1758

الغلاف

مجموعة رسائل الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود رحمه الله تعالى
الطبعة الثانية
1429هـ - 2008م



المجلد الأول
العقائد

كلمة المفتي للمملكة العربية السعودية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد

فقد اطلعت على كتاب مجموعـة رسائل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود - رحمه الله - والتي حـوت علمـا نـافعا؛ ذلك لما عـرف عن فضيلـة الشيـخ - رحمه الله - من القوة العلمية، وقد عرفناه - رحمه الله - ذا فضل وعلم وكرم، هيَّأ الله له أبناء بررة رعوا علمه، وقيض الله وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر بطبع نتاجه العلمي، فجزاهم الله عنا وعن فضيلته خيرا.

وشأن هذا المجموع كشأن غيره من كتب العلم ؛ إذ فيه من الخير الكثير، وفيه رسائل لا نوافق الشيخ ـ رحمه الله ـ فيما ذهب إليه فيها، لكن تبقى له مكانته العلمية العالية، غفر الله له ورحمه.

جزى الله فضيلة الشيخ عبد الله آل محمود ـ رحمه الله ـ خير الجزاء وأوفاه، وجعل هذا من العلم النافع الذي يتبعه بعد موته، وجزى الله خيرا كلَّ من ساهم في هذا الجهد المبارك.

أسأل الله ـ عز وجل ـ أن ينفع به، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه سبحانه جواد كريم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

كلمة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية

الحمد لله الذي اصطفانا لوراثة الكتاب، فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَا [فاطر: 32].

والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، القائل: «إن العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إن الأنبياءَ لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورّثوا العلم...» (أخرجه الترمذي).

وبعد:

فلعل من لوازم خاتمية النبوة وتوقف الوحي استمرار صحة النص في الكتاب والسنة، وحمايته من التحريف والغلو والانتحال الباطل، ليأتي التكليف للناس صحيحًا، وموجبًا للمسؤولية، وبيان النص وحمايته من التحريف.. وحمل رسالة النبوة كما وردت، والامتداد بها، هي رسالة العلماء العدول، يقول الرسول ﷺ: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين» (أخرجه البيهقي).

فالعلماء العدول هم الذين يحملون تراث النبوة، ويبينونه للناس، ويحفظونه، ويحمونه من نزعات الغلو والتعصب والتطرف والتحريف والخروج.

لذلك فقد يكون من أجلِّ الأعمال نشر تراث هؤلاء العلماء الأعلام، والاهتمام بسيرهم وإنتاجهم.

ولقد آلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر على نفسها الاضطلاع بهذه المهمة الجليلة، فشكلت لجنة خاصة من العلماء الأثبات لإحياء التراث العلمي، والامتداد به، طباعة ونشرًا وتوزيعًا، وبعض هذا التراث ينشر لأول مرة.

ويأتي في مقدمة هؤلاء فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، رحمه الله، الذي يعتبر من العلماء الرواد في دولة قطر، حيث أسس للقضاء الشرعي ونظام الأوقاف والتركات، وقضى حياته في تحمل مشاق طلب العلم والتدريس في الحرم المكي، ومن ثم في القضاء والإفتاء والتأليف ونشر العلم الشرعي في المجتمع.

ومما يذكر له، كما سوف يلمح الباحث، البصيرة الفقهية المتميزة، حيث كانت له آراء اجتهادية مقدورة، وكان لها فضل السبق في كونها تجاوزت حدود الزمان والمكان.

ولقد تجاوز علم الشيخ، رحمه الله، وشهرته دولة قطر، فهو لم يكن ملكًا لأسرته ومجتمعه فقط، وإنما كانت أسرته ومجتمعه الأمة المسلمة جميعًا.

ويسعدنا في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن نقدم إنتاجه كاملاً مدققًا محققًا في طبعة جديدة، إضافة إلى عدد كبير من أحاديثه وخطبه مسجلة على اسطوانات مدمجة، آملين أن ينفع الله بها، وأن تكون من العلم الذي يُنتفع به، استجابة لقول الرسول ﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة؛ إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم).

وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية

فيصل بن عبد الله آل محمود

ترجمة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

نسبه: هو العلامة المبارك الشريف؛ عبد الله بن زيد بن عبد الله بن محمد بن راشد بن إبراهيم بن محمود، يتصل نسبه الكريم بآلِ حامد أمراء سيح الأفلاج، وينتهي نسبهم جميعًا إلى حفيد النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

مولده ونشأته: وُلِد الشيخ رحمه الله في حوطة بني تميم جنوب نجد عام 1329هـ، وقد نشأ في كنف أمه الصالحة؛ حيث مات أبوه ولَمّا يزل صغيرا، فَرَعَتْه، وحاطَتْه بعنايتها، ورأت أن أعظم أسباب الفلاح اتصالُ وليدها بالعلم، فأكثرت من الدعاء الضارع أن يرزق الله تبارك وتعالى ابنَها العلمَ النافع، والعملَ الصالح، والمالَ المباركَ الوفيرَ، والذرية الصالحة، فنشأ الشيخ محفوفًا بهذا الدعاء الذي رأى أثر استجابته لائحا في عمره من بعدُ.

طلب العلم ونبوغه: ومن هنا دَلَف الشيخ إلى حِلَقِ العلم، والتحق بركب العلماء، يلزمهم، ويأخُذُ عنهم، ويهتدي بِسَمْتِهم، ويقبِسُ من علمهم، بهمَّةٍ عالية، ونَهْمَةٍ طموح، وكان ممن تلقى عنهم العلم: سماحة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وخاله سماحة الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري (أبو حبيب) رحمه الله.

وكانت للشيخ الشثري بصاحب الترجمة عنايةٌ خاصة ؛ لِمَا رأى عليه من عَلاَئِمِ النُّبُوغِ، ودَلاَلاتِ التوفيق، فتعَهَّده بالتسديد والإرشاد، وأخذَه من يديه ودَلَّه على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وأخذه معه لَمّا سافر إلى (الرين)، وظل يرعاه مدة صحبته له.

ولم تكن هذه نظرةَ خاله وحسب، بل تتابع مشايخه على هذا التقدير المبكر له، حتى إنهم قدموه للصلاة على صغر سنه، وكان قد أتم القرآن حفظا، وعددًا من المتون؛ كمتن الزاد، ونظم ابن عبد القوي، ومتن الآجرومية، وألفية ابن مالك، وبلوغ المرام لابن حجر، وعمدة الحديث للمقدسي وغيرها.

سفره في طلب العلم: سافر الشيخ إلى قطر بعدما ترامى إلى سمعه أخبارٌ متكاثرةٌ عن مدرسة الشيخ ابن مانع، فلازمه أكثر من ثلاث سنوات، وأحبه الشيخ ابن مانع، وأدناه منه، حتى صار من أحب تلاميذه إليه، وكان يقول عنه مُبَيِّنًا مكانتَه في قلبه: «إنه الوحيد من تلاميذي الذي أُفِيده وأستفيدُ منه».

ولما عزم الشيخ ابن مانع رحمه الله على الرحيل إلى مكة، انتقل الشيخ عبد الله إلى الرياض للدراسة على يد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ-مفتي المملكة- رحمه الله، ثم ارتحل من بعدُ إلى مكةَ؛ حيث أخذ العلم عن عدد من علمائها الكبار.

أول أعماله: اشتُهِرَ الشيخ بالعلم، والنبوغ، وسَعَة الاطلاع، والتعصب للدليل، مما هيأه ليتبوأ مكانته في العلم بين أهله العارفين به؛ فَخُصِّصَ له درسٌ في الحرَمِ المكي، يَؤُمُّه طلبة العلم، وزُوّار بيتِ الله الحرام؛ حُجّاجا ومُعْتَمِرين.

انتقاله إلى قطر: في عام 1359هـ عاد الشيخ إلى قطر بصحبة الشيخ عبد الله ابن جاسم؛ حاكم قطر أيامها، بأمرٍ من الملك عبد العزيز رحمه الله.

واستقر هنالك، وباشر القضاء، ولم ينقطع عن التدريس والإفتاء والخطابة، وكان في أثناء ذلك يشرف على إنشاء المساجد والمقابر والأوقاف، ويرعى أموال الأيتام والقاصرين، ويقسم التركات، في عمل متتابع لا ينقطع عن الخير.

طريقته في القضاء: وكانت للشيخ رحمه الله تعالى طريقة في القضاء اشتُهِرَ بها، فمن يومه الأول كان الشيخ رحمه الله يسبق الشمس إلى مجلس القضاء، ويتهيأ للنَّصَفَةِ في حكوماته كُلِّها، حازمًا يتَحَرّى العدل، ويُنصف المظلوم قَدْرَ استطاعته وطاقته، فلا يُحَابِي كبيرا، ولا يُجَامِل قريبا، مما كتبَ له في قلوب الناس وُدًّا باقيا، وذِكْرًا صالحا، وثناءً طَيِّبا.

وأما مكانته عند أُولِي الأمر من الحاكمين فكانتْ متميزةً بالتقدير والعِرفانِ، وكان رحمه الله لا يفتأُ لهم ناصحًا مُذَكِّرًا، ومُرْشِدًا مُسَدِّدًا، يُعِين على الخير ويَدُلّ عليه، ويُحَذّر من الشر ويَنْهَى عنه، مما كان له الأثر الصالح في سلامة البلاد من العقائد الباطلة، والبدع المنكرة.

فتاواه ومؤلفاته: كان للشيخ نظره الخاص، واجتهاده المستقل الذي انبنى على قاعدة وسيعة من الفقه في دين الله، والنظر في الأدلة، والترجيح بين الأقوال، فلم يكن مُقَلِّدًا لغيره، ولا قائلا بالتشهي في رأيه، بل كان مُمَيَّزا في اجتهاداته وفتاويه وكتاباته التي تتابعت ورَبَتْ على الخمسين رسالة، تضمّنتْ خُلاَصَةَ آرائه وفتاواه، مثل:

- رسالة يُسْر الإسلام، التى أبانَ فيها مذهبَه حولَ رَمْيِ الجمرات قبل الزوال وفي الليل.

- ورسالته حول جواز تحويل المقام.

- ورسالة أحكام عقود التأمين.

- وجواز الاقتطاف من المسجد والمقبرة.

- ورسالة لا مهديّ يُنْتَظَر.

- والحكم الشرعي في إثبات رؤية الهلال.

- والجهاد المشروع وكونه للدفاعِ وليس للطَّلَب.

- وحكم اللحوم المستوردة؛ حيث أباح أكلها بدون حرج.

- وحكم الطلاق؛ حيث لم يعتبر الطلاق البدعي، واعتبر طلاق الثلاث عن واحدة.

- ورسالة:جواز الإحرام من جدة.

وغير ذلك من الرسائل والفتاوى والكتابات التي تنبئ عن سعة علم الشيخ رحمه الله تعالى.

تميزه الفقهي: امتاز فقه الشيخ -كما قلنا آنفا- بالتجديد، والتحرر من التقليد، والميل للتيسير، ورفع الحرج عن الأمة، كما امتاز بالشجاعة الأدبية في طرح ما يعتقده حقًّا، وما يراه صوابا؛ فقد أثارت عليه بعض آرائه حفيظةَ بعض العلماء عند نشرها للوهلة الأولى، وتناولوها بالرد، ومع ذلك فقد رجعوا إلى رأيه بعد ذلك؛ لما تبين لهم صحة ما ذهب إليه.

اهتمامه بالتعليم: كان التعليم لبّ حياة الشيخ، كأنما هو مفطور عليه، فصرف حياته كلها فيه منذ بدء ظهور نجمه إلى أنْ وافَتْه المنية.

فمنذ بداية عمله والشيخ يقوم بالتدريس لعدد من طلبة العلم من قطر، والدول المجاورة، ثم بعد سنوات اقترح على حاكم البلاد تأسيس معهد ديني تُدَرَّس فيه العلوم الشرعية على المنهاج القويم، فوافق حاكم البلاد، وأُنْشِئَ أوَّلُ معهدٍ ديني في قطر، واستمر الشيخ مُشْرِفًا عليه، مُتَابِعًا له، إلى أن تَمّ ضمُّه إلى دائرة المعارف.

مـآثـره: كان الشيخ رحمه الله تعالى صاحب مجلس مفتوح طوال اليوم، يمتلئ بالضيوف والعلماء وذوي الحاجات، ولم يكن رحمه الله يرد طالبًا- شيمةَ الكرامِ الذين تحدّر من نبعتهم - وكانت له هيبةٌ عند الصغير والكبير، مع تواضعه، ولين جانبه، وعطفه على الضعيف والمسكين.

وقد استخدم علاقته مع حكام قطر لصالح الضعفاء والمحتاجين، وكان يتوسع في التوظيف لتوفير رواتب للمستحقين من أهل البلاد، رحمه الله تعالى.

وفاته: كان لا بد في النهاية من نهاية..! وتَوَقَّفَ مَدُّ الحياة عن الشيخ، وارتحل إلى ربه تبارك وتعالى صباحَ الخميس الثامن والعشرين من رمضان عام 1417 هـ (6/2/1997م) عن عمر ناهز التسعين عامًا، مُلْتَحِقًا بأسلافه الأولين من أهل العلم الذين أضاءوا جَنَبَاتِ الأرض عِلمًا وعملا، بعدما خدموا الإسلامَ بأقلامهم وألسنتهم وأموالهم.

وصُلِّيَ على الشيخ رحمه الله تعالى في مسجد الشيوخ بالدوحة، وتداعَى الناس إلى جنازته، وانحدروا إليها من كل صوب، يتقدمهم جميعا أمير دولة قطر؛ الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. ودُفِنَ الشيخ في مقبرة مسيمير، وقد أَوْدَعَ في القلوب حسرةً لا تنقضي، وفي العيون دمعةً لا تَرْقَأُ، ولا زال ذِكْرُه مُتَوَهِّجًا على ألسنة الناس وفي ضمائرهم، يذكرونه بالخير ويدعون له بالرحمة، وكان من المُبَشِّرات تلك الرؤى الحسنة التي رُئِيَت له قبلَ وفاته وبعدها.

نسأل الله تعالى أن يرحمه، وأن يُنِير قبره، وأن يرفع درجته في المهديين، جزاءَ ما أبانَ من حقائق دين الله تعالى، ونشره في الآفاق، والذب عنه بالقلم واللسان.. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

* * *

(1) الإيمان بالقضاء والقدر على طريقة أهل السنة والأثر

مقَـدّمة إلى العلماء المحترمين وإلى الشباب المثقفين وإلى الناس أجمعين

أما بعد:

فإن هذه الرسالة النفيسة تبحث عن مسألة عويصة قد اضطرب الناس في حقيقتها والأجوبة عليها، وهي مسألة القدر وما وقع فيها من اضطراب البشر، وأن العلم الصحيح المستند إلى النصوص النقلية والعقلية هو أعظم نافع وأقوى رادع لما يعرض للإنسان في حياته من فتن الشبهات والتشكيكات التي يثيرها أهل الجدل من الملاحدة والقدرية، مما يزيغ الأذهان ويوقع في الافتتان، وخاصة العوام وضعفة العقول والأفهام، بل قد تزيغ المسلم عن معتقده الصحيح، ثم تقوده إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل.

فمتى لم يرسخ في قلب الإنسان معرفة الحق بدليله، ويميز بين صحيحه وعليله، مما يتعلق بعقائد الدين وما يدعمها من الحجج والبراهين، فإنه سيصاب بالارتباك والخجل وعقدة الوجوم والوجل عند أول ملاقاة لأهل الجدل، فيبقى صريعًا لجهلهم قد استحوذ عليه باطلهم لعدم وجود ما يصول به ويجول من علم اليقين والبصيرة في الدين، إذ العلم الصحيح سلاح الدنيا والدين وصلاح المخلوقين به تستنير البصيرة وتقوى الحجة.

وإن مما ندركه على بعض الشباب المثقفين المتخرجين، وعلى بعض علماء المسلمين، كون أحدهم متى ظفر برسالة هامة تكشف له الإشكالات وتزيل عن قلبه الشكوك والشبهات، وهي صغيرة الحجم غزيرة العلم بحيث يستطيع دراستها في مجلس واحد بدون مشقة ولا عناء، فيكون حظه منها هو النظر منه إلى عنوانها وعسى أن ينشط لدراسة الوجه الأول والثاني منها ثم يصفق بأجنحتها[1] بعضها على بعض ثم يضعها في سلة المهملات، وذاك آخر العهد بها، فيعود جهد صاحبها ضياعًا وعلمه عيالاً، أشبه من يزف امرأة حسناء إلى عنين أو كالمطر الوابل في الأرض السبخة [2]، لكونه لا قيمة للعلم عنده.
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي
فقيمة كل الناس ما يحسنونه

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

[1] أي يطويها، كأنه طائر يصفق بجناحيه. [2] هي الأرض المالحة، ولا تنبت إلاَّ قليلاً.

[جدال الملاحدة بالقدر لصد الناس عن الدين بوقوع الشك فيه]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد: فإن القضاء والقدر قد ضل فيه خلق من البشر، حيث حملوه على غير المعنى المراد منه، فتفرقوا فيه شيعًا ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢ [الروم: 32].

﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣ [البقرة: 213]. وقد صار من سيما الملاحدة - أهل الجدل- شدة اللحاح في السؤال عن القضاء والقدر، لا لأجل الاستفادة والاستفسار عن الحق وإنما هو لأجل التضليل به والتشكيك فيه، فعندما تلقى أحدهم فإنه يبادرك بالسؤال عن القدر لكونهم وجدوا فيه -لظنهم- نوعًا من العذر لهم في إسقاط الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات. حتى إذا أمرت أحدهم بالخير أو نهيته عن الشر قال: هذا أمر كتبه الله علي. يريدون أن يلقوا جريمتهم على كاهل القضاء والقدر، لاعتقادهم أن القضاء والقدر بمثابة الغل في أعناقهم والقيد في أرجلهم، وحجتهم به داحضة عند ربهم؛ لأنهم على طريقة المُجْبِرة فما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون ﴿يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ ٦ [الأنفال: 6].

وقد يتجارى بهم الهوى والتوسع في فنون الفجور فيقولون: كيف يكتب الرب علينا الشقاء ثم يعذبنا بالنار؟!

وسُمع من بعض الملاحدة قوله: كيف يخلق الله إبليس ويسلطه على الناس ثم يعذب من أطاعه بالنار، والذنب ذنب الذي خلق إبليس؟!! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا. وهؤلاء يسميهم العلماء مجوس هذه الأمة؛ لأنهم على طريقة المجبرة يرون أنهم مجبورون على فعل الجرائم بطريق القضاء والقدر.

قال الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد وقهره على فعل ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون وإنما معناه الإخبار بسبق علم الله بما يكون من إكساب العبد وصدورها عن اختيار منه. والله سبحانه قد أعذر وأنذر لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فأنزل القرآن فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، يفرق الله فيه بين طريق أهل الكفر والإيمان والهدى والضلال، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ [النحل: 36]. وأنزل الله على سبيل الإعذار والإنذار: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ [الأعراف: 27].

[الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له السمع والبصر والعقل ليتمكن بذلك من فعل ما ينفعه والتباعد عما يضره]

والله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان، وخلق له السمع والبصر والعقل ليتمكن بذلك من فعـل ما ينفعه والتباعد عما يضره في أمر دنياه وآخـرته، إذ هو مختار فـي عمله ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦ [فصلت: 46]. ثم إن الله سبحانه خلق الإنسان وخلق الشيطان ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ وَلَئِن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٧ [هود: 7]. كما خلق الجنة جزاء وكرامة لمن أطاعه واتقاه، وخلق النار عقابًا وعذابًا لمن أطاع الشيطان. والناس بين مؤمن تقي وفاجر شقي ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3].

وأنزل الله تعالى: ﴿۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٦٠ وَأَنِ ٱعۡبُدُونِيۚ هَٰذَا صِرَٰطٞ مُّسۡتَقِيمٞ ٦١ وَلَقَدۡ أَضَلَّ مِنكُمۡ جِبِلّٗا كَثِيرًاۖ أَفَلَمۡ تَكُونُواْ تَعۡقِلُونَ ٦٢ هَٰذِهِۦ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٦٣ ٱصۡلَوۡهَا ٱلۡيَوۡمَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ ٦٤ ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٦٥ [يس: 60-65]. فأخبر الله سبحانه أن اعتناقهم للكفر ودخولهم النار حصل عليهم بسبب كسبهم واختيارهم لأنفسهم، حيث اختاروا الكفر على الإيمان، واستحبوا العمى على الهدى، كما قيل: لا إدانة إلا بعد التحقيق.

وقد حقق سبحانه ذلك بقوله: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ [الأنعام: 104]. ﴿جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ وقال: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]. فعلى الله قصد السبيل وعلى العبد العمل.

وحتى إن إبليس يتبرأ يوم القيامة من الذين اتبعوه وأشركوا به ﴿وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ -أي دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار- ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ -أي وعدكم وصدقكم- ﴿وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٢٢ [إبراهيم: 22].

أفصح إبليس عن نفسه بأنه لايخرج إلى الناس بمدافع وبنادق يحدوهم بها بطريق الجبر إلى طاعته، وإنما غاية كيده وعمله هو الوسوسة في الصدر فقط فلا حجة لهم في الاعتذار به.

﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ [الكهف: 29].

* * *

حقيقـة القـدر

إن الكلام في القضاء والقدر قد صار مثارًا للجدل بين المتقدمين والمتأخرين حتى افترقوا فيه على مذاهب شتى ﴿مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢ [الروم: 32]. ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣ [البقرة: 213].

ونحن وإن قلنا: إن القدر يرجع إلى تقدير الله للأشياء بنظام وإتقان وإنه يرجع إلى قدرة الله وإنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد. أو إنه يرجع إلى سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وإنه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون... فكل هذه من الصفات الداخلة في قدر الله تعالى.

والقدر هو من عالم الغيب الذي ينبغي للإنسان أن لا يشغل ذهنه بالتفكير في كنهه.

وكان الصحابة لا يخوضون في موضوع القضاء والقدر لكونه من عالم الغيب ومن الأمور الخفية عن العيان، كما قال الشاعر زهير:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني
سعيُ الفتى وهو مخبوء له القدر وحسب الشخص أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من صنع خلقه وسبق علمه بكل شيء، وأنه على كل شيء قدير وفعال لما يريد. ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلاً: القدر قدرة الرحمن. وقد أخذها العلامة ابن القيم فقال:
فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرحمنِ
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
لما حكاه عن الرضى الرباني
قال الإمام شفى القلوب بلفظة
ذات اختصار وهي ذات بيانِ

* * *

القدَر هوَ قُدرَة الرحمن

وهو أن تعلم وتؤمن بأن الله على كل شيء قدير، يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون. ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلاً: القدر هو قدرة الرحمن. قال ابن عقيل: إن الإمام أحمد شفى القلوب بلفظة مختصرة وهي ذات بيان وشمول معان.

قال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن: القدر يدل على القدرة وعلى المقدور. وفي فتح الباري عن أبي المظفر السمعاني قال: إن معرفة القضاء والقدر تتوقف على الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه عليهما ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العليل.. انتهى.

وصدق أبو المظفر، فإن دلائل القضاء والقدر يجب أن تؤخذ من الكتاب والسنة، إذ هما الدليل الكافي والدواء الشافي، مع قطع النظر عن كلام بعض المفسرين في معنى القضاء والقدر، إذ هو كلام بشر ينقل بعضهم عن بعض القول به فيشتهر وينتشر وربما كان غير صحيح.

إن القدر يدل بمنطوقه ومفهومه على قدرة الرب سبحانه، وعلى تقديره للأشياء بنظام وإتقان وإحكام. وكل من تتبع نصوص القرآن يجدها تدور على هذا البيان. فالقضاء في سائر استعمالاته هو بمعنى الفراغ من الشيء.

فالقضاء والقدر معناهما: أن الله سبحانه قد أوجد هذا العالم مقدرًا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل، وأنه قد فرغ من ذلك فراغًا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص، ﴿وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ ٨٨ [النمل: 88].

يقول الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ٢ [الفرقان: 2]. أي جعله مقادير منظمة متقنة محكمة. كقوله: ﴿ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨ [الرعد: 8].

ومنه قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. أي بتقدير ونظام متقن، كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئًا بطريق الصدفة ولا الطبيعة. قال ابن جرير في التفسير: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه. وبعض المفسرين يغلطون في تفسير هذه الآية حيث يحملون تفسيرها على القضاء والقدر، ثم يتوسعون في سياق الآثار الواردة في القضاء والقدر، كأن الآية سيقت لذلك وهو خطأ، فإنه لا تعلق للآية بالقضاء والقدر الذي يعنونه، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ [المؤمنون: 18]. أي بقدر حاجة الناس، ليس بالكثير المنهمر المستمر فيهلك حرثهم ومواشيهم، ولا قطعة واحدة فيضر البنيان، وإنما ينزله رشاشًا قطعًا على حسب ما يخرج من فتحات المنخل بحيث يروي الأرض وتسـيل منه الأودية؛ لأنه لو نزل كتلة واحدة لضر الأنام والأنعام والحرث، ولزال منه الانتفاع المطلوب.

نظيره قوله تعالى: ﴿۞وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ ٢٧ [الشورى: 27].

وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ [المؤمنون: 18]. هو نظير قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. لفظًا ومعنى.

وهو يرجع إلى قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ٢ [الفرقان: 2]. أي جعله ذا مقادير متناسبة ثابتة. ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ [النمل: 88].

نظيره قوله تعالى: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ [يس: 39]. أي جعلناه ذا مقادير ينزل كل ليلة منزلة منها لا يتخطاها ولا يقصر عنها، ومنه قوله: ﴿ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ ٤٠ [طه: 40]. أي على موعد قدرنا مجيئك فيه، وذلك أن الله وعده بأن يكلمه بعد أربعين ليلة، قال تعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ [الأعراف: 142].

ومثله قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٢٠ فَجَعَلۡنَٰهُ فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ ٢١ إِلَىٰ قَدَرٖ مَّعۡلُومٖ ٢٢ فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَٰدِرُونَ ٢٣ [المرسلات: 20-23]. وقرئ {قدّرنا} - بالتشديد - أي قدّرنا ذلك تقديرًا متقنًا فنعم القادرون، وقرئ بالتخفيف من القدرة أي قدَرنا على خلقه وتصويره في أحسن صورة، فنعم القادرون.

فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن، ومنه قول الشاعر:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقا عن غرة زلجا
وأما القضاء فإنه الفراغ من صنع هذه المخلوقات، وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿۞قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ ١٠ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ ١١ فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢ [فصلت: 9-12]. فذكر القضاء في قوله: ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢ كما ذكر القدر في قوله: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ ١٠، ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢. فهـذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان، كل شيء بحسبه وهذا معنى ما في الصحيحين من أن النبيﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض». وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله، وهو معنى قول أحدنا: قدر الله وما شاء فعل، قدرة الله أي وسابق علم الله تعالى.

[قول شيخ الإسلام ابن تيمية وجمهور أهل السنة في معنى القدر]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن جمهور أهل السنة المثبتة للقدر يقولون: إن العبد فاعل حقيقة، وإن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية، بل يقرون بما دل عليه العقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء من السحاب، وينبت النبات بالماء. ولا يقولون: إن قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرون أن لها تأثيرًا حقيقيًّا كتأثير الأسباب في مسبباتها، والله سبحانه خالق السبب والمسبب... انتهى.

ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر قال: القدر قدرة الرحمن. واستحسن ابن عقيل هذه الكلمة، إن الإمام أحمد شفى القلوب بهذه الكلمة المختصرة، وأخذها العلامة ابن القيم فقال: فحقيقة القدر الذي حار الورى
في شأنه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
لما حكاه عن الرضى الرباني
قال الإمام شفى القلوب بلفظة
ذات اختصار وهي ذات بيانِ
* * *

كتابـة المقَـادير

[كتابة الله للأشياء إشارة إلى سبق علم الله بسائر المعلومات من لدن خلق الله الخلق إلى يوم القيامة]

ثبت في الكتاب والسنة كتابة المقادير كقوله تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا [التوبة: 51]. وقوله: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢ [الحديد: 22].

وقوله تعالى: ﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٥٩ [الأنعام: 59]. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسمائة عام». وجاء في حديث آخر: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. »[3].

وإننا عندما نقرأ أو نسمع ما ثبت عن الله ورسوله في كتابة المقادير يجب أن نفهم بأن هذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نقيسها على الكتابة التي نكتبها بأيدينا، ولا على القلم الذي نكتب به، بل هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، فإنه سبحانه يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون. فهـي بمثابة المكتوب المضبوط في علم الله تعالى، عبر عنها سبحانه بالكتابة، كما يقول الرجل لصاحبه: حاجتك مكتوبة في صدري. إذا أراد الاعتناء بها، على أن من طبيعة الإنسان النسيان، وبه سمي إنسانًا، قيل: من أجل نسيانه. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا ١١٥ [طه: 115]. وأنشدوا: وما سمي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
وقيل: من أجل أنه يأنس بغيره لأنه اجتماعي بالطبع، والله سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم، ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤ [مريم: 64]. ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]. وكتابته للأشياء إشارة إلى علمه بسائر المعلومات لا تخفى عليه خافية من أمر خلقه، فهي كالمكتوب المضبوط في علمه، إذ ليس عندنا وصف الكتابة ولا القلم المكتوب به ولا المكتوب فيه.

[3] أخرجه أبو داود والإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت.

[اختراع هذا المخلوق بصنعته آلات تكتب كل ما تسمعه وتحصي حساب الداخل والخارج من مصاريف الماء والكهرباء بدون قلم ولا مداد وصنع الله الذي أتقن كل شيء هو أعلا وأجل]

وقد اخترع هذا المخلوق بصنعته آلة تكتب كل ما تسمعه من الكلام بدون يد ولا مداد ولا قلم، فتسجل جميع ما تسمعه من الكلام وأهلها نائمون على فرشهم، كما هي معروفة وموجودة في دور الإذاعات، ومثله الآلة التي اخترعوها لإحصاء حساب الخارج من مصاريف الماء والكهرباء بما يسمونه العدّاد، فيكتب كل ما يخرج بدون قلم ولا مداد وأهله غائبون عنه، وهي صنعة مخلوق فما بالك بالخالق القادر على كل شيء، والفعال لما يريد، إذا أراد أمرًا قال له:كن؛ فيكون، ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٦١ [يونس: 61]. ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]. ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٦١ [يونس: 61].

وإنما ذكرت هذا لتقريب الأذهان إلى الإذعان بالإيمان بالقرآن، فهو سبحانه يعلم بالمصيبة قبل وقوعها. وعلمه سبحانه بها ليس هو الذي أوقع المصاب في المصيبة وإنما وقعت بالأسباب المترتبة على وقوعها، فإن كان وقوعها بسبب تقصير من الشخص بإهمال الأسباب والوسائل التي تقيه من الوقوع فيها ويأمره دينه باستعمالها، فإنه ملام على تقصيره في حماية نفسه وعدم استعماله للأسباب الطبيعية التي تحفظه ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ [الشورى: 30]. وإن كان لا طاقة له بدفع هذه المصيبة فإنه معذور ويلجأ إلى قوله: «قدر الله وما شاء فعل» والنبيﷺ في الحديث الصحيح قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» [4].

[4] رواه مسلم عن أبي هريرة.

[استعمال الأنبياء للأسباب والوسائل التي تحفظهم وتؤلهم للوصول إلى الغاية مع قوة توكلهم على ربهم]

وقد كان الأنبياء يستعملون الأسباب والوسائل التي تحفظهم من عدوهم مع أنهم مؤيدون بالوحي والحفظ من الله، وقد ظاهر النبي ﷺ في الحرب بين درعين. ولما كانت وقعة أحد أنزل النبي ﷺ الناس منازلهم تجاه عدوهم، وأنزل عبد الله بن جبير بمن معه بفم الشعب وقال لهم: «الزموا مكانكم هذا ولا تبرحوا عنه حتى ولو رأيتم الطير تخطفنا فلا تنصرونا، أو رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» [5] وكانت الغلبة أول النهار للنبي وأصحابه حتى كسروا للمشركين سبعة ألوية أو تسعة، فلما انهزم المشركون أخذت الأسلحة والأمتعة تتساقط من رواحلهم ودب الناس في أخذها، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة. فذكَّرهم أميرهم قول رسول الله فعصوه ودبوا مع الناس في الغنيمة، فدخلت خيل المشركين من ذلك الشعب، فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وشجوا رأس رسول الله وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة ظنوه قتيلاً.

وبعدها أخذ الصحابة يتفكرون في سبب هذه الهزيمة، لظنهم أنهم أصحاب رسول الله وحزبه وأنهم لن يغلبوا أبدًا من أجل إيمانهم فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ [آل عمران: 165]. أي حصلت الهزيمة بسبب تقصيركم في حمايتكم وعصيانكم أمر رسول الله وأمر أميركم.

لهذا كانوا بعد ذلك أشد الناس احتفالاً بالأسباب؛ لأن الله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها ورسول الله سيد المتوكلين، ظاهر في الحرب بين درعين، ومر على حائط مائل فأسرع السير، فقيل له في ذلك فقال: «أخشى موت الفَجْأة»[6] وقدم رجل مجذوم مهاجرًا فرده رسول الله ومنعه من دخول البلد، وقال له: «ارجع فقد بايعناك».[7] وقال: «لا يورد ممرض على مصح».[8] وفي القرآن المنزل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٦٠ [الأنفال: 60]. كل هذه من اتقاء الأسباب التي كان يستعملها رسول الله مع قوة توكله على ربه.

[5] أخرجه الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب. [6] أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة. [7] أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي. [8] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

[حديث احتجاج آدم وموسى وتفسيره بما يبين المعنى المراد فيه]

وهنا حديث يجادل به أهل الجدل من أهل القدر، وهو في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وعلمك أسماء كل شيء، فبما أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى رسول الله وكلمك الله تكليمًا وقد قرأت التوراة أفلا وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى، وذلك قبل أن أُخلق بأربعين عامًا. قال: بلى. قال: فلم تلومني على أمر قدره الله علي» قال: «فحج آدم موسى».

[اختلاف العلماء في حديث احتجاج آدم وموسى]

وهذا الحديث من مشكل الآثار، وقد ألحق به ابن حجر في فتح الباري عدة إشكالات كثيرة. أهمها: أنه مخالف لنص القرآن في قصة آدم في قوله: ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ [طه: 121]. وفي قوله: ﴿رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا [الأعراف: 23]. فلم يحتج آدم على ربه بكتابة المقادير بل اعترف بذنبه ولجأ بالتوبة إلى ربه. ومنها أنه يقوي مذهب الجبر المخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسلف الأمة. ثم هذا اللقاء هل هو بالأرواح في الدنيا أم هو يوم القيامة حين يبعث الناس من قبورهم وتسقط عنهم التكاليف الشرعية إلى غير ذلك مما ذكر. ج 11 ص 456.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة في رسالة الاحتجاج بالقدر:

قد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب: فريق كذبوا بهذا الحديث لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه الرسولﷺ بل وجميع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله.

وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد. كقولهم: إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: إن الملام كان بعد التوبة وهو لا معنى له. وقول بعضهم: إن هذا تختلف فيه دار الدنيا والآخرة.

وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء هم الظالمون المعتدون. قال: وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر، وقد علم أن إبليس هو الذي أوقعه في الذنب حيث زين له الأكل من الشجرة التي نُهي عنها ﴿... وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٢٢ [الأعراف: 22-23]. فتاب آدم من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج به ولم يتب إلى ربه ويستغفر من ذنبه... انتهى.

وقال الخطابي رحمه الله: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر هو الإجبار والقهر للعبد على فعل ما قدره الله وقضاه، ويتوهمون أن قول النبيﷺ: «حج آدم موسى» من هذا القبيل، وليس الأمر كذلك، وإنما معناه الإخبار عن تقديم علم الله بما يكون من أفعال الناس واكتسابهم وملابستهم للخطايا عن قصد وتعمد، وتقديم إرادة واختيار منهم لفعلها، والحجة إنما تلزمهم بها واللائمة إنما تلحقهم عليها من أجل فعلهم لها بالاختيار.

وإنما موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه قد علم من آدم أنه يتناول أكل الشجرة بداعي شهوته ورغبته واختياره وتزيين الشيطان له، فكيف يمكن أن يرد علم الله فيه... انتهى.

[حديث ابن مسعود في خلق الجنين وأنه يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد]

وأما الحديث الثاني الذي يحتج به القدرية من أمثال هؤلاء فهو في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثني رسول الله وهو الصادق الصدوق «أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»[9].

إن هذا الحديث كثيرًا ما يجادل به الجهلة خاصة الشباب الذين لم يعرفوا حقيقة القدر، لظنهم أنهم مجبورون على أفعالهم الخيرية والشرية، فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل، وآخرين مكتوب لهم الشقاوة مهما عملوا من عمل. فيظنون أن هذا القدر المكتوب هو عبارة عن الجبر وسلب الاختيار.

والتحقيق أن الكتابة نوعان: كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم، فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل.

وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر، بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة، فهي كسبهم، ويترتب الجزاء على ذلك ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦ [فصلت: 46]. ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

والقرآن مملوء بتعليق الجزاء على العمل، وأن كل امرئ مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا نسبة عمله إلى القدر، وحجته به داحضة عند ربه.

[9] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.

[الكتابة التي بيد الملك يقع فيها التبديل والتغيير بإذن الله يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء]

وأما الكتابة التي بيد الملَك كما يفيده الحديث فإنه يقع فيها التبديل والتغيير بإذن الله وبمقتضى سنة الله في الأسباب التي رتبها الله لدفع القدر والقضاء ورفعه، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

[فعل الكفر والإيمان يقع من الشخص باختياره ورغبته ومن كفر فعليه كفره]

وأما قوله: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».

فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان، وذلك أن الرجل يولد مؤمنًا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته ويجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره، ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول، فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته؛ لأن العمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه، وليس سبق الكتاب -الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص- هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة، وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39]. وقد حكى الله عن الغلام الذي قتله الخضر فقال: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١ [الكهف: 80-81].

وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فهو رجل يولد كافرًا ويعيش كافرًا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه، وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك. يقول الله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ [الأنعام: 122]. وهذه الآية نزلت في الكافر يسلم وأنه في حالة كفره كالميت وكالذي في الظلمات، فلما أسلم صار حيًّا وخرج من الظلمات إلى النور ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ [البقرة: 257].

وفي وقعة أُحد جاء الأصيرم إلى النبي ﷺ وكان يقاتل مع المشركين أول النهار فأسلم وأخذ يقاتل مع النبي ﷺ فقتل شهيدًا فقال رسول الله: «عمل قليلاً وأُجر كثيرًا»[10].

وفي حديث أبي سعيد مرفوعًا «إن الرجل يولد مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ثم يموت كافرًا، وإن الرجل يولد كافرًا ويعيش كافرًا ثم يموت مؤمنًا» رواه الإمام أحمد، لأن العمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته، ومن كفر فعليه كفره، ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39]. ولهذا يقول الله: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ [الأنعام: 104].

والله سبحانه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وخلق الإنسان وخلق له السمع والبصر والعقل ليعرف بها المنافع والمضار، وكما خلق الإنسان فقد خلق الشيطان ليمتحن بذلك صحة كل من يطيع ربه ممن يطيع الشيطان. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَيۡهِمۡ إِبۡلِيسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٠ وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيۡهِم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يُؤۡمِنُ بِٱلۡأٓخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِي شَكّٖۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ ٢١ [سبأ: 20-21]. فأخبر سبحانه أن الحكمة في خلق إبليس هو اختبار الناس وامتحانهم على صحة إيمانهم، ليعلم سبحانه من يطيع ربه ويعمل لآخرته وهو مؤمن ممن هو شاك مرتاب في أمر آخرته، والله سبحانه ينادي عباده يوم القيامة عند عرض صحائف الأعمال على سبيل الإعذار والإنذار: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»[11] ولهذا لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم من نفسه أنه مستحق لدخولها بعمله ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ [الملك: 10].

* * *

[10] متفق عليه من حديث البراء بن عازب. [11] رواه مسلم عن أبي ذر.

بطلان الاحتجاج بالقدر: المحتجون بالقدر حجتهم داحضة عند ربهم

إن طريقة أهل السنة في القضاء والقدر هي الإيمان به، وأن الله على كل شيء قدير، وفعال لما يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ولا يحتجون به، فالمحتج به حجته داحضة عند ربه.

والقضاء والقدر الذي أوجب الله الإيمان به ليس معناه أن الله يلزم الناس بما قدره وقضاه عليهم، فقد جعل الله لهذه المقادير أسبابًا تدفعها وترفعها؛ من الدعاء والصدقة والأدوية وأخذ الحذر واستعمال الحزم وفعل أولي العزم وسائر ما يلزم إذ الكل من قضاء الله وقدره حتى العجز والكيس. وفي دعاء القنوت «اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت»[12] فلولا أن الدعاء يدفع شر القدر والقضاء لما شرعه النبي ﷺ لأمته. ويدل له ما روى الترمذي عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وأن الصدقة لتدفع ميتة السوء» فأخبر النبيﷺ أن القدر والقضاء يندفع بهذه الأسباب التي شرعها الله لدفعه ورفعه، فلا يكون لزامًا على الناس من ذلك كتابة الملك على الجنين وهو في بطن أمه حين يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد، فإن هذه الكتابة يعتريها التبديل بإذن الله، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وسمع من دعاء عمر بن الخطاب: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا فامحني وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب[13].

إن من الناس من يكسل ويعرض عن الدعاء اتكالاً منه على القدر والقضاء، ويقول: إن كان هذا الأمر كُتب لي فسيأتيني دعوت أو لم أدع. وهذا غلط وخطأ، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، ولم يشرع الله الدعاء إلا ليثيب الداعي على دعائه ويستجيب له، والدعاء حبيب الله. فليس شيء أكرم على الله من الدعاء وهو سلاح المؤمن. ومن ذلك بعض الأشياء المحبوبة المطلوبة يقدر الله حصولها والفوز بها عن طريق الدعاء، ولا تحصل بدونه، فإذا دعا ربه حصلت له وإن لم يدع لم تحصل، وكل هذه بقضاء الله وقدره.

[12] رواه أهل السنن والإمام أحمد عن الحسن بن علي. [13] رواه الفاكهي وابن بطة عن أبي عثمان النهدي.

[العلم القائم بذات الباري لا يتبدل ولا يتغير]

أما القائم بعلم الله فإنه لا يبدل ولا يغير، فإن الله يعلم أنه سيقع كذا وكذا في وقت كذا وكذا فهذا العلم لا تبديل فيه ولا تغيير، بخلاف الكتابة التي بأيدي الملائكة والتي في اللوح المحفوظ فإنها تتبدل وتتغير بحسب سنة الله في تقدير ما يدفعها ويرفعها كما قال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله[14]. وإنما حكى الله الاحتجاج بالقدر عن المشركين حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ [النحل: 35]. فأخبر الله بأنه ليس من شأن الرب إجبار الشخص على عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، لكون ذلك كله موكولاً إلى فعل الشخص نفسه واختياره لها ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ [الكهف: 29]. وقال الله تعالى: ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39].

وإنما وظيفة الرسل تبليغ الهداية والدعوة إلى العباد يقول تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ [النحل: 36]. ويقول: ﴿فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ ٧ [الشورى: 7].

فالمحتجون بالقدر يسمون جبرية فقول بعضهم: لا يغني حذر عن قدر. ليس على إطلاقه، فإنه قد يندفع القدر بالحذر. وقد أرشد القرآن إليه لما يترتب عليه من النفع ودفع الضر. فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. كما قال عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله. في قضية امتناع عمر والصحابة عن دخول الشام لما وقع بها الطاعون، فنادى في الناس: إني مصبح على ظهر. فتأهبوا للرجوع فتلقاه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فقال له: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟! قال: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله[15].

وقد أرشد القرآن إلى أخذ الحذر الذي من لوازمه عدم الركون أو الركود إلى القدر فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]. لأن الله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، فما أذنب القضاء والقدر ولكن الناس يذنبون. يقول تعالى: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ [النساء: 79]. وقد قيل -والشعر للعلامة ابن القيم رحمه الله-:
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تسدي وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا
ظهيرًا على الرحمن للجبر تزعم
تنزه منك النفس عن سوء فعلها
وتعتب أقدار الإله وتظلم
وتفهم من قول الرسول خلاف ما
أراد لأن القلب منك معجم
بطيء عن الطاعات أسرع للخنا
من السيل في مجراه لا يتقسم
وتزعم مع هذا بأنك عارف
كذبت يقينًا في الذي أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم
وإنك بين الجاهلين مقدم

[14] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف. [15] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

[قول شيخ الإسلام: إن التوكل لا يكون إلا مع الأخد بالأسباب وإلا صار توكله عجزا]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح، والإنسان مأمور بالأسباب، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]. وقال: ﴿فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ [الملك: 15]. وقال لنبيه لوط: ﴿فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ [هود: 81]. وقال لنبيه موسى: ﴿فَأَسۡرِ بِعِبَادِي لَيۡلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ٢٣ [الدخان: 23]. انتهى.

فالرسل دينهم الأمر والعمل مع إيمانهم بالقضاء والقدر، فالأنبياء وأتباعهم يحاربون القدر بالقدر، ويحكمون الأمر على القدر، ويقولون: إن القدر لا يمنع العمل ولا يجب الاتكال عليه، والنبي ﷺ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»[16].

[16] متفق عليه من حديث علي رضي الله عنه.

[قصة عمر بن الخطاب مع السارق المحتج بالقدر على سرقته وجواب عمر له]

فهذه سيرة الرسول وأصحابه وعلماء السنة والجماعة يعملون بالحزم وفعل أولي العزم فعل من يرى أنه لا ينجيه ويسعده سوى عمله ثم يتوكلون على ربهم.

ولما أتي إلى عمر رضي الله عنه برجل قد سرق فقال: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره قال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. فأمر به فقطعت يده[17].

فالاحتجاج بالقدر لا يقبله أي إنسان فيما يقع عليه أو على أهله وماله، فلو تعدى رجل على آخر فضربه أو أخذ ماله وانتهك محارمه فعند سؤاله عن أفعاله قال: حملني عليها قضاء الله وقدره، فإنه لا يقبل منه ذلك. فما بالك بالاحتجاج به على الله في ترك طاعاته وارتكاب محرماته! وما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون. ولما سأل الصحابة النبي ﷺ عن القدر وهل يجوز لهم من أجله ترك العمل؟ قال لهم رسول الله: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»[18]. ولهذا قال الصحابة: كنا بعد علمنا بالقضاء والقدر أشد اهتمامًا منا بالعمل وقالوا: يا رسول الله: أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله، إن كان أحدكم نافعًا أخاه فليفعل»[19] ؛ لأن الله سبحانه خلق الأسباب والمسببات وجعل هذا سببًا؛ لهذا قال: «تداووا ولا تداووا بحرام»[20] وقال: «إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلا الموت»[21] وقد قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
* * *

[17] أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل من حديث عمر. [18] متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب. [19] أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي خزامة. [20] أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء. [21] أخرجه أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن مسعود.

أضرّ مَا ابتلي به الشخص هوَ العَجز اتكالاً على القَدر

إن أكثر الناس يجعل عجزه توكلاً، وفجوره قضاء وقدرًا، فمتى نصحته عن ترك الصلاة أو نهيته عن شرب المسكرات اعتذر إليك بأنه مكتوب علي، فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب الكفر والمنكرات جبري.

وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من العجز والكسل، ويقال: نكح العجز التواني فولد بينهما الحرمان.

فمن نوع العجز الذميم الإعراض عن استعمال الأدوية المجربة لدفع البلاء ورفع الوباء توكلاً منهم بزعمهم على الله تعالى.

[الأدوية التي يستدفع بها البلاء والوباء هي من قدر الله]

والله سبحانه خلق الناس وخلق لهم جميع ما يحتاجون إليه من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية وغير ذلك.

فكل العقاقير والأدوية التي يستعملها الأطباء لعلاج المرضى وللوقاية من البلاء والوباء هي بالحقيقة من مخلوقات الله تعالى التي أنبتها في أرضه رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع بمرض يزيله ويشفيه.

فالمرض هو من قدر الله، والدواء الذي يعالج به ليشفيه هو من قدر الله أيضًا، فهم يسلطون القدر على القدر ويتقون القدر بالقدر، فيشربون الدواء الكريه المر خوفًا من الوقوع في النار، ويرتجزون يقولون:
نحن في دار بليات
نعالج آفاتٍ بآفات
وقد ركَّب الله في الإنسان السمع والبصر والعقل ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه واستعمالها في سبيل وقاية صحته وحفظ بنيته، وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ويقول: «عباد الله تداووا فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له شفاء» [22] فاستعمال الأدوية المباحة والوقاية النافعة هي من تحقيق التوحيد، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل؛ لأن كل ما شرعه رسول الله لأمته وأمر به فإنه من الدين الذي يجب اتباعه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105]. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦ [فصلت: 46].

وقد أمر الله نبيه بأن يقول: ﴿وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٩٢ وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٩٣ [النمل: 92-93].

* * *

[22] رواه الترمذي عن أسامة بن شريك.

التذكير بحديث «المؤمن القويّ أحب إلى الله من المؤمن الضعيف» وفيه بيان القضاء والقدر على الوجه الصحيح

وبما أنه بقي الكلام على موضوع حديث جبريل، وفيه «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» [23]. فقد يشكل على أكثر الناس حقيقة هذا القدر الذي يجب الإيمان به، فيتخبطون في وصفه وتفسيره، بما يبعد عن حقيقته، ويبعد القلوب عن فهمه.. لهذا وجب أن نبين للناس حقيقة القدر الذي يجب الإيمان به، ونقدّم قبله الكلام على حديث «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، إذ فيه بيان حقيقة القدر، ومحاولة محاربته، وعدم الاتكال عليه.

فقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان».

وأقول: إن هذا الحديث، هو من جوامع الكلم، ومهمات الحِكم. فهو بمثابة الموعظة الفصيحة، والنصيحة الصحيحة، التي حث النبي ِﷺ عليها أمته، وأحب منهم أن يتخلقوا بمدلوله الذي فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

بدأه بقوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»، لكون القوي يزيد على الضعيف بقوته، والقوة في سبيل الحق والعدل مطلوبة شرعًا، ومحبوبة طبعًا.

ولهذا يستحبون الغزو مع الأمير القوي الفاجر، ويفضلونه على الغزو مع الأمير المؤمن الضعيف. ويقولون: إن إيمان الضعيف، وضعفه يضر بالناس، وإن فجور الأمير القوي لنفسه، وقوته تنفع الناس.

ولهذا كان من سيرة عمر بن الخطاب: أنه كان يفضّل الأمير القوي، ويقدمه في الولاية على الضعيف. كما ولى زياد بن أبيه وأمثاله. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة.

ويستحبون في القاضي: أن يكون قويًّا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، حليمًا، ذا أناة وفطنة. وقد قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
فالقوة الممدوحة هنا، شاملة للقوة في الدين والدنيا، لكونه يقوم في أعماله بجد وعزم، ويأخذ بأسباب الحزم. وقد قيل:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ولهذا قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز».

فهذه من أجمع الكلمات، وأفصح العظات، ترشد الإنسان إلى الحرص فيما ينفعه في أمر دينه ودنياه وبدنه، فمتى احتاج إلى علاج يزيل به ضرره، ويدفع به مرضه، فإنه يبادر إلى الأخذ بأسبابه، والدخول عليه من بابه، لأن دين الإسلام، يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والآخرة. ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «ما نزل داء، إلا وله دواء، علمه من علمه، وجهله مَنْ جهله»[24]. وقال: «تداوَوْا ولا تداوَوْا بحرام»[25]. فيستعمل الدواء الكريه المرّ، خوفًا من الوقوع في الضر. كما قيل:
نحن في دار بليات
نعالج آفات بآفات
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل. والله سبحانه يحب الكَيْس -أي الحزم- ويلوم على العجز. وفي الحديث: «كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكَيْس»[26]. فالعجز هو التواني، والكسل في الأمور، وعدم الأخذ بالثقة، وعمل الحيطة في كل ما يقيه ويرقيه. ولهذا قيل:
الحزم أبو العزم أبو الظفرات
والترك أبو الفرك أبو الحسرات
فقول النبي ﷺ: «احرص على ما ينفعك»، يشمل هذا كله، كما يشمل الحرص على أمر دينه، من المحافظة على كل فرائض ربه التي ينتظم بها أمر حياته وآخرته، فإنها نعم العون على ما يزاوله من أمر الدنيا. وفي الدعاء المأثور «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي»[27]. وقد مدح الله الذين يقولون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٢٠١ [البقرة: 201].

فلا ينبغي للإنسان أن يعجز عما يعود عليه نفعه، من أمر دينه، ودنياه فإن العجز نتيجته الحرمان. وقد قيل:
دع التكاسل في الخيرات تطلبها
فليس يسعد بالخيرات كسلان
ومن دعاء النبي ﷺ: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»[28]

إن أضر ما ابتلي به الشخص، هو العجز والكسل، وأكثر الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاءً وقدرًا.

فمتى صارحت الشخص، ونصحته عن ترك الطاعات كالصلاة مثلاً، أو نهيته عن شيء من المنكرات، كشرب المسكرات، اعتذر إليك قائلاً: إنه أمر مكتوب عليَّ. فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب المنكرات جبري، نظير ما حكى الله عن المشركين، حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ [النحل: 35].

فالمحتج بالقدر حجته داحضة عند ربه، لأنه باحتجاجه بالقدر، يريد أن يبطل الأمر والنهي، اللذين عليهما مدار العبادات والأحكام، وأمور الحلال والحرام، والله سبحانه خلق الإنسان وركّب فيه السمع والبصر والعقل، ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه، واستعمالها في سبيل قوته، ووقاية صحته، وحفظ بنيته. وقد أرشد القرآن الحكيم إلى أخذ الحذر، الذي من لوازمه عدم الركون أو الركود إلى القدر، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71]. وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60]. وقد ظاهر النبي ﷺ بين درعين[29]، وهو محفوظ من الله بكلاءته، وملائكته.

[23] أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب. [24] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [25] أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء. [26] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [27] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [28] رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. [29] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث السائب بن يزيد.

ربط الأسباب بالمسببات

وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله، وأصحابه، وكل ما شرعه رسول الله ﷺ لأمته، وأمر به، فإنه من الدين الذي يجب اتباعه، واستعماله، ويدخل في عموم قوله: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»[30].

فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، وعليه مدار العمل، مع إيمانهم بالقضاء والقدر، فهم يقدمون الأمر، ويحاربون القدر بالقدر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما بلغه أنه قد وقع الطاعون بالشام، فامتنع عن دخول البلد من أجله، وعزم على الرجوع بأصحابه، ولما قال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم، نفرّ من قدر الله، إلى قدر الله[31].

ويقولون: القدر لا يمنع العمل، ولا يجب الاتكال عليه، لا الاحتجاج به، إلا في حالة بذله للأسباب التي تقيه وترقيه وتحفظه، فمتى غلبه الأمر بعد ذلك، فإنه لا يلوم نفسه على تقصيره أو تفريطه، ولن يلومه الناس، إذ قد ينزل بالشخص من البلايا والمحن، ما لا طاقة له به؛ ولهذا قال: «ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا» ؛ لأن هذا من اللوم المذموم. فالعاقل يأخذ في أموره بالحذر والحزم وفعل أولي العزم، فمتى غلبه أمر لا يطيق دفعه، ولا رفعه، فعند ذلك يلتجئ إلى قوله: هذا قدر الله، وما شاء فعل. ليسلّي نفسه.
على المرء أن يسعى ويبذل جهده
وليس عليه أن تتم المقاصد
أما إذا غلبه أمر بسبب ضعفه وعجزه وتقصيره بأخذ الحيطة، ووسائل الوقاية والحفظ فإنه ملام على عجزه، ولا معنى لاحتجاجه بقضاء الله وقدره ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ [النساء: 79].

ولما قصّر الصحابة يوم أُحد في حمايتهم، وأهملوا الشِّعب الذي أمرهم النبي ﷺ بحفظه حتى دخلت عليهم خيل المشركين من جهته، فقتلوا سبعين من الصحابة، وكانوا يظنون أنهم لن يغلبوا، من أجل أنهم جند الله، والمجاهدون في سبيله مع نبيّه، فأنزل الله ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ [آل عمران: 165]. أي بسبب تقصيركم بحفظ بيضتكم، وحماية ثغركم.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب. وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل، لا يكون إلا عن جهل بالشرع، أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب. والعمل بالأسباب، محله الأعضاء والجوارح، والحركة، والإنسان مأمور بالأسباب ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ [العنكبوت: 17]. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ [الملك: 15]. يسأل بعضهم:

[30] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [31] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف.

[هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟]

فالجواب: أن الإنسان مخيَّر، أي فاعل مختار لعمله، سواء كان خيرًا، أو شرًّا، فلا يقع فعل مقصود إلا من فاعل مختار، يقول الله: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]. وقال: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ [الأنعام: 104]. والله سبحانه يقول عند عرض صحائف الأعمال يوم القيامة: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه»[32].

فمن قال: إن الإنسان مسيّر؛ فإن هذه طريقة الجبرية، القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله، وتصرفاته، ويصفونه في تصرفه بالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح اضطرارًا، لا اختيارًا.

وينشدون في ذلك:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إيّاك إياك أن تبتلّ بالماء
وأقول: إن هذا الشعر هو من الكذب المفترى على الله، وعلى رسوله، وعلى القضاء والقدر، فما ذنب القضاء والقدر؟! ولكنهم المذنبون يجادلونك بالباطل ليدحضوا به الحق، فهو بعيد عن الحق، فإن الله سبحانه لم يخلق الإنسان في الدنيا مكتوفًا عن العمل والسعي، والأخذ بأسباب الحول والقوة، وسائر ما يؤهله من السعادة، والوصول إلى الغاية والنعيم في الدنيا وفي الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]. وقال: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨ [النحل: 78]. فهذه هي الوسائل والأسباب التي تنجيه من عذاب الدنيا، وعقاب الآخرة، فيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته.

أما إذا عطّل الإنسان هذه المنافع، ولم يستعملها في سبيل ما خلقت له، من عبادة ربه، واستعمالها في مصالحه، ومنافعه المباحة، فيكون بمثابة الأعمى والأصم، أو كالميت المكتوف. كما قال سبحانه: ﴿..وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡ‍ِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡ‍ِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ... [الأحقاف: 26]. وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44]. وحكى سبحانه عن أهل النار ﴿قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ ٩ وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ [الملك: 9-10].

فقد خلق الله الإنسان، وخلق له السمع والبصر والأفئدة، وخلق له أيضًا جميع ما يحتاج إليه في الدنيا من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية.

فكل العقاقير التي يستعملها الأطباء لعلاج الأمراض، والوقاية من البلاء والوباء، فهي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه، رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بمرض يزاوله ويشفيه، فهي من قدر الله تعالى التي يقدِّر الله بها دفع البلاء ورفعه، لكون الدواء أمانًا للصحة وقت المهلة، فالقائلون: ألقاه في اليم مكتوفًا، هم الجبرية، الذين يحتجون بالقدر، ويحاولون أن ينزهوا أنفسهم عن سوء ما فعلوا من المنكرات، وترك الطاعات. قال الخطابي رحمه الله: قد يحسب كثير ممن لا علم عندهم: أن القضاء والقدر من الله، عبارة عن إجبار العباد وقهرهم على ما قدره وقضاه، وليس كذلك. وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد، واكتسابهم لأعمالهم، والحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، لمباشرتهم تلك الأفعال، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد.

فالقدر بنسبته إلى الله: عبارة عن سبق علم الله بالعباد، وما هم فاعلون وليس علمه بها هو جبر منه لهم على فعلها[33]. انتهى.

ويحيلون جورهم وفجورهم، من تركهم الطاعات، وارتكابهم المنكرات، وشرب المسكرات، إلى القضاء والقدر. وما ذنب القضاء والقدر؟! ولكنهم المذنبون. فلو تعدى ظالم على هؤلاء بضربه، أو أخذ ماله، أو انتهاك محارمه، ثم احتج على سوء فعله بالقضاء والقدر، فإنه لن يقبل منه هذا الاحتجاج، لعلمه أنه احتجاج باطل، حاول به التوصل إلى باطل ببديهة العقل، فكيف يقبل على الله في ترك طاعاته، وارتكاب محرماته[34]؟!.

ولهذا يرى بعض العلماء: أن يُجاوَبَ الجبرية بالصفع على الوجه، ويقال: هذا قضاء الله وقدره، كما كنت تحتج به. ولمّا جيء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسارق قد سرق، واعترف. فقال له عمر: ما حملك على السرقة؟ فقال: حملني عليها قضاء الله وقدره. فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. ثم أمر به، فقطعت يده.

ومثله احتجاج بعضهم بقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
وهذا أيضًا يعد من أفسد الشعر، يتمشى على عقيدة الجبر، كما ذكرنا فيما سبق. وهذا القول، وهذا الاعتقاد، باطل بمقتضى النقل والعقل، فهم يصورون القضاء والقدر في نفوسهم، بمثابة الغُل في العنق، والقيد في الرجل، بحيث لا يتقصى أحد عنه، ولا محيص للناس منه، وهو مدفوع بقول النبي ﷺ في هذا الحديث: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز». والله سبحانه لم يخلق الخلق في الدنيا سدى مهملين مضيعين كالمكتوفين، بل خلقهم عاملين متحركين مختارين.

ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به اتكاله على قضاء الله وقدره.

وحقيقة القدر: هو الإخبار عن سبق علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنه يعلم ما كان، وما سيكون، كيف يكون؛ لأنه لا يخفى عليه خافية من أعمال عباده. فعلمه بالأشياء قبل وقوعها شيء، والجبر منه عليها شيء آخر. فقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمر، أن النبيﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». وهذه الكتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل أن تقع. وهذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نشبه كتابته بكتابتنا، ولا قلمه سبحانه الذي يكتب به بأقلامنا.

قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق، وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا، فأنزل ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠ [الحج: 70]. ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان صفحة 199.

وثبت أن الله يدفع القدر بالقدر، وأن الله يمحو القدر بالقدر، وسمع من دعاء عمر، أنه يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا، فامحني، وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت [35]. والله يقول: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩ [الرعد: 39]. مما يدل على أن هذا المحو قد أزيل به كتاب سابق. وفي حديث ثوبان: أن النبي ﷺ قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الصدقة لتدفع ميتة السوء»[36]. وفي دعاء القنوت «وقنا واصرف عنا شر ما قضيت»[37]، فأثبت في هذا الحديث، كون الدعاء يرد القدر والقضاء، كما أن الصدقة تدفع ميتة السوء. وكذا قوله: «ولا يزيد في العمر إلا البر»، سواء حملناه على زيادة الأيام والليالي، أو على البركة في العمر، والكل واقع بقضاء الله وقدره.

فالأنبياء، والعلماء، دينهم الأمر، ويقدمونه على القدر. فقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
هو قول باطل قطعًا. فلا يكون التحرّك مثل السكون، إذ إن مدار الشرع على الأمر والنهي، وأصدق الأسماء: حارث وهمّام. فالهمّام: هو الذي يهم بقلبه، سأفعل كذا. والحارث: هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى تحقيق آماله، والسعي في أعماله، وقد قيل:
المسلم الحق يصلي فرضه
ويأخذ الفأس ويسقي أرضه
يجمع بين الشغل والعباده
ليكفل الله له السعاده
وقد قلنا بأن المرض الذي يصاب به الشخص، هو من قضاء الله وقدره، وأن الدواء الذي يعالج به ليشفيه، هو من قضاء الله وقدره أيضًا، فهم يشربون الدواء الكريه المرّ ليقيهم من الوقوع في الضر، كما قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـر
فإن المرّ حين يـسر حلو
وإن الحلو حين يضـرّ مر
وقد ثبت في الحديث: «بادروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة»[38]. وفي مراسيل الحسن، أن النبي ﷺ قال: «حصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرّع»[39]. والدعاء يتعالج مع البلاء بين السماء والأرض، فلا يعجز أحدكم عن الدعاء، ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي، فسوف يأتيني، دعوت، أو لم أدع. فإن هذه طريقة الملاحدة الذين يحاولون إبطال عبودية الدعاء، وهو مخ العبادة. وقد قدر الله بعض الأشياء، ولا يحصلها الإنسان إلا عن طريق الدعاء. وإن لم يدع لم تحصل له ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ [محمد: 38]. ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[32] رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه. [33] نقله عنه شيخ الإسلام في منهاج السنة . ونقله الخازن في تفسيره على قوله سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. [34] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن القضاء والقدر: القدر نؤمن به، فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول، ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولاً، لقبل من إبليس، وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب الله أحدًا من الخلق لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ولو كان القدر حجة، لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد في جريمة، ولا جوهد في سبيل الله، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر. [35] رواه الفاكهي وابن بطة عن أبي عثمان النهدي. [36] أخرجه أحمد في مسنده من حديث رافع بن مكيث. [37] أخرجه أصحاب السنن من حديث الحسن بن علي. [38] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أنس. [39] رواه أبو داود في مراسيله عن الحسن البصري.

شبهة النصارى على المسلمين في عقيدة القضاء والقدر

عقيدة القضاء والقدر قد كثر من النصارى الخلط والخبط في الطعن على الإسلام والمسلمين فيها، لظنهم فيها الظنون الكاذبة حيث أخرجوها عن حدود ما أنزل الله، وعن حقيقة ما يؤمن به المؤمنون.

وقالوا: إن المسلمين في فقر وفي تأخر في القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم من أجل اعتقادهم بالقضاء والقدر.

لظنهم أن المسلمين كانوا على عقيدة الجبر القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله.

وتوهموا أن المسلمين يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيف تميل، وأنه لا حول لهم ولا قوة ولا اختيار، وإنما ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة. فلا ريب أن تتعطل قواهم ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى، ويزول عن خواطرهم داعية السعي والكسب والحرفة، ثم يتحولون من عالم الوجود إلى عالم العدم، ويُسلبون العزة والقوة ويحكم فيهم الضعف والضعة، ورموا المسلمين من أجلها بصفات المذلة وسيما الهوان.

ذلك ظن الذين كفروا في المسلمين، وتبعهم على ظنهم هذا ضعفاء العقول من العرب الذين أولعوا بتقليد النصارى وتصديقهم فيما يقولون، فهم يلفظون لفظهم كلما لفظوا ويتبعون ظلهم أينما انبعثوا.

وأقول: إنهم افتروا الكذب على الله وعلى عباد الله فيما يقولون، فإنه لا يوجد مسلم صحيح الإسلام في هذا الزمان يعتقد مذهب الجبر المحض، ويعتقد سلب القدرة والاختيار عن نفسه أو عن غيره، ولو وجد فإنهم يلحقونه بالمجانين.

وكل الطوائف من المسلمين من زمن الصحابة إلى زماننا هذا يعتقدون للإنسان قدرة واختيارًا، وأن قدرته تؤثر في مقدورها حسب تأثير القوى والطبائع بما يسمى الكسب والاختيار، وهو مناط التكليف الذي عليه مدار الثواب والعقاب والفوز بالجنة والنجاة من النار. يقول الله: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

فهم يعتقدون أنهم محاسبون على ما وهبهم الله من القوى والاختيار، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر والنواهي الربانية، إن أحسنوا فلأنفسهم وإن أساؤوا فعليها.

فهم يلومون ويذمون كل من يحتج بالقدر في ترك الأمر وارتكاب النهي، وأنه لا حجة له في ذلك بل حجته داحضة عند ربه.

وقد أمر رسول الله ﷺ أمته بأن يأخذوا بالكيس والحزم وفعل أولي العزم في جميع أعمالهم من أمور دينهم ودنياهم، وأن يأخذوا حذرهم ويستعدوا بالقوة لعدوهم وبما استطاعوا من الكيد والقوة، ونهى عن الكسل والعجز، وأخبر أن الله يلوم عليه، كما أرشدهم ودلهم على الدواء عند الحاجة إليه، وقال: «إن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء»، وقال: «لا تداووا بحرام».

ونهى أشد النهي عن أن يتكلوا على القضاء والقدر في شيء من أعمالهم، بل قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، وهذا هو مناط التكليف الشرعي، وبه تتم الحكمة والعدل والمصلحة، وعليه مدار عقيدة المسلمين. وقد قيل: العاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.

أما عقيدة الجبر كالذين يحيلون جميع تصرفاتهم في ترك واجباتهم أو ارتكاب محرماتهم إلى القضاء والقدر فهذا الاعتقاد قد انقرض أهله من سنين طويلة.

غير أنه في هذا الزمان نشأت طائفة من شباب العرب الماردين والمارقين عن الدين يحتجون بالقدر في ترك الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات، ومتى عذلته[40] أو نهيته عن سوء عمله قال: هذا أمر كتبه الله علي. فيجعلون عجزهم توكلاً، وكفرهم وفجورهم قضاء وقدرًا.

وسُمع من بعض الملاحدة أنه يقول: الذنب ذنب الذي خلق إبليس ليس ذنبي!!! وهؤلاء يعدهم المسلمون ملاحدة ليسوا من المسلمين.

[40] عذلته: أي لُـمْتَهُ.

[اعتقاد القدر على الوجه الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة والصفات الحميدة]

إن اعتقاد القضاء والقدر الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة وتَتْبعه الصفات الحميدة من بسط اليد في النفقة والصدقة والجرأة والإقدام وخلق الشجاعة، ويبعث على اقتحام المهالك في سبيل الحق وحماية الدين والوطن، ويلهج أهله بقولهم: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١ [التوبة: 51]. إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم وتحمُّل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، ويحلي الأنفس بحلية الجود والسخاء، لاعتقاده أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه، كما يحملها على التضحية بالروح في سبيل الحق والتخلي عن الدنيا وزينتها.

فالمسلم الذي يعتقد هذا الاعتقاد وأن نواصي الخلق بيد رب العباد يتصرف فيها كيف يشاء، وأن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وأن الدنيا دار متاع يتمتع بها صاحبها برهة من الزمن ثم يزول عنها، وأن الآخرة هي دار القرار، وأن كل امرئ مجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.

فهذا الاعتقاد متى رسخ في قلب المؤمن فإنه لا يرهب الموت أبدًا ولا يجزع منه إذا نزل به، لاعتقاده أن له دارًا هي أبقى وأرقى من دار الدنيا، وعيشًا ونعيمًا هو أرغد وأنعم من عيش الدنيا، فإنه لن يجزع من فراق الدنيا والحالة هذه.

ثم إن هذا الموت ليس بفناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، فهذا يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الموت وهول المطلع فيندم حيث لا ينفعه الندم، ويقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24].

[اندفاع المسلمين بصحة عقيدتهم إلى فتح مشارق الأرض ومغاربها]

لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في أوائل نشاطهم في القرن الأول والثاني والثالث، شجاعة باسلة وقلوب ثابتة وإيمان راسخ، فاندفعوا إلى الممالك البعيدة في مشارق الأرض ومغاربها، وبأيديهم القرآن يفتحون به ويسودون، ويدعون الناس إلى العمل به، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، حتى استطاعوا أن يثلّوا عروش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وهم أرقى الأمم حضارة وقوة ونظامًا وعددًا وعدة.

فما كان خوضهم لهذه المعارك التي هي غاية في اقتحام المهالك إلا من أجل إيمانهم بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح، وأنها لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فهذا الاعتقاد هو الذي ثبّت أقدام المسلمين مع قلتهم وضعفهم أمام جيوش أعدائهم التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فكشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا التوحيد والصلاح والسعادة في سائر البلدان، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 41].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرر في 20 ربيع الثاني سنة 1396 هـ

* * *

(2) عقيدة الإسلام والمسلمين

[الإسلام خاتم الشرائع ومحمد خاتم الأنبياء والرسل]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الإسلام دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة، ﴿يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 16].

فهو الدين الذي ارتضاه الله لجميع الأمم.

يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]. وقال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3].

وهو دين سائر الأنبياء أولهم نوح وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام. يقول الله تعالى: ﴿۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣ [الشورى: 13]. غير أن شرائع الأنبياء تختلف. يقول الله: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا [المائدة: 48]. وقد جاءت شريعة محمد رسول الله مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع قبلها؛ لأن الله أرسله إلى كافة الناس ليظهره على الدين كله ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158].

وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فلا يجوز لأحد أن يعمل أو يحكم بغير شريعته.

ولما رأى النبي ﷺ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطعة من التوراة قال له: «يا عمر لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»[41].

وهو دين اعتقاد وقول وعمل فلا إسلام بدون عمل. وقول النبي ﷺ: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[42] يشير إلى اعتقاد القلب؛ لكون العقائد القلبية تنشأ عنها الأعمال البدنية صحة وفسادًا، فإذا صح الاعتقاد صلح العمل، وإذا فسد الاعتقاد ساء العمل وساءت النتيجة. وقد «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً» كما ثبت ذلك في الصحيح[43] من حديت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

* * *

[41] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [42] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [43] أخرجه مسلم.

حكمَة بعثة الرسُل (إفراد الله بالدعاء فلا يُدعى مع الله أحد)

إن الله سبحانه لم يبعث رسولاً إلا ويأمر قومه بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا. والعبادة أنواع منها: الصلاة والزكاة والصيام وسائر الأوامر الدينية، ومنها الدعاء فإن الدعاء عبادة.

وروى مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «الدعاء عبادة» وقرأ ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ٦٠ [المؤمن: 60]. - أي صاغرين حقيرين ذليلين - ورواه الترمذي بلفظ «الدعاء هو مخ العبادة» ومخ الشيء خالصه، فمتى كان الدعاء عبادة فإن صرف الدعاء لغير الله شرك.

فالذين يدعون عليًّا أو يدعون وليًّا أو عبد القادر أو يدعون الرسول حين يقفون عند قبره ويقولون: يا محمد اشفع لي عند ربك وأغثني، كل هذا من الشرك الأكبر الذي لا يُغفر إلا بالتوبة منه، فإن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. يقول الله: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ [يونس: 106].

فسماه الله ظالمًا لكونه صرف هـذه العبادة التي هي من خالص حق الله لغير الله، وقال: ﴿وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا ١٨ [الجن: 18]. وأخبر الله بأنه لا أضل -أي: لا أظلم ولا أجهل- ممن يدعو ميتًا ويسأله قضاء حاجاته وتفريج كرباته، وهو مرهون في قبره بعمله لا يستطيع زيادة في حسنات نفسه ولا نقصانًا من سيئاته، فقال: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6]. وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

الذبح لغَيرِ الله شِرْك

إن الله سبحانه قد شرع الذبح له في القُرب الدينية كذبح متعة الحج والقِران والإحصار، وعن ترك شيء من واجبات الحج أو فعل محظور أو ذبح الأضاحي والعقيقة والمنذورة لله، فكل هذه تدخل في قسم العبادة لله رب العالمين ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي -أي ذبيحتي- ﴿... وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ [الأنعام: 162-163].

فمتى كان الذبح عبادة لله رب العالمين فإن الذبح لغير الله شرك، كالذبح للجن والذبح للزار والذبح للقبر، ومثله الذين يذبحون للجن عندما يستجدون سكنى بيت ولا يسمون على ذبيحتهم، فهذا كله من الشرك، والذبيحة حرام لا يجوز أكلها سواء كانت صغيرة أو كبيرة لأنها مما أهل به لغير الله تعالى.

