عبادة الله فعليه أن يتوجه إلى وجه شيخه وصورة مرشده، ويضع طلعته نصب عينيه!! كما قال «صفي عليشاه» هذه الفكرة عينها في كتابه المُسَمَّى تفسيراً (؟!)، ذيل تفسيره لجملة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾من سورة الحمد المباركة:
(ثلاثة أبيات بالفارسية) [ترجمتها]:
إن هذه العبودية منشؤها العشق والحاجة والطـــاعة بدون عشق مكر ومجاز
ولا يأتي العشق إلى القلب من دون عــلّة وعلتــــه أن تشاهد طلعته البهيـــة
إن طلعــــــة الحــــق هــي أحـمد وحيدر يا وليي أولئك الشخصين مظهره
وقال في موضع آخر: (بيت آخر من الشعر بالفارسية، وترجمته):
عندما أُجري على لساني لفظ «اهدنا» فإن قلبي يكون لدى الشيخ المرشد!!
وهذا عين الشرك والانحراف لأن القرآن الكريم يقول: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ١١٥﴾[البقرة: ١١٥]، فالتوجُّه يكون لوجه الله لا إلى فرد معين من المخلوقات. إن الله تعالى الذي يقول: ﴿وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ٤﴾[الحديد: ٤]في غِنىً عن الوسيلة والواسطة والمظهر. ولم يقل رسول الله ص أبداً أنا مظهر الله، بل كان يقول على الدوام أنا عبد الله ورسوله.
11- وجاء في الدعاء قوله: "أَيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاء "؟! فإن كان مراده من السبب «الوسيلة» فقد تكلَّمنا عن «الوسيلة» في الكتاب الحالي بقدر الكفاية (راجعوا ص 200 فما بعد). أما إن كان يريد أن يقول إن الإمام سببٌ لاتصال الأرض بالسماء فإن قوله هذا مخالف للقرآن الذي يقول: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَا﴾[الانبياء: ٣٠]، ثم قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ ٣١ وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ ٣٢﴾ [الانبياء: ٣١، ٣٢].
يبدو أن ملفّق هذا الدعاء قد نذر على نفسه أن يخالف كل ما يقوله القرآن!!
12- ويقول الدعاء: "قَدَّمْتَهُ عَلَى أَنْبِيَائِك "!! وهذه الجملة مخالفة بكل وضوح للقرآن والعقل والتاريخ. إن القرآن قال إن محمداً آخر الأنبياء (الأحزاب: 40) وأمر الله نبيه أن يقتدي بِهُدَى الأنبياء من قبله (الأنعام: 90) وقال: إن اسم النبي يَجِدُهُ أهل الكتاب مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] أي أن اسمه كان في الكتب التي نزلت على الأنبياء قبل القرآن. بناء على ذلك فلابدَّ أن يكون أولئك الأنبياء قبل رسول الله ص كي يجدوا اسمه في كتبهم وكي يمكن للنبيِّ أن يقتدي بِهَدْيِهِمْ. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنۡهُم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ ١٠﴾[آل عمران: 184 والأنعام: 10]، وآيات أخرى كثيرة تبين هذا الأمر.
فإن قيل: إن «التقدُّم» في هذه الجملة بمعنى الأفضلية والتقدُّم في الرتبة والشرف؟ فالجواب إن توجيهكم هذا غير صحيح لأن التفضيل والتقدم في المرتبة ذُكِرا في الجملة التي قبلها حين قال: "فَكَانَ كَمَا انْتَجَبْتَهُ سَيِّدَ مَنْ خَلَقْتَهُ وَصَفْوَةَ مَنِ اصْطَفَيْتَهُ وَأَفْضَلَ مَنِ اجْتَبَيْتَهُ وَأَكْرَمَ مَنِ اعْتَمَدْتَه ".
13- وجاء في الدعاء: "أَيْنَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا ؟" وينبغي أن نسأل: لماذا يضطر إمام الزمان؟ وإن كان مستجاب الدعوة فلماذا لا يدعو ليرفع اضطرار نفسه؟!
والأهم من ذلك أن الله تعالى لم يقل لأي شخص أنه متى ما دعا فإن دعاءه سوف يُسْتجاب فوراً، لأن الله ليس تابعاً لعباده ولم يجب الله تعالى دعاء الأنبياء أحياناً. فهل الإمام أرفع رتبة من الأنبياء؟ إن الله تعالى لم يقبل دعاء حضرة نوح (ع) لأجل نجاة ابنه (هود: 46) ولم يجب طلب حضرة إبراهيم (ع) بشأن قوم حضرة لوط (ع) (هود: 76) وقال لنبيه: ﴿إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡ﴾ [التوبة: 80].
14- ومن الطريف أن الدعاء يقول: "عَرَجْتَ بِرُوحِهِ [أي بروح النبي] إِلَى سَمَائِك ". وهذا القول لا يتفق مع رأي علماء الشيعة الذين يعتبرون المعراج جسمانياً!!
15- وقال في الدعاء: "ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ " أي أن رسول الله ص أودع علياً (ع) علمه وحكمته!! في حين أن القرآن الكريم يقول خلاف ذلك، إذ يقول: ﴿فَقُلۡ ءَاذَنتُكُمۡ عَلَىٰ سَوَآءٖ﴾[الانبياء: ١٠٩]، ويقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٨﴾[سبا: ٢٨]، ويقول: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾[الاعراف: ١٥٨]، ويقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ١٧٤﴾ [النساء : ١٧٤]. والمراد بالنور هنا القرآن الكريم الجامع للعلم والحكمة وأصول الدين والذي تم بيانه لعامة الناس، كما لم تكن سنة رسول الله ص مخفية عن الناس، خلافاً للمرشدين وأقطاب الصوفية الذين يبيِّنون مسائل السلوك والمسائل الخاصة بطريقتهم تحت الخرقة لبعض مريديهم وأتباعهم!!
16- وقال في الدعاء: "وَأَنْتَ غَداً عَلَى الْحَوْضِ خَلِيفَتِي "!! وينبغي أن نقول: أولاً هذه الجملة لا تثبت في دنيانا أي مقام مع أنه من الواضح أن واضعها أراد منها إثبات الخلافة المنصوص عليها في الدنيا لحضرة الإمام. ثانياً لم ينتبه ملفق الدعاء أن رسول الله ص في يوم القيامة لا يموت ولا يغيب حتى يحتاج إلى خليفة يخلفه!
17- وقال في الدعاء: "صَلِّ....... عَلَى مَنِ اصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِه "! ونحن نعلم أن الله تعالى عرَّف لنا في كتابه الذين اصطفاهم من عباده[780] وقال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٣٣﴾[ال عمران: ٣٣]، أو قال بشأن جناب «طالوت»: ﴿وَقَالَ لَهُمۡ نَبِيُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكٗاۚ... قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَيۡكُمۡ..﴾[البقرة: ٢٤٧]. أو قال: ﴿يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٢﴾[ال عمران: ٤٢]. ولكنه لم يقل: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آلَ مُحَمَّد" (فتأمَّل). لاحظوا أن الله تعالى عرَّفنا في كتابه بصراحة بالمُصطَفَيْن الذين اصطفاهم قبل النبيّ الأكرم ص (كما في الآية 144 من سورة الأعراف، والآيتين 45 و48 من سورة ص) فكيف لم يعرِّفنا في كتابه بالأشخاص الذين تقولون إن سعادة مستقبل أمة نبيهم الخاتم ص منوطة بمعرفتهم؟! (فتأمل دو العصبية).
نعم، نعلم أنهم سيأتوننا بأحاديث تنص على أن آل محمد ص اصطفاهم الله، لذا ينبغي العودة إلى الصفحات (من 374 إلى 380) من الكتاب الحالي للتعرّف على مدى صحة هذه الأخبار أو سقمها.
18- ويقول الدعاء: "أَيْنَ بَقِيَّةُ اللهِ "؟!
وأقول: في مدينتنا نرى لوحات عديدة جداً تُكَلِّفُ طباعتها مبالغ باهظة كُتبت عليها الآية 86 من سورة هود بقصد إظهار المحبة لإمام الزمان، وتلاعب الكاتبون - عالمين أو جاهلين- بمعاني القرآن!
إن سورة هود مكية وفي هذه السورة، بعد أن بيَّن اللهُ لنا قصَّة نوح (ع) (الآيات 25 إلى 48) وقصَّة هود (ع) (الآيات من 50 إلى 60) و قصَّة صالح (ع) (الآيات من 61 إلى 68) وقصَّة إبراهيم ولوط (ع) (الآيات من 69 إلى 73)، أخذ ببيان قصَّة شُعَيْب (ع) فقال فيها:
﴿وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٨٥ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ٨٦﴾[هود: ٨٥، ٨٦].
