مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م
المجلد الخامس
أحكام الأضحية و رسائل أخرى(1) الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الـميت على الأضحية عنه
تذاكُرٌ جرى مع بعض الـمشايخ الكرام في شأن أضحية النبي عن أمته -عليه الصلاة والسلام- استظهر بعضهم من فعل هذه الأضحية مشروعية الأضحية عن الـموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة ولم ينقل عن أحد من الصحابة القول به، ولا العمل بموجبه لوجوه عديدة:
أن الأضحية إنما شرعت في حق الحيّ، فأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧﴾ [الصافات: 107]. وهي أضحية أمر أن يذبحها يوم عيد النحر. ثم سنها رسول الله ﷺ في أمته تشريفًا لعيد الأضحى الذي سمي باسمها، وشكرًا لله على بلوغه، وإدخالاً للسرور على الأهل والعيال فيه، ولتكون أعياد الـمسلمين عالية على أعياد الـمشركين وما يقربونه لآلهتهم من القرابين. ولهذا كان النبي ﷺ يقسّم الأضاحي بين أصحابه، لإدخال السرور والفرح عليهم وتعميم العمل بمشروعية الأضحية، كما أنه كان يذبح أضاحيه بمُصلى العيد، إشهارًا لشرف هذه الشعيرة ومكانها من الشريعة، كما أمروا بصلاة العيد، وأنزل الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الکوثر: 2]، فالذين أمروا بصلاة العيد هم الـمأمورون بنحر الأضاحي وهم الأحياء ولا علاقة لها بالأموات البتة.
وأما أضحية النبي ﷺ بالكبش عنه وعن أمته، فإن الله سبحانه قد أثبت لنبيه الولاية التامة العامة على كافة أمته، وهي ولاية أحق وأخص من ولاية الرجل على عياله وأهل بيته ونفسه، فقال تعالى: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ﴾ [الأحزاب: 6]. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»([1])، فمن ولايته أضحيته عن أمته كما يضحي أحدنا عن عياله وأهل بيته، بل أحق.
وقد ذكر الفقهاء سقوط وجوب الأضحية عن كافة الناس بأضحية النبي عنهم، وبقي الاستحباب في حق كل من قدر عليها، وهذه الأضحية وقعت من النبي ﷺ بطريق الأصالة، وإنما أشرك جميع أمته في ثوابها ولا يمكن أن يقال: إن النبي ضحى بالكبش عنه وعن أمته ليفهم منه مشروعية الأضحية عن الـموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة، ولم ينقل عن الصحابة القول به ولا العمل بموجبه.
[1] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.
أنه توفي عدد من أقارب النبي ﷺ في حياته، فتوفي ابنه إبراهيم وتوفيت ثلاث من بناته وتوفيت زوجته خديجة، التي هي أحب النساء إليه، وكان يكثر من ذكرها ويهدي اللحم إلى صديقاتها، ومع هذا كله لم يضح عنها ولا عن أحد من أبنائه وبناته، ولو كانت الأضحية عن الـميت من شرعه، لما بخل بها عن أحبابه وأقاربه ولفعلها ولو مرة واحدة، مع العلم أنه متصف بالجود والكرم، فكان يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بسنة الأضحية.
أن الصحابة هم الذين حفظوا سنة رسول الله ﷺ وبلغوها إلى الناس، ولم يحفظ عن أحد منهم أنه ضحى عن ميِّته ولا أوصى أن يضحى عنه بعد موته، ولا وقف وقفًا له في أضحية وهم أحرص الناس على اتباع السنة وأبعدهم عن البدعة، فلو كانت الأضحية عن الـميت سنة أو أن فيها فضيلة، أو أن نفعها يصل إلى موتاهم، لكانوا أحق بالسبق إليها ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. أفيقال: إنها سنة فجهلوها، أو إنهم علموها فأهملوا العمل بها؟ كل هذا لا يمكن نسبته إليهم.
أن جميع الصحابة الذين سألوا رسول الله ﷺ عن أفضل ما يفعلونه لموتاهم، إنما أرشدهم النبي ﷺ إلى الدعاء والصدقة وصلة الأقارب وقضاء الواجبات من حج ونذر، فهذا سعد بن عبادة، قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ فقال: «نعم، تصدق عن أمك»([2]). ولم يقل ضح عن أمك، وهذا أبو طلحة، وضع بيرحاء بين يدي رسول الله وقال: ضعها حيث أراك الله. فقال: «بخ مال رابح أرى أن تجعلها في أقاربك»([3]). ولم يأمره أن يجعل فيها أضحية تذبح عنه بعد موته، كما يفعله بعض الناس، وهذا عمر بن الخطاب استشار رسول الله في مصرف وقفه الذي هو أنفس مال عنده، فأشار عليه رسول الله بأن يحبس أصلها ويتصدق بثمرها، فتصدق بها عمر على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، ولم يجعل له فيها أضحية، ولو كانت مشروعة أو أنها أفضل من الصدقة لأرشده النبي إليها، ولما ساغ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينساها لنفسه وهو أحرص الناس على إيصال النفع له بعد موته.
فالصدقة عن الـميت وخاصة من الأولاد عن والديهم هي أفضل من ذبح الأضحية، لكون الصدقة قد أجمع العلماء على فضلها ووصول نفعها لاسيما إذا خرجت من الـمتصدق في عشر ذي الحجة التي العمل فيها أفضل من غيرها، وتصادف من الفقير موضع حاجة وشدة وفاقة، لـما يتطلبه العيد من الكسوة والنفقة له ولعياله.
[2] متفق عليه من حديث عائشة. [3] متفق عليه من حديث أنس بن مالك.
أن القائلين بمشروعية الأضحية عن الـميت أخذًا من مفهوم أضحية النبي ﷺ عنه وعن أمته، أنه فهم غير صحيح ولا مطابق للواقع، فإن هذه الأضحية وقعت من النبي ﷺ بطريق الأصالة، وقد أشرك جميع أمته في ثوابها ولم يخص بذلك الأموات دون الأحياء، وهذه لا يقاس عليها لاعتبارها من خصائصه، فإن هذه الأضحية دخل في ثوابها الأحياء الـموجودون من أمته وقت حياته، كما دخل فيها الـمعدومون ممن سيوجد من أمته إلى يوم القيامة، وهذا الفعل بهذه الصفة لا ينطبق على أضحية غيره، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يضحى عن الـمعدوم كمن سيولد له حتى ولا الحمل في البطن لا يضحى عنه، ولا يضحى عن حيّ ليس من أهل بيته بغير إذنه، فدلت على الاختصاص به وعدم التشريع بها والحالة هذه.
إذ لو كانت للتشريع كما يقولون لاستحب لكل مقتدر أن يضحي عن أمة محمد الـموجودين والـمعدومين كما فعل رسول الله ﷺ، إذ هذا محض الأسوة به، ولم يقل بذلك أحد من العلماء فسقط الاستدلال بموجبه.
أن أهل الـمعرفة بالحديث متفقون على أنه لا يوجد في الأضحية عن الـميت حديث صحيح ولا حسن يدل دلالة صريحة على الأمر بها، فضلاً عن أن يكون فيها أخبار متواترة أو مستفيضة، فمتى كان الأمر بهذه الصفة امتنع حينئذ التصديق بكون النبي ﷺ أوصى بها وشرعها لأمته، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة ولا التابعين، مع تكرار السنين وحرصهم عل محبة الرسول واتباع سنته وتنفيذ أوامره، والعادة تقتضي نقل ذلك لو وقع منهم، إذ هي من الأمور الظاهرة التعبدية التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وتبليغها، لكونهم أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، فمتى كان الأمر كذلك علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة ولا مرغب فيها، لأن عدم فعلها يعتبر من الإجماع السابق زمن الصحابة واعتبار حكم الإجماع في محل النزاع حجة.
أن قدماء فقهاء الحنابلة من لدن القرن الثاني الذي فيه الإمام أحمد إلى القرن الثامن الذي فيه شيخ الإسلام، لم يحفظ عن أحد منهم ولم نجد في شيء من كتبهم القـول بمشروعيـة الأضحيـة عن الـميت إلى أن نسب إلى شيـخ الإسلام ابن تيميـة -رحمه الله- القول باستحبابها، ثم أخذها صاحبا الإقناع والـمنتهى فأدخلاها على الـمذهب في القرن الحادي عشر، حيث قالا: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وفي الإقناع: وذبحها ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها.
وقد علمنا أن قولهما في استحباب الأضحية عن الـميت أنه قد طبع وانتشر واشتهر وحفلت به الجماهير والخلق الكثير ورسخت حقيقته في ذهن الصغير والكبير إلى حالة أنهم صاروا يضحون لموتاهم وينسون أنفسهم على نسبة عكسية من مشروعية الأضحية. وليس كل ما يكتبه الفقيه أو يفتي به يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن الفقيه قد يقول القول الـمرجوح الذي يعجزه أن يقيم الحجة على صحته فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وهو غير صحيح في نفس الأمر والواقع، وقد ذكر حمد بن ناصر بن معمر من مشايخ الدعوة أن سبب منشأ القول بمشروعية الأضحية أن الفقهاء لمّا سمعوا بحديث حنش الصنعاني عن علي أن رسول الله أوصاه أن يضحي عنه فظنوه صحيحًا وبنوا على ظنهم جواز العمل به.
مذاهب الأئمة الثلاثة، وهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، كلهم متفقون على عدم استحباب الأضحية عن الـميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وقد ذكرنا أقوالهم في الرسالة معزوة إلى كتبهم، ولهذا تجد الأضحية عن الـميت على سبيل الانفراد غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي يحكم أهلها بمذاهب الأئمة الأربعة، كالشام، ومصر، والعراق وفارس، واليمن، حتى باعتراف العلماء الـموجودين على قيد الحياة، فلا تذكر الأضحية عن الـميت لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم، لاعتقادهم عدم مشروعيتها، فكيف يقال بتفضيل ما اتفق الأئمة الثلاثة على عدم مشروعيته على فعل الصدقة عن الـميت الـمنصوص على فضلها، والـمجمع على وصول نفعها وخاصة من الأولاد لوالديهم؟!
أن الصحابة والتابعين لم ينقل عنهم فعل الأضحية عن موتاهم، فقد علمنا ذلك بعدم نقله عنهم وهذه أسفار السنة على كثرتها منشورة بين الناس، وهي لا تثبت عن أحد منهم فعلها لا في سبيل تبرعاتهم ولا أوقافهم ولا وصاياهم، ومن الـمعلوم أن الأمور الوجودية الصادرة من مثل الصحابة يتناقلها الناس من بعضهم إلى بعض حتى تشتهر وتنتشر كما نقلوا سائر السنن من الواجبات والـمستحبات. أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها كالأضحية عن الـميت ونحوها، فإن الناس لا ينقلونها إلا عندما يحتاجون إلى ردها وبيان الهدى من الضلال فيها، فلو نقل ناقل أن أصحاب رسول الله كانوا يضحُّون لرسول الله أو يحجون له أو يقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إليه، لحكمنا بكذبه لعدم نقله، ولو فُتح هذا الباب لاحتج كل واحد لبدعته بما يؤكدها من عدم ثبوت إنكارها فتفشو البدع ويفسد الدين.
أن كل من تدبر النصوص الدينية من الكتاب والسنة وعمل الصحابة، فإنه يتبين له بطريق جلية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، شكرًا لله على بلوغه واتباعًا للسنة في إراقة الدم فيه لله رب العالـمين، أشبه مشروعية صدقة الفطر عند عيد الفطر، لإغناء الطوّافين من الفقراء والـمساكن، فلو قال قائل بمشروعية صدقة الفطر عن الأموات لعده العلماء مبتدعًا، لعدم ما يدل على مشروعية ذلك وهذا هو عين ما فهمه الصحابة من حكمة الأضحية، فكيف يمكن أن يقال بعد هذا: إن النبي ﷺ ضحى بالشاة عن نفسه وعن أمته؛ ليفهم عنه جواز الأضحية عن الـموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة، ولم ينقل عن علماء الصحابة القول به ولا العمل بموجبه، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله.
ولا عجب من كون جهلة العوام يستغربون القول بهذا فتنفر منه نفوسهم، ولم تطمئن إليه قلوبهم؛ لعدم اعتيادهم لسماعه فضلاً عن العمل به؛ ولأن من تربى على مذهب وتعود على العمل به في بلده، واعتقد صحته، فإن من طبيعته استنكار العمل بمخالفته لاعتقاده أنه خروج عن دين الله أو عن طاعة الله ورسوله، والعامي: مشتق من العمى، وهم أتباع القادة من العلماء.
ولهذا السبب أحببت توطيد ثبات ما قلت من عدم مشروعية الأضحية عن الـميت بما يكون كالـمؤنس له والـمؤذن بقبوله من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة ومذاهب الأئمة الأربعة، احترازًا مما قد يسبق إليه الوهم ويسوء فيه الفهم من دعوى الشذوذ بالقول به أو عدم سبق العلم بموجبه، وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والله أعلم.
أيها القراء الكرام، إن هذه الرسالة الوجيزة لن يظهر للقارئ حقيقة صحتها ولا رجحان مصلحتها، إلا بعد استكمال دراستها، ثم عرضها على محك التمحيص وميزان التصحيح من نصوص الأصول وأمهات الفروع كلها من كتب الـمذاهب، ليتبين بذلك جلية أمرها ورجحان مصلحتها ومن ادعى خلاف ما قلنا فيها، فإنه مطالب بالدليل والـمُؤْمن لدى الحق أسير، إذ ليس كل ناقل خبير ولا كل ناقد بصير، سوى الله الذي لا معقب لحكمه، نعم الـمولى ونعم النصير.
* * *
الحمد لله رب العالـمين وبه نستعين ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد:
فإن كل من تأمل التواريخ الإسلامية وغير الإسلامية، يتبين له بطريق الوضوح والجلية أن سائر الأمم على اختلاف أطوارهم وأوطانهم وتباين مذاهبهم وأديانهم، كل أمة لها أعياد زمانية ومكانية يقدسونها ويقرّبون القرابين لمعبوداتهم فيها.
والأعياد على الإطلاق، إما أن تكون شرعية، وإما أن تكون بدعية، كما أن القرابين، إما أن تكون دينية، وإما أن تكون شركية، يقول الله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ﴾ [الحج: 34]. قال ابن عباس: لكل أمة جعلنا منسكًا، أي عيدًا. وقال عكرمة: أي ذبحًا. والـمعنى متقارب، يخبر سبحانه بأن الأعياد وذبح القرابين فيها لا يزال مشروعًا في سائر الأمم والـملل، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا»([4]). وقوله: ﴿لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ﴾ أي عند ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فمنهم من يذكر اسم الله عند الذبح، ومنهم من يذكر اسم الطواغيت والأصنام.
فلليهود أعياد يعظمونها ويقرّبون القرابين فيها، وللنصارى أعياد يعظمونها، أشهرها: عيد الـميلاد وعيد الفصح، يظهرون فيها الفرح والسرور والـمنكر والزور، وللعجم أعياد مشهورة كعيد الـمهرجان والنيروز، وكل هذه الأعياد تشتمل على الشرك والـمنكر والزور وفنون من البدع والفجور، ولهذا ورد النهي عن الدخول عليهم في أعيادهم، فإن السخط ينزل عليهم.
أما العرب في جاهليتهم، فإن لهم أعيادًا يقدسونها ويقرّبون القرابين لآلهتهم فيها، كاللات والعزى ومناة وهبل، ويذبحون على قبور من يعظمونهم الإبل والبقر والغنم، ويفتخرون بذلك في أعيادهم وأشعارهم([5])، ولهذا أكثر القرآن الكريم من تحريم ما أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب، وما لم يذكر اسم الله عليه، وفسره بعض العلماء بما أهل لغير الله، لأن هذه الأعمال الشركية هي الرائجة في أعيادهم وعوائدهم، ولـمّا نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، سأل النبي ﷺ عن ذلك، «فقال: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قَالُوا: لاَ. قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ». قَالُوا : لاَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». رواه أبو داود من حديث ثابت بن الضحاك.
فبعد أن علم النبي ﷺ بطهارة الساحة الـمنذور عليها من عوائد الأعياد البدعية والأعمال الشركية أمره بأن يفي بنذره لتمحض هذا النذر في عمل البرّ.
* * *
[4] متفق عليه من حديث عائشة.
[5] كقول الشاعر:
فإذا عبرت بقبره فاعقر به
كوم الهجان وكل طرف سابحِ
وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ
ج
هذا الشعر لأبي أمامة زياد بن الأعجم، رثى به الـمهلب بن أبي صفرة في قصيدة طويلة ذكر ابن خلكان طرفًا منها في تاريخه ج 2 - ص 145.
جاء الإسلام فنسخ سائر الأعياد البدعية ونهى عنها وعن الدخول على أهلها، وأخبر أن السخط ينزل عليهم فيها.
قال أنس: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ : قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ». رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح. فهذان اليومان اللذان يلعبون فيهما هما عيدان لهما زمن الجاهلية، فأبدلهما الله بهما بعيد الأضحى وعيد الفطر، فهما عيدا عبادة لأهل الإسلام، فعيد الفطر شرع شكرًا لإتمام الصيام والهداية إلى الإسلام وشرع فيه إخراج صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ليستغنوا بها عن تكفف الناس في هذا اليوم العظيم، حيث قال: «أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»([6]).
كما أن عيد الأضحى شرع لاستكمال مناسك حجهم، وشرع فيه تقريب القرابين من إراقة دماء الأضاحي والـمناسك لله رب العالـمين، وسُمي من أجل ذلك يوم النحر، لكون جميع الـمسلمين من أهل الأمصار والبوادي والحجاج والـمقيمين كلهم يتقرّبون إلى الله فيه بإراقة دماء القرابين قائلين: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ﴾ [الأنعام: 162-163]. وسمي يوم الحج الأكبر من أجل أن واجبات الحج تفعل فيه، من الوقوف بمزدلفة ثم الدفع إلى منى ثم رمي جمرة العقبة ثم النحر ثم الحلق ثم الطواف بالبيت الذي هو ركن الحج الأكبر، لهذا صار أفضل من عيد الفطر، وشرع في العيدين صلاة العيد الـمعروفة، إظهارًا لشكر بلوغ عيد الإسلام وللدعاء بقبول صالح الأعمال، كما شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتهما، وعند الخروج إليهما؛ إشهارًا لشرفهما وإكبارًا لأمرهما ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وقد أباح الشارع إظهار الفرح والسرور في العيدين، واستعمال اللعب الـمباح فلم يمنعهم من إظهار عوائدهم الـمباحة التي كانوا يعتادونها في أعيادهم زمن جاهليتهم من ضربهم بالدف ولعبهم بالحراب والسيوف، لـما في البخاري عن عائشة قالت: «دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، فجاء أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِى وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ! . فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «دَعْهُمَا يا أبا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا»».