وفي مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: «لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غيّر منار الأرض» أي مراسيمها.

* * *

تعْليق الحجُب والجامعَات والحُروز وما يسمّونه العزيمَة والتعويذة والتميمَة كلّه شرك

إن هذه الأسماء عبارة عما يعلق على الأولاد والأجساد والدواب لدفع الجان وعين الإنسان، وهي من بقايا عمل الجاهلية الأولى، إذا ولد لهم مولود علقوا عليه التميمة -أي الجامعة- لتقيه بزعمهم من الجان ومن عين الإنسان كما قال الشاعر:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
ومعنى نيطت: أي علقت.

وقد تسربت هذه الفكرة الشركية إلى السذج من العوام وضعفة العقول والأفهام، وقد أبطلها الإسلام وعدها من الشرك.

لأن هذا التعليق على اختلاف أنواعه هو مما يقتضي صرف القلب عن الله تعالى، ويجعله متكلاً ومتعلقًا قلبه بهذا التعليق، بحيث يشب عليه صغيرًا ويهرم عليه كبيرًا، وقد يموت وهي معلقة على جسده فيعظم ضرره ويشتد خطره.

روى الإمام أحمد بسند لا بأس به عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ رأى رجلا في يده حلقة من صفر قال: «ما هذه» قال: من الواهنة. فقال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنًا، وإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا».

فنهاه النبي ﷺ عنها لأنه اتخذها معتقدًا بأنها تعصمه من الألم وهي ليست بدواء ولكنها داء.

وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له» وفي رواية «من تعلق تميمة فقد أشرك».

وهذا دعاء من النبي ﷺ على من تعلق تميمة -أي جامعة- أو حرزًا أو تعويذة يريد منها أن تقيه عن الآلام وعن الجان وعين الإنسان، قال: فلا أتم الله له أمره مما يرجوه ويؤمله من العافية والصحة. وأكبر منه قوله: «من تعلق تميمة فقد أشرك»[44] كما قال: «ومن علق ودعة فلا ودع الله له»[45] أي لا جعله في دعة وسكون بل جعله في قلق واضطراب. وعن عبد الله بن عكيم أن النبيﷺ قال: «من تعلق شيئًا وُكل إليه»[46] وهذه الأحاديث تقتضي النهي عن كل معلق سواء كان من القرآن أو من غير القرآن، فلا وجه لتخصيصه بغير تمائم القرآن، إذ لو كان فيها نوع مباح لورد الدليل بإباحته، كما ورد الدليل بإباحة الرقى ما لم تكن شركًا. ولهذا قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن. وعبر بالكراهة عن التحريم كما هي طريقة السلف السابقين، وقد أمر النبي ﷺ بقطعها عن الدواب والأولاد لكونها تضر ولا تنفع وتضعف الإيمان في القلب.

وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة لكونه أنقذه من عبودية الشيطان[47].

والحاصل أن من تعلق شيئًا وكله الله تعالى إلى ذلك، فيقع في قلق واضطراب وفنون من الأضرار والأمراض وداء الصرع وغيره. ومن توكل على ربه، والتجأ إليه وفوض أمره لله كفاه الله كل شر، ﴿وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا ٣ [الطلاق: 3].

إن أكثر من يحسّن للناس هذا التعليق ويعمل عمله في تنظيمه هم القوم الذين يتكسبون به على سبيل التغرير والخداع لضعفة العقول من العوام والنساء كما قيل:
أراد إحراز مال كيف أمكنه
فظل يكتب للنسوان أحرازا
أما الرقية بالآيات القرآنية والأدعية النبوية فإنها مشروعة، فقد رقى النبي ﷺ ورُقي وقال: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا»[48]، وقد نزلت المعوذتان أي: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس للرقية بهما. وكان النبي ينفث بهما في كفيه ويمسح بهما ما استطاع من جسده، ولما مرض كانت عائشة تفعل ذلك به، ولما اشتكى رسول الله رقاه جبريل فقال: «بسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك، من كل عين حاسد ومن كل شيطان مارد»[49].

ولما رقى الصحابي اللديغ بفاتحة الكتاب قال رسول الله: «إنها رقية حق»[50].

واشترطوا لصحة الرقية بأن تكون بالآيات القرآنية أو الأدعية النبوية، وأن تكون باللسان العربي مع اعتقاد أن الله هو النافع الضار.

إذ الرقية محض أدعية، والدعاء يدفع شر البلاء ويرفعه، وتأثيرها تعود إلى قوة إيمان فاعلها، والله أعلم.

* * *

[44] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [45] أخرجه أحمد من حديث عقبة بن عامر. [46] أخرجه الترمذي وأحمد. [47] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف. [48] أخرجه أبو داود من حديث عوف بن مالك. [49] أخرجه أحمد وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد الخدري. [50] أخرجه أبو داود من حديث علاقة بن صحار.

حـقِيقـة الإسْـلام

إن الإسلام هو هذا الدين السمح السهل الحسن، ليس بحرج ولا أغلال ولا شاق، ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة، بل هو سلّم النجاح وسبب الفلاح. رأسه الإسلام وعموده الصلاة وبقية أركانه الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام مرة عند الاستطاعة، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، بل هي أصل الإسلام لمن سئل عن الإسلام كما في سؤال جبريل حين قال للنبي ﷺ: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً». قال: صدقت. رواه مسلم من حديث عمر، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة. وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».

فهذه الأركان بما أنها البنيان للإسلام فإنها الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وهي محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن للإسلام صوىً ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه، ذلك أن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون اختبارهم على صحة إيمانهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان، وحتى المشركون الوثنيون الذين يتوسلون بأهل القبور ويتضرعون إليهم في قضاء حوائجهم ويطلبون الشفاعة منهم، فإنهم عندما يفرغون من دعائهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فهم مسلمون بألسنتهم، ومشركون بأعمالهم واعتقادهم.

ومن المعلوم أن للإسلام أعمالاً هي بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان، كما روى الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب» ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة هو من يصلي الصلوات الخمس المكتوبة، ويؤدي الزكاة المفروضة، ويصوم رمضان، ويقوم بشرائع الإسلام، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء لله في أرضه، وهذه الأعمال هي بمثابة العنوان لصحة الإيمان بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2]. أي لا يمتحنون ولا يختبرون على صحة ما يدعون ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ -أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع وعمل الواجبات وترك المحرمات- ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ -أي في دعوى إيمانهم فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم فصدق فعلهم قولهم- ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ [العنكبوت: 3]. الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه، فكانوا كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ [البقرة: 8-10].

لهذا نجد كثيرًا من الناس في البلدان العربية يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم من الإسلام سوى محض التسمي به والانتساب إلى أهله، وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقومون بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد خرقوا سياج الشريعة واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

إن الناس على طبقات شتى فمنهم أناس يتسمون بالإسلام، ويصومون رمضان، لكنهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة في أموالهم، كما عليه عمل أكثر أهل البلدان العربية. ومنهم أناس يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ويصومون رمضان، لكنهم لا يؤدون الزكاة الواجبة في أموالهم، وهم أكثر التجار، فهؤلاء كلهم ممن قال الله فيهم ﴿...وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗا [النساء: 150-151].

فلا يكون المسلم مسلمًا حقًّا حتى يأخذ بعزائم الإسلام كلها، وكيف يكون مسلمًا من يصوم رمضان ثم يصر على ترك الصلاة المفروضة التي هي عمود الإسلام والناهية عن الفحشاء والمنكر والآثام، والتي هي آخر ما يُفقد من دين كل إنسان؟! فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين، فلا يستبيح ترك الصلاة مؤمن بوجوبهـا لما في الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، من تركها فقد كفر». وفي رواية: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد أشرك»[51] ؛ لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالإيمان والانقياد له بالطاعة والصلاة والزكاة والصيام.

إن بعض الناس يعتذر عن أداء الصلاة بعدم نظافة ملابسه وعدم طهارة سراويله، وليست هذه بعذر يبيح ترك الصلاة، فإن الصلاة لا تسقط بحال إلا بزوال التكليف كالجنون، ولو خلصت نيتهم وصلح عملهم وصدق عزمهم لبادروا إلى الطهارة التي هي مفتاح الصلاة والتي يترتب عليها تكفير السيئات، ثم بادروا إلى فعل الصلاة ولكن ﴿كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ ٤٦ [التوبة: 46].

ومثله الزكاة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11]. وفي الآية الأخرى ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ [التوبة: 5]. وقد جعل الصحابة أداء الزكاة من حقوق الإسلام الذي يجب الجهاد في سبيله، وقد استباحوا قتال المانعين للزكاة وعدّوهم مرتدين بمنعها، ولهذا قال أبو بكر: والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة[52]، فهي من حقوق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن شرائع الإسلام مثل الصلاة والزكاة والصيام واجتناب الحرام كلها تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر والقمار إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة. فالتخلق بالعمل بالشرائع الدينية هو الذي يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويجعل صاحبه متحليًا بالفرائض والفضائل، ومتخليًا عن منكرات الأخلاق والرذائل. لاسيما الصلاة فإنها تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، وتغرس في القلب محبة الرب، ومحبة الجود والكرم وبغض الهلع والجشع ﴿۞إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٢٢ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣ [المعارج: 19-23]. ولهذا يقال: إن كل متدين متمدن.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
أما عدم الدين فإنه جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد، وإنما تنشأ الحوادث الفظيعة والفواحش الشنيعة من القتل وشرب الخمر وهتك الأعراض ونهب الأموال واختطاف النساء والأولاد من العادمين للدين الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، فلا يرجون عند الله ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، كما قال تعالى في صفتهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٢٠٦

[البقرة: 204-206].

* * *

[51] أخرجه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث بريدة الأسلمي. [52] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

الإيمـان باللّـه ربـًّا

«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً» رواه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

إن معنى الرضى بالله ربًّا هو أن يؤمن ويصدق بوجود الرب الواحد الفرد الصمد، رب العالمين وخالق السموات والأرض، خلق الخلق من العدم بقدرته وربّاهم بنعمته وأوجد لهم جميع ما يحتاجون إليه من المطاعم والمشارب والحيوانات والفواكه والثمرات والخيرات، ليتنعموا بذلك في حياتهم، ويستعينوا بها على عبادة ربهم، ويتمتعوا بها إلى آخرتهم ﴿كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ ١٥ [سبأ: 15]. فمن قال: إن السموات والأرض ومن فيهن خلقت بالصدفة أو خلقت بالطبيعة فقد كفر بالله، ويسمون هؤلاء بالدهريين وبالطبيعيين ؛ لأنهم ينسبون كل شيء إلى الطبيعة؛ بدعوى أنها الموجدة لها دون الله عز وجل، وإذا سألتهم عن الطبيعة وما هي لم يجدوا جوابًا إلا أنها محض العدم، ومن المعلوم بالبديهة أن العدم لا يخلق الوجود، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ خَلَقُواْ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ٣٦ [الطور: 36].
فوا عجبًا كيف يعـصى الإلـ
ـه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
إن الإيمان بالله ربًّا يستلزم التصديق والتسليم بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله ﷺ من إثبات الكلام والاستواء والنزول والوجه والسمع والبصر.

فأهل السنة من هذه الأمة يؤمنون بكل ما جاء في القرآن والسنة من آيات الصفات، ويقولون: إن الحق هو الإيمان بها والتسليم لما جاء عن الله ورسوله فيها، قائلين: آمنا بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.

فكل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه، ليس لأحد أن يفسره، ويقولون: أمرّوا آيات الصفات كما جاءت بلا تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، ﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١ [الشورى: 11].

لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله سبحانه ذاتًا لا تشبه ذات المخلوقين، فكذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين، ُ ض ص ش س ز ر! ِ ويقولون كما قال الإمام مالك لما سُئل عن الاستواء. فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذا يقال في جواب السؤال عن النزول وعن الوجه والسمع والبصر، فيقولون: الوجه معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب. وكذا سائر الصفات، فالذين أنكروا وكذبوا بكلام الله اضطروا إلى القول بخلق القرآن ففروا من التشبيه ووقعوا في التعطيل، والكلام صفة كمال، والله سبحانه موصوف بكل كمال.

والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذات المخلوقين فكذلك له صفات لا تشبه ذات المخلوقين، ﴿فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١ [الشورى: 11]. وكان الإمام أحمد يقول: ناظروهـم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا. يريد بهذا أن المنكرين للصفات يقال لهم: هل تؤمنون أن لله علمًا يعلم به خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ فكذلك المخلوق فإن له علمًا يعلم به ما يمكنه إدراكه وإحاطة العلم به، وعلم المخلوق ليس كعلم الله وكذالك سائر صفات الله لا يشبهها ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١.

فمن آمن بظاهر هذه الصفات ووكل علمها وتفسيرها إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ فقد أحسن حيث انتهى إلى ما سمع وسلم من عناء التعطيل والتحريف والانحراف ومن تكلف الكلام فيما لا علم له به، والذي يشبّه يئول به إلى تعطيل الرب عن صفاته وإلى التكذيب بكلامه ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ [يونس: 39]. وقد قيل:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته
ولا ذاته شيء عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها
وأخبارها للظاهر المتقارب
ونركب للتسليم سفنًا فإنها
لتسليم دين المرء خير المراكب

* * *

ومنَ الإيمان باللهِ الإيمان بالقرآن

إن القرآن كلام الله غير مخلوق ﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤ [الشعراء: 193-194]. ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ [النحل: 102]. ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤ [فصلت: 3-4]. ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢ [الشورى: 52].

فالقرآن كلامه سبحانه يجب الإيمان به. يقول الله سبحانه: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ [النساء: 164].

وقال: ﴿۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ٧٥ [البقرة: 75]. ولأن الكلام صفة كمال، والله سبحانه موصوف بالكمال ومنزه عن النقص، فكلامه سبحانه غير مخلوق.

فمن كذب بكلام الله أو قال: إن القـرآن مخـلـوق، أو إنه شيء فـاض على نفس محمـدﷺ بـدون أن يتكلم الله به، وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فقد كذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله وقال بمقالته الوحيد العنيد القائل ﴿إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ٢٥ سَأُصۡلِيهِ سَقَرَ ٢٦ [المدثر: 25-26]. ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٥ قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦ [الفرقان: 5-6].

رؤيَـة الـربّ في الآخِـرَة

ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٢٣ [القيامة: 22-23]. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»[53] يعني بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر.

أما رؤية الرب في الدنيا ففيها خلاف، والقول الراجح أنه لا يراه أحد، وحكى الله عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال: ﴿رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي [الأعراف: 143].

وسئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «لا، نور أنَّى أراه»[54] أي حال دون رؤيته نورٌ هـائل يمنـع من رؤيتـه في الدنيا، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه. ثم قرأت قـوله تعالى: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣ [الأنعام: 103][55].

* * *

[53] متفق عليه من حديث جرير بن عبد الله. [54] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [55] متفق عليه من حديث عائشة.

الإيمـان بالملائكـة الكـرام

إن من أصول الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته. يقول الله تعالى: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177]. وقال: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ [البقرة: 285]. فالإيمان بالملائكة يتفرع عن الإيمان بالله عز وجل وعن الإيمان بالكتب المقدسة النازلة من الله على أنبيائه ورسله.

والملائكة هم عالم غيبي، عاقلون خلقهم الله لخدمته وعبادته، كما خلق الجن والإنس. ومن صفتهم أنهم عقول بلا شهوات، فهم عباد مكرمون ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦ [التحريم: 6].

وقد يتشكلون بأمر الله وإرادته كما نزل جبريل على النبي ﷺ في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، فسأل النبي ﷺ عن أصول الدين والصحابة يستمعون، فلما انصرف قال النبي عليه الصلاة والسلام: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم»[56]. ورئي مرة في صورة دحية بن خليفة الكلبي، ورآه مرة في صورته التي خلقه الله عليها بمنظر هائل.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣ عِندَ سِدۡرَةِ ٱلۡمُنتَهَىٰ ١٤ [النجم: 13-14].

ولا يتوقف الإيمان بالملائكة على رؤيتهم، فإنهم من عالم الغيب، وقد أثنى الله على المتقين الذين يؤمنون بالغيب، فالإيمان بوجود الرب إيمان بالغيب والإيمان بالملائكة إيمان بالغيب والإيمان بالبعث بعد الموت للحساب وبالجنة والنار إيمان بالغيب.

والناس بين مؤمن موحد يصدق بكل ما أخبر الله به تصديقًا جازما وإن لم يـدركه بحواسـه، إيمانًا ليس مشوبًا بشك ولا ريب ولا مشـروطًا بعدم معارض. وبين مادي ملحد لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه، فهو ينكر كل ما لا يدرك رؤيته فيكذب بوجود الرب ويكذب بالملائكة ويكذب بالجنة والنار وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ رَبُّكَ أَوۡ يَأۡتِيَ بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَۗ يَوۡمَ يَأۡتِي بَعۡضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ١٥٨ [الأنعام: 158].

إن عدم علم الشخص للشيء وعدم مشاهدته له لا ينفي وجوده ولا وقوعه، وقد أنزل الله في المكذبين به قوله تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 39-41].

وهذا التأويل الذي عناه القرآن هو يوم القيامة حين تبدو المغيبات للعيان، فيتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده، وتبرز الملائكة، وحين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وهذا هو معنى التأويل في هذه الآية ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٥٣ [الأعراف: 53].

فإنكار الملائكة أو نسبتهم إلى الأفعال الخيرية في الشخص كما تقوله الفلاسفة هو كفر بهم، يستلزم التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٧ [هود:17].

والمؤمن حقًّا هو من يؤمن بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا جازمًا بدون تردد سواء أدرك ذلك بمشاهده ومشاعره أو لم يدركه؛ لأن الرسل أتت بمحارات العقول من الأخبار بالمغيبات والمعجزات.

* * *

[56] متفق عليه من حديث أبي هريرة.

الإيمـان باليَـوم الآخِـر

إن الإيمان باليوم الآخر هو الأصل لصلاح الأعمال واستقامتها، والتحفظ على الفرائض والفضائل، والتخلي عن المنكرات والرذائل، ويغرس في القلب محبة الرب والتقرب إليه بطاعته. فهو ينظم الإنسان في حياته أحسن نظام، بحيث يخاف عواقب سيئاته ويرجو ثواب حسناته.أما عدم التصديق باليوم الآخر بالثواب والعقاب والجنة والنار فإنه ينشأ عنه غالبًا الأعمال الفظيعة والفواحش الشنيعة، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ١٣٦ [النساء: 136]. لأن من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ومن خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله لم يضع ما يريد. ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون، وذلك أن المؤمن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ودار فناء وزوال ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧ وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨ [الكهف: 7-8]. وقد سمى الله الدنيا دار متاع ﴿قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ [النساء: 77]. ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ ٢٦ [الرعد: 26]. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه وقتًا من الزمن ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ [التوبة: 38].