فنقول: أولاً: في زمن نبيِّ الله شُعَيْب (ع) لم يكن هناك إمام زمان حتى يتكلَّم عنه شُعَيْب (ع). ثانياً: في زمن رسول الله ص في مكة لم يكن موضوع الإمامة والغيبة وإمام الزمان مطروحاً أصلاً، حتى يتحدَّث عنه النبيّ الأكرم ص، فالآية لا علاقة لها بأي إمام من الأئِمَّة من قريب أو بعيد!
لقد جمع ملفِّق «دُعاء النُّدْبَة» خرافات الآخرين في هذا الدعاء دون أن يزن ما ذكره من أمور بميزان القرآن، مع أنه يجب -طبقاً لأمر رسول الله ص - وزن كل حديث بميزان القرآن لمعرفة مدى صحته.
19 - يقول الدعاء: "يَا ابْنَ الْحُجَجِ الْبَالِغَات"! هذا رغم أن القرآن قال لنا إنه ليس للناس بعد الأنبياء حُجَّة، وهو قوله تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥﴾[النساء : ١٦٥]. واعتبر الإمام الصادق ÷ - كما في الحديث 22 من كتاب العقل والجهل في «أصول الكافي» الذي يُعَدُّ أفضل كتب الحديث في نظر علمائنا - أن حُجَّةَ اللهِ على العباد حُجَّتان: حُجَّةٌ باطنةٌ وهي «العقل» وحُجَّةٌ ظاهرةٌ وهي «الأنبياء»، ولم يذكر أيَّ حُجَّةٍ أخرى غير هاتين الحُجَّتين. وهذا الحديث موافق للقرآن ونحن نرجِّحُهُ على قول ملفِّق «دُعاء النُّدْبَة» الذي اخترع لنا حُجَجَاً غير تينك الحُجَّتين.
20 - ويقول الدعاء: "وَلَولَا أَنْتَ يَا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدِي "! هذا رغم أن المُطَّلعين على سيرة عليٍّ (ع) يعلم أن حضرته لم يعتبر حتى أعداءه الذين حاربوه كُفَّاراً غير مؤمنين[781]. بناء على ذلك فإن حضرة الإمام (ع) قولاً وفعلاً لم يعتبر مخالفيه خارجين عن الإيمان أو كفاراً مرتدّين، فكيف كان يُعْرَفُ المؤمنون ويُمَيَّزون من غير المؤمنين بوسيلته (ع)؟![782]
21- ألف) يقول: "يَا ابْنَ طَهَ وَالْمُحْكَمَات "!! ينبغي أن نقول إنه ليس هناك من معنى لكون إنسان ابناً لحرفين من الحروف المقطَّعة أو ابناً للمحكمات، وأن ملفِّق ألفاظ هذا الدعاء لم يكن يدري ما يقول، بل أراد أن يرهب قارئيه! وليت شعري! هل للآيات المحكمات فقط ابنٌ أما الآيات المتشابهات فليس لها ابن؟!! لعل قصد منشئ ألفاظ هذا الدعاء كان الحفاظ على السجع والقافية لا أكثر.
ب) ويقول: "يَا ابْنَ يس وَالذَّارِيَاتِ "! ما معنى هذا؟! أيُّ فرقٍ بين (ط، هـ، ي، س) و بين («ح»، أو «م» أو «ص» أو «ر» أو «ع»)[783]. هل للمجموعة الأولى من الحروف ابن، أما المجموعة الثانية فهي عقيمة لا تُنْجِب!! أَفَلَا تَعْقِلُونَ ؟! ثم أليس في جعل الإمام ابناً للرياح الذاريات إهانة له؟
ج) ويقول: "يَا ابْنَ الطُّورِ وَالْعَادِيَات "! ينبغي أن نسأل: هل في هذه العبارة، كالعبارة السابقة، احترام للإمام أم إهانة له؟!
فإن قيل: مثلما قال حضرة السجَّاد (ع) في مجلس يزيد: "أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَمِنَى أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَ [جبل] الصَّفَا"، فكذلك لا إشكال في أن يكون إمام الزمان ابناً لجبل الطور!! فينبغي أن نقول إن مثل هذا القائل يقصد خداع العوام قطعاً، وإلا فإنه من الواضح تماماً أنه لما كان أجداد حضرة السجاد (ع) مولودين في مكة أو كان هو ساكناً مدةً في مكة يمكن القول إنه ابن مكة ومِنى، كما نقول عن ساكن كاشان إنه ابن كاشان وعن ساكن قم إنه ابن قم. أما إمام الزمان فلم يولد في جبل الطور ولم ينشأ فيه، كما لم يولد أو ينشأ فيه أحد من آبائه. ولنفرض أنه واضع الدعاء يمكنه بمثل هذه التأويلات الباردة أن يخدع العوام، فماذا نفعل بجملة: "يا ابن العاديات" أي يا ابن الخيول الراكضة؟!! هل هو امتياز للإنسانٍ أن يكون ابناً للخيول العادية؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟
د) ويقول: "يَا ابْنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَات "! ينبغي أن نقول إن كان المقصود آيات القرآن فغنيٌّ عن التوضيح أن آيات القرآن ليست أباً لأحد وليس لها أبناء! ثم قال: "يَا ابْنَ الْمُعْجِزَاتِ الْمَوْجُودَةِ "! ونسأل: أين الْمُعْجِزَاتِ الْمَوْجُودَةِ؟ لا يوجد اليوم أي معجزة من معجزات الأنبياء موجودة وباقية بيننا سوى القرآن الكريم، وهي معجزة ذكرتَها أنتَ في هذا الدعاء وقلتَ: "يَا ابْنَ الْآيَاتِ وَالْبَيِّنَات"! بناء على ذلك فتلك الجملة زائدة، وليس للجملة الأخيرة أي معنى مفيد، لأنه ليس للآيات والبينات أولادٌ.
22- يقول الدعاء: "أَيْنَ الطَّالِبُ بِدَمِ الْمَقْتُولِ بِكَرْبَلَاء "؟ أو يقول: "أَيْنَ الطَّالِبُ بِذُحُولِ الْأَنْبِيَاء وَأَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاء " (أي أين المُطالب بالعدالة بحق من ظلم الأنبياء وأبناء الأنبياء؟). ونسأل: ألم يفكِّر ملفِّق ألفاظ هذا الدعاء في نفسه بأن قتلة الحسين (ع) أو قتلة الأنبياء لن يكونوا أحياء زمن ظهوره، فمِمَّنْ سيثأر الإمام المنتظر، وبحقِّ من سيطالب بتطبيق العدالة؟
لقد اضطروا لتوجيه هذه الخرافات إلى اختراع خرافة «الرجعة»، وترويجها بين الشيعة! مع أن يوم الحساب وتنفيذ العدالة بحق الأنبياء وغير الأنبياء، طبقاً لتعاليم القرآن، هو يوم القيامة فقط لا هذه الدنيا.
23- ويقول الدعاء: "عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى "! ما معنى قوله: وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى؟؟ وهل يمكننا أن ننصر إماماً لا يُرَى ولا يعلم أحدٌ مكانه حتى يصح أن نلوم الناس على خذلانهم له وعدم نصرتهم إياه؟! وإن كان قصده لوم الناس لأنهم لا يبكون عليه كما قال في موضع آخر من هذا الدعاء: "هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَالْبُكَاء؟ "!! أو قال: "هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْنِي عَلَى الْقَذَى؟ "!! ففي هذه الحالة ينبغي أن نعلم أن البكاء، لاسيما إذا كان إرادياً، لا فائدة منه، والإسلام ليس دين بكاء وعويل، اللهم إلا على مذهب قرّاء المراثي الذي في ذلك لهم فوائد كثيرة!!! أما الإسلام فلم يأمر المسلمين بالبكاء بل قال: ﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨﴾[يونس : ٥٨]، وقال للكفار والمنافقين أن عليهم أن يبكوا على نفاقهم و شقائهم: ﴿فَلۡيَضۡحَكُواْ قَلِيلٗا وَلۡيَبۡكُواْ كَثِيرٗا جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٨٢﴾[التوبة: ٨٢].