وكان يوم عيد لعب السودان فيه بالدرق والحراب وهو يقول: «دونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ»([7]). وفي رواية قال: ««لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِى دِينِنَا سعة»، أو قال: «فُسْحَةً»»([8]).
* * *
[6]رواه ابن عدي في الكامل وأعله بأبي معشر نجيح. أجاز الإمام أبو حنيفة إخراج القيمة في صدقة الفطر نظرًا لـمصلحة الفقير متى كانت القيمة أنفع له، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والحكمة في مشروعية صدقة الفطر هو إغناء الفقير بها يوم العيد وقد أصبحت الأصناف من التمر والبر والشعير والزبيب والأقط لا تفيد الفقير غنى في كثير من البلدان، وأصبح الفقراء يسخطون قبولها ويمتنعون عن قبضها ويطلبون النقود بدلها، لكون النقود تعمل في الإغناء وسد الحاجة ما لا تعمله الأصناف المذكورة، ولكون هذه الأصناف ليست بقوت الكثير من الناس والشارع الحكيم إنما قصد بمشروعية صدقة الفطر هو إغناء الفقراء في خاصة يوم العيد، وقد راعى الشارع في إيجابها حال قدرة الناس وميسورهم لقول أبي سعيد: كنا نعطيها زمن النبي ﷺ صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير أو صـاعًا من زبيب. متفق عليه. وفي روايـة: أو صاعًا من أقط. لأن هـذه الأصناف تعمل عملها في سد العوز بها زمن النبي ﷺ حتى إن الشعير هو ركن القوت في زمنهم والبر النقي يعد من النادر القليل، وقد توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من الشعير، وأما الآن فليس بطعام للناس، وإنما يطعم به بهائم الحيوان، وكذلك التمر كانوا يكتفون به قوتًا على انفراده، تقول عائشة: والله إنه ليمضي علينا الهلال ثم الهلال ثم الهلال وما أوقد في بيت من بيوت رسول الله نار. قلت: ما كنتم تتقوتون به؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقد أصبح الآن في كثير من البلدان لا يعتبره الفقير قوتًا، وكذلك الزبيب والأقط لا يعتمده الناس قوتًا، مع كونهما نادري الوجود ولم يفرض النبي ﷺ صدقة الفطر بالنقود لمشقة النقود عليهم وعدم رواجها في زمنهم، أما سمعت النبي ﷺ أعطى عروة البارقي دينارًا ليشتري له أضحية فاشترى له بالدينار أضحيتين، وكان النبي يأخذ بالبعير والبعيرين والثلاثة إلى إبل الصدقة، لعدم النقود في زمنه، أما الآن وفي هذا الزمان، فإن إخراج القيمة أنفع للفقير وأقوم بسد حاجته وحصول الغنى بها محقق في الأكل وتوابعه وفي اللباس وغيره، إذ هي صدقة وأفضل الصدقة أن تتصدق بما تحب ومن الطيب وسر الحكمة فيها أنها فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وقال: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم» ولم يقصد الشارع حصر الوجوب في هذه الأصناف المنصوص عليها مع استغناء الناس ورغبتهم في غيرها. [7] متفق عليه من حديث عائشة. [8] أخرجه أحمد من حديث عائشة.
إن تقديم القرابين لا يزال موجودًا في سائر الأمم والـملل، وقد قص الله في كتابه خبر ابني آدم لصلبه فقال تعالى: ﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ﴾ [الـمائدة: 27]. قيل: إن قابيل قدم قربانه ثمرًا من ثمار الأرض، وهابيل قدم قربانه من أبكار غنمه، وكانت القرابين تنقسم عندهم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: الذبيحة الـمحرقة، يحرقونها ولا يأكلونها يزعمون أنهم يفعلونها لرضى الرب. والثانية: قرابين التكفير عن الخطايا، يحرقون بعضها وتأكل الكهنة بعضها. والثالثة: قرابين السلامة، يأكلونها لأن أكلها حلال عندهم، وإذا كان الإنسان فقيرًا لا يمكنه أن يقدم من الحيوان ذوات الأربع قبلوا منه تقديم ذبيحة الطيور، فهذه صفة القرابين عند الأمم، ويشترط في القرابين كلها أن تكون سليمة من العيوب، أما القرابين في الإسلام فإنها عبارة عما يقرّب إلى الله ويذكر عليه اسم الله، من دماء الأضاحي والـمناسك وما يهدى إلى البيت، وكذا العقيقة والـمنذور ذبحها لله؛ لئن شفى الله مريضي أو رد غائبي، فلله أن أذبح بدنة أو كبشًا. ويدخل فيه دماء الجبرانات وهي الدماء الواجبة بسبب ترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور من محظوراته.والقرابين يجوز فيها ما لا يجوز في الأضاحي، فتجوز من الطيور، كالدجاج أو البط، ومن الثمار، كالبر والتمر، وغير ذلك من كل ما يتقرّب به إلى الله ويهدى إلى حرم الله.
كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال في الجمعة: «مَن غدا فِى السَّاعَةِ الأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ غدا فِى السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً»([9]). فجعل الدجاجة والبيضة من جملة القرابين، وعليه يحمل ما روي عن أبي هريرة أنه ضحى بديك، وكذلك بلال- مؤذن الرسول- ضحى بديك، لأن هذا الديك وإن لم يكن أضحية على الصفة الـمطلوبة، فإنه لن يخرج عن مسمى القربان الذي يقرّبه صاحبه إلى الله ويرجو ثوابه بإراقة دمه في يوم العيد عند الله، إذ هذا من باب جهد الـمقل والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها([10]).
* * *
[9] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [10] ذكر ابن مفلح في الآداب الشرعية قال: تولى رجل مقل فقير قضاء الأهواز، فأبطأ عليه رزقه وحضر عيد الأضحى وليس عنده ما يضحي به ولا ما يشتري به أضحية، فشكا سوء حاله إلى زوجته، فقالت له: لا تغتم، فإن عندي ديكًا جليلاً قد سمنته فإذا كان عيد الأضحى ذبحناه أضحية، فلما كان يوم العيد وأرادوا ذبح الديك طار من بينهم على سقوف الجيران فطلبوه من دار إلى دار، ففشى الخبر بين الجيران أن القاضي يريد أن يضحي بديك وكانوا مياسير فرحموا القاضي لفقره فأهدى إليه كل واحد كبشًا فاجتمعت في داره أكبش كثيرة وهو في مصلى العيد لا يعلم بها، فلما رجع إلى منزله بعد فراغه من صلاة العيد قال لزوجته: من أين لكم هذه الأضاحي؟ قالت: أهدى لنا فلان هذا وأهدى لنا فلان هذا، وأخذت تعددها، فقال: ويحك احتفظي بديكنا؛ فإن إسحاق بن إبراهيم - يعني به إسماعيل - بن إبراهيم لم يفد إلا بكبش واحد، وقد فدي ديكنا بعدة أكباش.
[11] الأضحية فيها أربع لغات: أضحية وإضحية، بضم الهمزة وكسرها. وجمعها أضاحي، واللغة الثالثة: ضَحية. والرابعة: أضحاة، بفتح الهمزة والجمع: أضحى، كأرطاة وأرطى، سميت بذلك لكونها تفعل في الضحى وهو ارتفاع النهار.
كل من تدبر النصوص الدينية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، تبين له بطريق الوضوح والجلية والدلائل القطعية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء، وأشبه مشروعية صدقة الفطر فيمن أدرك عيد الفطر، فهي والحالة هذه تعد من شعائر الدين ومن القرابين التي تقرّب لرب العالـمين، وفيها التشريف لعيد الإسلام وعيد حج بيت الله الحرام الـمسمى في كتاب الله بيوم الحج الأكبر، فيتقربون إلى الله فيه بإراقة دم القرابين من الأضاحي ودماء الـمناسك إشهارًا لشرفه وإكبارًا لأمره ولتكون أعياد الـمسلمين عالية على أعياد الـمشركين، وما يقربونه لآلهتهـم من القرابين وفيها القيام بامتثال طاعة الله والتأسي بسنة رسول الله، وفي فعلها إظهار لشكر نعمة الغنى، حيث جعل من يضحي من الأغنياء الـمقتدرين ولم يجعله من الفقراء العاجزين. وهذا يعد من أسمى منازل الرفعة والفضيلة؛ لأنه لا أعلى منزلة من طاعة الإنسان لمولاه والتقرّب إليه بوسائل رضاه.
وكان رسول الله يقسّم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه السنة وإدخال السرور عليهم بفعلها، كما أنه يذبح أضاحيه بمصلى العيد بمرأى من جميع الناس ومسمع؛ إشهارًا لشرف هذه الشعيرة وإشعارًا بمكانها من الشريعة، وعن زيد بن أرقم قال: «قلنا - أو قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ؟ قَالَ: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ». قَالَ قُلْنَا : فَمَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ :« بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالصُّوفُ قَالَ: «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»». رواه أحمد وابن ماجه.
فالذبح في مثل هذا اليوم يعد من العبادة لرب العالـمين ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥ﴾ [الأنعام: 162-163]. كما أن الذبح للصنم والذبح للجان والذبح للزّار والذبح للقبر، يعد من الشرك الـمبين، ففي البخاري عن عليٍّ قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات فقال: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غيّر منار الأرض»، أي مراسيمها. والأضحية إنما شرعت في حق الحي لا الـميت، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، أما القرآن فإن مبدأ مشروعية الأضحية في الإسلام هو ما قص الله عن نبيه إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام حيث قال: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧ وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ ١٠٨﴾ [الصافات: 107-108].
وهذا الذبح هو كبش أمر إبراهيم بأن يذبحه قربانًا إلى الله في يوم عيد النحر على ما قيل، فكان سنة في ذريته، حيث أمر رسول الله بأن يتبع ملته، فسنها رسول الله ﷺ لأمته، كما في حديث زيد بن أرقم الـمتقدم، «قال: قلنا أو قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ « سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ». قَالُوا وَمَا لَنَا فِيهَا قَالَ: بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ»([12]). الحديث، فهذا هو مبدأ مشروعية الأضحية وأنها من خصوصية الأحياء تشريفًا للعيد، وشكرًا لله على بلوغه كما يدل له قضية الحال والـمقال.
[12] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم.
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ ٣٤﴾ [الحج: 34].
قال ابن عباس: لكل أمة جعلنا منسكًا، أي عيدًا. وقال عكرمة: ذبحًا. والـمعنى متقارب، يخبر سبحانه أن الأعياد وتقريب القرابين فيها لا يزال مشروعًا في سائر الـملل والأمم، وقوله: ﴿لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ﴾، أي عند ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فمن الناس من يهل ذبيحته للطواغيت والأصنام فتكون على آكلها من أصناف الحرام، ومنهم من يذبحها على اسم الله كالأضاحي ودماء الـمناسك وسائر ما يتقرب به إلى الله ويأكلون مما رزقهم الله من لحومها حلالاً طيبًا، وهذا هو حقيقة ما يفعله الـمسلمون في أعيادهم، يأكلون ويهدون ويتصدقون، وفي الآية الأخرى: ﴿وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ﴾ [الحج: 28]. فهذه وإن نزلت في دماء الـمناسك، فإن الحكم في الأضحية كالحكم في الهدي، لأن الأضاحي ودماء الـمناسك معناهما واحد. قاله في الكافي، وأما الأيام الـمعلومات فهي يوم العيد وأيام التشريق.
وبهذا يترجح قول من قال: إن وقت الذبح هو يوم العيد وثلاثة أيام بعده. كما هو ظاهر مذهب الشافعي، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لما روي عن جبير بن مطعم، أن النبي ﷺ قال: «كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ» رواه أحمد والدارقطني.
وفي رواية: «كُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ»، ويدل له حديث نبيشة الهذلي، أن النبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عز وجل» رواه مسلم، «وعن عائشة وابن عمر قَالاَ لَمْ يُرَخَّصْ فِى أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْي». رواه البخاري. وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد بالاتفاق، والتي شرع التكبير فيها في سائر أدبار الصلوات الـمكتوبة، وظاهر مذهب الإمام أحمد: أن وقت الذبح هو يوم العيد ويومان بعده، وبه قال مالك وأبو حنيفة.
والحاصل أن الخطاب في هذه الآيات موجه إلى الأحياء الذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عند ذبح أضاحيهم، وأن يأكلوا مما رزقهم الله من لحومها، وأن يطعموا البائس الفقير، وهذا الخطاب لا ينطبق إلا على الأحياء الـمكلفين بالأمر والنهي، الـمستمعين للقول والـمتبعين أحسنه.
قوله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦﴾ [الحج: 36].
فأخبر الله بنعمه على عباده والتي من جملتها تسخير البدن لهم؛ أي الإبل، وجعلها من شعائر الله، ولا تكون من شعائر الله إلا إذا ذبحت في عمل الطاعة كالأضحية والهدي، قال تعالى: ﴿وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]. قال ابن عباس: تعظيم الشعائر استسمانها واستحسانها([13])، وقوله: ﴿لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞ﴾ تركبونها وتشربون ألبانها وتأكلون لحومها.
وقوله: ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّ﴾ أي عند ذبحها حال كونها معقولة يدها اليسرى صافة بقية قوائمها، لأن هذا هو سنة ذبح الأضحية، قال البخاري: ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّ﴾ قال ابن عباس: قيامًا، وعن ابن عمر أنه أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ لِيَنْحَرَهَا فقال: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً ، سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ». متفق عليه. وعن عبد الرحمن بن سابط: أن النبي ﷺ وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة يدها اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.
﴿فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا﴾ أي سقطت بالأرض بعد ذبحها ﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ﴾ وهو السائل ﴿...وَٱلۡمُعۡتَرَّ﴾ وهو الـمعترض الذي يريك نفسه لتذكره، ﴿كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ وهذا كله خطاب مع الأحياء الذين خلق لهم البدن وجعل لهم فيها خيرًا يتمتعون بركوبها وبالحمل عليها ويتنعمون بألبانها ولحومها، والذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عليها عند ذبحها وأن يأكلوا من لحمها ويطعموا السائل الـمتكفف والفقير الـمتعفف، فلا علاقة في هذه الآيات لذكر الأموات أبدًا، لكونها إنما شرعت في حق الحي الذي هو محل التكليف بالأمر والنهي.
[13] لهذا يستحب استسمان الهدايا والأضاحي واستحسانها، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فأضحية حسنة سمينة قيمتها مائتان أفضل من أضحيتين دونها في السمن قيمتهما مائتان، لكون المطلوب هو السمين الحسن لا كثرة العدد، وقد كان أصحاب رسول الله يسمنون أضاحيهم. وأمـا الاستحسان، فـروي من حـديث أبي هـريـرة مـرفوعًا: «دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ»، رواه أحمد والحاكم والبيهقي. وورد الشرع بالنهي عن العيوب المانعة للإجزاء كما يعرف تفصيلها من كتب الأحكام والفروع، لكن متى تعيبت الأضحية بعد التعيين ولم تكن واجبة في ذمته قبل ذلك ذبحها وأجزأته، لما روى أبو سعيد الخدري قال: «اشْتَرَيْت كَبْشًا لِأُضَحِّيَ بِهِ فَعَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْيَةَ فَسَأَلْت النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: ضَحِّ بِهِ» رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي. ولهذا كره الأضحية بشاة حامل، لكون الحمل يفسد لحمها وذهب الإمام الشافعي إلى عدم الإجزاء بها.
قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2]. قال جماعة من الـمفسرين: نزلت في صلاة العيد، ثم في النحر بعده. فالذبح للأضحية إنما شرع في حق من خوطب بفعل صلاة العيد، تشريفًا لعيد الإسلام وشكرًا لله على بلوغه وإدخالاً للسرور على الأهل والعيال بأكل اللحم فيه، وقد قال الفقهاء من الحنابلة بجواز أن يضحى لليتيم من ماله لإدخال السرور بها عليه، ويجوز أن تضحي الـمرأة من مال زوجها بلا إذنه، لكونها من النفقة بالـمعروف.
وأما الأحاديث فمنها ما روى البخاري عن البراء بن عازب، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِى يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ»، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَقَدْ ذَبَحَ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِى جَذَعَةً . فَقَالَ: اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِىَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» ففي هذا الحديث بيان صفة الأضحية الشرعية وأنها سنة في حق من أدركه العيد من الأحياء. وقد ترجم على ذلك البخاري في صحيحه فقال: باب سنة الأضحية، قال ابن عمر: هي سنة ومعروف، ثم ذكر حديث البراء الـمتقدم وفيه أن من ذبح على خلاف ما سنه رسول الله في الأضحية، فإن ذبيحته شاة لحم وليست من الأضحية في شيء، لحديث: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَهْوَ رَدٌّ»([14]).
ومنها ما رواه أبو هريرة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا» رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم، لكن رجح الأئمة غيره وقفه.
فهذا الحديث إنما خاطب به النبي ﷺ من صلى العيد معه وكان لديه مقدرة على الأضحية، ومنها حديث مخنف بن سليم، أن النبي ﷺ قال بعرفات: «على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الترمذي، لكنه منسوخ بحديث «لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ»([15])، وقيل: الـمنسوخ العتيرة فقط والأضحية باقية، إما على الأمر للوجوب أو للاستحباب، وقد أخذ بهذين الحديثين من قال بوجوب الأضحية، كما هو ظاهر مذهب أبي حنيفة، أنها واجبة على الـمقيمين من أهل الأمصار لـمواظبة النبي عليها عشر سنين مدة إقامته بالـمدينة، وهي رواية عن مالك، والرواية الثانية عن الإمام أحمد، والظاهر من مذهب مالك والشافعي وأحمد، أنها مستحبة وليست بواجبة، قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة، وإنما هي سنة مؤكدة. قال الإمام أحمد: أكره تركها لمن قدر عليها. وروي مثل هذا القول عن مالك والشافعي.