ثم إن هذا الموت الذي أفسد على أهل الدنيا نعيمهم ولذاتهم ليس هو فناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ [النجم: 31]. فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا والذي يقول ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا [الجاثية: 24]. فهذا هو المفرط في حياته الذي عمّر دنياه وخرّب آخرته ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١ [الحج: 11]. فيندم حينما ينزل به الموت أشد الندم ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ [الفجر: 24-25]. وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات وكل ما هو آت آت.

والمؤمن يعتقد أن له حياة في الآخرة هي أبقى وأرقى من حياته في الدنيا، والموت وإن كان مكروهًا لدى النفوس لكنه سبب في انتقال المؤمن من دار الشقاء والفناء إلى دار السعادة والبقاء، ولما قال النبيﷺ: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال الصحابة: يا رسول الله كلنا يكره الموت. فقال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة فإن كان من أهل الخير وبُشِّر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن كان من أهل الشر وبُشِّر بالشر فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[57].

إن من كانت عقيدته التكذيب باليوم الآخر وإنكار البعث للحساب والثواب على الحسنات والعقاب على السيئات فإنه ينصرف بعقله وعمله واهتمامه إلى العمل في دنياه واتباع شهوات بطنه وفرجه، ويترك فرائض ربه، وينسى أمر آخرته. وقد حذر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثاله فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩ [الحشر: 18-19]. أي نسوا حق الله عليهم من صلاتهم وزكاتهم وسائر واجباتهم، فأنساهم الله أنفسهم، أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية، وحذر الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم.

فهؤلاء الذين ينكرون وجود الرب، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار هم عند المحققين من علماء المسلمين أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على الإسلام والمسلمين أشد من ضرر اليهود والنصارى، من أجل أن المسلمين يغترون بهم وينخدعون بأقوالهم. ولم يأمر الله سبحانه على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم عقائدهم وأخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل. فمتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم ترتب على جهرهم فتنة في الأرض وفساد كبير؛ لأن الجهر بالإلحاد هو جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد؛ لأن الناس مقلدون بعضهم بعضًا في الخير والشر.

فمتى وجد من يجاهر الدين بالعداء، ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته، ويدعو إلى الإعراض عنه والتكذيب به وعدم التقيد بحدوده وفرائضه، فأولئك هم نواة الفتنة والمحاربون لله ورسوله، وقد أوجب الله قتلهم وقتالهم وسماهم أئمة الكفر، قال تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ [التوبة: 12].

فسماهم أئمة الكفر من أجل أن الناس يقتدون بهم في كفرهم وضلالهم. وكان من عادة السلف أنهم يكتبون عقيدتهم في صدر وصيتهم ليعلموا الناس أنهم ماتوا على عقيدة أهل السنة، فيقولون: هذا ما وصى به فلان بن فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. شهادة عليها أحيا وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله تعالى... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 19 جمادى الأولى سنة 1396.

* * *

[57] أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت.

(3) تثقيف الأذهان بعقيدة الإسلام والإيمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، فانقادت للعمل به منه الجوارح والأركان، فأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج بيت الله الحرام.

وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله، تم استقام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، عليه أفضل الصلاة والسلام.

[حقيقة الإسلام والإيمان]

أما بعد: فإن الناس في قديم الزمان وحديثه، قد اشتغلوا بالخوض في موضوع الإسلام والإيمان، في حالة اجتماعهما وتفرّقهما. وقد اختلفت أفهامهم فيهما لاختلاف النصوص الواردة في شأنهما.

وأشهر ما ورد في حقيقة الإسلام هو: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن النبيﷺ قال: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».

ثم ما رواه مسلم من حديث عمر، في سؤال جبريل حيث قال للنبي ﷺ: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً». قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإيمان. فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإحسان. قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». قال: صدقت. رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفي آخره قال: «فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم».

وفي حديث وفد عبد القيس عن ابن عباس، أن النبي ﷺ قال: «آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله؟ هو: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا الخُمُس»[58].

ففسر الإيمان بشرائع الإسلام، ويدل عليه ما في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «الإيمان بضع وستون شعبة». وفي رواية: «بضع وسبعون شعبة أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».[59]. وهذه الشعب هي أقوال وأفعال، فهي من عمل الإسلام. وقد سمّاها رسول الله ﷺ بالإيمان، لشمول الإيمان للأعمال، ولكون الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان. قال ابن أبي شيبة: لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام. حكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان ص 171.

وجاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧ [البقرة: 177]. فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال له رسول الله ﷺ: «المؤمن إذا عمل حسنة سرّته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها» رواه ابن مردويه، وذكره ابن كثير في التفسير.

وقد قال العلماء: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا تفرقا، فيفسر الإيمان باعتقاد القلب بوجود الرب، ووجود ملائكته، والبعث بعد الموت، والجنة والنار.

ويُفسر الإسلام بعمل الجوارح، من النطق بالشهادتين، وبالصلوات الخمس المفروضة، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، والحج.

وهي أعمال ظاهرة، كما أن الإيمان من الأعمال الباطنة، وقد اجتمعا بهذا التفسير في حديث رواه الإمام أحمد عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب». فلابد من اجتماع الإيمان والإسلام في الشخص. ومعنى كون الإسلام علانية، أن المسلم على الحقيقة لابد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، فيرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، فيشهدون له بموجبه. وهذا معنى العلانية.

ويدل عليه قول النبي ﷺ: «إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق»[60]. أي يعرف به صاحبه، فترك الواجبات الظاهرة دليل واضح على انتفاء الإيمان الباطن، إذ إن الإيمان الصحيح في القلب، مستلزم للعمل الصالح بحسبه، ويمتنع أن يكون في القلب إيمان تام بدون عمل.

والإيمان في إطلاقه بمثابة اسم الدين في شموله.

وهذا معنى قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[61].

يشير بهذا إلى أنه متى صلح القلب بعقيدة الإيمان، نشطت الجوارح بأداء واجباتها، وإذا اختل صلاح القلب، اختل عمل الجوارح، وقد وصفوا القلب بالملك، والجوارح جنوده التابعة له، تسعد بسعادته وتشقى بشقاوته، أشبه بالروح مع الجسد.

وروى البخاري في تاريخه عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل». أخذها الحسن البصري، فقال: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. ولهذا قال أبو ثور: الإيمان تصديق وعمل.

ثم ليعلم أن هذه المباني الخمسة الواردة في حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج»[62].

فهذه أصل الإسلام لمن سأل عن الإسلام، كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، وكما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، وبها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا رسولاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان: إنه مما يسأل الناس عنه كثيرًا، قولهم: إذا كان مما أوجب الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمسة التي هي أركان الإسلام، فلماذا قال: الإسلام مبني على هذه الخمس: الشهادتين، والصلاة، وأداء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام؟

ثم قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».

فأجاب: بأن هذه هي أظهر شرائع الإسلام وأعظمها، وبقيامها يتم استسلامه للإسلام، وبتركه لها يشعر بانحلاله عن قيد الإسلام.

قال: والتحقيق أن النبي ﷺ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقًا، والذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادرًا عليه، ليعبد الله بها، مخلصًا له الدين، وهذه هي الأركان الخمسة.

وما سوى ذلك، فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن تكون فرضًا على الكفاية كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة، وحكم، وفتيا، وتحديث، وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق الآدميين يختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه، وكذلك ما يجب من صلة الأرحام، وحقوق الزوجات، والأولاد، والجيران، والشركاء، والفقراء، وكذلك قضاء الديون، ورد الغصوب، والعواري، والودائع، والإنصاف من الظالم، ومن الدماء، والأموال، والأعراض.

فكل هذه، هي حقوق الآدميين، وإذا أُبرئوا منها سقطت، وتجب على شخص دون شخص، وفي حال دون حال، ولم تكن عبادة لله يختص بها كل أحد؛ ولهذا يشترك في أكثرها المسلمون واليهود والنصارى، بخلاف الأركان الخمسة، من الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج - مع استطاعته - فإن وجوبها خُص بكل أحد من المسلمين.

والزكاة، وإن كانت حقًّا ماليًّا فهي واجبة لله، و للأصناف الثمانية مصارفها، ولم تطلب من الكفار لكونها من شعائر الدين... انتهى.

فمن ادعى وجود مسلم بدون إيمان فقد غلط، إلا في حالة المنافقين، فقد عاملهم رسول الله ﷺ كمسلمين، بما ظهر له من أعمالهم، ووكل سرائرهم إلى الله.

فقولهم: إن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا؛ هو خطأ، فلا إسلام بدون إيمان، إلا على رأي المرجئة، والجهمية، القائلين: بأن الإيمان مجرد التصديق، فلا يُدخِلون الأعمال في مسمى الإيمان.

وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد.

[58] أخرجه البخاري في الصحيح. [59] أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة. [60] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة. [61] رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير. [62] رواه البخاري ومسلم .

الاستثناء في الإيمان دون الإسلام

جرى في العقائد السلفية القول بالاستثناء في الإيمان دون الإسلام، بحيث يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. قال السفاريني في عقيدته:
ونحن في إيماننا نستثني
من غير شك فاستمع واسْتَبْنِ
وهذا الاستثناء في الإيمان ليس له أصل، غير أن العلماء أدخلوه في العقيدة، فأخذوا يتناقلونه بينهم، فمتى علم الرجل من نفسه أنه يؤمن بالله، ويصدق بوجود الرب وملائكته، وكتبه، ورسله، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وبالجنة، والنار، فلا مانع من إخباره بإيمانه على سبيل الجزم، لقوله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ [البقرة: 136].

ولم يقل: قولوا: آمنا بالله إن شاء الله. وقد قال النبي ﷺ: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. فقال: «انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة». فقال: يا رسول الله، عَزَفتْ نفسي عن الشهوات، وأسهرت ليلي بالقيام، وأظمأت نهاري بالصيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عبد نوّر الله قلبه»[63]. قال ابن رجب: روي هذا الحديث متصلاً ومرسلاً، والمرسل أصح.

ولما قدم وفد الأزد على النبي ﷺ وقال لهم: «ما أنتم؟» قالوا: نحن مؤمنون. فقال: «إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانكم؟» قالوا: خمس عشرة خصلة يا رسول الله.... فذكروا له شرائع الإسلام الخمس، وأركان الإيمان، وما تخلقوا به من فعل الخير، ذكره العلامة ابن القيم، في كتاب الوفود من زاد المعاد.

والشاهد: أن النبي ﷺ لم ينكر عليهم جزمهم بالإيمان، ولأن الاستثناء في الشيء الموجود، أو الماضي لا محل له، فلا يسوغ أن يقول: صمت أمس الماضي إن شاء الله، ولا تصدقت بصدقة في الأمس الماضي إن شاء الله، إذ لا محل للاستثناء هنا، وإنما يستثنى في الأمر المستقبل الذي قد يفعله، ويعان عليه، أو لا يفعله، ولا يعان عليه، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٢٣ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ [الكهف: 23-24]. وقال: ﴿لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح: 27]. والنبيﷺ قال: «والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا» وفي الثالثة قال: «إن شاء الله»[64].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: للعلماء في الاستثناء في الإيمان ثلاثة أقوال: منهم من قال بوجوبه، ومنهم من قال بمنعه، ومنهم من قال بجواز الأمرين، إن شاء استثنى في الإيمان متى علم من نفسه صحة إيمانه، وإن شاء ترك. وهذا هو أعدل الأقوال.

[63] أخرجه البيهقي في الزهد. [64] أخرجه أبو داود من حديث عكرمة.

توسط (واو العطف) بين الإسلام والإيمان

قد أشكل على بعض العلماء، توسط واو العطف بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل عليه السلام، وكما في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ [الأحزاب: 35]. فظنوا أن واو العطف في الحديث، وفي الآية، تقتضي المغايرة، وبنوا على ذلك أن المسلمين غير المؤمنين، وهذا غير صحيح، فإن هذه عطف صفات، يجوز أن تتفق وتجتمع في موصوف واحد لا يتجزأ.

أما رأيته كيف عطف الصائمين على المسلمين، ولا إسلام بدون صيام، ومن استباح ترك الصيام كفر؟

وقال البغوي في شرح السنة: قد جعل النبي ﷺ الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل للجملة، وأنهما كالشيء الواحد، وجماعهما الدين. فعطف المؤمنين على المسلمين في الآية، وكذا عطْف الإيمان على الإسلام في حديث جبريل، هو نظير عطف الأعمال الصالحات على الإيمان بالله في كثير من الآيات. كقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٞ ٩ [المائدة: 9]. وقوله: ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ [البقرة: 25]. وقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧ [البينة: 7]. وقوله: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣ [سورة العصر]. لكون الإيمان: اعتقاد القلب. والأعمال الصالحة عمل الجوارح، ولا بد من اتفاقهما في صحة الإسلام والإيمان.

وقد قلت: إن الإسلام بمثابة رأس الإنسان؛ لأن رأس الأمر الإسلام، والإيمان بمثابة القلب، فهما في جسم لا يتجزأ، يمد أحدهما الآخر بالصحة، أو السقم، أشبه الروح مع الجسد. وإذا بطل عمل أحدهما بطل الآخر، فكما أنه لا يوجد جسد إنسان بلا روح، فكذلك لا يوجد إيمان بدون إسلام، فهما متلازمان، لا يفترقان. وأجمع كلمة تقال في التعريف بالإسلام وبالإيمان: أنهما قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، أخذها الناظم، فقال:
إيماننا قول وقصد وعمل
يزيد بالتقوى وينقص بالزلل
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان: إن اسم الإيمان المطلق، هو بمثابة اسم الدين، فهو يشمل فعل الأوامر وترك النواهي... انتهى.

وقد أشكل على بعض العلماء قوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤ [الحجرات: 14]. فاستدل بهذه الآية من يرى أن الإسلام غير الإيمان، وأن المسلمين غير المؤمنين. وهذه الآية نزلت في أعراب الجزيرة، لما غشيهم جنود الصحابة، وخافوا أن يستأصلوهم بالقتل، أقبلوا وهم يقولون: آمنا آمنا. قبل أن يعرفوا الإيمان، وقبل أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وإنما قالوا: آمنا خوفًا من السيف؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤ - أي استسلمنا - ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤ -أي إلى حد الآن- وعسى أن يدخل بعد حين، لأن (لمّا) تستعمل لنفي الحال فيما عسى أن يقع.

وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه. بما يقتضي تفسيره وتوضيحه، فقال:

(باب)

إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام، أو الخوف من القتل؛ لقول الله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ [الحجرات: 14]. وإذا كان على الحقيقة فهو مثل قوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ [آل عمران: 19].

ثم ذكر حديث سعد، وهو أن النبي ﷺ أعطى رجالاً ولم يعطِ رجلاً، قال سعد، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؟ فوالله إني أراه مؤمنًا. فقال: «أوْ مسلمًا» قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت: يا رسول الله. مالك عن فلان. فوالله إني أراه مؤمنًا. فقال: «أوْ مسلمًا». ثم قال: «إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إليّ منه كراهية أن يكبه الله في النار على وجهه».

فالنبي ﷺ أحب من سعد أن يقول: إني أراه مسلمًا. فيصف هذا الرجل بأعماله الظاهرة المشاهدة، بخلاف وصفه بالإيمان الذي هو من أعماله الباطنة، والذي لا يطلع عليه إلا الله.

وهذا من حسن الأدب في التعبير، والنهي عن الغلو، والإفراط في المدح. وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال في صفة الأمانة: «يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، وما أعقله، وما في قلبه مثقال ذرة من الإيمان...» أو كما قال.

ونظير هؤلاء الأعراب قصة بني جذيمة، حين غشيهم خالد بن الوليد، بجنوده، فأقبلوا يقولون: صبأنا.. صبأنا. ولم يحسنوا قول: أسلمنا. فقتلهم خالد، فبلغ النبي ﷺ مقالتهم وقتلهم، فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد».

إن الأعراب الذين مردوا على الشرك، وعبادة الأوثان، وإنكار وجود الرب، والتكذيب بالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، فهم كما أخبر الله، بقوله سبحانه: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٩٧ [التوبة: 97]. فهم يحتاجون في دخول الإيمان في قلوبهم إلى وقت يعرفون فيه حقيقة الإيمان، والعمل به، حتى تدخل محبته في قلوبهم، غير وقت الإكراه بالسيف.

ولهذا سرعان ما ارتدوا عن دين الإسلام بعد موت النبي ﷺ لعدم دخول الإيمان في قلوبهم، الذي ينجم عنه الثبات على الإسلام، والاستقامة على صالح الأعمال.

وكل من تأمل القرآن، فإنه يجده مملوءًا بقرن الإيمان بصالح الأعمال، لكونه لا ينفع إيمان بدون عمل، كما أنه لا ينفع عمل بدون إيمان. يقول الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنۡهَا مِن ثَمَرَةٖ رِّزۡقٗا قَالُواْ هَٰذَا ٱلَّذِي رُزِقۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهٗاۖ [البقرة: 25].

وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٨٢ [البقرة: 82]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧ [البينة: 7]. وقال: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ ٣ [سورة العصر]. وقال: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦ [التين: 6].

وهكذا في كثير من الآيات يشق إحصاؤها قُرن الإيمان بالعمل، فعطف الأعمال الصالحات على الإيمان، هو نظير عطف المؤمنين على المسلمين في قوله: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [الأحزاب: 35].

ومثله حديث جبريل في صفة الإسلام، ثم صفة الإيمان، أشبه عطف الأعمال الصالحات على الإيمان في كثير من الآيات، لكون الإيمان هو اعتقاد وعمل، فلو أن رجلاً قال: أنا أؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وأن الجنة حق، وأن النار حق، ولكني لا أصلي، ولا أصوم، ولا أؤدي الزكاة... فإن هذا هو الكافر حقًّا، ولا ينفعه هذا التصديق بدون عمل بموجبه؛ لأنه يعتبر بأنه مكذب لإيمانه.

وبعكسه، لو رأينا إنسانًا يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان، ويفعل سائر شرائع الإسلام، ولكنه ينكر وجود الرب، وينكر وجود الملائكة، ويكذب بالبعث بعد الموت ويكذب بالجنة والنار، فإن هذا كافر قطعًا، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَرَمَادٍ ٱشۡتَدَّتۡ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوۡمٍ عَاصِفٖۖ لَّا يَقۡدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ ١٨ [إبراهيم: 18]. وقوله: ﴿وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا ٢٣ [الفرقان: 23].

لكون الشرك محبطًا لسائر الأعمال الخيرية، لكن الكافر متى عمل حسنة أطعم بها في الدنيا من صحة حال، وتكثير مال وعيال، وليس له في الآخرة من نصيب. وأما المؤمن فيطعم بحسنته في الدنيا، ويدخر ثوابها في الآخرة، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين. والمنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، كانوا يعملون أعمال الإسلام الظاهرة، ولكنهم يبطنون الكفر والنفاق، فعاملهم الرسول كمعاملة المسلمين المؤمنين في النكاح، والتوارث، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.