إن دين الإسلام ليس دين البكاء والعويل وشق الجيوب وضرب البدن بالسلاسل، بل هو دين الرشد والشجاعة والمقاومة كما كان الإمام الحسين (ع) المثال البارز على ذلك. (فتأمَّل)
ولم يقل الإمام علي (ع) لمن سبقه من الخلفاء: لماذا لم تقيموا مراسم خاصة ومآتم ومجالس عزاء ولم تقرؤوا المراثي في الذكرى السنوية لوفاة النبي ص، ولماذا لم تُغَلِّفُوا المساجد في تلك المناسبة بالأقمشة السوداء، ولماذا لم تُسَيِّروا مواكب العزاء ولطم الصدور وضرب الطبول في تلك المناسبات السنوية؟ كما لم يُقِم في زمن خلافته أي مآتم ومراسم عزاء وقراءة للمراثي في ذكرى استشهاد شهداء بدر وأحد وسائر الغزوات، ولا أقام في ذكرى وفاة النبيّ ص وذكرى وفاة حضرة الزهراء (ع) أي مراسم لقراءة المراثي ولطم الصدور وضرب الأبدان بالسلاسل والبكاء والعويل.
24- ويقول الدعاء: "يَا ابنَ الدَّلَائِلِ الظَّاهِرَاتِ يَا ابنَ البَرَاهِينِ الوَاضِحاتِ البَاهِرَاتِ "!!
واضحٌ تماماً أن هذه الجمل كذبٌ مخالفٌ للتاريخ، لأنه لو كان الأمر كما تقول هذه الجُمَل لما وقعت كل تلك الاختلافات التي سجَّلها التاريخ بعد وفاة كل إمام، ولما وقع أتباع كل إمام بعد وفاته في الحيرة واختلاف الرأي[784].
25- ويقول الدعاء: "خَلَقْتَهُ لَنَا عِصْمَةً وَمَلَاذا ً"!! وهذه الجملة مخالفة للقرآن. حقّاً إن أهل الخرافات حائرون وتائهون لأنهم يدَّعون - من جهة - أن اللهَ خلقَ العالمَ وأهلَه لأجل الإمام، ويدَّعون هنا - من الجهة الأخرى - أن الإمام خُلِقَ لكي يحفظنا! هذا في حين أن الله تعالى قال لرسوله ص في القرآن الكريم: ﴿فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٨٠﴾[النساء : ٨٠]، كما قال عن خلق السموات والأرض والعالَم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ٢١ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٢﴾[البقرة: ٢١، ٢٢]، مما يُبَيِّن أن العالَم خُلِقَ لجميع الناس لا لأجل أفراد مُعَيَّنين، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ ١٠﴾[الرحمن: ١٠].
أضف إلى ذلك أن القرآن يقول: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَدۡعُواْ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٠ قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا ٢١ قُلۡ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٞ وَلَنۡ أَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدًا ٢٢﴾[الجن: ٢٠، ٢٢]، بناء على ذلك فإن المسلم المُتَّبِع لرسول الله ص لا يعتبر عبداً من عباد الله ملاذاً له وملجأً. (فتأمَّل جدّاً).
26- ويقول الدعاء: "وَاجْعَلْ صَلَاتَنَا بِهِ مَقْبُولَةً وَذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَة"!! وهذه الجملة أيضاً لا تنسجم مع تعاليم القرآن الذي يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٧﴾[المائدة: ٢٧].
بناءً على ذلك لا يتقبَّل الله الأعمال، سواءً كانت صلاةً أو صياماً....الخ، إلا من المُتَّقين، وإلا فحتى لو كان الإنسان مُعاصراً للنبيّ وكان يقوم على الدوام بمدحه والثناء عليه، ولكنه لا يُراعي التقوى طبقاً لتعاليمه فلن ينفعه ذلك شيئاً. إن الذنوب إنما تُغفر بالتوبة إلى الله والعزم الصادق على تركها لا بمدح النبيّ والإمام والثناء عليهما فحسب.
إن إشكالات «دُعَاء النُّدْبَة» أكثر مما ذكرناه بكثير لكننا نكتفي بهذا المقدار. بيد أننا نسأل: لماذا هذا الإصرار على قراءة أدعية تتضمَّن كل هذا القَدْر من الإشكالات والانتقادات العلمية وعدم الانسجام مع القرآن الكريم، ولماذا يُقام بترغيب الناس بالاجتماع في مجالس عامرة لقراءة مثل هذه الأدعية كل أسبوع؟ إن هذا سببه -كما قال حضرة العسكري (ع)[785]- أننا نعيش في زمن السُّنَّةُ فِيهِمْ بِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ فِيهِمْ سُنَّةٌ، والعلماء فيه لا يُعارضون البدع بل يسكتون عنها طلباً لرضا العوام، وليس هذا فحسب بل إذا رأوا شخصاً يُريد أن يُبيِّن هذه البدع للناس قام هؤلاء العلماء الأعلام، والآيات العظام (؟!!) أنفسهم، بدلاً من مساندته، بمُحاربته وإثارة العوام ضدَّه واتِّهامه بآلاف التُّهَم والإتيان بشُبُهات تُعجِب العوام للدفاع عن تلك البدع، كقولهم: هل كُلُّ العلماء السابقين واللاحقين لم يفهموا هذا الأمر وفهمه هذا الفرد وحده؟! وهذا الاعتراض ليس بصحيح، لأن أغلب البدع لم يبتدعها العوام بل ابتدعها أفراد مُطَّلعون مُلقَّبون بالعلماء وأشاعوها بين الناس، وقدَّموها لهم على أنها من الدين. إن أهل العلم -وليس العوام الجهلة- هم الذين أوجدوا كل هذه الفرق المختلفة والأعمال المُبتدعة التي تُعجب بعض الفرق أو الطرق وتُخالفها الفرق والطرق الأخرى. والحاصل، إن المذاهب الباطلة والمسالك الفاسدة إنما نشأت مِنْ قِبَلِ علمائها لا مِنْ قِبَلِ العوام عديمي الاطِّلاع. أضف إلى ذلك أن كثيراً من العلماء يعلمون بُطلان كثير من الأدعية أو الأعمال.... الخ، ولكنهم يلزمون الصمت مع الأسف. ونقول لهؤلاء: بدلاً من هذه الادِّعاءات، لماذا لا تجيبون عن أدلَّتنا بالدليل والبرهان؟ إن رددتم على انتقاداتنا واعتراضاتنا العلمية بالدليل، فلن تبقى هناك حاجة لقولكم كيف لم يفهم كل العلماء هذه الحقيقة وفهمها فلان؟!
وإذا تساءلنا: لماذا لا يقول العلماء الحقائق ويتركون عامة الناس في الجهل؟ إن أحد الأسباب هو التعصٌّب والتنافس بين علماء الفرق المختلفة والتعلُّق الشديد بآداب وعادات الآباء والأجداد وحُبّ الجاه ونظائر ذلك. والسبب الآخر الذي اعترف به المَجْلِسِيّ الأول أيضاً هو أن «أكثر الطباع مائلة إلى الغُلُوّ»[786]، ولكن يجب أن ننتبه إلى أن القرآن نزل بلسان عربيٍّ مُبين ليقرأه جميع الناس، ولا يختصُّ فهم القرآن والعلم به بالعلماء والمُعمَّمين فحسب، فإذا لم يُبيِّن العلماء الحقائق فهذا لا يُسقط التكليف عن العوام. أضف إلى ذلك أن الله تعالى جعل القرآن حُجَّةً ولم يجعل قول العلماء وفعلهم بحدِّ ذاته حُجَّة، إضافةً إلى أنه حتى لو عمل العلماء بعلمهم فإن الله لا يضع ثواب علمهم وعملهم في حساب العوام، بل يجب على كل إنسان أن يُجاهد بنفسه كي يفهم ويعمل بما فهم، ولأجل الفهم لا بُدَّ من طلب الدليل، ولا يجوز التقليد في الأمور التي هي من أصول الدين ومن الأمور المهمة الأساسية التي أكَّد الشارع عليها كثيراً، ولو جاز التقليد في مثل هذه الموارد لكان الجاهلون من أتباع المذاهب جميعها غير مسؤولين أمام الله لأنهم جميعاً مُقلِّدون لعلماء أديانهم ومذاهبهم. نسأل الله تعالى أن يتعاون معنا العلماء الذين يخافون الله ويوقنون بيوم القيامة في إيقاظ شعبنا وإنقاذه من الشرك والخرافات.
بعد «دُعَاء النُّدْبَة» كتب الشيخ عبَّاس القُمِّيّ تحت عنوان الأمر الثاني يقول: "ما يُزار به مولانا صاحب الزمان صلوات الله وسلامه عليه كل يوم بعد صلاة الفجر: "اللَّهُمَّ بَلِّغْ مَوْلَايَ صَاحِبَ الزَّمَان صلوات الله عليه، عن جميع المؤمنين والمؤمنات، في مشارق الأرض ومغاربها... الخ"[787]!!