ومنها ما روى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ كَيْفَ كَانَتِ الضَّحَايَا فِيكُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ ﷺ يُضَحِّى بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ ثُمَّ تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَ كَمَا تَرَى». رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
وقد ورد في فضائلها أحاديث كثيرة، كحديث: «احضروها إذا ذبحت، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا»([16])، وحديث: «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ يوم النّحر إِرَاقَةُ دَمٍ»([17])، وحديث: «إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ -على الصفة التي ذبحت عليها- بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ»([18])، وحديث: «إن للمضحي بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ»([19])، وحديث: «إن الدراهم لن تنفق في عمل صالح أفضل من نفقتها في أضحية يوم النحر»، فهذه الأحاديث وإن كان فيها مقال للنقاد غير أن هذه النصوص والفضائل إنما وردت في أضحية الحي([20]) إذ إنها هي الأضحية الشرعية الـمنصوص عليها بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين، لكون الأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والإقرارات والشواهد للأحوال، فلا تحصل هذه الفضائل إلا إذا وقعت الأضحية موقعها من الصفة الـمأمور بها على الوجه الـمطابق للحكمة في مشروعيتها، بأن قصد بها امتثال أمر الله واتباع سنة رسول الله، وتجرّدت عن البدع الخاطئة والتصرفات السيئة، فيكون والحالة هذه ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، كما هو ظاهر مذهب الأمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، ولأن في ذبحها إحياء لسنتها وخروجًا من عهدة من قال بوجوبها، ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت الـمحدد لها، أشبه العقيقة فإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بالإجماع.
* * *
[14] أخرجه مسلم وأحمد من حديث عائشة. [15] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [16] أخرجه الحاكم في الـمستدرك من حديث عمران بن حصين. [17] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [18] أخرجه الترمذي من حديث عائشة. [19] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم. [20] (أ)- حديث «مَا عَمِلَ آدَمِىٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ إِنَّهَا لَتَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلاَفِهَا وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الأَرْضِ فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا» رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن غريب. والحاكم وقال: صحيح الإسناد. كلهم رووه عن عائشة أن رسول الله.. إلخ. (ب) وحديث: «قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَة»» رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وطعن الـمنذري في تصحيح الحاكم له، لأن في إسناده عائذ الله المجاشعي وأبو داود نفيع بن الحارث الأعمى وكلاهما ساقط. (ج) وحديث أن النبي ﷺ قال: «يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها أن يغفر لك»، قالت: يا رسول الله، ألنا خاصة أهل البيت أو لنا وللمسلمين، قال: «بل لنا وللمسلمين» رواه البزار وأبو الشيخ، ابن حبان، من حديث أبي سعيد الخدري ورواه أبو القاسم الأصبهاني عن علي، قال الـمنذري: وقد حسن بعض مشايخنا حديث علي هذا. (د) وحديث «مَا أُنْفِقَتُ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ نَحيرٍ يُنْحَرُ فِي يَوْمِ عِيدٍ» رواه الطبراني في الكبير والأصبهاني من حديث ابن عباس. (هـ) وحديث «عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» قال ابن حجر: لم أره معزوًّا إلى أحد، وقال ابن الصلاح: هذا حديث غير ثابت ولا معروف، وذكر ابن العربي، شارح الترمذي مثل ذلك.
اعلم أن كل ما قلناه في الأضحية الشرعية، فإن الـمراد بها ذبح شاة أو سبع بدنة أو بقرة، والشاة تطلق على الذكر والأنثى من الضأن والـمعز، وسبع البدنة يقوم مقام الشاة في سائر ما تعمل فيه الشاة على السواء، فكل من وجب عليه هدي، بسبب متعة أو قران أو إحصار لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور من محظوراته أجزأه ذبح شاة أو سبع بدنة أو بقرة، لحديث جابر قال: نحرنا مع رسول الله عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. رواه البخاري ومسلم، وثبت هذا الاشتراك في الحج أيضًا لـما في صحيح مسلم عن جابر، قال: اشتركنا مع النبي في الحج والعمرة، كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقر كما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن. وروى أحمد عن حذيفة، أن النبي ﷺ أشرك بين الـمسلمين في حجته البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
وقيس على ذلك الاشتراك في الأضاحي، لأنها نظيرة الهدي كل سبعة في بدنة، وهو قول الجمهور، وذهب مالك إلى عدم الاشتراك في البدنة إلا خاصة أهل البيت الواحد وقد ساء فهم بعض الناس في هذه الأحاديث، حيث قالوا: بوجوب الاقتصار في الأضحية بالبدنة على سبعة أنفار فقط، لكل واحد منهم سبع بدنة، وأنه لا يجوز الاشتراك في ثواب السبع في حق من تطوّع به أخذًا من مفهوم قوله: اشتركنا مع رسول الله البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وهذه الأحاديث صحيحة ثابتة في الـمعنى الـمراد منها، فإن هذا الاشتراك وقع بالأمر به من النبي عام الحديبية، حينما أحرموا بالعمرة فصدتهم قريش عن دخول مكة لإتمام عمرتهم فصاروا محصرين فأمرهم النبي أن ينحر كل واحد منهم هديًا ويتحلل من إحرامه، لقول الله: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِ﴾ [البقرة: 196].
وأمرهم أن يشتركوا السبعة في بدنة والسبعة في بقرة، لكون السبع يقوم مقام الكبش في الإجزاء، وهذا الدم الواجب على كل شخص بسبب الإحصار، يجب عليه كاملاً بانفراده بدون أن يشرك أحدًا في ثوابه، سواء ذبح كبشًا أو سبع بدنة لانعقاد سبب وجوبه عليه في ذمته، أشبه دين الآدمي ومثله اشتراكهم في الحج والعمرة، فإن الـمتمتع والقارن يجب عليه هدي، لقول الله تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِ﴾ [البقرة: 196]. لهذا اشتركوا في البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وأكثرهم فدى بالغنم، وهذا الفدي يجب على كل متمتع وقارن بانفراده بدون أن يشرك أحدًا في ثوابه، لانعقاد سبب وجوبه عليه حينما أحرم بالحج والعمرة، سواء أهدى كبشًا أو سبع بدنة كما قلنا في دم الإحصار على السواء، ومثله الدم الواجب لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور من محظوراته، فيجب عليه فيه دم، فلا يجوز أن يشرك أحدًا في ثوابه لعدم مشروعية الاشتراك فيما ذكرنا من الواجبات.
وليس كذلك الأضحية الـمتطوّع بها، فقد ورد النص في الاشتراك لأهل البيت في ثوابها، لما ثبت أن النبي ضحى بكبش عنه وعن أهل بيته، وقال: «بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»([21])، وكما ثبت عن الصحابة أن أحدهم كان يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، وسبع البدنة يقوم مقام الشاة في سائر ما تعمل فيه الشاة، لهذا يجوز للشخص أن يشرك أهل بيته معه في ثواب السبع كما يشركهم معه في ثواب الكبش، إذ هما في الحكم سواء، وقد ترجم على ذلك الـمجد في الـمنتقى، فقال: باب البدنة من الإبل والبقر عن سبع شياه وبالعكس لما روي عن ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال: إن علي بدنة وأنا موسر لها ولا أجدها، فأمره النبي أن يبتاع سبع شياه وأن يذبحهن. رواه أحمد وابن ماجه، فجعل مقابل البدنة سبع شياه كما ترى.
فمن قال بجواز اشتراك أهل البيت في الأضحية بالشاة ولو كانوا مائة، ومنع الاشتراك في البدنة على ما زاد على السبعة فقد خالف الـمعقول والـمنقول، ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح، والله أعلم.
* * *
[21] أخرجه أحمد من حديث أبي رافع.
اعلم أن هذا الفصل هو الباعث لتأليف الأصل، وقد سبق بيان مشروعية الأضحية وما يترتب عليها من الفضيلة، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها في حق من أدركه العيد من الأحياء؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها وامتثالاً لأمر الله فيها واتباعًا لسنة رسول الله في مشروعيتها، كما هو ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وكل الأحاديث الدالة على فضيلتها.
إنما يقصد بها أضحية الحي، إذ هي الـمشهورة الـمشروعة بصريح الكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين والسلف الصالحين.
أما الأضحية عن الـميت، فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والـمسانيد والتفاسير والسير، لم نجد دليلاً صريحًا من كتاب الله ولا حديثًا صحيحًا عن رسول الله يأمر بالأضحية عن الـميت أو يشير إلى فضلها ووصول ثوابها إليه، ولم ينقل أحد من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يضحون لموتاهم، ولم يذكر فعلها عن أحد منهم، لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا في سائر تبرعاتهم، ولم يقع لها ذكر في كتب الفقهاء من الحنابلة الـمتقدمين، لا في الـمغني على سعته، ولا في الكافي، ولا الـمقنع، ولا في الشرح الكبير، ولا الـمحرر، ولا الإنصاف، ولا النظم، ولا في الـمنتقى، والإلـمام في أحاديث الأحكام، ولا في إعلام الـموقعين، ولا في زاد الـمعاد، ولا في البخاري، ولا في شرحه فتح الباري، ولا في مسلم، ولا في شرح مسلم للنووي، ولا في نيل الأوطار للشوكاني، ولا في سبل السلام للصنعاني، ولا في التفاسير الـمعتبرة: كابن جرير الطبري، وابن كثير، والبغوي، والقرطبي، فتركهم لذكرها ينبئ عن عدم العمل بها في زمنهم أو على عدم مشروعيتها عندهم، والظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، عدم جواز فعلها عن الـميت لعدم ما يدل على مشروعيتها، وخص الإمام أبو حنيفة الجواز بما إذا عينها ثم تُوفي بعد تعيينها، فإنها تذبح عنه تنفيذًا للتعيين. والقول الثاني: أنه لا يجوز ذبحها، بل تعود تركة، لكونه لا أضحية لميت، حكى القولين في الـمبسوط و بدائع الصنائع، وأشار إليه الطحاوي في مختصره.
ولم نجد عن الإمام أحمد، نصًّا في الـمسألة لا جوازًا ولا منعًا، فلا يجوز نسبة القول بالجواز إليه عند عدم ما يدل عليه، إلا أن تؤخذ من مفهوم قوله: الـميت يصل إليه كل شيء، وهي كلمة تحتاج إلى تفصيل، إذ لا يصح أن يصل إلى الـميت كل شيء من عمل الغير حتى عند الإمام أحمد نفسه، كما سيأتي بيانه، فالقول: بأن جواز الأضحية عن الـميت هو ظاهر الـمذهب إنما يتمشى على الاصطلاح الحديث من أن الـمذهب هو ما اتفق عليه الإقناع و الـمنتهـى، وقد قالا بجواز ذلك أو استحبابه، فهذا شيء ونسبة القول به إلى الإمام أحمد شيء آخر.
وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام في الـمسألة هو أبو داود في سننه حيث قال: باب الأضحية عن الـميت، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش، قال: رأيت عليًّا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله أوصاني أن أُضحي عنه فلا أزال أضحي عنه. ورواه الترمذي في جامعه بلفظه ومعناه وقال: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم قال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: حنش هو أبو الـمعتمر الصنعاني، وقد تكلم فيه غير واحد، قال ابن حبان البستي: كان كثير الوهم في الأخبار، ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات، حتى صار ممن لا يحتج به، وشريك: هو أبو عبد الله القاضي فيه مقال، وقد أخرج له مسلم في الـمتابعات([22]). انتهى. وأبو الحسناء: هو مجهول لا يعرف. قاله ابن حجر في التقريب، وقال ابن العربي في شرح الترمذي: هذا حديث مجهول.
ثم قال الترمذي: قد رخص بعض أهل العلم أن يضحى عن الـميت ولم ير بعضهم أن يضحى عنه، وقال عبد الله بن الـمبارك: أحب إلي أن يتصدق عنه ولا يضحى، فإن ضحى فلا يأكل منها شيئًا ويتصدق بها كلها. وأخرجه البيهقي في سننه، وقال: إن ثبت هذا كان فيه دلالة في التضحية عن الـميت، ومن الـمعلوم عند أهل الحديث عدم ثباته وأنه ضعيف لا يحتج به. ثم قال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي: قلت: إني لم أجد في التضحية عن الـميت منفردًا حديثًا صحيحًا مرفوعًا، وأما حديث علي الـمذكور في هذا الباب فضعيف، كما عرفت.
وقد أخذ بعض الفقهاء بظاهر حديث علي ولم ينظروا إلى ضعفه في سنده ومتنه ولا إلى عدم الاحتجاج به ولا إلى عدم عمل الصحابة بموجبه، لأن أكثر الفقهاء يتناقلون الأثر على علاته بدون تمحيص ولا تصحيح وينقل بعضهم عن بعض حتى يشتهر وينتشر ويكون كالصحيح، وكل من تدبر أقوال الفقهاء القائلين بجواز الأضحية عن الـميت مطلقًا، أو بجوازها متى أوصى بها أو وقف وقفًا عليها، وجدهم يستدلون على ذلك بحديث علي هذا، أن النبي أوصاه أن يضحي عنه، لظنهم أنه صحيح، لأن غالب الفقهاء لا يعرفون الصحيح من الضعيف معرفة تامة، فينشأ أحدهم على قول لا يعرف غيره ولم يقف على كلام أهل الحديث في خلافه وضعفه فيظنه صحيحًا، ويبني على ظنه جواز العمل به والحكم بموجبه، وقد استأنسوا في هذا الباب بما روي عن أبي العباس السراج، وكان أحد مشايخ البخاري أنه قال: ختمت القرآن للنبي اثنتي عشرة ألف ختمة، وضحيت عنه باثنتي عشرة ألف أضحية. ذكر هذه الحكاية ابن مفلح في الفروع في إهداء ثواب الأعمال إلى الـموتى من آخر كتاب الجنائز، وهي حكاية شخص عن فعل نفسه ليست بأهل أن يصاخ لها وليس من الـمفروض قبول هذه الـمجازفة الخارجة عن حدود الحق والعدل، إذ ليس عندنا دليل يثبت إهداء الأضحية وتلاوة القرآن إلى رسول الله، ولو كان صحيحًا لكان صفوة أصحابه وخاصة أهل بيته أحق بالسبق إلى ذلك، ولم يثبت عن أحد منهم أنه حج عن رسول الله أو صام أو أهدى ثواب قراءته أو أضحيته إليه، وإنما الأمر الذي عهده رسول الله لأمته هو اتباع هديه والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله وأن يكثروا من الصلاة والتسليم عليه، وأن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقامًا محمودًا الذي وعده، هذا هو الأمر الذي شرعه رسول الله لأمته، بخلاف إهداء ثواب القرب الدينية، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا يستحب إهداء القرب الدينية إلى النبي ﷺ بل هو بدعة. قاله في الاختيارات.
فمتى كان أهل الـمعرفة بالحديث متفقين على أنه لا يوجد في الأضحية عن الـميت حديث صحيح يدل دلالة صريحة على الأمر بها، فضلاً عن أن يكون فيها أخبار متواترة أو مستفيضة امتنع حينئذ التصديق بكون النبي أوصى بها أو شرعها لأمته، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة ولا أهل بيته ولا التابعين مع تكرار السنين وحرصهم على محبة الرسول واتباع سنته وتنفيذ أوامره والعادة تقتضي نقل ذلك لو وقع، إذ هي من الأمور الظاهرة التعبدية التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وتبليغها، لكونهم أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، فمتى كان الأمر بهذه الصفة علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة ولا مرغب فيها، والتعبدات الشرعية مبنية على التوقيف والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، كما قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.
فإن قيل: بم عرفتم أن الصحابة والتابعين لم يضحوا عن موتاهم؟ قيل: علمنا ذلك بعدم نقله عنهم. وهذه أسفار السنة على كثرتها لا تثبت عن أحد منهم فعلها لا في سبيل تبرعاتهم لـموتاهم ولا في أوقافهم ولا الوصايا الصادرة منهم، ومن الـمعلوم أن الأمور الوجودية يتناقلها الناس من بعضهم إلى بعض حتى تشتهر وتنتشر، كما نقلوا سائر السنن والـمستحبات، أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها، فإن الناس لا ينقلونها إلا عندما يحتاجون إلى ردها وبيان الهدى من الضلال فيها، فلو نقل ناقل أن أصحاب رسول الله كانوا يحجون له أو يضحون له أو يقرءون القرآن ويهدون ثوابه إليه لحكمنا بكذبه لعدم نقله، ولو فتح هذا الباب لاحتج كل واحد لبدعته بما يؤيدها، فتفشو البدع ويفسد الدين.
والـمقصود أن الأضحية عن الـميت لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله مشروعيتها، ولم ينقل عن رسول الله بطريق صحيح الأمر بها، لا بطريق التصريح ولا الإيماء، ولهذا لم يفعلها أحد من الصحابة، فعدم فعلها يعد من الأمر الـمجمع عليه زمن الصحابة والتابعين واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة.
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
* * *
[22] الـمقال الذي في شريك بن عبد الله القاضي هو أنه يخطئ كثيرًا وقد تغير حفظه بعدما ولي القضاء بالكوفة قاله في تقريب التهذيب وقال في علوم الحديث: تفرد بهذا الحديث أهل الكوفة. وفي إسناده حنش بن ربيعة، وهو مختلف فيه، وقال ابن القطان: شيخ شريك في هذا الحديث أبو الحسناء، وهو لا يعرف حاله. قاله في التلخيص.
قد يحتج من يرى جواز الأضحية عن الـميت بأضحية النبي عن أمته ومنهم الأحياء ومنهم الأموات، وأنها كما تكون للأحياء من أمته، فإنها تكون للأموات كما يقوله بعض من يحتج به.
وأصل الحديث ثابت صحيح، قد رواه الأئمة عن جماعة من الصحابة لكنه ليس بصريح في الدلالة على الـمعنى الذي ذكروا، ولفظه عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِيدَ الأَضْحَى فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِىَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ فَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّى وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِى»» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِى رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَإِذَا صَلَّى وَخَطَبَ النَّاسَ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ قَائِمٌ فِى مُصَلاَّهُ فَذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِى جَمِيعاً مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِى بِالْبَلاَغِ». ثُمَّ يُؤْتَى بِالآخَرِ فَيَذْبَحُهُ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ «هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ». فَيُطْعِمُهُمَا جَمِيعاً الْمَسَاكِينَ وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا فَمَكَثْنَا سِنِينَ لَيْسَ رَجُلٌ مِنْ بَنِى هَاشِمٍ يُضَحِّى قَدْ كَفَاهُ اللَّهُ الْمُؤْنَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْغُرْمَ» رواه أحمد، «وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِى سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِى سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِى سَوَادٍ فَأُتِىَ بِهِ لِيُضَحِّىَ بِهِ ثُمَّ قَالَ «يَا عَائِشَةُ هَلُمِّى الْمُدْيَةَ». ثُمَّ قَالَ «اسْتَحِدِّيهَا بِحَجَرٍ». فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ وَقَالَ «بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدِ وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ»». رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
فهذا هو الفعل الثابت عن رسول الله، وأن كل الأضاحي وقعت عن رسول الله بطريق الأصالة وإنما أشرك أمته معه في ثواب إحدى الأضحيتين، كما أشرك آله في ثواب الثانية، وهي قضية فعل تتمشى على قاعدة الخصوصية بالدلائل القطعية، فلا يقاس عليها غيرها، لأن النبي ﷺ بمثابة الأب الشفيق على أمته ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾ [التوبة: 128]. وقد أثبت الله له الولاية التامة على أمته أخص من ولاية كل إنسان على نفسه وأهل بيته، فقال: ﴿ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡ﴾ [الأحزاب: 6]. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ»([23])، فمن ولايته على أمته أضحيته عنهم كما ضحى عن أهل بيته، إذ هما في الحكم سواء، ومثل هذه الولاية لا تنطبق على غيره، ولو كان فعلها للتشريع والأسوة لاستحب لكل أحد أن يضحي لأمة محمد، كما فعل رسول الله، ولم يقل بذلك أحد، وهذا هو حقيقة ما فهـمه الصحابة في هذه الأضحية، حيث لم يثبت عن أحد منهم أنه ضحى عن رسول الله ولا عن أمة محمد.