أيُّها القارئ العزيز! لاحظ كيف أنهم يقولون من جهة: إن الإمام حاضر وناظر في كل مكان ويسمع الذين يدعونه دون قيد أو شرط، ويقولون: «يا صَاحِبَ الزَّمَان»، ويقفون بعد الصلوات ويُسلِّمون عليه قائلين: «السلام عليك» ويعتقدون أن الإمام عالم بأحوالهم. ومن الجهة الأخرى يعتقدون أن الإمام ليس حاضراً وناظراً في كل مكان لذا يقولون: اللهم بلِّغ مولانا صَاحِبَ الزَّمَان سلامنا!!
في «دعاء العهد»[788] الذي جاء بعد الزيارة المذكورة أعلاه، ولا يُعلَمُ سنده، يريد الزائر أن يُبايع إماماً غير مرئيّ ويقول: لو مُتُّ قبل ظهور الإمام: "فَأَخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي مُؤْتَزِراً كَفَنِي شَاهِرَاً سَيْفِي مُجَرِّدَاً قَنَاتِي"!!
الطريف أن هذا القائل لا يعلم أنه عندما يظهر الإمام لن يكون للسيف والقناة «أي الرِّمح» أيُّ فائدة وأن الأسلحة قد تطورت عن ذلك تطوراً هائلاً، والأهمُّ من ذلك أنه يتصور أن الله سيأذن له بالعودة إلى الدنيا، ولا يعلم أن الله يُجيب من طلب العودة إلى الدنيا بعد حلول أجله بقوله: ﴿كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٠٠﴾[المؤمنون : ١٠٠]أي لن يُبعث أحد من الأموات حتى نفخ الصور.
ويقول في هذه الزيارة أيضاً: "اللَّهُمَّ وَسُرَّ نَبِيَّكَ مُحَمَّداً ص بِرُؤْيَتِه "! يُعلَم من هذا أن واضعي هذه الزيارات والأدعية يُحبُّون التملُّق والتزلُّف وَكَيْلَ المدائح والثناء بل يُحبُّون ذِكر أمور ومُجاملات واهية لا حقيقة لها، وإلا ألا يعلم هذا الوضَّاع الجاهل أن في زمن ظهور إمامه المُنتظر ستكون قد مضت قرون على رحيل رسول الله ص عن هذه الدنيا واستقراره في دار البقاء، وأنه لن يكون مُهتمَّاً عند ذلك بهذا العالَم الفاني حتى يُسَرَّ بظهور الإمام. أولا يعلم أن الله قال لنبيِّه في القرآن: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ٣٠ ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ ٣١﴾[الزمر: ٣٠، ٣١]. إن مثل هذه الأدعية والادِّعاءات دليل على كثرة الخرافات والبدع وعلى الاهتمام بالأقوال والأفعال الباطلة، لاسيما أنه لا دليلَ من القرآن ولا من سُنَّة رسول الله ص على وجود هذا الإمام المُنتظر الذي يُقال إنه ابن حضرة العسكري (ع) -الذي لم يثبت أنه أنجب ولداً -!!
ثم أورد الشيخ عبَّاس تحت عنوان الأمر الرابع[789] دعاءً راويه «يونس بن عبد الرحمن» الذين طعن فيه علماء قم! ومن الطريف أن هذا الراوي روى دعاءً يقول فيه لِـلَّهِ: اللهم احفظ رسولَ الله ص وآباءه (= أي آباء الإمام المُنتظر) ولم يكن له هذا القدر من الفهم والشعور كي يعلم أن أجداد إمام الزمان أي النبيّ وسائر الأئمَّة قد رحلوا عن الدنيا وليسوا بحاجة إلى هذا الدعاء، فدعاء الله أن يحفظهم لغو لا معنى له! هذا نموذج عن فهم هؤلاء الوضاعين ومقدار إدراكهم الذين ينسبون أباطيلهم إلى أئمة الدين!!
***
[761] وقد كتب مسؤول المجلة في الصفحة الثانية من الرسالة المُلحقة هذه: "في هذه الأيام أثير كلام حول «دعاء الندبة» بين مجتمع المسلمين الشيعة في إيران. وقد ذكر حُجّة الإسلام موسوي وهو من وُعَّاظ مشهد في كُتيِّب نشره أن قراءة دعاء الندبة لا سند له ومخالف لتعاليم دين الإسلام، وقد هاجم عدد من الكُتَّاب في صحف إسلامية مثل «نداي حق» أي نداء الحق و «مكتب اسلام» المؤلف المذكور وحملوا عليه بشدة وشكلوا جبهة ضد من لا يُؤيِّدون دعاء الندبة. فطلب منا عدد كبير من قراء المجلة أن نكتب رأينا ونُبيِّن أيُّ الفريقين على حقّ. وبما أن أكثر قراء المجلة قرؤوا ما كتبه الطرفان، لذلك سنصرف النظر عن نقل الأقوال والمكتوبات ونُدرج رأي حضرة آية الله العلامة البُرقعي الذي ذكره أداءً للتكليف الشرعي بمُحاربة البدع وإزالتها لاسيما البدعة التي تنفي القرآن والذي أرسل إلى مجلتنا ما كتبه في هذا المجال. وفي رأينا إن الحق والحقيقة سيظهران ولا شك أنه لا يُمكن للشك أن يحتفظ بسيطرته على الناس". [762] الكُلَيْنِيّ، أصول الكافي، باب البدع والرأي والمقاييس، الحديث 2، و القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي، دعائم الإسلام، ج 1، ص 2، كلاهما رفع الحديث إلى النبي ص. وفي مصادر أهل السنة رُوِيَ ما هذا المعنى في مسند الفردوس للديلمي وتاريخ دمشق لابن عساكر، كلاهما بسند ضعيف عن معاذ عن النبي ص. (الـمُتَرْجِمُ) [763] إن ادِّعاء حضور الإمام في كل مكان لا يُستفاد حتى من «دعاء الندبة»، بل هناك جمل في هذا الدعاء تخالف هذا الادِّعاء، مثلاً يُخاطب قارئ الدعاء الإمام الذي ينتظر ظهوره قائلاً: «متى ترانا ونراك؟»، فمفهوم هذه الجملة أن الإمام لا يرى أتباعه إلا بعد ظهوره أما في حال الغيبة فلا يراهم ولا يرونه. فكيف يُمكن القول إنه حاضر ناظر في كل مكان؟! [764] لقد تكلمنا بما يكفي في الصفحات السابقة من الكتاب الحاضر عن موضوع «الواسطة» و «الوسيلة» فَلْيُرَاجَعْ ثَمَّةَ. [765] ينبغي أن ننتبه إلى أنه لا يُمكن إثبات شيء بعبارات مثل «لعلَّ» و «ربما» و «يُحتمل» و «من الممكن» (فلا تتغافل). [766] جاء في الصفحة 4 من نشرة «دراسة وتمحيص دعاء الندبة» ما يلي: "لم يروِ ابن طاووس هذا الدعاء عن الإمام أو عن الرسول بل نقله بعض الشيعة مجهولي الحال والعبارة التي جاءت في كتابه هي ما يلي: «ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي قُرَّةَ: نَقَلْتُ مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيِّ «دُعَاء النُّدْبَة» وَذَكَرَ أَنَّهُ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ (ع)». ولم يُبيِّن لنا من هم بعض أصحابه هؤلاء الذين رَوَوْا ذلك الكلام وما هي أسماؤهم؟ وثانياً: اعتبر علماء الرجال «مُحَمَّد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ» شخصاً مجهول الحال. ثالثاً: «مُحَمَّد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ» لم يكن في القرن الرابع ولا في زمن الأئمة حتى يأخذ الدعاء عن الإمام فليس من المعلوم من أين ومِنْ مَنْ أخذ هذا الدعاء، فلم يذكر اسماً لإمام ولا لغير إمام! وقد كتب المرحوم الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في كتابه «هدية الأحباب» (ص 106): "أورد «مُحَمَّد بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ» «دعاء الندبة» في كتابه". رابعاً: قوله إنَّ الدعاء لصاحب الزمان قول مُجرَّد من الدليل فما هو سنده ودليله على ذلك؟ من هذا يَتَـبَيَّنُ أن ابن طاووس -كما نقل عن ذلك المَجْلِسِيّ في البحار (ج 22، ص 262)- لم يُبرز أيّ سند صحيح ولعلَّه أتى بهذا الدعاء عملاً بقاعدة «التسامح في أدلّة السنن» ثم اقتدى به الآخرون واعتمدوا هذا الدعاء، مع أنه لا مجال هنا للعمل بقاعدة «التسامح في أدلّة السنن» لأن هذه القاعدة يُعمَل بها عندما يكون لدينا سند ضعيف مُتصل بالمعصوم فيتمّ تجاهل ضعف السند نظراً إلى أن المتن من السنن والمُستحبَّات. [ولا يخفى أنني لا أُوافق على هذه القاعدة أصلاً كما لاحظتم في الكتاب الحاضر] وهنا ليس لدينا سند أصلاً لا ضعيف ولا غير ضعيف فليس الموضع موضع قاعدة التسامح ......الخ". انتهى كلام السيد علي أحمد الموسوي. [767] ننقل هذه الأمور من مجلة «كيهان فرهنگى» السنة الثانية، شهر فروردين 1364، العدد الأول، الصفحتان 20 و 21. [768] رضوى: اسم جبل قرب المدينة المنورة، و ذي طوى هو الجبل المعروف بسيناء. (الـمُتَرْجِمُ) [769] بحار الأنوار، ج 99، ص 110. (الـمُتَرْجِمُ) [770] قلنا إن عبارات «يُحتمل» و«ربما» و«من الممكن» و .... لا تُثبت أمراً. خاصةً أن متن الدعاء معيب جداً ومن المقطوع به أن الإمام لا يُعلِّم الأمة دعاءً معيباً. [771] للاطِّلاع على كيفية دعاء الافتتاح وحاله من الضروري مراجعة الصفحة 302 فما بعد من الكتاب الحاضر. [772] حول «النصوص المُعتبرة» المُتعلّقة بالمهدي، من الضروري مراجعة التنقيح الثاني لكتاب «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول»، الصفحات 672 إلى 684، و 695 إلى 700 و 846 إلى 861، ومراجعة كتاب راقم هذه السطور المُسمّى «تحقيق علمى در احاديث المهدى» أي تحقيق علمي في أحاديث المهدي. [773] الكلمات التي جاءت بين معقوفتين [ ] شرح من المؤلف البرقعي وليست من كلام الأستاذ البهبودي. (الـمُتَرْجِمُ) [774] من الواضح بالطبع أن نشر وإشاعة الأدعية الموضوعة التي تتضمن أموراً غير صحيحة ومخالفة للتوحيد القرآني لا يُعدُّ بأيّ حال من الأحوال من «الأعمال الصالحة». (فلا تتجاهل) [775] لا يخفى أنه من الضروري أن نُفرِّق بين اتِّباع العقل السليم وبين اتِّباع المدارس الفلسفية الخرافية المُتعددة الشائعة بين ملل الدنيا المختلفة. (فلا تتجاهل) [776] الميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج11، ص380، نقلاً عن الْعَلَّامَةُ الْأَرْدَبِيلِيُّ فِي «حَدِيقَةِ الشِّيعَةِ»، نَقْلًا عَنِ السَّيِّدِ الْمُرْتَضَى بْنِ الدَّاعِي الْحُسَيْنِيِّ الرَّازِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الشَّيْخِ الْمُفِيد. (الـمُتَرْجِمُ) [777] راجعوا الصفحة 457 من الكتاب الحاضر. [778] غَنِـيُّ عن الذِّكْر أننا نعتبر مودَّة أهل بيت رسول الله ص وذوي قرباه واجبةً على كل مسلم، لا استناداً إلى الآية 23 من سورة الشورى المذكورة أعلاه، بل بدليل آيات وأحاديث أخرى، ومنها قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ﴾[التوبة : 71] وآيات عديدة أخرى، ولا ريب أن أهل بيت رسول الله ص وأقرباءه المؤمنين كانوا أفرادا مؤمنين صادقي الإيمان كُمَّلاً وَمِنْ ثَمَّ فإن محبَّتهم و مودَّتهم واجبة على كل مسلم، ولكن هذا الموضوع لا علاقة له ببحثنا المتعلق بسورة مكية هي سورة الشورى، بل علينا الرجوع إلى آيات أخرى بشأن وجوب محبة آل الرسول ص. [779] ونص الآية ﴿قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٦١﴾. (الـمُتَرْجِمُ) [780] أعم من اصطفائهم للرسالة كالأنبياء أو اصطفائهم لمقام معنوي خاص كاصطفاء الله لمريم (ع). [781] تُراجَع الصفحات 427 - 435 من الكتاب الحالي. [782] هذه هفوة أخرى من هفوات المؤلف العلامة البرقعي رحمه الله، لأنه لا علاقة لكون عليٍّ (ع) يُعْرَفِ به الْمُؤْمِنُونَ، بموضوع تكفير أو عدم تكفير عليٍّ لمخالفيه ومحاربيه، نعم عليٌّ (ع) لم يكفِّر مخالفيه، لكن ثبت في صحيح مسلم (حديث رقم 152) عن زرِّ بن حُبَيْش عن عليٍّ (ع) أنه قال: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ص إِلَيَّ: أَنْ لاَ يُحِبَّنِي إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضَنِي إِلاَّ مُنَافِقٌ". ورواه الترمذي في سننه وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ورواه ابن ماجه في سننه (114) والنسائي في السنن الكبرى (8433) وغيرهم أيضاً. ورُوِيَ هذا المعنى أيضاً: "عن أُمِّ سَلَمَةَ تَقُولُ كَانَ رَسُولُ الله ص يَقُولُ «لاَ يُحِبُّ عَلِيًّا مُنَافِقٌ وَلاَ يَبْغَضُهُ مُؤْمِنٌ». رواه الترمذي في سننه وقال وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وأخرجه ابن أبى شيبة في المصنَّف (ج6، ص372، رقم 32114) وابن أبى عاصم في السنَّة (ج2، ص598، رقم 1319)، والطبراني في الكبير، (ج23، ص374، رقم 85)، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (ج6، ص 292). وغيرهم. (الـمُتَرْجِمُ) [783] إن اُدُّعِيَ أن المُراد من (يس) و(طه) رسول الله ص فينبغي أن ننتبه إلى أن هذا الدعاء قال قبل ذلك بوضوح: «أين ابن النبي المُصطفى»؟ فلم يكن بحاجة إلى تلك الجُمَل المعوجَّة! [784] من الضروري في هذا المجال مراجعة كتاب «شاهراه اتِّحاد» [طريق الاتِّحاد] (ص 272) فما بعد. ومراجعة الصفحة 375 فما بعد، من الكتاب الحاضر. [785] أوردنا نصَّ قول حضرة العسكري في الصفحة 466 من الكتاب الحاضر. [786] «مفاتيح الجنان»، الزيارة الثانية من الزيارات الجامعة، ص 545. أو ص677 من النسخة المُعرَّبة. [787] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 671. (الـمُتَرْجِمُ) [788] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 672. (الـمُتَرْجِمُ) [789] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 673. (الـمُتَرْجِمُ)
بعد ذلك خصَّص مؤلف «المفاتيح» فصلاً خاصاً لـ «الزيارات الجامعة»، ذكر فيه خمس زيارات أهمها وأشهرها الزيارة الثانية المعروفة باسم «الزيارة الجامعة الكبيرة». والزيارات الجامعة هي الزيارات التي لا تختص بنبيّ أو بإمام مُعيّن، وعلى حدّ قولهم: يُمكن أن يُزار بها كل إمام من الأئمة عليهم السلام (المفاتيح، ص543)[790].