ثم إن أضحية النبي ﷺ عن أمته تشمل جميع أمة محمد، الـموجودين في حياته والـمعدومين ممن سيوجدون بعد وفاته إلى يوم القيامة، وهذه الأضحية بهذه الصفة لا تنطبق على أضحية غيره، إذ لا يجوز الأضحية عن الـمعدوم كمن سيولد باتفاق الفقهاء، وقد استظهر العلماء من هذه الأضحية سقوط الوجوب عن كافة الناس بها وبقي الاستحباب فيمن قدر عليها من أمة محمد ومن أهل بيته، كما يفهم منه جواز أضحية الشخص بالشاة عنه وعن أهل بيته، لكون الاشتراك في الثواب موسع فيه، لهذا قلنا: إنه متى ضحى الإنسان لنفسه جاز أن يشرك معه في ثواب أضحيته أبويه الـميتين، كما يشرك أهل بيته وخدامه في ثواب أضحيته ولو كانوا مائة، لكونه يغتفر في التبع ما لا يغتفر في الاستقلال في كثير من الأحكام، ولأن مثل هذه الأضحية ذبحت في ملك الحي وعلى حسابه، فهي له بطريق الأصالة وهذا هو الأمر الـمشروع في الأضحية. ونحن إنما نتكلم على إفراد الـميت بالأضحية، وأنه عمل غير مشروع، لهذا يعد من الخطأ في التصرف كون الإنسان يضحي عن أبويه الـميتين وينسى نفسه على نسبة عكسية من مشروعية الأضحية، أشبه من يخرج صدقة الفطر عن ميته ويترك نفسه، إذ هما في فساد التصرف سواء.
وهذه الأضحية التي أشرك رسول الله أمته في ثوابها شاملة لجميع أمة محمد، الأحياء منهم والأموات، ومن في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ومن سيوجد من هذه الأمة إلى يوم القيامة، ولا يجوز هذا الفعل بهذه الصفة من غيره، فلا يجوز للشخص أن يضحي لشخص آخر ليس من أهل بيته بغير إذنه، كما أنه لا يجوز أن يضحي عما في بطن امرأته، فمتى بطل القول بهذا من غير النبي ﷺ بطل القول بذاك، وهذا يؤيد ما قلنا: من أن هذه الأضحية تتمشى على طريقة الخصوصية، فلا يقاس عليها، إذ لو كانت للتشريع لاستحب لكل واحد أن يضحي عن أمة محمد، كما فعل رسول الله ﷺ وحيث لم يقل بذلك أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من العلماء الـمعتبرين، علم به سقوط الاحتجاج بموجبه، وأما رواية: «اللهم هذه عن محمد وعمن لم يضح من أمة محمد»([24])، فإن الأمر فيها ظاهر جلي، وذلك أن النبي ﷺ قام بأداء هذه الفضيلة عن الفقراء العاجزين من أمته ليساويهم بالأغنياء الـمضحين في تقديم القرابين لله رب العالـمين، فلا ينبغي أن يحزن العاجز الفقير وقد ضحى عنه البشير النذير، وقد استظهر العلماء من هذا الحديث سقوط الوجوب عن جميع الناس ويبقى الاستحباب في حق من قدر عليها، وقد اتفق الأئمة الثلاثة: الإمام أحمد ومالك والشافعي على كراهة تركها لقادر عليها. كما أن الإمام أبا حنيفة يقول بوجوبها. ثم يقال: كيف يحمل هذا الحديث عدد من الصحابة ويشتهر من بينهم؛ لكون النبي ﷺ ذبح أضاحيه بمصلى العيد بمرأى من جميع الناس ومسمع ثم لم يعمل به أحد منهم لو كان الأمر للتشريع كما زعموا؟! وقد قال الطحاوي في شرح الآثار: إن هذا الحديث صحيح لكنه مخصوص به ﷺ أو منسوخ. وقال صاحب تحفة الأحوذي شرح الترمذي: أما تضحية رسول الله لأمته وإشراكهم معه في أضحيته فمخصوص به، وأما أضحيته عن نفسه وآله فليس بمخصوص به ولا منسوخًا، والدليل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يضحون بالشاة الواحدة، يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته، ولم يثبت عن أحد من الصحابة التضحية عن أمة محمد أو إشراكهم معه في أضحيته البتة. انتهـى.
وهذا الحديث -أي أضحية النبي لأمته- قد اتخذه بعض الأحناف قاعدة أساسية في إهداء ثواب الأعمال إلى الأموات، لكنهم يمنعون من فعل الأضحية عن الـميت لكونها تتوقف عندهم على الإذن ولا إذن لميت، ولأنها إتلاف مال وإزهاق أرواح حيوان في عمل غير مشروع، ومنهم من قال بجواز ذلك، كما ستراه فيما يلي، قال في غنية الألـمعي([25]): إن قول من رخص في الأضحية عن الـميت مطابق للأدلة ولا دليل لمن منعها، وقد ثبت أن النبي كان يضحي بكبشين: أحدهما عن أمته ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، والآخر عن نفسه وأهل بيته، ومعلوم أن كثيرًا من أمته قد ماتوا في عهده فدخل في أضحيته الأحياء والأموات من أمته، وهذا الكبش الذي يضحي به للأحياء من أمته هو للأموات من أمته أيضًا، إذ لا فرق في ذلك ولم يثبت أن النبي كان يتصدق بذلك الكبش كله ولا يأكل منه شيئًا، بل قال أبو رافع: إن رسول الله كان يطعم منها الـمساكين ويأكل هو وأهله، ولم يحفظ عنه خلافه فإذا ضحى الرجل عن نفسه وعن بعض أمواته، جاز ذلك وجاز أن يأكل هو وأهله من تلك الأضحية، وليس عليه أن يتصدق بها كلها، نعم إن خص الأضحية للأموات من دون شركة الأحياء، فهي حق للمساكين، كما قاله عبد الله بن الـمبارك. انتهى.
وأقول: إن صاحب غنية الألـمعي جعل في تقريره إحدى الأضحيتين عن أمة محمد، على سبيل الانفراد وكأنه لم يعرف أصل النصوص الواردة في هذا الخصوص، فإنه ليس في شيء منها ذكر الأضحية عن أمة محمد على سبيل الانفراد حسب ما يدعيه، لأن أكثر الفقهاء لا يعرفون الأحاديث معرفة تامة، ولم يقفوا على حقيقة أقوال الـمحققين لها، فينشأ أحدهم على قول قد راج بين الناس لفظه وهو لا يعرف صحته من ضعفه، فيظنه صحيحًا فيبني في القول به على ظنه لكونه لا يعرف غيره، ولفظ حديث أبي رافع الذي استدل به، أن رسول الله كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه، ثم قال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا ، مِنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاغِ»، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثم يقول: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» رواه الإمام أحمد، وعن جابر قال: صليت مع رسول الله عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، وقال: «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّى وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِى» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فهذا هو الأمر الثابت عن رسول الله، وليس في شيء منها ذكر الأضحية عن أمة محمد على سبيل الانفراد، وإنما أشرك أمته معه في ثواب إحدى الأضحيتين، كما أشرك أهل بيته في ثواب الثانية، وكلتا الأضحيتين وقعتا بطريق الأصالة عن رسول الله ﷺ وإنما أشرك من ذكر في الثواب، وقد قال صاحب تحفة الأحوذي([26]) على الترمذي في تعقيبه على كلام غنية الألـمعي: قلت: إني لم أجد في التضحية عن الـميت منفردًا حديثًا مرفوعًا صحيحًا.
وهذا الحديث في أضحية النبي عن أمته، وحديث علي أن النبي أوصاه أن يضحي عنه، هما حجة من يقول بجواز الأضحية عن الـميت، والحجة بهما غير ناهضة للمعنى الذي ذكرناه؛ أما حديث علي، فإنه ضعيف متروك لا يحتج به، وأما أضحية النبي عن أمته، فإنه يتمشى على الخصوصية، فلا يقاس على غيره.
وكل من تدبر النصوص الدينية من الكتاب والسنة وفعل الصحابة يتبين له بطريق جلية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء وأشبه مشروعية صدقة الفطر عند عيد الفطر تشريفًا لعيد الإسلام الذي هو عيد الحج الأكبر، واتباعًا للسنة في إراقة الدم فيه لله رب العالـمين، ليكون عيد الإسلام هو العالي على أعياد الـمشركين، وما يقرّبونه فيها لآلهتهم من القرابين، وفيها إظهار للفرح بالعيد، وإدخال للسرور على الأهل بالتنعم بأكل اللحم فيه، ولهذا كان النبي ﷺ يذبح أضاحيه بمصلى العيد، تعظيمًا لشأن هذه الشعيرة وإشهارًا لشرفها من الشريعة، وكان يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بها وإدخال السرور عليهم بفعلها، وقد أجاز الفقهاء من الحنابلة الأضحية لليتيم من ماله، لإدخال السرور عليه بها، وكذلك الـمرأة تضحي من مال زوجها بغير إذنه وعدّوها من النفقة بالـمعروف.
وهذا هو عين ما فهمه الصحابة من حكمة الأضحية، كما قال عطاء بن يسار: سألت أبا أيـوب الأنصاري، فقلت: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله؟ قال: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصاروا كما ترى. رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
فكيف يمكن أن يقال بعد هذا إن النبي ﷺ ضحى بالشاة عن أمته ليفهم منه جواز الأضحية عن الـموتى، والفعل لا يحتمله ولا يمُتُّ له بصلة، ولم يُنقل عن علماء الصحابة والتابعين القول به، ولا العمل بموجبه، وقد توفيت خديجة زوج النبي، وكان رسول الله يحبها ويكثر من ذكرها، ويكرم صديقاتها ولم يضح عنها، وتوفي ابنه إبراهيم ولم يضح عنه، وتوفيت ثلاث من بناته ولم يضح عن واحدة منهن.
فإن قيل: إن هؤلاء قد دخلوا في ضمن أضحيته لأهل بيته. قلنا: نعم، وكذلك أموات الـمسلمين قد دخلوا في ضمن أضحيته لأمته، فلا معنى لتكرار الأضحية عنهم، إذ من الـمعلوم أن أضحية النبي لموتاهم أقرب للقبول من أضحية أحدنا لـميته.
وبهذا يعد القول بجواز الأضحية عن الـميت فهما خاطئا ليس له مستند من الصحة لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة ولا السلف الصالح، إذ لو كان لها أصل في الشرع لكان السلف الطيب أحق بالسبق إليه لمسارعتهم إلى فعل الخير وحرصهم على إيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم، ولمّا كان القول بهذا قد يكون مستغربًا عند كثير من الناس، بحيث يخشى أن تنفر منه نفوسهم ولم تطمئن إليه قلوبهم لعدم اعتيادهم لسماعه، فضلاً عن العمل به، وإنما ألفوا خلافه، أحببت توطيد ثباته بما يكون كالـمؤنس له من أقوال فقهاء الأئمة الأربعة، احترازًا مما قد يسبق إليه الوهم ويسوء فيه الفهم من دعوى الشذوذ به أو عدم سبق العمل بموجبه مما يتوهم أنه خلاف الصواب، كما سيأتي قريبًا إن شاء الله.
* * *
[23] أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد من حديث جابر. [24] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة. [25] غنية الألـمعي بما فات الزيلعي لمؤلفها زين الدين قاسم بن قطلوبغا، الـمتوفى في القرن التاسع في ربيع الثاني عام 879هـ، ذكره في مقدمة التحفة. [26] صاحب تحفة الأحوذي هو الفقيه الكبير والـمحدث الشهير أبو العلي محمد بن عبد الرحمن الـمباركفوري، المتوفى عام 1353، والتحفة: ما أتحف به الشخص من البر واللطف، وجمعه: تحف، واسم الأحوذي قد أخذه من شرح ابن العربي على الترمذي، حيث سماه مؤلفه عارضة الأحوذي على الترمذي، والعارضة: القدرة على الكلام، يقال: فلان شديد العارضة، إذا كان ذا قدرة على الكلام والأحوذي قال الأصمعي: هو الـمشمر للأمور القاهر لها، لا يشذ عليه منها شيء، نقله عنه ابن خلكان.
وأما القول: بمنع الأكل من أضحية الـميت لكونها - بزعمهم - حقًّا للمساكين كما يقوله عبد الله بن الـمبارك ومن أخذ برأيه، كما هو الظاهر من مذهب الشافعي وأبي حنيفة. فهذا الـمنع ليس له مستند من الصحة، فإن الله سبحانه أباح الأكل من لحوم الأضاحي على الإطلاق، فقال: ﴿فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا﴾ -أي سقطت بالأرض بعد ذبحها- ﴿فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّ﴾ [الحج: 36]. ولأن الإنسان يشتري الأضحية ويذبحها لميته على سبيل التبرك ومن نيته أن يأكل هو وأهله وعياله منها، كما يفعل بأضحيته بنفسه، فهذا هو الـمتعارف عند الناس والفعل العرفي كالشرط اللفظي، ولكل امرئٍ ما نوى، ولم نجد دليلاً يحرم الأكل منها على الـمتقرب بها، لكونه ليس في نيته ولا من قصده أن يتصدق بها كلها، أشبه دم الـمتعة والقران، حيث قال بعض الفقهاء بمنع الأكل منه لكونه دم جبران، والصحيح إباحة الأكل منه، فإن الله سبحانه أباح الأكل منها، وقد أكل رسول الله وأزواجه وأصحابه منها، لكونها دم نسك وليست بدم جبران.
ومثله قول من يقول: إن الأضحية متى عينها صاحبها لم يجز له الأكل منها، كما هو ظاهر مذهب الشافعي، والتعيين هو أن يقول: هذه أضحية. فتصير واجبة بالتعيين ويحرم عليه الأكل منها عندهم، وهذا التحريم ليس له مستند من الصحة لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة والتابعين، فإن الإنسان متى اشترى أضحيته وسأله سائل عنها، قال: هذه أضحيتي. ولن تحرم عليه بهذه الكلمة، كما في البخاري عن أبي أمامة بن سهل، قال: كنا نسمّن الأضحية بالـمدينة وكان الـمسلمون يسمّنون. فهؤلاء الصحابة والـمسلمون لا يتحاشى أحدهم من قوله: هذه أضحيتي. ولا يرون هذه الكلمة تحرم عليهم ما أحل الله لهم من لحم نسكهم، ومثله لما قسم النبي الأضاحي بين أصحابه، إذ من الـمعلوم أن أحدهم سيقول: هذه أضحيتي. وهم أعرف الناس، هذا كبش أريد أن أذبحه يوم العيد، فتكون مباحة الأكل عندهم، فالتحليل والتحريم يرجع إلى التلفظ بهذه الكلمة وهو ضعيف جدًّا، وإنما الذي يمتنع الأكل منه على صاحبه هو دم الكفارات على الإطلاق، كدم جزاء الصيد، وكذا الدم الواجب لترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظوراته، وكمن نذر أن يتصدق ببدنة أو شاة فيمتنع الأكل منها، لأنه لو أكل منها لم يصدق عليه أنه أخرج فداء كاملاً، وليس كذلك الأضحية عن الـميت، سواء وقعت عنه بطريق الانفراد أو الاشتراك، وسواء قلنا إنها شرعية أو غير شرعية، لأنها إن لم تكن شرعية فإنها ذبيحة لحم مباحة الأكل له ولأهله، أشبهت أضحية أبي بردة بن نيار، التي ذبحها قبل صلاة العيد فكانت غير شرعية، وأخبر النبي ﷺ بأنها شاة لحم عجلها له، أي مباحة الأكل، وكذلك الأضحية عن الـميت، وهذا هو ظاهر الـمذهب، قال في الإقناع و شرحه: وأضحية عن ميت كأضحية عن حي من أكل وصدقة وهدية. انتهى. حتى ولو نذر ذبح أضحية جاز له الأكل منها، قال في الشرح الكبير: وإذا نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله أن يأكل منها، لأن النذر محمول على الـمعهود والـمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها. انتهى.
يبقى الكلام في الأضاحي التي أوصى بها الأموات والتي تذبح من غلة الأوقاف والوصايا بأمر الـموتى، فهذه بمثابة الوقف الخيري والوصية في فعل البر والخير، فلا يحل للمتولي أكلها مع غناه عنها لكونها حقًّا للفقراء والـمساكين، وفرق بين هذه الأضحية وبين أضحية الـمتبرع بالصدقة بها، فإن أضحية الـمتصدق تذبح على ملكه، وإنما ثوابها لميته، فجاز له الأكل منها كأضحيته لنفسه، أما الأضحية من وقف الـميت أو وصيته، فإنها تذبح على ملك الـميت وتصرف في مصارفهـا الشرعية من الصدقة بها ويكون الـمتولي لها بمثابة الـمتولي لمال اليتيم ﴿يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾ [النساء: 6]. والأصل كونها للفقراء والـمساكين.
قال في رد الـمحتار لابن عابدين: ولو ضحى عن ميت وارثه بأمره، أي بأمر الـميت في نحو وصية أو وقف ألزم بالتصدق بها وعدم الأكل منها، وإن تبرع بها عن الـميت فله الأكل، لأنها تقع على ملك الذابح والثواب للميت.
قال في كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: وكره فعلها، أي الأضحية عن ميت كالعتيرة، وقال في التوضيح: قال مالك في الـموَّازية: ولا يعجبني أن يضحي عن أبويه الـميتين، قال في الشرح الكبير: وإنما كره أن يضحى عن الـميت، لأنه لم يرد عن النبي ﷺ ولا عن أحد من السلف، وأيضًا فإن الـمقصود بذلك الـمباهاة والـمفاخرة. وقال في الـمنتقى شرح الـموطأ: روى محمد عن مالك قال: لا يعجبني أن يضحي عن أبويه الـميتين، قال في الشرح: لكون الأضحية من أحكام الحي.