لقد سعينا طول عمرنا أن نُفهم العوام أن دعاء غير الله على نحو غير مُقيَّد عبادةٌ، وأنه لا تجوز عبادة غير الله، وكرَّرنا بيان هذه المسألة في الكتاب الحاضر مراراً وتكراراً. ولكننا نرى أنه من الضروري قبل نقد «الزيارة الجامعة الكبيرة» أن نُؤكِّد هنا مرَّة أخرى على هذه المسألة المهمة لعلَّ العوام يستيقظون ويُدركون بُطلان نصوص هذه الزيارات التي تُقرأ في آلاف الأمكنة في وقت واحد:
ينبغي أن نعلم أنه من المُحال على غير الله -نبيَّاً كان أم إماماً- أن يكون في مكانين في آن واحد، كما لا يُمكن أن يسمع في آن واحد عدَّة أصوات ونداءات على نحو مستقل أو من أماكن مختلفة في آن واحد، ولا أن يرى جهات مختلفة في وقت واحد، وعلى هذا فقس، لأن جسمه وروحه محدودان ومُقيَّدان. قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩﴾[القمر: ٤٩].فكل مخلوق حتى النبيّ له حدود وقَدْرٌ محدود، والله تعالى وحده صاحب الوجود اللامحدود والمُطلق. فكل محدود لا يستطيع الحضور في أماكن متعددة على نحو غير محدود بل يكون له في الزمان الواحد مكان واحد لا أكثر. وسَمْع المخلوق أيضاً محدود ومُقيَّد، يعني أنه يجب أن يملك آلةً للسمع، وثانياً: قوة السمع لديه محدودة ومُقيَّدة بسلامة آلة السمع وبوجود الصوت في مسافة محدَّدة، فلا يُمكنه أن يسمع الأصوات بصورة غير مُقيَّدة وغير محدودة وغير مشروطة أو يسمع في آن واحد أصوات عديدةً كلاً على حدة، أي يسمع كل صوت مستقلاً عن الصوت الآخر. وإن لم يُرد شخص أن يفهم هذا الأمر العقلي الواضح فإننا نُبيِّن له أقوالاً تُثبت ذلك قالها الأشخاص الذين يدَّعي حُبَّهم واتِّباعهم[791]. يقول حضرة عَلِيٍّ (ع): "اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ ولا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ ....." (نهج البلاغة، الخطبة 46) أي لا أحد سوى الله يُمكنه أن يكون مع المسافر ويكون في الوقت ذاته مع أهله الباقين في بلده. وجاء في البند 99 من دعاء «الجوشن الكبير»: "يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ يَا مَنْ لَا يَمْنَعُهُ فِعْلٌ عَنْ فِعْلٍ يَا مَنْ لَا يُلْهِيهِ 65)[792]. ولذلك فإن حضرة موسى (ع) الذي كان من أُولي العزم من الرسل ومقامه أرفع من مقام غيره من الأنبياء لما سمع صوت انفجار الجبل وَقَعَ مغشياً عليه: ﴿وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقٗا﴾[الاعراف: ١٤٣] لأن سمعه لم يكن سمعاً غير محدود وغير مُقيَّد. ولم تعرف حضرة مريم (ع) -التي يدعوها النصارى في كل وقت وفي كل حال ومكان على نحو غير مُقيَّد- الملاكَ الذي تمثَّل لها بشراً سوياً (مريم: 18) كما لم يكن نبيُّ الله زكريا يعلم من أين أتى رزق حضرة مريم (آل عمران: 37) ولا غروَ فعلمهم لم يكن علماً غير محدود.
بناءً على ذلك فإن النبيّ والأئمة سواءً في زمن حياتهم الدنيوية أم بعد انتقالهم إلى عالَم البقاء، ليسوا في كل مكان، بل ليسوا حتى في مكانين، ولا يسمعون جميع الأصوات ولا يُمكنهم الإصغاء لمن يقولون لهم: «السلام عليك»، كما لم يكونوا كذلك زمن حياتهم الدنيوية، إذْ كانوا إذا كلَّمهم شخصان في وقت واحد ينتبهون إلى كلام أحدهما ويذهب عنهم كلام الآخر، والآن أيضاً بعد أن فقدوا آلة سمع الأصوات الدنيوية وانتقلوا أيضاً من عالَم الفناء إلى عالَم آخر تماماً (عالَم البقاء)، فإنهم لا يسمعون بالطبع أصواتنا ولا يلتفتون إلى هذا العالَم.
هذا الأمر الذي ذكرناه يفهمه كلُّ عاقلٍ مؤمنٍ يقرأ القرآن دون تعصُّب، اللهم إلا إذا كان مُتعصِّباً مُتاجراً بالخرافات أو كان مُتعلِّقاً جداً بعادات آبائه وأجداده وآدابهم.
بعد هذه المُقدِّمة يُعْلَم أن الزيارات الجامعة سواءً كانت كبيرةً أم صغيرةً، بل جميع الزيارات والأدعية المُشابهة لها، لم تأتِ مِنْ قِبَلِ الشارع، بل وضعها أشخاص خرافيون وأشاعوها وروَّجوها بين الناس.
لا تتناسب «الزيارة الجامعة الكبيرة» التي تبتدئ بالمدائح والتمجيد والغُلُوِّ والتملُّق مع السيرة المتواضعة للأئمة. هل من الممكن للإمام عَلِيّ النقيّ الهادي (ع) الذي كان «يجلس في منزله على الحصى ويذكر الله وينشغل بمُناجاة ربِّه»[793]، وكان مثالاً للتقوى والتواضع أن يقول للناس: اقرؤوا صفحات عديدة أمام قبري وقبور آبائي تطفح بالغُلُوِّ والبُعد عن الحقيقة والتملُّق؟ هل من يدعو إلى ذلك يكون إماماً مُوحِّداً زاهداً أم مُتكبِّراً طالباً للجاه؟!
إن إمامنا متواضع زاهد وكان يلفت انتباه الناس دائماً نحو الله ويشدهم إليه لا إلى نفسه، ولم يكن مُتكبِّراً ولا مُعْجَبَاً بنفسه حتى يُثني على نفسه في صفحات عديدة ويُمجِّدها ويطلب من الناس أن يدعوه بتلك الصفات العليا -بل بالصفات الخاصة بالله- كي يرضى عنهم!! (فَتَأَمَّل).
في هذه الزيارة تمَّ وصف الأئمة -تقليداً للأدعية الموضوعة الأخرى- بوصف «صفوة المُرسلين» ولا يُعْلَم أيُّ نبيّ، وبناءً على أيّ دليلٍ ومستندٍ، اصطفى أولئك الأجلاء الكرام للإمامة!
وجاء في هذه الزيارة وصف الأئمة بأنهم: "عِبَاده الْمُكْرَمِونَ الَّذِينَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون" أي جُعل الأئمّة مصداقاً للآية 27 من سورة الأنبياء، مع أن الآية تتعلقّ بالملائكة لا بالبشر، كما تدل على ذلك أيضاً الآيات التي جاءت قبل تلك الآية وبعدها، وقد اعتبر عَلِيٌّ (ع) الآية المذكورة خاصة بالملائكة (نهج البلاغة، الخطبة 91).
وجاء في هذه الزيارة: "بِكُمْ فَتَحَ اللهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ (اللهُ) وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ..... ". من المفيد بشأن هذا الغُلُوّ مراجعة «عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول» (الباب 33، الحديث الثالث، الصفحات من 284 حتى 287).
إن «الزيارة الجامعة الكبيرة» تتضمَّن إشكالات عديدة، وبما أننا درسنا هذه الزيارة ونقدناها سنداً ومتناً في كتاب «زيارت و زيارتنامه» [زيارت المزارات وأدعية الزيارات] (ص 97 حتى 101 و 350 حتى 356) فلا نُكرِّر ذلك هنا ونُحيل القارئ المحترم إلى الكتاب المذكور.
وتكلَّمنا فيما سبق في هذا الكتاب الحاضر (ص 347) عن الزيارة الجامعة الثالثة فلا داعي لتكرار الكلام عليها هنا.
ثم أورد الشيخ عبَّاس تحت عنوان: "المقام الثاني: فيما يُدعى به عقيب زيارات الأئمَّة عليهم السلام" (ص 554 و 555 من المفاتيح)[794] أدعيةً لا تنسجم مع القرآن ولا مع العقل، إذ يقول فيها: "يَا وَلِيَّ اللهِ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ذُنُوباً لَا يَأْتِي عَلَيْهَا إِلَّا رِضَاك "!! وعلينا أن نقول لقارئ هذا الدعاء: أيُّها الجاهل الذي لا علم له بالقرآن، بدلاً من أن تذهب إلى قبر الإمام وتتملَّق له وتقول الأكاذيب، اذهب وتُب إلى الله، فإن الله تعالى أمر في القرآن المُذنبين بالتوبة، فأين تجد في كتابه أنه قال إن عبادي الصالحين يُمكنهم أن يُنقذوكم من عواقب ذنوبكم ويُعْفُوكم من مسؤوليَّتكم عمَّا اقترفتموه؟! إن التكلم مع الأموات عند قبورهم وسؤالهم والطلب منهم بدعة ولو اطَّلع الإمام على عملك هذا لتبرأ منك. إن الإمام الذي رحل إلى عالَم البقاء لا علم له بما تفعله وحتى لو كان حياً في هذه الدنيا الفانية وسمع كلامك لم يكن مُكلَّفاً أن يُصغي إلى أوهامك. لماذا ترجع إلى غير الله في طلب الغفران مع أن الله أرحم الراحمين؟! إن مقام العبادة ليس كسائر الأفعال في هذه الدنيا حتى يحتاج إلى واسطة! ولا حاجة لك إلى وُسطاء مع الله الحاضر في كل مكان والناظر لكل شيء.
المقام الثالث من فصل «الزيارات الجامعة» يتعلّق بـ «الصلوات على الحُجج الطاهرة (ع)» المروية عن «أبي المُفضَّل الشيباني» الذي ضعَّفه علماء الرجال والذي عرَّف به الأستاذ «محمد باقر البهبودي» تحت رقم 121 في كتابه «معرفة الحديث» (ص 209 إلى 212) بشكل وافٍ. هذا الراوي الذي لا اعتبار لحديثه ينقل عن «أبي محمد عبد الله بن محمد العابد» المُهمل والمجهول!! الآن احكم أيُّها القارئ بنفسك على مدى وثاقة مرويَّات هذا الفصل!
[790] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 676. (الـمُتَرْجِمُ) [791] تُراجع الصفحة 414 من الكتاب الحاضر. [792] تُراجع الصفحة 414 من الكتاب الحاضر. [793] داستان راستان [قصص الصادقين]، مرتضى مطهري، ص 77، نقلاً عن «بحار الأنوار». [794] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 700. (الـمُتَرْجِمُ)
يقول مؤلف المفاتيح في الصفحة 561[795] تحت عنوان هذا الفصل: "... اعلم أن تكريم الأنبياء (ع) وتعظيمهم واجب عقلاً وشرعاً لا نُفرّق بين أحد من رسله، وزيارتهم راجحة مستحسنة والعلماء قد صرّحوا باستحباب زيارتهم........ [إلى قوله]: فلم أظفر بزيارة مأثورة تخصّهم عدا ما سلف في باب زيارة أمير المؤمنين (ع) من زيارة آدم ونوح (عليهما السلام)".
ثم سعى أن يخترع لهم زيارات. ولكن نحمد الله أنه لم يظفر بزيارات لهم وإلا لو أراد أن يضع لكل واحد من المئة وعشرين ألف نبيّ، وللأئمة وأحفادهم زيارات لكان عليه أن يبني من شرق العالَم إلى غربه قباب وأضرحة وأفنية ومنارات... لهم.
76ورغم أن الشيخ عبَّاس نفسه قال[796]:
"يُرْوَى عن المرحوم الفقيه الزاهد الورع الحاج المُلَّا محمد إبراهيم الكلباسي - طاب ثراه - نقلاً عما جاء في (شفاء الصدور) من أن أحد أفاضل أهل المنبر قال في محضره، في ذيل قصَّةٍ يرويها: إن الحسين (عليه السلام) قال: "يا زينب! يا زينب!"؛ فإذا بهذا الفقيه الورع يردّ عليه - بلا محاباة - وعلى مشهد من الملأ، وبصوت مرتفع، ويقول: فضَّ الله فاك! فالإمام لم يَقُلْ: يا زينب! مرَّتين، بل قالها مرَّةً واحدة!! فعلى السلالة الجليلة من أهل المنبر أن يراقبوا أحوالهم في هذا الصدد، وأن يتبصَّروا بمفاسد الكذب بعامَّة، فيتركوا المطالب الكاذبة والمرويات الموضوعة، بل يمتنعوا عن نقل كل ما رأوه أو سمعوه، ويقتصروا على الأمور التي يكون ناقلها موثوقاً"[797].
وكتب أيضاً يقول:
"... حتى بِتْنَا نسمع في مجامع علماء المذهب أكاذيب صريحة تُذْكَر، والنهي عن هذا المنكر غير مُتَيسِّر، وأضحى جماعةٌ من ذاكري المصائب لا يتورَّعون عن اختراع وقائع مبكية، وكَثُرَ اختراع الأقوال منهم، واعتبروا أنفسهم ممن يشملهم الحديث "مَنْ أَبْكَى فَلَهُ الْجَنَّة"، وشاع هذا الكلام الكاذب مع الأيام حتى صار يظهر في مؤلفات جديدة، وإذا حاول مُحدِّثٌ مُطَّلعٌ أمينٌ مَنْعَ هذه الأكاذيب، نسبوها إلى كتاب مطبوع أو كلام مسموع، أو تمسَّكوا بقاعدة «التسامح في أدلة السنن»، وتوسَّلوا منقولات ضعيفة توجب اللوم والتوبيخ من الملل الأخرى، كجملة الوقائع المعروفة التي ضبطت في الكتب الجديدة، في حين أنه لا عين ولا أثر لهذه الوقائع عند أهل العلم والحديث، كعرس القاسم في كربلاء الذي نقل في كتاب (روضة الشهداء) من تأليف الفاضل الكاشفي، وقام الشيخ الطريحي[798] - وهو من أجلة العلماء والمعتمدين - بنقله عنه، ولكن في كتاب (المُنْتَخَب) أموراً كثيرةً جرى التساهل والتسامح بها، وهي لا تخفى على أهل البصيرة والاطِّلاع...." [799] (انتهى كلام الشيخ عبَّاس في منتهى الآمال)
ولكن مع الأسف لم يعمل الشيخ عبَّاس نفسه بهذه التوصيات ونقل روايةً حول زيارة حضرة المعصومة عن «علي بن إبراهيم» الذي رُويت عنه كثير من الخرافات في كتاب «الكافي» وعن «العَمْرَكي» معلول الرواية أيضاً مضمونها: "مَنْ زَارَهَا عَارِفاً بِحَقِّهَا فَلَهُ الْجَنَّة "!![800]
وينبغي أن نقول: إذا كانت زيارة رسول الله ص وحضرة عَلِيٍّ (ع) زمن حياتهما الدنيوية لا توجب لزائرهما الجنة فكيف توجب زيارة قبر أحد أحفادهما دخول الجنة؟!! لو التقى شخص بحضرة موسى بن جعفر (ع) زمن حياته هل كانت تجب له الجنة بذلك؟ بالطبع لا. إن الوضَّاعين والكذَّابين يَغُرُّون الناس ويُضيفون من عند أنفسهم ما شاؤوا إلى دين الله.
أذكر أنني عندما كنتُ في قم، لو دار شخصٌ المدينةَ فجراً لرأى كثيراً من المساجد مُغْلَقَةً، ولكنه إذا نظر إلى صحن حضرة المعصومة ومقبرتها لرآه يغصُّ بالناس. كيف ابتعد المسلمون عن التوحيد واغترُّوا بالخرافات وانطبق عليهم ما قاله تعالى بشأن أهل الكتاب: ﴿وَغَرَّهُمۡ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٢٤﴾[ال عمران: ٢٤]؟!
لاحظوا أنه رغم وجود هذه الأحاديث الواهية التي لا اعتبار لها ازدادت في قم القباب والمنارات والموقوفات والدكاكين إلى حدّ لا يعلمه إلا الله. كل سنة يتمّ رمي ملايين التومانات في الأضرحة. في زمن [الشاه محمد رضا] بهلوي جاء شخصان من الأغنياء إلى مرقد حضرة المعصومة واشتروا قبرين كل قبر بستمئة ألف تومان!! ولا يعلم إلا اللهُ كم يُقدَّم من الأموال لشراء مثل هذه القبور، وكم من النذور وقطع السجاد والثريات تُهدى كل سنة لمرقد حضرة المعصومة وسائر الأئمة ثم تُباع قطع السجاد القديمة والثريات في المزاد العلني، ولا يعلمُ إلا الله المبالغ التي تُستحصل من بيعها؟!!
ولقد لفّقوا أيضاً أموراً لأجل حضرة عبد العظيم لأجل أن ينتفعوا منها، فمثلاً في الصفحة 565 نقل الشيخ عبَّاس القُمِّيّ عن فرد مجهول قوله:
"... رأى رجل من الشّيعة في المنام رسول الله ص قال له: إنّ رجلاً من ولدي يحمل من سكة الموالي ويدفن عند شجرة التّفاح في باغ (بستان) عبد الجبّار بن عبد الوهّاب وأشار إلى المكان الّذي دفن فيه، فذهب الرّجل ليشتري الشّجرة ومكانها من صاحبها، فقال له: لأي شيء تطلب الشّجرة ومكانها؟ فأخبره بالرّؤيا، فذكر صاحب الشّجرة أنّه كان رأى مثل هذه الرؤيا وأنّه جعل موضع الشّجرة مع جميع الباغ (البستان) وقفاً على الشّريف والشّيعة يدفنون فيه..."[801].
ورووا روايةً أخرى عن فرد مجهول أيضاً ادّعى أن حضرة الهادي قال إن زيارة عبد العظيم مثل زيارة الإمام الحسين عليه السلام!!
لاحظوا كيف اعتبروا ادّعاء فرد مجهول ورؤيا فرد مجهول دليلاً على فضيلة عملٍ ما، وقد امتلأت مدينة ري من المنارات والقبة والضريح ببركة هذه الرؤيا الدسمة(!) وأخذ الناس يهدون ملايين التومانات نذوراً وموقوفات لذلك الضريح، وأصبح ذلك مصدر رزقٍ ممتازٍ لفريقٍ من العاطلين عن العمل من سدنة ذلك المقام. وعلى كل حال فإن عوام الناس يُفتَنون دائماً وينجذبون إلى القباب الذهبية والأضرحة الفضية المليئة بالمرايا و.....!!