وقال في الشرح الكبير للدردير: وكره فعلها عن الـميت إن لم يكن عينها قبل موته وإلا ندب للوارث إنفاذها.
وقال في حاشية الدسوقي تحت قوله: وكره فعلها عن ميت. قال: فإن فعلت عنه وعن الـميت لم يكره.
الـمشهور من مذهب الإمام الشافعي، أن ما عدا الواجب والصدقة والاستغفار لا يفعل عن الـميت ولا يصل ثوابه إليه، فلا يصل إليه ثواب الأضحية ولا القراءة ولا حج التطوّع.
قال في تحفة الـمحتاج شرح الـمنهاج: ولا تقع أضحية عن ميت إن لم يوص بها، ويفرق بينها وبين الصدقة، أنها -أي الأضحية- تشبه الفداء عن النفس فتوقفت على الإذن ولا إذن لميت بخلاف الصدقة، فمن ثم لم يفعلها وارث ولا أجنبي، بخلاف نحو حج واجب وزكاة وكفارة، لأن هذه تشبه الديون ولا كذلك التضحية، أما إذا أوصى بالأضحية فتصح كما صح «عن علي أن النبي ﷺ أمره أن يضحي عنه كل سنة»([27]). وقال في حاشية الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: ولا تجزئ تضحية لأحد عن آخر ولو كان ميتًا كسائر العبادات، وقال النووي في الـمجموع شرح الـمهذب: لو ضحى عن غيره بغير إذنه لم يقع، وأما التضحية عن الـميت فقد أطلق أبو الحسن العبادي جوازها، لأنها ضرب من الصدقة، والصدقة تصح عن الـميت وتنفعه وتصل إليه بالإجماع.
وقال صاحب العمدة والبغوي: لا تصح التضحية عن الـميت إلا أن يوصي بها وبه قطع الرافعي في الـمجرد، واحتج العبادي وغيره في التضحية عن الـميت بحديث علي: «أنه كان يضحي بكبشين عن النبي ﷺ وقال: إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه»([28]). انتهى.
فقد عرفت أن كثيرًا من الفقهاء لمّا سمع بحديث علي أخذ بظاهره حين ظنه صحيحًا، فمنهم من بنى عليه القول بصحة الأضحية عن الـميت مطلقًا، ومنهم من بنى عليه القول بصحة الوصية بها والوقف عليها، والحق أن هذا الحديث ضعيف متروك لا يحتج به، كما حقق ذلك أهل الحديث.
[27] أخرجه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب. [28] أخرجه الترمذي من حديث علي بن أبي طالب.
الـمشهور من مذهب الأحناف، أنه لا أضحية لـميت لعدم مشروعيتها، قال في بدائع الصنائع: وإذا اشترك سبعة في بدنة فمات أحدهم قبل الذبح فرضي ورثته أن يذبح عن الـميت جاز ذلك استحسانًا، والقياس أنه لا يجوز، ووجه القياس أنه لـمّـا مات أحدهم فقد سقط عنه الذبح، وذبح الوارث لا يقع عنه، إذ الأضحية عن الـميت لا تجوز وأنه يمنع من جواز ذبح الباقين للأضحية، ووجه الاستحسان أن الـموت لا يمنع التقرب عن الـميت، بدليل أنه يجوز أن يتصدق عنه ويحج عنه ص72- ج5.
وذكر في الـمبسوط للسرخسي و فتح القدير و شرح الوقاية، نحو ذلك، وأن من العلماء من استحسن الذبح بإذن الورثة، وتقع عن الـميت قياسًا على الصدقة، وأن منهم من منع ذلك آخذًا بظاهر الـمذهب من أنه لا أضحية لـميت، ولأن الذبح إتلاف والإتلاف لا تبرع فيه عن الـميت.
إنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الـمتقدمين من الحنابلة مثل: كتاب الـمغني على سعته وشموله، وكذا الكافي و الخرقي و الشرح الكبير و الـمقنع و الـمحرر و الـمذهب الأحمد و الإنصاف و زاد الـمعاد و إعلام الـموقعين وكذا الـمنتقى و الالـمام في أحاديث الأحكام، كل هذه الكتب الـمعتمدة لم نجد في كتاب واحد منها ذكر الأضحية عن الـميت، لعدم العمل بها أو لندرة وقوعها في زمنهم، وإنما يذكرون الأضحية عن الحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، ولم نجد عن الإمام أحمد نصًّا في الـمسألة، لا جوازًا ولا منعًا، فلا يجوز نسبة القول بالجواز إليه إلا عند وجود ما يدل عليه إلا أن يؤخذ من مفهوم قوله: الـميت يصل إليه كل شيء. وهي كلمة تحتاج إلى تفصيل كما سيأتي بيانه، وأسبق من رأيناه تكلم فيها من الحنابلة هو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقد سئل عن الأضحية عن الـميت، فقال: يجوز أن يضحى عنه كما يحج عنه، ونقل صاحب الاختيارات عنه أنه قال: التضحية عن الـميت أفضل من الصدقة بثمنها.
وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية: سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: أيهما أفضل الصدقة عن الـميت أو الأضحية؟ فأجاب: هذه الـمسألة اختلف العلماء فيها، فذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء إلى أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وذهب بعضهم إلى أن الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول أقوى في النظر، وذلك لأن التضحية عن الـميت لم تكن معروفة عند السلف، إلا أنه روي عن علي، أنه كان يضحي عن النبي ﷺ ويذكر أن رسول الله أوصاه بذلك، والحديث ليس في الصحاح، وبعض أهل العلم تكلم فيه، وبعض الفقهاء لما سمعه أخذ بظاهره وقال: لا يضحى عن الـميت إلا أن يوصي بذلك، وإن لم يوص فلا يذبح عنه، بل يتصدق بثمنها، فإذا كان هذا صورته فالأمر في ذلك واسع إن شاء الله.
وقال في الـمنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وقال في الإقناع: وذبحها ولو عن ميت وذبح العقيقة أفضل من الصدقة بثمنها، ثم قال منصور في شرحه: صرح به ابن القيم في تحفة الـمودود وابن نصر في حواشيه؛ لأن النبي ﷺ ضحى والخلفاء، ولو كانت الصدقة أفضل لعدلوا إليها، ولحديث عائشة مرفوعًا: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلاً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ»([29]). انتهـى. فقد عرفت كيف فرع ما ثبت عن رسول الله وعن الخلفاء في الأضحية الشرعية التي هي أضحية الحي على الأضحية عن الـميت، لكون الكلام يعود على أقرب مذكور، ثم أكد ذلك بعزوه إلى العلامة ابن القيم في تحفة الـمودود، وابن القيم لم يتعرض للأضحية عن الـميت بذكر، لا في تحفة الـمودود ولا في غيره، وإنما ذكر العقيقة عن الـمولود، وأن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، قال الخلال: أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سئل أبو عبد الله، وأنا أسمع، عن ذبح العقيقة أحب إليك أو يدفع ثمنها إلى الـمساكين؟ قال: العقيقة. وقال له صالح ابنه: الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذلك حتى يوسر؟ فقال: أشد ما سمعت في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال: «كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ»([30])، وإني أرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف، لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله. انتهـى([31]).
فهذا الكلام وقع منه في تفضيل ذبح العقيقة على التصدق بثمنها، وهو أمر مجمع عليه بين الأئمة الأربعة، بلا خلاف، كما أن ذبح الأضحية لخاصة الحي أفضل من الصدقة بثمنها، باتفاق الأئمة الأربعة على ذلك أيضًا بخلاف الأضحية عن الـميت، فقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة بعدم فعلها عنه لعدم ما يدل على مشروعيتها. وأما قول صاحب الـمنتهى: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي، فإنه باطل قطعًا، لا يعبأ به من له أدنى معرفة بالنصوص، لكون الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء، أشبه مشروعية صلاة العيد على السواء، وأشبه مشروعية صدقة الفطر فيمن أدرك عيد الفطر، فهذا هو الأمر الثابت بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والتابعين فلا أدري في أي آية من كتاب الله أو حديث صحيح عن رسول الله وجدوا فيه مشروعية الأضحية عن الـميت، فضلاً عن القول بتفضيلها على أضحية الحي الثابت فضيلتها بالنص والإجماع؟! ويقابله في البطلان قول صاحب الإقناع: من أن ذَبح الأضحية عن الـميت أفضل من الصدقة بثمنها. فإن الأضحية عن الـميت فيها الخلاف الكبير، إذ أكثر أئمة الـمذاهب يقولون بعدم مشروعيتها، لهذا تجد الأضحية عن الـميت غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي ينتحل أهلها العمل بالـمذاهب الثلاثة، كالشام ومصر والعراق وفارس واليمن، فليس لها ذكر عندهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا سائر تبرعاتهم، فكيف يقال بتفضيل ما فيه الخلاف الكبير على الصدقة الثابت فضلها ووصول نفعها إلى الـميت بالنص والإجماع، فقياس الأضحية عن الـميت على أضحية الحي قياس مع الفارق.
* * *
[29] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [30] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث سمرة بن جندب. [31] قال في تحفة الـمودود (ص35): العقيقة سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين بهبة الولد، فكان ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، كالهدايا والأضاحي، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، ولهذا لو تصدق عن دم الـمتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية. قال: وفي العقيقة سر بديع وهو أن يفدى الـمولود عند ولادته بذبح يذبح عنه، ولا يستنكر أن يكون هذا حرزًا له من الشيطان بعد ولادته ولهذا قل من يترك أبواه العقيقة عنه إلا وهو في تخبيط من الشيطان، قال: ومن فوائدها أنها قربان يقرب به إلى الله عن المولود في أول أوقات خروجه إلى الدنيا، وغير مستبعد في حكمة الله وفي شرعه وقدره أن تكون سببًا لحسن إنبات الولد ودوام سلامته وطول حياته.
إن القول بتفضيل ذبح الأضحية عن الـميت على الصدقة عنه هو مقتبس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- إن صح ذلك عنه، فقد نقله ابن اللحام في الاختيارات، كما أشار إليه صاحب الفروع قائلا: واختار شيخنا تفضيل الأضحية عن الـميت على الصدقة، ولم أر من سبقه إلى هذا القول من سائر علماء الـمذاهب، ولسنا نسقط رأيه في هذه القضية بنظريات اجتهادية من عندنا، وإنما نسقطه بما ظهر لنا من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، والله يعلم أننا من أشد الناس محبة لشيخ الإسلام، واحترامًا له، ونفضل آراءه في كثير من الـمسائل التي خالف فيها أئمة الـمذاهب لرجحانها عندنا بالدليل، ونحن إذ نرد كلامه في هذه القضية، فإنما نرد كلامه بكلامه، فهو الذي عوّدنا معارضة كل قول يخالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع قطع النظر عن قائله، إذ الحق فوق قول كل أحد.
وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله وما عليه إجماع الصحابة في مثل هذه الـمسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه وفقهاؤه أو ما قاله الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن كل من له سعة علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن العالـم الجليل الذي له في الإسلام قدم راسخ وقلم خالص وعلم واسع وآثار حسنة، أنها قد تكون منه الزلة هو فيها معذور، بل ومجتهد مأجور، فلا يجوز أن يتبع على زلته ولا أن يهدر من أجلها مكانته وإمامته، لأن سعة علمهم وفضلهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه وما وقع في فتاويهم من الـمسائل التي قالوا فيها بمبلغ علمهم واجتهادهم والحق في خلافها لا يوجب اطراح أقوالهم جملة ولا تنقصهم من أجلها، بل نسلك بهم مسلك الصحابة في مخالفة بعضهم لبعض، فإنهم لا يؤثمون الـمجتهد الـمخطئ ولا يعصمونه ولا يقبلون كل أقواله. انتهـى.
والذي جعل شيخ الإسلام يغفل عن تحقيق هذه القضية على الوجه الشرعي الـمطلوب هو عدم الابتلاء بها في زمنه، على أنه إمام الـمحققين ورأس الـمدققين لأن الابتلاء بالشيء يستدعي التوسع في العلم به أكثر من غيره، وما من أحد من الناس إلا ويخفى عليه شيء من أمر السنة في وقت ثم يذكره في وقت آخر، والعلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا، وسبحان من أحاط بكل شيء علمًا. ومن تربى على مذهب قد تعوّده واعتقد صحة ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول ولا يقنع بحجة القرآن وما جاء عن الصحابة والسلف الكرام، وبين ما قاله علماء مذهبه مع تعذر إقامة الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته فإنه يعد من الـمقلدين الناقلين لأقوال غيرهم والـمقلد لا يعد من أهل العلم.
ولقد كنا قبل أن نستقصي في البحث والتحقيق عن هذه القضية، وقبل أن نقف على دلائلها من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأقوال الأئمة، نظن كل الظن أن الأضحية من أفضل ما يعملها الحي للميت، وأنها في فضلها ووصول نفعها ترتفع عن مجال الشك والإشكال، من أجل رواجها في الأذهان.
ولشيخ الإسلام الأجر الجزيل والثناء الجميل من الله إن شاء الله، ومن الناس حتى فيما أخطأ فيه ولا يكون الـمنتصر لـمقالته بمنزلته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر حتى يتبين له الحق فيأخذ به، وقد أعرض العلماء عن العمل ببعض اختياراته، لما تبين أن الراجح خلافها، وهو نفسه لا يرضى أن يقلده أحد فيما أخطأ فيه ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم.
إذ لو كان للأضحية عن الـميت أصل في الشرع، أو أنه مرغوب فيها، أو أنه يصل ثوابها لما جهلها الصحابة والسلف الأول، ولو علموها لما أهملوا العمل بها لكونها تعد من العبادات العملية التي يهتم بها الصحابة والسلف الصالح، بالعمل بها، ثم تبليغها حتى تتوفر الهمم والدواعي على نقلها بالتواتر، كما نقلوا سائر السنن والـمستحبات، ومع عدم ما يدل على ذلك علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة، ولا مرغب فيها، لأنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، والله الهادي إلى الصواب وإليه الـمرجع والـمآب.
* * *
إنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب فقهاء الحنابلة الـمتقدمين، مثل: الـمغني على سعته، و إعلام الـموقعين، و الخرقي، و الشرح الكبير، و الـمحرر، و الكافي، و الـمقنع، و النظم، و الـمذهب الأحمد، و زاد الـمعاد، و الإنصاف، لم نجد في كتاب واحد ذكر الأضحية عن الـميت لا جوازًا ولا استحبابًا، فعدم ذكرهم لها يدل على عدم وجود فعلها في زمنهم، لأن العلماء إنما يعتنون بذكر الأمور الوجودية فيذكرون عنها ما تقتضيه أمانة التبليغ من الجواز والـمنع، أما الأمور العدمية التي لا وجود لفعلها فلا يذكرونها إلا حينما يتصدون للرد عليها عند بوادر ابتداعها، من ذلك الأضحية عن الـميت والقول بتفضيلها فإنها لم تكن معروفة ولا معمولاً بها زمن الصحابة والتابعين والفقهاء الـمتقدمين.
وأقدم من قال بتفضيلها هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما نقله عنه ابن اللحام، ولم نر من سبقه إلى القول بذلك لا من فقهاء الحنابلة ولا من غيرهم، وقد أخذ ذلك صاحب الـمنتهى فصاغه بقوله: وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي. وقال صاحب الإقناع: وذبحها - أي الأضحية - ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها.
ولمّا انتشر بين الناس كتاب الإقناع و الـمنتهى وتقرر عند الـمتأخرين أن الـمذهب هو ما اتفق عليه الكتابان ووجدوا فيهما هذا التفضيل، وتقوى صحته في نفوسهم بنسبته إلى شيخ الإسلام، بحر العلوم ومفتي الأنام ومفخر السلف الكرام، وقد أودع الله محبته في قلب الخاص والعام.
فلأجله استقر فضلها في الأذهان وجرى العمل بها من العلماء الأعلام، وتبعهم على العمل بها سائر العوام في الوصايا والأوقاف، وأخذوا يتوسعون في العمل بها عامًا بعد عام.
وليس بلازم أن يكون كل ما يكتبه العالـم أو يفتي به يصير حجة على الناس بدون دليل يؤيده، فإن العالـم مهما بلغ في سعة العلم والـمعرفة، فإنه قد يزل ولا بد فيتبعه الناس على زلته، وقد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير، وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير حتى يصير كالصحيح ويصير من الصعب مزاولة الناس في العدول عنه إلى الحق الـمنصوص عليه بدله.
وقد قلنا: إن الأضحية في خاصة الحي أفضل من الصدقة بثمنها، حتى باتفاق الأئمة الأربعة، أما الأضحية عن الـميت فإنه لم يثبت مشروعيتها لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة، فكانت الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها.
فإن قيل: إن في الأضحية عن الـميت تقربًا إلى الله بإراقة دمها في ثوابه وصدقة بلحمها. قلنا: نحن لا نتكلم عن اللحم الـمركوم بعد ذبحه والذي لو لم يتصدق به أو يهدى منه لأنتن حتى يقذف به في بطون الكلاب أو في محل غير مستطاب، ولأنه ليس الـمقصود من الأضحية مجرد التصدق بلحمها بعد إراقة دمها، فإن ذلك مستحب وليس بواجب، فلو أكلها كلها إلا قدر قشة جاز كما أن الأضحية لا تسمى صدقة والصدقة لا تسمى أضحية ولكل شيء حكمه على حسب مسماه.
وإنما نتكلم الآن مع ولاة الأوقاف والوصايا والذي يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين والستين من الأغنام، يريد أن يجزرها في مقام واحد كلها أضاحي عن الأموات، وعند الثاني والثالث مثل ذلك وكذا الـمتبرعون بأفعال الخير، بحيث يموت الرجل العظيم من عالـم أو حاكم أو تاجر فينتدب كل واحد من أبنائه وأرحامه بأضحية عنه، بحيث يضحى له في يوم واحد بعشرين كبشا أو أقل أو أكثر، ومن لوازم هذا التصرف إتلاف الـمال وإزهاق أرواح الحيوان الذي يجب ألاّ يسفك دمه إلا بحق، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.
فإن كان ذبح مثل هذه الأغنام يقع بطريق شرعي فسبيل من هلك ومن قتل في حق فالحق قتله، وإن كان قتلها بطريق غير شرعي وأنه ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة، وجب العدول عنه إلى الصدقة بثمنها الـمنصوص عليها بدل ذبحها لكونها أنفع للحي والـميت، وأقرب إلى طاعة الله ورسوله، والصرف إلى مثل هذا يعد من الإصلاح بالعدل الذي رفع الله الإثم عن فاعله في قوله: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ﴾ [البقرة: 182]. كما أرشد النبي ﷺ سعدًا، بأن يتصدق عن أمه([32])، وكما أرشد أبا طلحة بأن يتصدق ببيرحاء على أقاربه([33])، وكما أرشد عمر بن الخطاب بأن يتصدق بغلة وقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف([34])، وكما قال لعمرو بن العاص: «إن أباك لو كان مسلمًا فتصدقت عنه نفعه»([35])، وكما أخبر بأن الصدقة الجارية هي الباقية للشخص بعد موته([36])، والواقف والـموصي إنما يبذل ماله في سبيل ما يقرّبه من رضى ربه وينفعه في آخرته، وقد ظن أن الأضحية هي أفضل ما يفعله أو أنها بمثابة فكاك رقبته من عذاب ربه أو أنها مطيته على الصراط الـمنصوب على متن جهنم، كما روى الحديث الـموضوع في ذلك، والعامي مشتق من العمى، فهو يحتاج إلى من يدله على الطريق ويبين له ما ينبغي أن يفعله لآخرته، على سبيل التحقيق وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن أوصى بمال في ختمات يهدى إليه ثوابها، وقصده بذلك التقرّب إلى الله، بأنه ينبغي صرف هذا الـمال إلى فقراء محاويج؛ لأن الصدقة أفضل من عمل ختمة، فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن الوقف أو الوصية بالأضحية أحق بالصرف من هذا لعدم ما يدل على مشروعيتها؛ لأن من شرط صحة الوقف كونه على جهة بر، ونحن لم نتحقق فعل البرّ في الأضحية عن الـميت لـما ذكرنا، والله أعلم.
* * *
[32] ذكره البيهقي تعليقًا في معرفة السنن والآثار من قول الشافعي. [33] أخرجه البخاري من حديث أنس. [34] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. [35] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [36] متفق عليه من حديث أبي هريرة.
يجب أن نعلم بأنه ليس كل ما يكتبه العالـم أو يفتي به، يكون حجة على الناس بدون دليل يؤيده، لأن العالـم قد يقول القول الـمرجوح الذي يعجزه أن يقيم الحجة على صحته فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير وهو باطل في نفس الأمر والواقع، لهذا ينبغي أن نعرف بأن العالـم مهما بلغ في سعة العلم والـمعرفة، فإنه قد يزل ولا بد فيتبعه الناس على زلته، وقد شبهوا غلطته بغرق السفينة يغرق لغرقها الخلق الكثير، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ ومن استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان، من ذلك القول بتفضيل الأضحية عن الـميت على الصدقة عنه، كما حكاه صاحب الإقناع وقد أخذه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن صح ذلك عنه. وكان نسبة هذا القول إليه هو الحجر الأساسي في توسع الناس في الأضاحي عن الأموات، ولم نر من سبق شيخ الإسلام إلى القول بهذا لا من فقهاء الحنابلة الـمتقدمين ولا من غيرهم من سائر علماء الـمذاهب، ولم يقع لها ذكر في كتب الـمتقدمين من الحنابلة، فضلاً عن القول بتفضيلها على الصدقة لكونها غير معروفة ولا معمول بها عند العلماء الـمتقدمين، كما أنها غير معروفة عند الصحابة والتابعين حتى إنه ليتردد في الذهن عدم صحة نسبة هذا التفضيل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه قد حكى إجماع العلماء على وصول ثواب الصدقة إلى الـميت ولن يستطيع أن يقول بذلك في الأضحية.
مع العلم أن الظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة عدم مشروعيتها وكونه لا يصل إلى الـميت ثوابها، لهذا تجد الأضحية عن الـميت على سبيل الانفراد غير معروفة ولا معمول بها في سائر الأمصار التي يحكم أهلها بمذاهب الأئمة الثلاثة، كالشام ومصر والعراق واليمن وفارس، فلا تذكر في أوقافهم ولا وصاياهم لاعتقادهم عدم مشروعيتها، فكيف يقال بتفضيل ما اتفق الأئمة الثلاثة على عدم مشروعيتها على الصدقة الثابت بالنص فضلها والـمجمع على وصول نفعها، وإنما يذكر الفقهاء فضل أضحية الحي، وأن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، وكذلك العقيقة، وهذا صحيح ثابت لاشك فيه ولكل مقام مقال، فقياس الأضحية عن الـميت على أضحية الحي في تفضيلها إنما هو قياس مع الفارق، لأن الشرع ورد بالتقرّب إلى الله بإراقة الدم في حق من أدرك عيد الحج الأكبر الذي هو عيد الإسلام وما يتبعه من الأيام، تعظيمًا لأمر هذا العيد وإشهارًا لشرفه وشكرًا لله على بلوغه، ولا يحصل ذلك بالتصدق بالقيمة لكون الصدقة بالقيمة تفضي إلى إهمال هذه السنة وعدم العمل بها.
فلا وجه للتعليل فيما هو خالص حق لله تعالى، يوضحه أن الله سبحانه وتعالى قد نصب لعباده حكمًا قسطًا يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الاجتماع وهو الكتاب والسنة.
أما الكتاب، فإن مبدأ مشروعية الأضحية هو ما قص الله عن نبيه إبراهـيم مع ابنه إسماعيل، حيث قال: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧﴾ [الصافات: 107]. وهذا الذبح هو كبش أمر إبراهيم بذبحه فداء عن ابنه وقربانًا إلى ربه في يوم عيد النحر، فصار سنة في ذريته، وقد أمر النبي بأن يتبع ملته فسنها رسول الله في أمته، كما في حديث زيد بن أرقم، قال، قلنا أو قالوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ...»» الحديث([37]).
والدليل الثاني قوله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦﴾ [الحج: 36]. فهذه الآيات نزلت في دماء الأضاحي والـمناسك، والخطاب فيها للأحياء الذين سخر لهم البدن وجعلها من شعائر الله، ولا تكون من شعائر الله إلا إذا ذبحت في سبيل القربة والطاعة، فهم أي الأحياء الذين أمروا بأن يذكروا اسم الله عند ذبحها، وأن يأكلوا منها ويطعموا القانع والـمعتر والبائس الفقير، فهذا الأمر وهذا الخطاب إنما وجه إلى الحي الذي هو محل تكليف بالأمر والنهي والـموتى يبعثهم الله.
وبهذا يعلم مبدأ مشروعية الأضحية وكيفية نظامها، وأنها من عمل الأحياء ولا علاقة فيها لذكر الأموات، فكيف يقال بتفضيلها مع عدم ما يدل على مشروعيتها؟!
* * *
[37] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِىِّ ﷺ إِنَّ أُمِّىَ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نعم فتصدق عن أمك»». رواه البخاري ومسلم، وهذا الرجل الـمبهم هو سعد بن عبادة لـمـا روي في البخاري عن ابن عباس: «أن سعد بن عبادة أخا بني ساعدة، توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها بشيء؟ قال: «نعم»، قال: فأشهدك أن حائط الـمخراف صدقة عليها».
فهذا سعد بن عبادة الذي هو أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى والدته التي توفيت في غيبته فأرشده النبي ﷺ إلى الصدقة عنها ولم يأمره بالأضحية، كما أنه لم يأمره بأن يجعل لها في هذا الـمخراف أضحية تذبح لها كل عام كما يفعله الكثير من العلماء والعوام، ولو كانت مشروعة أو أنها أفضل من الصدقة أو أنه يصل ثوابها إلى الـميت لأرشده إلى فعلها، إذ لا يجوز تأخر البيان عن وقت الحاجة إليه.
ما ثبت في البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: «عادني رسول الله من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله أنا ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قلت: فالشطر، قال: «لا»، قلت: فالثلث، قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا آجرك الله عليها»» الحديث.
فأرشده النبي إلى الصدقة بثلث ماله ولم يأمره بالأضحية، فلو كانت مشروعة أو أن نفعها يصل إليه بعد موته لما بخل عنه بالأمر بها، ولم يكن رسول الله لينساها وهو يعلم أنها أفضل من الصدقة.
ما روى البخاري عن أنس بن مالك، قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آلعمران: 92]. فجاء أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بِيْرُ حَاءَ ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أراك الله ، فَقَالَ رسول الله: «بَخٍ ، بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَائِحٌ . وقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْت وَإني أرى تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ»، فقال أبو طلحة: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ بين ثلاثة من أَقَارِبِهِ وَبَنِى عَمِّهِ، وهم: أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأبو قتادة».
فهذا أبو طلحة قد وضع صدقته بين يدي رسول الله وقال: ضعها حيث أراك الله فأرشده إلى صرفها في أقاربه وبني عمه حتى إن أحدهم باع مستحقه منها بصاع دنانير، ولم يأمره بأن يجعل له في هذه الحديقة العظيمة أضحية تذبح له بعد موته، ولو كانت سُنة أو أنها أفضل من الصدقة لأمره بها وأرشده إليها، وهذا واضح جلي.
ما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لم يصب مالاَ قط هو أنفس منه فَأَتَى النَّبِىَّ ﷺ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا ، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» فقال: أفعل يا رسول الله، فتصدق بها عمر، أنه لا يوهب أصلها ولا يباع ولا يورث، فتصدق بها على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالـمعروف ويطعم صديقًا غير متمول مالاً».
فهذا عمر قد استشار رسول الله في مصرف وقفه في سبيل ما ينفعه بعد موته فأرشده إلى حبس أصله والصدقة بغلته في وجوه البر والخير على الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف ولم يذكر الأضحية في جملة ما ذكر، ولو كانت مشروعة أو أنها مما يثاب عليها أو أنها مما يصل إليه بعد موته نفعها لذكرها له رسول الله في جملة ما ذكر، ولما ساغ لعمر أن ينساها لنفسه وهذا يؤيد قول من قال: إن الأضحية عن الـميت غير مشروعة، وإنه لا يصل إليه ثوابها. لأن عدم فعل الصحابة لها وعدم نقلها عن أحد منهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم تدل على عدم مشروعيتها، إذ لو كانت مشروعة أو أن فيها فضيلة لكانوا أحق بالسبق إليها، فعدم فعلهم لها يعد من الإجماع القديم واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة، فهي تعد من التعبديات التي يجب فيها الوقوف عند الكتاب والسنة وعمل الصحابة والصدر الأول، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا.
عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي، قال: «بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إن أبوي قد ماتا فهَلْ بَقِىَ مِنْ بِرِّ أَبَوَىَّ شَىْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا قَالَ «نَعَمِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِى لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا من بعدهما» رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وزاد في آخره قال: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه؟! قال: «نعم فاعمل به»».
فهذا الحديث جاء بمثابة نهاية الحكم وفصل الخطاب في أفضل ما يفعله الحي للميت، وخاصة الولد لوالديه، فأرشده إلى الدعاء والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما، أي الوصية العادلة الصادرة منهما أو من أحدهما، لأن النبي قضى بالدين قبل الوصية، ثم بالوصية قبل الإرث، ثم أوصاه بصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، كإخوانهما وأخواتهما وأعمامهما وعماتهما وأخوالهما وخالاتهما وسائر من يمت لهما بقرابة وصلة، ثم قال: وإكرام صديقهما من بعدهما وهذا الإكرام يشمل الصدقة والإحسان وسائر وسائل الإكرام والاحترام، لأن من البر صلة الرجل أهل ود أبيه ولم يذكر في هذا الحديث على شموله الأضحية ولو كان فعلها من البر أو أن فيها نفعًا للميت لذكرها له رسول الله، لكون السائل الـمستفيد جاء كالـمستزيد من الإرشاد إلى فعل البر بوالديه بعد موتهما، فأرشده إلى ما ذكر وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ما روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» ولم يذكر الأضحية ولو كانت من الصدقة الجارية أو أنه يصل إليه نفعها بطريق الإيصاء بها أو بفعل أقاربه لها من إهدائهم ثوابها لذكرها كما ذكر الصدقة الجارية، إذ الصدقة لا تسمى أضحية، كما أن الأضحية لا تسمى صدقة، ولكل شيء حكمه على حسب حقيقته ومسماه.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لاِبْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِى صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن ورواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي.
فكل هذه النصوص تتضافر وتتفق على فعل الصدقة وفضلها وعموم نفعها ووصول ثوابها إلى الـميت، بحيث لم يبق مجال لقائل في خلاف ذلك، وكل من تدبر أوقاف الصحابة والوصايا الصادرة منهم والتي يرجون برها وذخرها عند ربهم، لن يجد فيها ذكرًا للأضحية لكونها غير معروفة عندهم ولا معمول بها ولا يمكن أن يقال إنها سنة فجهلوها ولا أنهم علموها فأهملوا العمل بها، كل هذا يعد من الأمر الـمستحيل في حقهم، وإنما الصحيح أنهم عرفوا عدم مشروعيتها، فأعرضوا عن العمل بها، فتركهم لها يعد من الإجماع الذي هو قطعي الدلالة، وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلته وأسفر صبحه فذاك شرع الله ودينه والسبيل الـموصل إلى رضاه والفوز بجنته.
* * *
وأما قول من قال: إنه يجوز أن يضحى عن الـميت كما يحج عنه، فإنه قياس مع الفارق، فإن الحج الذي أفتى النبي ﷺ بفعله عن الـميت هو الحج الواجب الـمشبه بالدين اللازم كما في البخاري من حديث ابن عباس، «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يا رسول الله إِنَّ أُمِّى نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ «نَعَمْ . حُجِّى عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»» وروى مسلم من حديث بريـدة، «أن امـرأة قالت: يا رسول الله إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ «نَعَمْ حُجِّى عَنْ أمك»»، فهذه واجبات بأصل الشرع وبطريق النذر.
وقد أفتى النبي ﷺ بجواز فعلها عن الـميت، والسؤال وقع فيها من الأولاد كما ترى وللأولاد حالة لا تشبه حالة غيرهم، كما أن للواجبات حالة لا تشبه حالة التطوّعات، ولهذا يجوز قضاء واجب الحج من أجنبي، كما يجوز قضاؤه لدين الآدمي في ظاهر الـمذهب، وعليه يحمل حديث ابن عباس، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ ؟» قَالَ أَخٌ لِى. قَالَ «هَلْ حَجَجْتَ». قَالَ لاَ. قَالَ «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ احْجُجْ عَنْ شُبْرُمَةَ»». رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان، والراجح عند أحمد وقفه، ونظيره حديث عائشة: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». متفق عليه.
وحمل الإمام أحمد هذا الحديث على صوم النذر فهو الذي يقضيه الولي عن ميته دون الواجب بالشرع وليس الأمر بالصوم للوجوب، بل إذا لم يصم الولي أطعم من تركته عن كل يوم مسكينًا.
ولا يختص قضاء هذا النذر بالولي، بل كل من صام عنه أجزأ، لأنه تبرع أشبه قضاء الدين، قاله في الـمغني. ومذهب أئمة الفقه أنه لا يصام عن الـميت مطلقًا، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي، وخص الإمام أحمد وآخرون جواز الصوم بالواجب بالنذر دون الواجب بالشرع، وقد روى الأثرم عن ابن عباس، أنه سئل عن رجل توفي وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان، فقال: أما رمضان فيطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه.
وهذا الأمر بالإطعام فيمن عليه صيام شيء من رمضان ليس على إطلاقه. أما من مات وعليه صيام شيء من رمضان، كمريض مات في إثر مرضه، أو حائض ونفساء أفطرتا للعذر، ثم مات أحد هؤلاء قبل أن يتمكن من قضاء ما عليه فهذا لا شيء عليه لا من الإطعام ولا من الصيام في ظاهر الـمذهب، وهو قول أكثر أهل العلم، قاله في الـمغني لكونه معذورًا شرعًا، أما إذا تمكن من القضاء، كمريض صحّ من مرضه، أو مسافر رجع من سفره، وتمكن من قضاء ما عليه أو حائض أو نفساء مكثت بعد مدة طهارتها، بحيث تتمكن فيها من قضاء ما عليها فتكاسل أحد هؤلاء عن قضاء ما عليه حتى مات، فإنه يجب أن يطعم عنه عن كل يوم مسكين في قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر الـمذهب ولا يصام عنه، لأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة، فكذلك بعد الوفاة، كالصلاة، بخلاف صوم النذر فإنه التزام في الذمة فقبل قضاء الولي له كالدين. قاله في الـمغني.
أما الحج فقد نص الفقهاء من الحنابلة والشافعية على أن من مات ولم يحج فإنه يخرج من تركته ما يحج به عنه أوصى بذلك أو لم يوص، أشبه دين الآدمي، ولأن النبي أمر الـمرأة أن تحج عن أبيها الـمعضوب الذي لا يستطيع الركوب على الراحلة، وقال مالك وأبو حنيفة: يسقط بالـموت لأنه عبادة بدنية فسقط بالـموت كالصلاة، وإن أوصى به، فمن الثلث.
أما ما عدا الحج، فإن مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، وروى النسائي بسند صحيح عن ابن عباس قال: لا يصل أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد. إذا ثبت هذا فإن الأضحية عن الـميت ليست من الأمر الواجب عليه حتى تقاس على الحج عنه، فكيف يقاس ما ليس بواجب ولا بمشروع على الحج الواجب الـمشبه بالدين اللازم حتى ولو قال به من قال، إذ ليس بلازم أن يقبل كل ما يقوله العالـم أو يفتي به بدون دليل يؤيده، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرف فيها بأنواع الأقيسة والآراء، والله أعلم.
* * *
الأصل في هذا الباب هو أن كل امرئٍ مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وأن من أبطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، وأن الأولين والآخرين يسألون يوم القيامة ويقال لهم: ماذا كنتم تعملون وماذا أجبتم الـمرسلين؟ قال الله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧﴾ [غافر: 17]. وقال: ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠﴾ [الزمر: 70]. وقال: ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا﴾ [الكهف: 49]. وقال: ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ [الأنعام: 164]. وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ﴾ [البقرة: 286]. وقال: ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١﴾ [النجم: 36-41]. وقال: ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 6-8]. وقال: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦٠﴾ [الأنعام: 160]. وفي الآية الأخرى: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّئَِّاتِ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٨٤﴾ [القصص: 84].
وفي الصحيح من حديث عدي بن حاتم، أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ عَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ شَيْئًا قَدَّمَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ أَيْسَرَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ شَيْئًا قَدَّمَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ أَمَامَهُ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِىَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، والله يقول عند عرض صحائف الأعمال على سبيل الأعذار: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»([38]).