***
نكتفي بهذا المقدار من دراسة ونقد كتاب «مفاتيح الجنان»، ونذكّر أن لكتاب «المفاتيح» ملحقات[802] أكثر خرافيةً من متنه وأسوأ منه، وفي نظرنا يستطيع القارئ المحترم، بعد قراءته هذا الكتاب الحاضر، أن يميّز بنفسه وثاقة أو عدم وثاقة سائر موضوعات كتاب المفاتيح.
ولكنني أرى من الضروري أن أُطلِع القرّاء على بعض الأمور بشأن «حديث الكساء» المُدْرَج في آخر كتاب «المفاتيح».
[795] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 708. (الـمُتَرْجِمُ) [796] قال ذلك في آخر الجزء الأول من كتابه «منتهى الآمال» تحت عنوان «في ذم الرياء والكذب في المآتم ومفاسد الكذب». (الـمُتَرْجِمُ) [797] منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل، تعريب الأستاذ نادر التقي، بيروت، الدار الإسلامية، 1994م/1414هـ ق، ج1، ص 663. (الـمُتَرْجِمُ) [798] الطريحي: هو الشيخ فخر الدين بن محمد علي بن أحمد الطريحي، النجفي (979 - 1085هـ = 1571 - 1674 م) فقيه وأصولي ومحدِّث ومؤرِّخ ولغويّ ومفسِّر، من الإمامية، ولد بالنجف، وتوفي بالرماحية. وترك عدداً من المؤلفات منها: «مجمع البحرين ومطلع النيرين» في تفسير غريب القرآن والحديث، و«المنتخب في جمع المراثي والخطب». (الـمُتَرْجِمُ) [799] المصدر السابق نفسه، ج1، ص 667، وفي النسخة الفارسية الأصلية لمنتهى الآمال، كتابفروشى اسلامية، ج 1، ص 479 و 473. [800] وكتب في الصفحة 566 من المفاتيح حول زيارة عبد العظيم: "من زار قبره وجبت له الجنة". [801] «مفاتيح الجنان» (النسخة المُعرَّبة)، ص 711 تحت عنوان «زيارة الشاه عبد العظيم الحسني (ع)». (الـمُتَرْجِمُ) [802] حول ملحقات المفاتيح راجعوا التوضيحات التي ذكرناها في الصفحة 42 من الكتاب الحاضر.
قال الشيخ عبَّاس القُمِّيّ في بداية هذا الحديث الذي ذُكِر دون بيان رجال سنده: "عن كتاب «العوالِم» بسند مُعْتَبَر[803] عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن حضرة فاطمة (ع)".
وهذا الادّعاء كذب ولم يُرَ أي سند لهذا الحديث. ولو كان سند هذا الحديث «صحيحاً» أو على الأقل «حسناً» لما توانَوا قطعاً عن ذكر سنده، كي يزيدوا من اعتباره وأهميته.
والأهم من ذلك اعتراف الشيخ عباس القمي نفسه الذي قال:
"وأما الحديث المعروف بحديث الكساء الشائع في زماننا بهذه الصورة، فليس له أثر في الكتب المعتبرة وأصول الحديث ومجامع المحدِّثين المتقنة ويمكن القول إنه مما اختصَّ به كتاب «المُنْتَخَب»"[804].
كما يُلاحَظ، فإن الشيخ عبَّاس القُمِّيّ الذي يعتمد على كثير من الأخبار غير المُوَثَّقة والكتب غير المُعْتَبَرة يصرِّح هنا أن مثل هذا الحديث لا يوجد في كتب المتقدمين. وكما رأينا في الصفحات السابقة فهو ليس حسن الظنّ بروايات «الطُّرَيْحي» ويعتبره مُتسامحاً[805].
علاوة على ذلك فإن «فخر الدين الطُّرَيْحي» كان يعيش في القرن العاشر وبينه وبين جابر بن عبد الله ألف سنة، فكيف روى عنه هذا الحديث الذي لم يكن المحدِّثون قبله يعرفونه. أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
وإذا رجعنا إلى كتابَي «غاية المرام» و«تفسير البرهان» للسيد هاشم البحراني للاحظنا أن البحراني جمع كل خبر يتعلق بمسألة الكساء، ورغم ذلك لا نجد في رواياته ما يشبه حديث «الطُّرَيْحي» هذا، فمثلاً تقول الأحاديث إن حضرة الزهراء (ع) جاءت إلى بيت النبي، أما هذا الحديث فعلى العكس من ذلك يقول إن النبي ص هو الذي جاء إلى بيت فاطمة (ع)!! وأكثر الأحاديث اعتبرت الكساء خيبرياً أما هذا حديث «الطُّرَيْحي» فاعتبره يمانياً، ثم إن هذا الحديث يقول إن النبي كسى نفسه بالكساء على نحو كان كل من يدخل فيه لا يرى النبي ص بل كان يُدرِك حضور النبي تحت الكساء بواسطة رائحة جسمه, ويطلب الحضور تحت الكساء، في حين أن الأحاديث الأخرى تقول إن النبي كان يدعوهم إلى الانضواء تحت الكساء.
في أواسط هذا الحديث تُنْقَلُ أمورٌ عن الله وجبريل دون واسطة النبي ص، فنسأل: وهل كان يوحَى لأحد غير النبي ص؟! وهل يستطيع أحد أن يخبرنا عن أحوال الملكوت سوى النبيص؟! أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟!
في هذا الحديث يقسم الله ويقول: "وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنِّي مَا خَلَقْتُ سَمَاءً مبنيّةً ولا أرضاً مدحيّةً، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئةً، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري، ولا فُلْكاً تسري، إلّا لأجلكم ومحبّتكم، هؤلاء الخمسة الذين تحت الكساء ... الخ".
وهذا الكلام مخالف لآيات القرآن التي تقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ... ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٢ ﴾ [البقرة: ٢١، ٢٢]ولقوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾[البقرة: ٢٩]، وقوله سبحانه: ﴿سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾[لقمان: ٢٠]، وقال تعالى في سورة إبراهيم:﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ ٣٤﴾[ابراهيم: ٣٢- ٣٤].
وعلى كل حال فلم يستثنِ الله أحداً ولم يختص عالم الخليقة بشخص أو يخلقه لأجل شخص، لكن واضعي الأحاديث الجاهلين بالقرآن الذين لا علم لهم بالقيامة يقولون إن الله خلق السماوات والأرض والأفلاك و..... لأجل خمسة أشخاص. نعوذ بالله من الخسران ومن الكذب على الله السبحان.
إن هذا الحديث يتضمّن بالطبع إشكالات أخرى أيضاً مثل دخول جبريل تحت الكساء و..... ولكننا نكتفي بهذا المقدار من نقده.
إن الخرافات والأوهام كثيرة بين الناس عندنا ولا أملك في هذه الأيام القدرة على التفصيل في هذا الأمر أكثر من ذلك، وفي نظري ما ذكرتُهُ يكفي لتنبّه أصحاب التفكير السوي من الناس وأتباع القرآن ويقظتهم.
أسأل الله تعالى أن ينقذ الناس لدينا من شر المُتَكَسِّبِين بالدين وتجار الخرافات ويعيننا ويحفظنا من شرِّ أهل الدنيا والخرافيين. آمِين يَا رَبَّ الْعَالَمِين. وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، وَمَا أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيم.
خادم الشريعة المطهَّرة: سيد أبو الفضل ابن الرضا (البرقعي)
[803] جاء في بعض النسخ كلمة «صحيح» بدلاً من كلمة «مُعْتَبَر». [804] عباس القمي، منتهى الآمال، كتاب فروشى اسلاميه، (بخط الحاج الميرزا حسن الهريسي الأرونقي) ج1، ص445. [805] راجعوا الصفحة 488 من الكتاب الحالي. وقد أعرب الشيخ عبَّاس القُمِّيّ مرة أخرى على عدم ثقته بمؤلفات «الطُّرَيْحي» على النحو التالي: "لم يرد ذكر للمحامل وللهوادج في غير خبر مسلم الجصَّاص، ومع أن العلامة المَجْلِسِيّ قد نقل هذا الخبر فإن مصدره (المُنْتَخَب) للطريحي، وكتاب (نور العين)، وحال الكتابين لا تخفى على أهل فن الحديث..."." (منتهى الآمال، ج1، ص409). [أقول: وهو في النسخة المترجمة إلى العربية لمنتهى الآمال في: ج2، ص 569، ضمن فصل: «ورود أهل البيت الكوفة». (الـمُتَرْجِمُ)].