ومن أجله حذر الله عباده من أن يغتروا بعمل أي أحد أو يتكلموا على صلاح والد أو ولد، فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔا﴾ [لقمان: 33]. وكان آخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ٢٨١﴾ [البقرة: 281]. من آخر سورة البقرة، فهذه هي العقيدة الدينية التي أنزل الله بها كتبه وأرسل بها رسله وأنذر بها الرسول عشيرته، وقال: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا»([39]).
وقد توسع الفقهاء في إهداء ثواب الأعمال توسعًا خارجًا عن حدود ما أنزل الله في كتابه، من ذلك قول الـموفق في كتابه الـمغني: وأي قربة فعلها الـمسلم وجعل ثوابها لميت مسلم نفعه ذلك إن شاء الله، أما الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة([40])، لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الـميت بالنص فكذلك سواهما، قال: ولأن الـمسلمين في كل عصر ومصر يجتمعون يقرؤون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، فكان إجماعًا. انتهى.
فتساهل الـموفق - رحمه الله- في دعوى الإجماع في ذلك، مع عدم صحته كما سيأتي بيانه وجعل هذه الكلمة بمثابة تأسيس قاعدة فقهية وعقيدة دينية، وقد تلقاها عنه الأصحاب بالقبول وبنوا عليها من التعليق فوق ما تطيق وتوسعوا فيها بدون تمحيص ولا تحقيق، فإذا أردت تصحيح ذلك فانظر إلى عشرين مؤلفًا من كتب الأصحاب تجد في كل كتاب منها هذه الكلمة بحروفها أو بمعناها.
ومن الـمعلوم أن العالـم قد يقول القول الـمرجوح مجتهدًا فيه فيطبع وينشر وتحفل به الجماهير والخلق الكثير وترسخ حقيقته في ذهن الصغير والكبير، غير أنه ليس بلازم أن يقبل كل ما يقوله العالـم أو يفتي به بدون دليل يؤيده، لأن العالـم قد يقول ما يعجزه أن يقيم الحجة على صحته، وحسبك ما جرى بين الصحابة من رد بعضهم على بعض في مسائل الفروع وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله ﷺ.
فما كان أحد هؤلاء الـمجتهدين يجيز لأحد أن يقلده فيما أخطأ فيه ويجعله شريكًا لله في التشريع وأمور التحليل والتحريم، فالقول باعتقاد إهداء ثواب الأعمال إلى الأحياء والأموات، كما يقوله الفقهاء يفضي إلى أن يعرى عمل العامل من ثواب الله له على عمله ويحصل الأجر والثواب لمن لا يعمل، وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وقد زاد الـمتأخرون من الفقهاء القول بجواز إهداء ثواب صلاة الفرض وسائر ما لا تدخله النيابة من العبادات إلى كل مسلم حي أو ميت، وعندهم لا فرق بين الفرض والنفل، بل لو صلى صلاة مفروضة وأهدى ثوابها لأبويه صحت الهدية.
قال في الإقناع: وكل قربة فعلها الـمسلم وجعل ثوابها أو بعضها كالنصف ونحوه لمسلم حي أو ميت جاز ونفعه ذلك لحصول الثواب له حتى لرسول الله، من تطوّع وواجب تدخله النيابة كحج ونحوه أو لا تدخله النيابة كصلاة ودعاء واستغفار وصدقة وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها. انتهى.
فقد عرفت كيف زاد على الـموفق بالقول بجواز إهداء ثواب الأعمال التي لا تدخلها النيابة كصلاة فرض وصيام فرض حتى لرسول الله، وقد أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، كما أن إهداء القرب الدينية إلى النبي بدعة كما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- قولان في الـمسألة، أحدهما: إن الـميت ينتفع بإهداء جميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة، كما ينتفع بالعبادات الـمالية من الصدقة والعتق ونحوها، وكما لو دُعي له واستغفر له.
والقول الثاني قال: إنه لم يكن من عادة السلف إذا صاموا تطوّعًا أو حجوا تطوّعًا أو قرؤوا القرآن أنهم يهدون ثواب ذلك إلى أموات الـمسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنه أفضل وأكمل. وهذا القول الأخير هو الجدير بسعة علم شيخ الإسلام وورعه وحرصه على التمسك بالشرع وسنته ومحاربته للبدع الـمخالفة لسنة رسول الله وسيرة خلفائه وأصحابه، ولعل هذا هو الأخير من أمره والـمحقق من رأيه، وحسبك شهادته بأن إهداء التطوّعات من القراءة والصيام والصلاة ليس من عمل السلف الصالح الذين هم الرسول وأصحابه، وكل ما ليس من عمل السلف الصالح فإنه من محدثات الأمور، وشر الأمور محدثاتها.
وقد ذكر ابن مفلح في شرح الـمحرر ما يحقق ذلك فقال: ذكر الشيخ تقي الدين بأنه ليس من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى الـمسلمين، بل من عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات الـمشروعة فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والـمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فإنها أفضل وأكمل.
فهذا هو الجدير بسعة علم شيخ الإسلام وحرصه على التمسك بصريح السنة والقرآن.
فهذا هو الأمر الـمحقق من رأيه وقد نقله ابن مفلح الذي هو أعرف الناس بأقواله، كما نقله ابن اللحام في اختياراته، إذ لا يمكن أن يدعو الناس إلى هذا الشيء الذي هو طريقة السلف من أهل السنة، ثم يدعو إلى خلافه.
فهذا القول هو الذي يجب الـمصير إليه لدلالة صريح الكتاب والسنة عليه، وأما القول بقياس إهداء ثواب الأعمال على الدعاء والاستغفار الثابت فضله والـمجمع على وصول نفعه، فإنه قياس مع الفارق، لأن الدعاء عبادة من العبادات التي خلق الله الناس لها وأمرهم بالقيام بها، كما في حديث النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قـال: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠﴾ [غافر: 60]». رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي، وله من حديث أنس مرفوعًا: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» والله يحب الـملحين في الدعاء ويحب أن يسأل كل شيء ومن لم يسأل الله يغضب عليه، وإذا استجيب الدعاء لم تكن استجابته من باب إهداء ثوابه ولكنه تفضل من الله للمدعو له وللداعي أجره وثوابه، وكذا يقال في استغفار الـملائكة لمن في الأرض، فإن الله خلقهم لعبادته التي هي التسبيح والدعاء والاستغفار، فهم يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا، ومثله انتفاع الـميت بصلاة الحي عليه كما يقوله من يستدل به، فإن الصلاة على الـميت هي كسائر الصلوات الـمشروعة، فالـمصلي عن الـميت إنما يصلي لله ويحتسب ثواب صلاته عند الله، كما في الصحيحين مرفوعًا: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فالـمصلي يحتسب هذا الأجر لنفسه ويتضرع بالدعاء إلى الله لـميته، إن شاء الله استجاب له وإن شاء رده، ولم يكن ليهدي ثواب دعائه أو ثواب صلاته إلى الـميت، وهذا كله يعد من العبادة التي خلق الله الخلق لها وأمرهم بالقيام بها، وانتفاع الـميت به هو شيء يصل إليه من الله، وهو شيء وإهداء الثواب شيء آخر، فإن إهداء الثواب هو أن يعمل الشخص العمل من صلاة وصيام وتلاوة القرآن، ثم يقول: اللهم اجعل ثواب ما عملت لفلان ابن فلان. أو يقول: اللهم إن كنت أثبتني على هذا العمل فاجعله لفلان ابن فلان، فيخرج العامل من ثواب عمله ويحصل الثواب والأجر لـمن لا يعمل وهو خلاف سنة الله وشرعه في الجزاء على الأعمال ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 6-8].
وأما قول الـموفق: إن الصدقة وأداء الواجبات لا يعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة، لأن الصوم والحج عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الـميت بالنص وكذلك ما سواها. يشير الـموفق بهذا إلى ما ثبت في الصحيحين عن عائشةأَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّىَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ « نَعَمْ فتصدق عن أمك». وهذا الرجل الـمبهم هو سعد في عبادة، كما ورد مفسرًا في البخاري من حديث ابن عباس، «وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن عمرو بن العاص سأل النبي ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِى أَوْصَى بِعِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ وَإِنَّ هِشَامًا أَعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ»»، وفي رواية: «لو كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ» رواه أحمد وأبو داود والبيهقي.
«وعن ابن عباس، أن امرأة قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِى الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرْكَبَ إِلاَّ مُعْتَرِضًا أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ حُجِّى عَنْه» » متفق عليه، «وعن ابن عباس أيضًا، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ : نَعَمْ ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»([41]).
ولـمسلم وأبي داود والترمذي من حديث بريدة قال: «كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِىِّ ﷺ إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يا رسول الله إِنِّى تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّى بِجَارِيَةٍ وإن أمي ماتت، فقال: «وجب أجرك وردها إليك الـميراث»، قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ فقال: «نعم صومي عنها؟» قالت: يا رسول الله، إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها»»، وفي البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
فهذه النصوص هي التي استمد منها الفقهاء جواز إهداء ثواب الأعمال إلى الـموتى وكلها وقعت سؤالاً من الأولاد عن واجبات آبائهم فأفتاهم رسول الله بجواز قضائها، وشبهها بالدين اللازم الذي يجب قضاؤه لحديث: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»([42])، وللأولاد مع الآباء حالة لا تشبه حالة غيرهم، لأن الكتاب والسنة قد ألحقا ذرية الـمؤمن به، لقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ﴾ [الطور: 21]. ولهذا تجعل أفراط الـمؤمن في كفة ميزانه بمثابة حسناته، وفي الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»([43]) لكونه هو السبب في إيجاده، كما أنه لا يقاس قضاء الواجبات على فعل التطوّعات.
ولهذا قلنا: إنه يجوز للأبناء والبنات قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصيام وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو بالنذر للنصوص الواردة في هذا الخصوص، ومنها حديث عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: «إن أباك لو كان موحدًا فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ»([44])، قال في نيل الأوطار: فيه دليل على أن ما فعله الولد لأبيه من الصوم والصدقة فإنه يلحقه ثوابه بدون وصية منهما له ويخصص بهذا قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩﴾ [النجم: 39]. قال: وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى دعوى التخصيص، وأما من غير الولد فالظاهر من العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الـميت فيتوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها.
وأما الصدقة، فقد حكى بعض العلماء الإجماع على فضلها([45])، ووصول نفعها لكونها من الفعل الـمتعدي، وأما قول الـموفق: أداء الواجبات لا يعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما تدخلها النيابة، فهذا غير صحيح فإن فيه الخلاف الكبير، أما الحج الواجب بالشرع فقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بالـموت، لأنه عبادة بدنية فسقط بالـموت كالصلاة وإن أوصى به فمن الثلث، وقال فقهاء الحنابلة والشافعية: من وجب عليه الحج ومات قبل أن يحج وجب على ورثته أن يخرجوا من ماله ما يحج به عنه، سواء أوصى به أو لم يوص، أشبه دين الآدمي. وبهذا يتبين وقوع الخلاف بين الأئمة في الواجبات التي تدخلها النيابة كما عرفت. قال العلامة ابن القيم في الإعلام على قوله: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»([46])، قال: فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، فقالت: يصام عنه الفرض والنذر، وأبت طائفة ذلك وقالت: لا يصام عنه الفرض ولا النذر، وفصلت طائفة فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح، لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد، فكذلك الصيام لا يصوم أحد عن أحد، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له كما يقضى دينه، وطرد هذا أنه لا يحج عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر رمضان للعذر، وبدون العذر لا يجوز الإطعام ولا الصيام، فأما الـمفرط من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله التي فرّط فيها وكان هو الـمأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبة أحد عن أحد ولا إسلام أحد عن أحد ولا صلاة أحد عن أحد ولا غيرها من فرائض الله التي فرّط فيها حتى مات، فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلته وأسفر صبحه، فذاك هو شرع الله ودينه والسبيل الـموصل إلى رضاه والفوز بجنته([47]).
والـمقصود أن الـموفق - رحمه الله- قد تساهل في القول في إهداء ثواب الأعمال إلى الـموتى حتى حكى الإجماع على إهداء ثواب القراءة قائلاً: إنه إجماع الـمسلمين([48])، فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرؤون القرآن، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، وحتى قال بجواز القراءة على القبور وأيد القول بذلك بأدلة ضعيفة، وقد أخذ الفقهاء عنه ذلك فقالوا بمثل قوله، فانتشر هذا الرأي الـمرجوح في كتب الأصحاب حتى صار له الأثر الكبير في نفوس العلماء والعوام والخاص والعام، وقد نجم عن هذا التعبير سوء التدبير، حيث عملت الوصايا وأُوقفت الأوقاف في الأمصار على إهداء الختمات وعلى قراءة القرآن على رمم الأموات، والقرآن إنما نزل للتذكر والتدبر لينذر به من كان حيًّا لا ليهدى منه الختمات إلى الأموات، على أن إهداء ثواب القراءة يعد من مفردات مذهب الإمام أحمد، كما حكى القول به صاحب الإنصاف، ونظمها صاحب الـمفردات قال:
تطوّع القربات كالصلاة
ثوابه لـمسلمي الأموات
يُهدى وكالقرآن مثل الصدقهْ
منفعته تأتيهم محققهْ
وقد حكى ابن كثير في التفسير على قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩﴾ [النجم: 38-39]. قال: أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، فكذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه، ومن هذه الآية استنبط الشافعي ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الـموتى، لأنها ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه لا بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيها على النصوص ولا يتصرّف فيها بأنواع الأقيسة والآراء، قال: وأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فهذه الثلاث بالحقيقة هي من سعيه وكده كما جاء في الحديث: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسبه»([49]) والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله لقوله تعالى: ﴿وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡ﴾ [يس: 12]. والعلم الذي ينشره في الناس واقتدي به بعده هو أيضًا من سعيه وعمله، وثبت في الصحيح: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ عير أن ينقض مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، وكذا حديث: «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلی يوم القيامة وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة»([50])، انتهـى. وهذا القول يعد من أعدل الأقوال في الـمسألة وأسعدها بالصواب وإن خالفه من خالفه.
وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فيمن أوصى بمال في ختمات وقصده التقرّب إلى الله بأنه ينبغي صرف هذا الـمال إلى الصدقة به على الفقراء والـمحاويج، قاله في الاختيارات، ويقاس على هذه الفتوى من أوصى بمال في حج أو أضاحي تذبح عنه وكان قد حج عن نفسه، فإن الصدقة بهذا الـمال على الفقراء والـمحاويج أفضل من صرفه في الحج والأضاحي، الذي يقول أكثر العلماء بعدم جواز ذلك.
وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في الـمسألة، أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه أوفقهاؤه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه، وقد نقل صاحب الـمحرر عن شيخ الإسلام ابن تيمية، بأنه لم يكن من عادة السلف إهداء ثواب الأعمال إلى موتى الـمسلمين، بل عادتهم أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها، وكانوا يدعون للمؤمنين والـمؤمنات كما أمر الله بذلك ويدعون لأحيائهم وأمواتهم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريقة السلف فإنها أفضل وأكمل.. انتهى.
وقال في تفسير الـمنار على قوله: ﴿وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ﴾ [الأنعام: 164]. قال: هذه قاعدة من أصول دين الله الذي بعث الله به جميع رسله، كما قال تعالى: ﴿أَمۡ لَمۡ يُنَبَّأۡ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ٣٦ وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ ٣٧ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١﴾ [النجم: 36-41]. قال: وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم لأنها هادمة لأساس الوثنية وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية وهو عملهم دون عمل غيرهم، فمعنى الجملتين: فلا تكسب نفس إثمًا إلا كان عليها جزاؤه الأخروي دون غيرها ولا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل كل نفس لها ما كسبت، أي من الحسنات وعليها ما اكتسبت، أي من السيئات، فالدين قد علمنا أن سعادة الناس وشقاءهم بأعمالهم، وأن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير، وأما من كان قدوة صالحة في عمله أو معلمًا، فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم زيادة على انتفاعه بأصل عمله، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالًّا عليه، فإن عليه إثم من أفسدهم، وكل هذا وذاك يعد من قبيل عمله، وقد بين النبي ﷺ هذا وذاك بقوله: «منْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة»([51]).
قال: ومما ينتفع به الـمؤمن من عمل غيره، بحيث يعد من قبيل عمله دعاء أولاده له وحجهم وتصدقهم عنه وقضاؤهم لصومه. وهو داخل في عموم قوله: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وقد ألحق الله ذرية الـمؤمنين بهم في نص الكتاب والسنة.
ومن قال بانتفاع الـميت بكل عمل يعمل له وإن لم يكن العامل ولده، قد خالف نص القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح. انتهى([52]).
والحاصل أن الأخبار الصحيحة وردت بجواز صدقة الأولاد عن الوالدين وقضاء ما وجب عليهما من صيام وحج وقضاء نذر، لكن مدار الجزاء والثواب والعقاب على عمل الإنسان بنفسه لنفسه لا على عمل أولاده وأقاربه جمعًا بين النصوص، كقوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ١٢٣﴾ [البقرة: 123]. وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيًۡٔا﴾ [لقمان: 33]. ثم إن هذا الانتفاع مشروط بكون الوالد والولد متفقين على الإيمان بالله والعمل بطاعته، وإن حصل التقصير من أحدهما في ترك طاعة أو ارتكاب معصية، كما في الحديث «إن الرجل لينزل الـمنزلة العالية في الجنة وينزل ابنه دون منزلته، فيقول أين ابني؟ فيقال له: إنه دون منزلتك قد قصرت به أعماله، فيقول: يا رب إني عملت لي وله، فيقول الله: صدق ارفعوا منزلته إلى والده لتقر به عينه»([53])، ثم تلا قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ﴾ [الطور: 21]. أشبه الشفاعة لا تكون إلا لمن أذن له الرب ورضي عمله، لهذا قلنا: إنه يجوز للأولاد قضاء واجبات آبائهم من صلاة وصيام وحج، سواء كانت واجبة بطريق الشرع أو النذر، أما غير الواجبات من سائر أفعال التطوّعات فالظاهر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنها لا تفعل عنه بعد موته فلا يصل إليه ثواب القراءة ولا الأضحية ولا يحج نفلاً عنه ولا يصام نفلاً عنه ولا يصلى عنه، بل يتصدق عنه، فإن الصدقة أفضل من هذا كله وأنفع للحي والـميت لكونها من النفع الـمتعدي للغير وحتى جاز فعلها مع الكافر، ولمّا تحرّج أصحاب رسول الله من الصدقة على أقاربهم من الـمشركين وقالوا: لا نؤجر على الصدقة على من ليس من أهل ديننا، أنزل الله تعالى: ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272]. فأمروا بالصدقة على الكافر، وبهذا فارقت سائر أفعال البر كما عرفت، والله أعلم.
[38] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [39] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [40] إنا لا نسلم لصحة ما يدعيه من عدم الخلاف في أداء الواجبات التي تدخلها النيابة، بل إن فيها الخلاف الكبير، أما الحج فإن الظاهر من مذهب الإمام أحمد والشافعي، فيمن مات قبل أن يحج، فإنه يجب أن يخـرج من تركتـه ما يحج به عنه، أشبه دين الآدمـي، وذهب الإمام مالك وأبو حنيفة إلى أنه يسقط بالـموت، وإن أوصى به فمن الثلث، وأما الصوم فظاهر مذهب الأئمة الأربعة أنه لا يصام عن الـميت مطلقًا، وخص الإمام أحمد جواز قضاء الولي للصوم الواجب بالنذر دون الواجب بالشرع، أما الواجب بالشرع، فإن فيه الإطعام عن كل يوم مسكينًا ولا يصام عنه في قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر الـمذهب، قاله في المغني، أما إذا مات الـمريض في إثر مرضه أو مات الـمسافر في سفره، أو ماتت الحائض أو النفساء قبل أن يتمكن أحد هؤلاء من قضاء ما عليه، فإنه لا يجب الإطعام ولا الصيام لكونه معذورًا شرعًا. [41] متفق عليه من حديث ابن عباس. [42] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. [43] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [44] أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو. [45] ممن حكى الإجماع: النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن العربي. [46] متفق عليه من حديث عائشة. [47] من الـمجلد الثالث من فتاوى رسول الله، وذكره بأبسط من هذا في تهذيب السنن (ج 3- ص279). [48] راجع كتاب الـمغني طبعة الـمنار، تجد في حاشيته من آخر كتاب الجنائز رد القول بدعوى الإجماع في إهداء ثواب القراءة، وقال: إن دعوى الإجماع باطلة لـم يعبأ بها أحد قطعًا حتى إن الـمحقق ابن القيم الذي جاراه في أصل الـمسألة قد صرح بما هو في نص بطلانها، كما ورد أيضًا القول بجواز القراءة على القبور، وتكلم صاحب الـمنار على الأحاديث والآثار التي ساقها الـموفق وبين حقيقة ضعفها وكونها موضوعة لا يحتج به. [49] أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة. [50] أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله. [51] رواه مسلم بنحوه من حديث جرير بن عبد الله. [52] الـمجلد الثامن- ص246. [53] أخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن عباس.
حكى القرطبي في التفسير عن الأكثرين أن هذه الآية محكمة وأنه لا ينفع أحدًا عمل أحد، قال: وأجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد.
ولمّا رأى بعض الـمفسرين وبعض الفقهاء أن هذه الآية تهدم قاعدة إهداء ثواب الأعمال إلى الـموتى وتثبت بالصراحة بأن ليس للإنسان إلا ما سعى، فمنهم من يقول: إنها منسوخة، ومنهم من يقول: إن الـمراد بالإنسان الكافر، وأما الـمسلم فله ما سعى وما سعى له غيره، وأحيانًا يقولون: إنه ليس للإنسان إلا ما سعى بطريق العدل وله ما سعى له غيره بطريق الفضل، ومنهم من يقول: إنها ليست من شريعة محمد ﷺ وإنما هي من شريعة إبراهيم وموسى. وكل هذه التأويلات ليس عليها دليل من الكتاب والسنة، وإنما خرجت مخرج الانتصار للمذهب ليدفعوا بها حجة الـمحتج عليهم بهذه الآية الصريحة الـمخالفة لرأيهم ومذهبهم، لتستقيم بذلك قاعدة إهداء ثواب الأعمال عندهم.
ومن الـمعلوم أن أقوال العلماء تابعة لقول الله ورسوله، وليس قول الله ورسوله بتابع لأقوالهم، فلا ينقض بها أمر مستقر من كتاب الله وسنة رسوله، وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه فيتكلف صرف الكلم عن الـمعنى الـمراد منه مع كونه لا يحتمل هذا الـمعنى لتستقيم بذلك حجته، فإن هذه الآية لها نظائر كثيرة من القرآن، كقوله تعالى: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس: 54]. وكقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧﴾ [غافر: 17]. في كثير من الآيات يذكر- سبحانه- جزاء الإنسان على أعماله من خير وشر.
وكما أن هذه الآية مقرونة بآيات محكمات هن أم الكتاب فلا يجوز قطعها عن نظائرها بدعوى النسخ لها، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل شرعي، وهي خبر لا يدخلها النسخ والآيات الـمقرونة بها هي قوله: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ ٣٨﴾ [النجم: 38]. وهي محكمة بالإجماع، أي لا تحمل نفس وزر غيرها ﴿كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨﴾ [الـمدثر: 38]. ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩﴾ [النجم: 39]. أي بنفسه لنفسه ومن أبطأ به عمله لم يسرع به عمل غيره، لأن كل إنسان مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ﴿وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠﴾ [النجم: 40]. أي سوف يعرض وينشر ﴿يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ﴾ [النبأ: 40]. ﴿يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗا﴾ [آلعمران: 40]. ﴿يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ٧ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ ٨﴾ [الزلزلة: 6-8]. ﴿ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ ٤١﴾ [النجم: 41]. وقد فسر هذا الجزء بقوله: ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١٦٠﴾ [الأنعام: 160]. وأما قولهم: إن الـمراد بالإنسان هنا الكافر، وأما الـمسلم فله ما سعى، وما سعى له غيره. فلا شك أن هذا التأويل أبعد عن معنى التنزيل من الذي قبله، فإن الكافر عمله حابط من أصله فلا سعي له عند ربه، يقول الله: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٨﴾ [ابراهيم: 18]. فكيف يستجيزون القول بهذا مع بعده عن مراد الله به.
وكذلك قول من قال: إنها من شريعة إبراهيم وموسى وليست من شريعتنا، وهذا التأويل يقضي عزل هذه الآية عن الـمعنى الـمراد منها ليزول عن الناس التكليف بها والاحتجاج بموجبها، كأنها بزعمهم من حشو الكلام الذي لا يستفاد منه عظة ولا عبرة ولا حكم من الأحكام، والصحيح أنها من شرع الله وأصول دينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وأنذر به الرسول عشيرته، وأنه كما نزل به القرآن فقد نزل في صحف الأنبياء إبراهيم وموسى، لأنه من باب الجزاء على الأعمال، وأن الأولين والآخرين يقال لهم: ﴿ ماذا كنتم تعملون ﴾ ، و﴿مَاذَآ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾ نظيره قوله تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧ إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ ١٨ صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ١٩﴾ [الأعلى: 14-19].
أفيقال: إن هذا ليس من شرعنا وإن التذكير بها ليس من شأننا. ليبطلوا بذلك سنة الله في التذكير بآياته وبيناته، وكل من تدبر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وجدها تدل على ما دلت عليه هذه الآية بطريق الـمطابقة والتضمن كقوله تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا كَسَبَتۡۚ لَا ظُلۡمَ ٱلۡيَوۡمَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٧﴾ [غافر: 17]. قوله: ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جَمَعۡنَٰهُمۡ لِيَوۡمٖ لَّا رَيۡبَ فِيهِ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٥﴾ [آلعمران: 25]. وقوله: ﴿وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠﴾ [الزمر: 70]. ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا﴾ [الكهف: 49]. وقوله: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ [البقرة: 281]. وقوله: ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس: 53-54]. وفي الصحيح عن عدي بن حاتم، أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»، وفي حديث أبي ذر في عرض صحائف الأعمال: إن الله يقول: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» رواه مسلم. كل هذه الآيات والأحاديث تدل على ما دلت عليه هذه الآية بالـمطابقة والتضمن، فإن قوله: ﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩﴾ [النجم: 39]. هي من قبيل قوله: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤﴾ [يس: 54]. ومن قبيل قوله في الحديث: «يَنْظُرُ الرجل أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ». فأين عمل الغير عند عرض صحائف الأعمال على الله سبحانه وتعالى ﴿يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ ٣٥ وَبُرِّزَتِ ٱلۡجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ٣٦﴾ [النازعات: 35-36]. حيث لم يقع لها ذكر في كتاب الله ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا﴾ [مريم: 64].
* * *
يكثر من الناس النص بالوقف في عمل البر والوصية بالثلث في عمل البر والخير، ومنهم من ينص في وصيته بأن يعمل له ما يعمل الحي للميت، يريد بذلك الوصية في وجوه البر والخير وكله حسن جائز، غير أنه ينبغي أن نعرف حقيقة البر لنعرف به حقيقة التنفيذ في سبيله.
البِرّ: بكسر الباء، هو التوسع في أعمال الخير، وضد البر الفجور، وهو التوسع في أعمال الشرور، يقول الله: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤﴾ [الانفطار: 13-14]. وفي الشرع هو: الإيمان بالله وما يتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، يقول الله: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧﴾ [البقرة: 177].
فذكر - سبحانه- أعمال البر ومن جملتها ركن البر من الـمال، وهو ما عناه بقوله: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ﴾ وهذا هو البر لـمن سأل عن البر أو أوصى في عمل البر، وقد أخذ عمر بن الخطاب بهذه الآية في مصرف وقفه الذي استشار فيه رسول الله ﷺ فوقفه على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالـمعروف ويطعم صديقًا غير متمول مالاً، ولم يذكر في وقفه حجة ولا أضحية كما يفعله الناس الآن، فبدأ - سبحانه- بإيتاء الـمال على حبه وذلك بأن يخرج صدقته في حال صحته ومحبته لماله كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «أفضل الصدقة أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» ولهذا روي أن مثل من لا يتصدق إلا عند الـموت كمثل من لا يهدي إلا إذا شبع، فلا أفضل من كون الإنسان يرى صدقته جارية مجراها في حال حياته وصحته، فما نفع الإنسان مثل اكتسابه بنفسه لنفسه، وحسن ظنه بغيره إساءة منه في عمل الحزم.
ثم قال: ﴿وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ﴾ وهم أقارب الواقف والـموصي، فبدأ بهم للاهتمام بأمرهم؛ لأن الصدقة على القريب صدقة وصلة، ولمّا تصدق أبو طلحة ببيرحاء وقال للنبي ﷺ: ضعها حيث شئت، فقال له: «سمعت ما قلت وأرى أن تضعها في أقاربك»، فقال: أفعل يا رسول الله. فقسمها بين بني عمه وهم حسان وأُبي بن كعب وأبو قتادة، وكل واحد منهم ملك مستحقه منها حتى باع أحدهم مستحقه منها بصاع دنانير([54]). وأقارب الشخص الـمستحقون للوصية بالبر هم من لا يرثه بفرض أو تعصيب من إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته وأولاد العم والعمة، ويرجو ثوابه لأن السنة في الوصية هو أن يأخذ الـموصى إليه وصيته قبل أن يأخذ الوارث إرثه، وإن أوصى بمال أو بالثلث في عمل البر استحقوا الدخول فيه إذا كانوا فقراء؛ لأن كل وقف أو وصية في عمل البر والخير فإن الـمقدم فيها من قدمه الله في كتابه وإن لم ينص الـموصي عليه؛ لأن فقراء الـموصي أحق بالتقديم في خير ما أوصى به من الوصية في عمل البر أو الوقف في البر.
الصنف الثاني: اليتامى: وهم من توفي أبوهم الذي هو كاسبهم والساعي عليهم قبل أن يبلغوا سن الرشد، لأنهم بموته تحيق بهم الحاجة وتحيط بهم الـمسكنة وتنقطع عنهم صلات أهل الحفاوة والـمودة، كما قيل:
إذا ما رأس أهل البيت ولَّى
ج
بدا لهم من الناس الجفاء
فيصيرون مستحقين للصدقة على كل حال وبالخصوص من وقف البر ومن الوصية في عمل البر، وللموصى إليه الأجر في تنفيذ ما ذكر لأن الخازن الأمين - وبمعناه الوكيل الذي ينفذ ما استؤمن عليه في سبيله - أحد الـمتصدقين.
والصنف الثالث: الـمساكين: وهم الفقراء البائسون الذين قعدت بهم الـمسكنة والحاجة أو علة الـمرض والزمانة عن السعي والكسب لما يكفيهم وعيالهم وفي الحديث: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِى تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِى لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»([55]).
والصنف الرابع: ابن السبيل: وهو الذي يريد السفر إلى أهله وليس بيده ما يوصله إلى بلده فيعطى من الصدقة الواجبة ومن الوصية في عمل البر ما يؤهله إلى الوصول إلى بلده.
والصنف الخامس: السائلون: وهم الذين يتكففون الناس بالسؤال، وللسائل حق ولو جاء على فرس، ولو صدق السائل ما أفلح من رده، ومن سأل وعنده ما يغذيه ويعشيه فقد ألحف في الـمسألة.
والصنف السادس: الرقاب: وهو تحرير الأرقاء ومساعدة الـمكاتبين، ويلتحق بذلك الـمغرمون بالديون والـمساجين والـمحكوم عليهم بأداء الديات أو أروش أضرار الجنايات في الأرواح والسيارات وليس لهم مال ولا عاقلة فيعطون من الزكاة الواجبة ومن الصدقة الـمستحبة ومن الثلث الـموصى به في عمل البر والخير والوقف على البر قدر ما يخلصهم من عنت هذا الغرم، ومما يدخل في عمل البر معالجة الـمرضى من الفقراء وبناء البيوت للضعفة الـمضطرين والنفقة في الجهاد في سبيل الله وعلى الـمجاهدين وبناء الـمساجد وفتح الطرق وإجراء الـمياه وغير ذلك من الـمنافع العامة والـمصالح الشاملة الداخلة في عموم الصدقة الجارية الباقية للإنسان بعد موته والنافعة الشافعة له عند ربه، وقد غفل الناس عن هذه النصائح والـمصالح التي حث عليها كتاب ربهم وسنة نبيهم وجرى عليها عمل الصحابة والسلف الصالح في أوقافهم ووصاياهم وسائر تبرعاتهم وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم إلى الوصية بالأضحية والوقف على الأضحية، حتى إنك لتجد غالب بيوت القرية محبوسة على ذلك لكون هذا الأمر قد جرى العمل به من العلماء وتبعهم عليه سائر العوام في الوصايا والأوقاف العظام حتى كأنها من أفضل ما يتقرّب به إلى الله من صالح الأعمال.
وقد سبق القول بعدم جواز الأضحية عن الأموات مطلقًا، لكونه لم يثبت عن رسول الله الأمر بها ولا عن أحد من الصحابة فعلها ولا الوصية بها، فضلاً عن القول بفضلها بطريق الإصلاح، والعدل يوجب على كافة العلماء تدارك هذا الخطأ بصرف هذه الأوقاف والوصايا الـمجعولة في الأضاحي عن الأموات فيما نص عليه الكتاب والسنة، وجرى عليه العمل من الصحابة والتابعين حتى ولو خالف نص الـموصي؛ لأن الحق فوق كل أحد لاعتبار أن هذا الصرف والتصرف يعد من الإصلاح والعدل الـمأجور فاعله والـمرفوع عنه إثمه، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصٖ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمٗا فَأَصۡلَحَ بَيۡنَهُمۡ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ﴾ [البقرة: 182]. ولأن من شرط صحة الوقف على البر أن يكون على طاعة محققة، ونحن لم نتحقق فعل الطاعة في الأضحية عن الـميت بشهادة الأئمة الثلاثة وهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة، بعدم مشروعيتها وحسبك بهم في العدالة وقبول الشهادة، ثم إن الواقف وبمعناه الـموصي إنما يقصد بوقفه ووصيته حقيقة ما يقرّبه من رضى ربه وينفعه في آخرته، وقد ظن أن الوصية بالأضحية والوقف عليها أنه أفضل ما يعمله لكون العامي مشتق من العمى، فهو يحتاج إلى من يدله على الطريق ويبين له ما ينفعه في آخرته على سبيل التحقيق.
فلو أن هؤلاء الـمستولين على الأوقاف والوصايا والذين يجتمع عند أحدهم قدر الخمسين والستين من الأغنام يريد أن يجزرها كلها أضاحي الأموات في مقام واحد، وعند الثاني والثالث مثل ذلك فلو أن هؤلاء صرفوا قيمة هذه الأضاحي إلى الفقراء والـمساكين والـمضطرين، بحيث يدفع إلى أهل كل بيت ثمن أضحية في ثواب ميتهم وكذا كل من يريد أن يبر والديه، بأضحية أو أضحيتين يدفع قيمة كل أضحية إلى أهل بيت من الفقراء في ثواب والديه، لا شك أن هذه أنفع للحي والـميت وأقرب إلى طاعة الله ورسوله، لا سيما إذا صادف إخراج هذه الصدقة في عشر ذي الحجة حيث العمل الصالح أحب إلى الله فيها من سائر السنة لكونها تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه العيد من ضرورة النفقة والكسوة وسائر الـمؤنة له ولعياله، فأين تقع هذه الصدقة وعموم نفعها وسداد العوز بها من الصدقة بقطعة لحم لا قيمة لها تأتيهم وهم لها كارهون، لا شك أن الفرق واسع والبون شاسع لولا أن بعض الفقهاء يقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد ويقولون: إن نصوص الواقف كنصوص الشارع، فهم يحكمون بإلزام الناس بالعمل بما نص عليه الـموصي أو الـموقف مع قطع النظر عن الصحيح الراجح وهذا هو حقيقة ما عناه ابن القيم، حيث قال: إن بعض الفقهاء محبوسون في سجن الألفاظ ومقيدون بقيود العبارات. غير أن من تربى على مذهب واعتقد صحة ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها فإنه لا يفرق بين ما جاء من الله وعن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه مع تعذر إقامة الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته فإنه يعد من الـمقلدين الناقلين لأقوال غيرهم.
وفرق بين أن يكون الإنسان قصده معرفة حكم الله ورسوله في الـمسألة أو أن يكون قصده معرفة ما قاله إمام مذهبه أو فقهاؤه أو الشيخ الفلاني الذي اشتهر علمه. ومن الـمعلوم أنه متى ساء الحكم ساءت النتيجة، لهذا نجد الولاة على الأوقاف والوصايا الخيرية والتي يستغلون منها الأجور الطائلة خاصة في البلدان الراقية، نجدهم يستحلون هذا الدخل بأضحية يسفكون دمها ويأكلون مخها ولحمها، كأنه لا حساب عليهم ولا عقاب فيها، لهذا لا يجوز للمفتي أن يفتي بمذهبه ويلزم الناس بالعمل بموجبه وهو يعلم أن مذهب غيره أقرب للصواب وأسعد بالدليل من مذهبه.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على الـمرسلين والحمد لله رب العالـمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 27 رجب عام 1390هـ.
[54] أخرجه البخاري من حديث أنس. [55] متفق عليه من حديث أبي هريرة.