والمقصود أن الإسلام والإيمان أنهما في الشخص جزء لا يتجزأ، أشبه الروح والجسد، فلا إسلام لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا إسلام له. وقد قال أبو طالب المكي: مثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين، إحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم. فلو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أشهد أن محمدًا رسول الله؛ لم يصح إسلامه، ولو قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ولا أشهد أن لا إله إلا الله لم يصح إسلامه أيضًا. إذ إحداهما مرتبطة بالأخرى كشيء واحد.

وأما تفرقة النبي ﷺ في حديث جبريل بين الإسلام والإيمان، فإن ذلك تفصيل لوظائف أعمال الجوارح والقلوب، على ما توجبه هذه المعاني على كل شخص. فحرف الواو المتوسطة بين الإسلام والإيمان، هو حرف عطف صفات تتفق في موصوف واحد بدون اختلاف وتضاد، فليس فيها دليل على أن الإيمان والإسلام مختلفان في الحكم، إذ إن الإيمان بالقلب لا ينفع إلا بالإسلام بالجوارح، وإسلام الجوارح لا ينفع إلا بالإيمان بالقلب، أشبه الرأس والقلب، فلا يوجد شخص برأس دون قلب، ولا بقلب دون رأس. فهذه الواو المتوسطة بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [الأحزاب: 35]. هي نظير الواو في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ خَيۡرُ ٱلۡبَرِيَّةِ ٧ [البينة: 7].

أول اختلاف وقع زمن الصحابة في مرتكب الكبائر

إن مسائل الإيمان والإسلام، والكفر والنفاق، هي مسائل عظيمة جدًّا، لأن الله سبحانه علق بهذه الأسماء مسمياتها من الأحكام ومتعلقاتها من السعادة والشقاوة، واستحقاق الفوز بالجنة، والنجاة من النار.

والاختلاف في مسمياتها هو أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث كانوا يكفرون بالذنب، وأخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في حظيرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار؛ من استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وتأوّلوا قوله سبحانه: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٩٣ [النساء: 93].

وجماعة أهل السنة يقولون: هذا جزاؤه إن جازاه. ولكن قد يتخلف هذا الجزاء بمقتضى عفو الله عنه، أو بالتوبة المقبولة، أو الحسنات الماحية، أو المصائب المكفرة، ومن نوقش الحساب عذب.

ومثله حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن»[65].

فهذا الحديث مما استدل به الخوارج، وهو من أحاديث الوعيد تمر كما جاءت، وهو نفي لكمال الإيمان، وليس بنفي لأصل الإيمان، لكون نفي البعض لا يستلزم نفي الكل. ولأن الناس متفاوتون في الأعمال، فمنهم كامل الإيمان، ومنهم ناقص الإيمان، ونحن إذا تكلمنا في الإسلام والإيمان، أو في المسلمين والمؤمنين، فإنما نتكلم على حالة الناس الظاهرة حسب القاعدة.

فمن يتسمى بالإسلام أو الإيمان، وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدي الزكاة الواجبة، ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، ما هو إلا إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنّة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. يقول الله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ [المائدة: 41].

ومثله قول النبي ﷺ: «لا يؤمن من لا يَأْمن جارُه بوائقَه»[66]، وكذلك قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»[67]، فكله نفي لكمال الإيمان وليس نفيًا للإيمان بالكلية.

ومثله قول النبي ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» رواه أهل السنن، من حديث ابن عمر وفضالة بن عبيد، فإنه يعني بذلك: كمال الإسلام والإيمان، وإلا فمن المعلوم أن السلامة من اليد واللسان، والأمن على الدماء والأموال، هو أمر يتصف به المسلم والكافر على السواء.

نظيره حديث: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان»[68] فهذا نفي لكمال الصلاة أيضًا، وليس بنفي للصلاة من أصلها. فقد قال الفقهاء بجواز صلاته، وكونها تؤدي فريضته.

فتشبث الخوارج بمثل هذه الآية السابقة، وبمثل هذه الأحاديث. ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين؛ يعني أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مسلم.

ثم حدث خلاف المرجئة، وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.

﴿فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣ [البقرة: 213]. فقالوا: المسلم مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وربما قالوا: المسلم العاصي ناقص الإيمان.

[65] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [66] رواه البخاري عن أبي شريح الكعبي. [67] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [68] رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها.

حقيقة النفاق وتفاصيله

النفاق في اللغة العربية: هو من جنس الخداع، والمكر، وإظهار الخير، وإبطان خلافه. وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك أو بعضه. وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله ﷺ ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم. وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.

الثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل: وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك.

وأصول هذا النفاق يرجع إلى هذه الخصال المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو، عن النبيﷺ قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر» رواه البخاري ومسلم.

وكذا حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» رواه في الصحيحين.

فهذه هي من جملة كبائر الذنوب التي صاحبها تحت مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه.

وكما أن الكفر نوعان: كفر أصغر لا يخرج عن الملة، كقوله ﷺ: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»[69]، وقوله: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت»[70]. أما الكفر المخرج عن الملة، فهو كفر الجحود، وكفر العناد، وكفر الإباء والاستكبار مثل كفر أبي طالب ونحوه فقد اعترف بصدق نبوة محمد ﷺ وصدق القرآن النازل عليه، ولكنه آثر عليه ملة أبيه عبد المطلب، فقال عند موته: أنا أموت على ملة عبد المطلب. وأبـى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله ﷺ: «لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنك»[71]، فأنزل الله: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١١٣ [التوبة: 113]. وأنزل الله في أبي طالب: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦ [القصص: 56].

[69] رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود. [70] رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة الدوسي وغيره. [71] متفق عليه من حديث المسيب بن حزن.

هل المنافقون داخلون في مسمى المؤمنين كدخولهم في مسمى المسلمين؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتاب الإيمان، ص 125: إن الخطاب بـ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٠٤ يدخل فيه كل من أظهر الإيمان من مؤمن، ومنافق في الباطن. قال: وحقيقة الأمر؛ أن من لم يكن من المؤمنين حقًّا، يقال إنه مسلم، ومعه إيمان يمنعه من الخلود في النار، وهذا أمر متفق عليه بين أهل السنة.

لكن هل يطلق عليه اسم الإيمان؟. هذا هو الذي تنازعوا فيه، فقيل: يقال مسلم ولا يقال مؤمن، وقيل بل يقال مؤمن.

والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، فاسق بكبيرته، فلا يعطى اسم الإيمان المطلق كله، ولا يسلب عنه كله... انتهى. وقد قال السفاريني في عقيدته:
لا يخرج المرء من الإيمان
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جرّ عليه حوبا
ومن يمتْ ولم يتبْ من الخطا
فأمره مفوضٌ لذي العطا
فإن يشأْ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ - أي للإيمان، فيفرح به ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، وصلاته وزكاته وصيامه - ﴿لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ [الأنعام: 125]. أي ضيقًا بذكر الإسلام، حَرجًا من أمره ونهيه، وصلاته وزكاته، وصيامه ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ [الزمر: 22].
وإذا حلت الهداية قلبًا
نشطت في العبادة الأعضاءُ
وكان من دعاء النبي ﷺ على الجنازة أنه يقول: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة - أي على العمل بشرائع الإسلام والسنّة - ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»[72]. لكونه إذا مات انقطع عنه العمل، وبقي معه الإيمان.

يبقى معنا آية هي موضع إشكال عند بعض العلماء الذين يقولون بأن المسلمين غير المؤمنين، وهي قوله تعالى: ﴿فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٣٥ فَمَا وَجَدۡنَا فِيهَا غَيۡرَ بَيۡتٖ مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٦ [الذاريات: 35-36].

فظنوا أن المسلمين غير المؤمنين، وأن المؤمنين غير المسلمين، والقرآن ينوّع التعبير عن المسلمين والمؤمنين، فأحيانًا يسميهم بالمسلمين في كثير من آيات القرآن المبين، كقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ [آل عمران: 102].

وقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤ [آل عمران: 64].

وقوله: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢ [البقرة: 132]. وفي كثير من الآيات يشق إحصاؤها، وقالوا: الإسلام هو استسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، ومثله التعبير بالإسلام والإيمان، كقوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل عمران: 19]. - أي الإيمان - وقوله: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85].

فالمسلمون هم المؤمنون، والمؤمنون هم المسلمون، لأن الاسمين صفة لأمة محمدﷺ التابعين لدينه، كما في الحديث في قصة وقوع التزاحم على الماء بين المهاجرين والأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فغضب رسول الله ﷺ وقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ اتركوها ذميمة، وادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»[73].

فهذه الكلمات هي التي تجمع شمل المسلمين، ويكونون بها عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، فقوله تعالى: ﴿فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٣٥ فَمَا وَجَدۡنَا فِيهَا غَيۡرَ بَيۡتٖ مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٦ [الذاريات: 35-36]. فيحتمل أنه أراد بالمسلمين: المستسلمين بالخضوع، والطاعة للدعوة، وهو معنى ما فسره البخاري من قوله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ [الحجرات: 14]. -أي استسلمنا- وقد سمى الله الإسلام سلمًا. ويحتمل أنه من تنويع الاسم الذي كثر وروده في القرآن، كقوله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسۡلَٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٧ [الحجرات: 17]. فعبر عن الإسلام بالإيمان.

[72] أخرجه ابن ماجه وأبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة. [73] أخرجه الترمذي من حديث جابر.

زيادة الإيمان ونقصانه

وقد اتفق أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ أي يزيد بالطاعة، وبتدبر القرآن، وبالذكر، والموعظة، وينقص بالمعصية، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ [الأنفال: 2-4].

وقال: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰنٗاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ١٢٥ [التوبة: 124-125].

وقد وجد الصحابة هذا الأمر في أنفسهم حتى ظنوه نفاقًا، لكون النفاق مخالفة السر للعلانية، فروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهلنا، وشممنا أولادنا، أنكرنا أنفسنا؟! فقال رسول اللهﷺ: «لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم، لزارتكم الملائكة في مجالسكم وطرقكم، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم».

وجاء حنظلة إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، نافق حنظلة. قال: «وما ذاك»، فقال: نكون عندك، تذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، فآنسنا أهلنا، وشممنا أولادنا، نسينا كثيرًا مما تقول! فقال: «أما إنكم لو تكونون على الحال التي تقومون بها من عندي لزارتكم الملائكة في مجالسكم وطرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة» رواه مسلم في صحيحه.

ثم إن الناس يتفاوتون في الإيمان، وفي الثبات عليه، وحسن الاستقامة فيه، حتى يكون منهم من إيمانه كالجبل في الثبات والرسوخ، كما قيل:
تزول الجبال الراسيات وقلبه
على العهد لا يلوي ولا يتلعثم
﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧ [إبراهيم: 27].

والقول الثابت هو الإيمان الراسخ المستلزم للعمل الصالح.

ومن الناس من إيمانه مثقال ذرة، ينقدح الشك في دينه بأول عارض من شبهة، فهم الذين عناهـم القـرآن بقوله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١ [الحج: 11]. نزلت في الأعراب، كان أحدهم إذا دخل في الإسلام، فإن ولد له ولد ونتجت إبله وخيله، ونزل به الغيث، قال: هذا دين طيب، واطمأن به، وإن أصيب بمرض، أو مات أحد من أهله، أو من إبله، أو أصيب الناس بالجدب، قال: هذا دين سيِّئ، وتشاءم به وارتد عنه، لكونه لم تدخل بشاشة الإيمان في قلبه، ولم يذق حلاوته، فسرعان ما ارتد عنه سخطة له.

وفي الحديث: «إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيرجع إليه وما معه من دينه شيء»[74].

وأخبر النبي ﷺ بأنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[75]، ولن ننسى النص الثابت في كفر تارك الصلاة، فروى مسلم عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة».

وعن بريدة، أن النبي ﷺ قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه وقال: صحيح ولا نعلم له علة.

ويدل له ما رواه الترمذي عن معاذ أن النبي ﷺ قال: «رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة».

وعمود الشيء هو: قوامه الذي يستقيم به، ويسقط بتركه، ولا ينبغي أن ننخدع بمن قال: كفر دون كفر، فإن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، إذ هذا من الأمر الصريح الذي لا يقبل التأويل، ومتى أجمع العلماء على كفر من استباح ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام بلا خلاف، فإن العارف بوجوبها، ثم يصر مستمرًّا على تركها، أشد كفرًا وعنادًا، إذ كفره من جنس كفر إبليس، وكفر اليهود.

مع العلم أنه لا يصر مستكبرًا عن فعلها، مؤمن بوجوبها أبدًا، ولهذا كان السلف الصالح يسمونها: الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه ذو حظ من المحافظة على الصلاة في الجماعات، علموا بأنه ذو دين، وشهدوا له بموجبه، وإن حدثوا بأنه لا حظ له من الصلاة، علموا بأنه لا دين له ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11].
خسـر الذي ترك الصلاة وخابا
وأبى معادًا صالحًا ومثابا
إن كان يجحدها فحسبك أنه
أضحى بربك كافرًا مرتابا
أو كان يتركها لنوع تكاسل
غطى على وجه الصواب حجابا
فالشافعي ومالك رأيا له
إن لم يتب حد الحسام عقابا
قال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي ﷺ: «أن تارك الصلاة كافر».

وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ﷺ أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.

وقال الحافظ عبد العظيم المنذري: قد ذهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا تركها حتى يخرج جميع وقتها.

منهم -أي من الصحابة- عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء.

ومن غير الصحابة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عيينة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم. ذكره المنذري في الترهيب عن ترك الصلاة.

قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: لا يختلف المسلمون، أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس، وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأنه متعرّض لسخط الله وخزيه، وعقوبته في الدنيا والآخرة.

قال: وأفتى سفيان الثوري، وأبو عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وحماد بن زيد، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ابن راهويه، وأصحابهم: بأنه يقتل متى تركها عمدًا من غير عذر، ودُعي إليها وقال: لا أصلي.... انتهى من كتاب الصلاة.

وقد ترجم على معناه البخاري في صحيحه، وقال: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر. ثم ذكر النفاق، وكونه لا يخافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق.

[74] أخرجه النسائي والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [75] من حديث رواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا» . وكذا الإمام أحمد في مسنده.

انقلاب الإيمان نورًا لأهله يوم القيامة

ثم إن هذا الإيمان ينقلب نورًا على أهله بحسبه يوم القيامة، فيكون نورًا على الصراط المعروض على متن جهنم - كالخشبة المعروضة فوق القليب - وهو دحض مزلة تجري بالناس أعمالهم عليه، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل. ومع كونه دحض مزلة وبجانبه كلاليب مثل الشوك تـخطف الـناس، ومع هـذا: فإنه مـظلم ويُعطى الناس نورهم كلٌّ حسب إيـمانـه، فمنهم من نوره كالجبل، ومنهم من نوره كالنخلة، ومنهم من نوره كالسراج، ومنهم من نوره على طرف إبهام قدمه، يتّقد مرة وينطفئ أخرى. يقول الله تعالى: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢ [الحديد: 12].

﴿يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٨ [التحريم: 8].

ويُعطى المنافقـون نـورًا يدخلـون به طرف الصراط، ثم ينطفئ عنهم، فعنـد ذلك يقولون للمؤمنين: ﴿... ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ١٣ [الحديد: 13].

فهذه حالة المنافقين، لما كان إيمانهم خداعًا، فلا صحة ولا أصل لحقيقته، فعند ذلك خانهم أحوج ما كانوا إليه، لأنه ليس معهم إيمان حقيقي حتى يكون لهم نورًا.

ومثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [الأحزاب: 35].

وفي مثل حديث جبريل[76]، حين فسر رسول الله ﷺ فيه الإسلام، ثم فسر الإيمان، بتوسط واو العطف بينهما، هو نظير توسط واو العطف بين الإيمان وبين الأعمال الصالحات في كثير من الآيات، كقوله: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦ [التين: 6].

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هو من أطول الناس باعًا، وأوسعهم اطلاعًا في هذه المسألة، وفي غيرها من سائر العلوم والفنون، وما معرفتنا بالنسبة إلى سعة علمه، إلا بمثابة الطفل الصغير بين يدي العالم الكبير.

غير أن العلماء قد اتفقوا على أنه لا يرد الحق الواضح لانفراد قائله، كما لا يقبل الباطل لكثرة ناقله، إذ إن الحق فوق قول كل أحد.

لهذا رأينا شيخ الإسلام ابن تيمية قد اختلفت أقواله في تفسير الإيمان، والإسلام. فأحيانًا يقول بوجود مسلم ليس بمؤمن، ويقول بالاستثناء في الإيمان دون الإسلام، ويقول على حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»[77]، بأنه يخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام، ويستشهد لذلك بقوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ [الحجرات: 14]. وبحديث سعد، حين قال للنبي ﷺ: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أوْ مسلمًا»[78].

وبحديث جبريل، مما يدل بزعمه على انفراد الإسلام عن الإيمان، ويرجح هذا القول وهذا الاعتقاد، وينسبه إلى الإمام أحمد، وإلى كثير من العلماء، وهذا هو الذي اعتمد القول بصحته، واستقر عليه رأيه، وروايته.

وأحيانًا يرجح القول بأنه لا يوجد مسلم ولا إسلام إلا بإيمان، وأنه لا يوجد مسلم إلا ومعه شيء من الإيمان.

ويفسر حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» المار ذكره وسنده، أنه يعبر عنه بأنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. ويقول: إن الإيمان بمثابة اسم الدين، فيشمل جميع المأمورات، واجتناب المنهيات. ومرة قال: إن الإسلام والإيمان بمثابة الروح مع الجسد، ويستشهد لصحة ذلك بأقوال من يرى صحته، ووجوب اعتقاده من سائر العلماء القائلين به.

فمن ذلك ما نقله عن الإمام محمد بن نصر، في ص 187 من كتاب الإيمان حول الآية ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ [البقرة: 137].

فحكم سبحانه: بأن من أسلم، فقد آمن واهتدى، ومن آمن: فقد اهتدى فسوّى بينهما في الاهتداء. وأن التفرقة بين الإسلام والإيمان، لا دليل عليها، وقد بينّا خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار، في محاولتهم التفرقة بين الإسلام والإيمان. وكونه لا صحة للاستدلال بها على المعنى الذي أراده. والحق أن الإسلام والإيمان شيء واحد.

وقال البغوي في شرح السنة، على حديث جبريل، وفيه ذكر الإسلام والإيمان، فقال: إن النبي ﷺ جعل الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال. وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد. وليس ذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، وإنما ذلك تفصيل للجملة، وإلا فهي شيء واحد، وجماعها الدين. انتهى.

وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان عن محمد بن نصر المروزي أنه قال: إن الإسلام هو الإيمان وإن المؤمنين هم المسلمون. وهذا نصه: قال محمد بن نصر المروزي: قالت طائفة من العلماء -وهم الجمهور الأعظم من أهل السنّة والجماعة، وأصحاب الحديث-: إن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه، وافترضه عليهم، وارتضاه لهم دينًا، هو الإسلام الذي جعله الله دينًا، وارتضاه لعباده، قال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ [المائدة: 3]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ [آل عمران: 19]. وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل عمران: 85]. وهو ضد الكفر الذي سخطه، وجعله محبطًا لسائر الأعمال الصالحات، فقال: ﴿وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ [الزمر: 7]. وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ [الأنعام: 125]. وقال: ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ [الزمر: 22]. فمدح الله الإسلام، بمثل ما مدح به الإيمان... ثم قال: ألا ترى أن أنبياء الله ورسله ترغبوا إليه وسألوه إياه.

فقال إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٢٨ [البقرة: 128]. وقال يوسف: ﴿أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١ [يوسف: 101].

وقال: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢ [البقرة: 132].

وقال: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ [البقرة: 136].

وقال: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤ [آل عمران: 84].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعقيبه على هذا الكلام، قلت: مقصود محمد بن نصر -رحمه الله- أن المسلم الممدوح، هو المؤمن الممدوح، وأن كل مؤمن فهو مسلم، فلا بد أن يكون معه إيمان. وهذا صحيح. وهو متفق عليه. انتهـى ص 190 من كتاب الإيمان.

وقال أبو طالب المكي[79]: مباني الإسلام الخمسة، يعني: الشهادتين، والصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج. قال: وأركان الإيمان سبعة، يعني: الخمسة المذكورة في حديث جبريل، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار. وكلاهما قد رويت في حديث جبريل كما سنذكره إن شاء الله.

قال: وقد قال قائلون: إن الإيمان هو الإسلام. وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات.

وقال آخرون: إن الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين، إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول ﷺ غير شهادة الوحدانية. فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام، أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له. إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه. من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة: الإيمان، واشترط للإيمان: الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ ٩٤ [الأنبياء: 94].

وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: ﴿وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ ٧٥ [طه: 75].

فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقًا ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب، ولا يعمل بأحكام الإيمان، وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرًا لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمنًا بالغيب، مما أخبرت به الرسل عن الله تعالى، عاملاً بما أمر الله، فهو مؤمن مسلم.

وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، قال: ومثل الإيمان من الأعمال: كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى ينفصلان، ومثلهما أيضًا، مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهي واحدة لا يقال حبتان لتفاوت صفتهما.

قال ابن القيم في كتاب الفوائد - صفحة 84: الإيمان له ظاهر وباطن وظاهره: قول اللسان، وعمل الجوارح. وباطنه: تصديق القلب، وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء، وعصم به المال والذرية. ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز، أو إكراه وخوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان: قلب الإسلام ولبّه، واليقين: قلب الإيمان ولبّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة، فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.... انتهى.

فكذلك أعمال الإسلام، فالإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب.

وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب»[80]. وفي لفظ: «والإيمان سر»[81]. فالإسلام: أعمال الإيمان، والإيمان: عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقيدة. انتهى.

ثم نقول للذين يتعصبون بجواز وجود مسلم ليس بمؤمن: أليس المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فسيقولون: نعم، لأن الشهادتين من أعمال الإسلام الظاهرة، فمتى ثبت الأمر بذلك، فإنهم مؤمنون بشهادة رسول الله ﷺ لهم في قوله: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً»[82].

ثم يقال: هل هؤلاء المسلمون يصلون لله، أو للصنم؟ فإن قالوا: بل يصلون لله. فيقال: هل يتوضؤون لصلاتهم؟ فإن قالوا: نعم، فهم كحالة المسلمين في سائر أعمالهم الظاهرة. فيقال: إن معهم من الإيمان بحسبهم وبشهادة رسول الله ﷺ لهم في قوله: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»[83].

فمتى كان يفتتح صلاته بالتكبير، ويقول: الله أكبر، فهذا من الإيمان ثم يركع حانيًا ظهره لله رب العالمين، فهذا من الإيمان، ثم يسجد لله، ويضع وجهه الذي هو أعز شيء لديه في الأرض، فهذا من الإيمان بالله.

ثم إننا رأينا من يقول بوجود مسلم ليس بمؤمن، ويستدل بقوله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ ٣٣ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦ [فاطر: 32-36].

وهذا الاستدلال واقع في غير موقعه الصحيح، فإن هؤلاء الأقسام كلهم في الجنة بفحوى القرآن، والدلائل من السنة.

ومن قال من العلماء، إن هؤلاء الأقسام الثلاثة، هم بمثابة الأقسام الثلاثة المذكورين في سورة الواقعة وهم: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة والسابقون السابقون، فقوله خطأ، إذ الآيات في سورة الواقعة صريحة، لأن أصحاب المشأمة: هم أهل النار بالنص الثابت بقوله سبحانه في آخر سورة الواقعة:

﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡحٞ وَرَيۡحَانٞ وَجَنَّتُ نَعِيمٖ ٨٩ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩٠ فَسَلَٰمٞ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩١ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ ٩٢ فَنُزُلٞ مِّنۡ حَمِيمٖ ٩٣ وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ ٩٤ [الواقعة: 88-94].

فهذه الآية الصريحة في كون القسم الثالث، الذين هم أصحاب المشأمة، هم من الكافرين، المكذبين بالقرآن وبالرسول، بخلاف الآية التي نحن بصدد تفسيرها من سورة فاطر.

وأن الأقسام الثلاثة كلهم من أُمة محمد ﷺ ومن أهل الجنة، كما حقق ذلك ابن عباس في تفسيره، وعائشة أم المؤمنين، حين سئلت عن تفسير هذه الآية.

وقد حقق ذلك ابن كثير في تفسيره، حيث قال شارحًا هذه الآية: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب: الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمّة. ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع. فقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢: وهو المفرّط في فعل الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢: وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢: وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات.

قال ابن عباس: هم أمة محمد ﷺ أورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.

وروي عن ابن عباس أيضًا، قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب. والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله. والظالم لنفسه، هم وأصحاب الأعراف، يدخلون الجنة بشفاعة محمد ﷺ.

وكذا روي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمّة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. انتهى.

والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، كما جاءت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ من طريق يشد بعضها بعضًا. من ذلك ما رواه الإمام أحمد، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ [فاطر: 32]. فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥ [فاطر: 34-35].

وأيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار بن الأشعث، عن عقبة ابن صهبان الهنائي، قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ [فاطر: 32].. الآية. فقالت لي: يا بني، هؤلاء في الجنة. أما السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ وشهد له رسول الله بالجنة. وأما المقتصد، فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال: فجعلت نفسها -رضي الله عنها- معنا. وهذا منها -رضي الله عنها- من باب الهضم، والتواضع. وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات. لأن فضلها على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام.

هذا: وقد سيقت أحاديث أخرى، تدل على أن الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية كلهم في الجنة، كما رجح ذلك ابن جرير في التفسير.

وفحوى الآية، تدل على ذلك بالصراحة. وأنهم من هذه الأمّة، وكلهم في الجنة.

فذكر سبحانه وراثتهم للكتاب، وهو منزلة عالية، وصفة سامية. ثم ذكر أنه -جلَّ وعلا- اصطفاهم. والاصطفاء: هو الصفوة من الشيء. فهم من صفوة الناس. ثم قال: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمۡرَأَتَ نُوحٖ وَٱمۡرَأَتَ لُوطٖۖ كَانَتَا تَحۡتَ عَبۡدَيۡنِ مِنۡ عِبَادِنَا صَٰلِحَيۡنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمۡ يُغۡنِيَا عَنۡهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ٔٗا وَقِيلَ ٱدۡخُلَا ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّٰخِلِينَ ١٠ فأضافهم إضافة تشريف إلى نفسه الكريمة. ثم ختم الآية بقوله تعالى: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ ٢٣ ولم يستثن منهم الظالم لنفسه، لأن الناس كلهم ظالم لنفسه، وفي الدعاء المأثور، أن النبي ﷺ كان يقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»[84] وقد قال الصحابة للرسول ﷺ: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟!

ثم إن الله سبحانه أعقب هذه الآية بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦ [فاطر: 36]. مما يدل على أن الأقسام الثلاثة المذكورة قبلهم، أنهم كلهم من أهل الجنة؛ لكون القرآن الكريم مثاني، إذا ذكر أهل الجنة، ثنّى بذكر أهل النار، ليكون المؤمن راجيًا خائفًا.

* * *

[76] من حديث عمر: «بينما نحن جلوس عند رسول الله..» رواه مسلم [77] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [78] من حديث رواه مسلم . [79] حكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ص 172 من كتاب الإيمان. [80] أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس. [81] ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب . [82] رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم ، والترمذي ، عن العباس بن عبد المطلب. [83] رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن ثوبان مولى المصطفىﷺ والبيهقي في السنن، والطبراني ، عن ابن عمرو بن العاص. [84] رواه البخاري من حديث أبي بكر الصديق.

(4) البراهين والبينات في تحقيق البعث بعد الوفاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الكريم المنان، العزيز ذي السلطان، خلق الإنسان من عدم، ثم قال له: كن، فكان. كل يوم هو في شان. وكل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.

[توطئة]

أما بعد: فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، فأوجد لهم في الدنيا جميع ما يحتاجون إليه من المطاعم والمشارب، والفواكه والثمرات، وسائر أنواع الخيرات ومن كل ما يحتاجونه من الضروريات والكماليات، كلها كرامة من الله لعباده، يتنعمون بها في حياتهم، ويتمتعون بها إلى ما هو خير منها لآخرتهم، فقال سبحانه: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81].

فأمر الله عباده بأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، وحذرهم من الطغيان: وهو مجاوزة الحد في السرف والترف، والفسوق والعصيان بأن يستعينوا بنعم الله على معاصيه، أو يستعملوها في سبيل ما يسخطه ولا يرضيه، لكونهم محاسبين ومجزيين بما يفعلون، كما قال سبحانه: ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧ [العنكبوت: 17]. فذكرهم سبحانه رجوعهم إليه؛ للوقوف بين يديه، فيسألهم ماذا كنتم تعملون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وهو معنى ما يقول الصابرون: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦ [البقرة: 156].

فمن علم أنه مملوك لله، وأنه راجع إليه، فليعلم أنه موقوف بين يديه يقول تعالى: ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡ‍ُٔولُونَ ٢٤ مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ٢٦ [الصافات: 24-26].

ويقول: ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠ [المؤمن: 39-40].

فسمى الله الدنيا متاعًا، والمتاع: هو ما يتمتع به صاحبه برهة، ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر، قال تعالى: ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ [التوبة: 38].

وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ ١٨٥ [آل عمران: 185]. فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على زوالها، فتتبدل صحة الإنسان فيها بالسقم، ونعيمه بالبؤس، وحياته بالموت. ومآل عمارها بالخراب، واجتماع أهلها بفرقة الأحباب. وكل ما فوق التراب تراب. والله سبحانه كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، وهذا الموت الذي يفزع الناس منه، ليس هو فناء أبدي، لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١ [النجم: 31]. فلا يجزع من الموت، ويهوله الفزع منه؛ إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، فهذا الذي يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت، وحسرة الفوت، وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم. يقول: ﴿يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24]. وخير الناس من طال عمره وحسن عمله. وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
دع الذم للدنيا فكم من موفق
يقول وقد لاقى النعيم بجنة
حياتي لو امتدت لزادت سعادتي
فيا ليت أيامي أطيلت ومدتي
إن الناس في الدنيا بمثابة الغرباء، الذين يعلمون ويوقنون بأن لهم دارًا هي أبقى، وأرقى من حياتهم في دار الدنيا، فهم يجمعون لها، ويسعون سعيهم في تمهيد النقلة إليها، لأن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه، ولأن صنائع الإحسان تقي مصارع السوء، يقول الله في آخر آية نزلت من القرآن: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ [البقرة: 281].

فالمؤمن الذي له حظ ونصيب من العمل الصالح، والتزوّد من الدنيا لآخرته، فإنه لن يكره الموت إذا نزل به، لفرحه بلقاء ربه وثواب عمله، فنفسه مطمئنة بلقاء ربه، فيقال له عند الاحتضار: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠ [الفجر: 27-30]. وفي الدعاء المأثور: اللهم إني أسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك، وتقنع بعطائك، وترضى بقضائك. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه»، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله، كلنا نكره الموت. قال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير، بشر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر، بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» رواه أحمد والنسائي من حديث أنس. بل ورواه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت.

وقد جعل الله الدنيا مزرعة للآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة، والأعمال السيئة، فمن خرج من الدنيا فقيرًا من الحسنات، والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا، وساءت له مصيرًا.
تزوّد من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام وهن قلائل
فما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف به والشيب للرأس شاعل

[الإيمان بالبعث بعد الوفاة]

إن الله سبحانه جعل الإيمان بالبعث بعد الموت للجزاء على الأعمال، بحيث يثاب المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على عصيانه، وهو من أقوى أركان الإيمان، وقد أكثر سبحانه من ذكره في القرآن الكريم. يقول سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۢ بِمَا تَسۡعَىٰ ١٥ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ ١٦ [طه: 15-16]. لأن هذا الاعتقاد: هو أقوى وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
وكان السلف الصالح يكتبون في صدور وصاياهم التصريح بعقائدهم، فيقولون: هذا ما أوصى به فلان بن فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. شهادة عليها أحيا، وعليها أموت وعليها أبعث إن شاء الله.

وفي الصحيحين: عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي، فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الواحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد، وأما تكذيبه إياي، قوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».

وقد أكد سبحانه الإيمان بالبعث في كثير من الآيات، كقوله سبحانه: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177]. فسمى الله يوم القيامة باليوم الآخر، لكونه متأخرًا عن الدنيا، وفي حديث جبريل الذي رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب، ورواه البخاري عن أبي هريرة، أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن الإيمان؟ فقال: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت. فجعل التصديق الجازم باليوم الآخر، الذي هو البعث بعد الموت، من أركان الإيمان. ومن كذب به فهو كافر بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، يقول الله تعالى: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧ [التغابن: 7].

أصناف الناس تجاه الإيمان بالبعث]

إن الناس في الإيمان بالبعث على صنفين، أحدهما:

الماديون الملحدون: الذين يكذبون بكل ما غاب عن مشاهدهم، فيكذبون بوجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار، ولا يؤمنون إلا بما يحسون ويلمسون ويشاهدون. ويقولون: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَظُنُّونَ ٢٤ [الجاثية: 24]. وقد أكثر القرآن من إقامة الحجج والبراهين على هؤلاء، وأن أمثال هؤلاء لا يؤمنون، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 97].

يقول الله سبحانه: ﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأۡوِيلَهُۥۚ [الأعراف: 53]. أي حين تحق الحقائق ويتجلى الرب للخلائق يوم القيامة، وتبدو الجنة عيانًا، والنار عيانًا، وتظهر الملائكة

قال تعالى: ﴿يَوۡمَ يَأۡتِي تَأۡوِيلُهُۥ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ ٥٣ [الأعراف: 53].

ففي ذلك الوقت وفي تلك الحالة ﴿لَا يَنفَعُ نَفۡسًا إِيمَٰنُهَا لَمۡ تَكُنۡ ءَامَنَتۡ مِن قَبۡلُ أَوۡ كَسَبَتۡ فِيٓ إِيمَٰنِهَا خَيۡرٗاۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ ١٥٨ [الأنعام: 158].

فهؤلاء الذين يكذبون بالبعث، هم الذين يعيشون في الدنيا عيشة البهائم، ويعتقدون بأنهم كالبهائم على حد سواء، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام. وقد قال الله فيهم: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44]. فجعلهم أضل سبيلاً من الأنعام، لكونهم لم يستعملوا مواهب عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، فيما خلقت له من عبادة ربهم.
عمي العيون عموا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
أما المؤمنون: فإنهم يعتقدون ويصدقون بكل ما أخبر الله به في كتابه، وعلى لسان نبيّه، سواء أدركوا ذلك بحواسهم ومشاهدهم أو لم يدركوا، ذلك لأنهم يؤمنون بالله، وما جاء عن الله، على مراد الله، إيمانًا جازمًا لا يخالطه شك، فهؤلاء هم المؤمنون بالغيب، الذين مدحهم الله تعالى بقوله: ﴿ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥ [البقرة: 3-5].

فالإيمان بالله ربًّا، وأنه يحيي الموتى هو إيمان بالغيب.

والإيمان بالملائكة، وأنهم خلق من خلق الله، خلقهم لعبادته وخدمته، وهم عقول بلا شهوات، إيمان بالغيب.

والإيمان بالبعث بعد الموت للجزاء على الأعمال هو إيمان بالغيب.

والإيمان بالجنة والنار هو إيمان بالغيب. وقد مدح الله المؤمنين الذين هم بالآخرة يوقنون، أي يصدقون بطريق اليقين الذي لا يخالطه الشك فقال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥ [البقرة: 5]. والفلاح: هو الفوز والنجاح بنعيم الدنيا والآخرة.

إن أكبر ما يحفز النفوس، وينشطها للعمل لآخرتها، هو إيمانها بالثواب على حسناتها، والعقاب على سيئاتها، فتنشط إلى فعل الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، وصلة الأرحام، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وتنشط إلى التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الله، وكونه لا يزكي النفس عند الله سوى عملها الصالح. ويقال للناس: ﴿ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٣٢ [النحل: 32]. لكون الموت ليس هو فناءً أبديًّا، لكنه خاتمة الحياة الدنيا، وبدء حياة الآخرة.

عقيدة أهل السنَّة والجماعة

إن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الله يبعث من في القبور. يقول الله سبحانه: ﴿ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِي غَفۡلَةٖ مُّعۡرِضُونَ ١ مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ ٢ لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ [الأنبياء: 1-3]. فأخبر سبحانه باقتراب حساب الناس يوم القيامة، لأن كل ما هو آت قريب. والبعيد ما ليس آتيًا، وقد خطب النبي ﷺ بعد العصر، حتى إذا أتت الشمس علي أطراف الجريد، وأطراف الحيطان قال: «إنه لم يبق من الدنيا إلا كما بقي من يومكم هذا» [85]، وذلك بالنسبة إلى طول مدة ما مضى من الدنيا.

[85] أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري.

النوم أخو الموت، واليقظة منه بمثابة البعث بعد الوفاة

خلق الله النوم في الحياة، وجعله بمثابة النوم للوفاة، وهو آية من آيات الله تعالى. قال سبحانه: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ [الروم: 23]. وهو نعمة من الله، يعود على البدن بالراحة والصحة، ويستعيد البدن نشاطه وقوته.

وإن البعث بعد الموت: هو بمثابة اليقظة بعد النوم على حد سواء، فلو بقي الإنسان في قبره ألف سنة، أو ألفي سنة، ثم استيقظ للبعث يوم القيامة، فكأنه لم يلبث إلا عشية أو ضحاها، يقول الله سبحانه: ﴿وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۢۚ [الأحقاف: 35]. وقد أخبر سبحانه عن كرامة أهل الكهف، وأنهم لبثوا في نومهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا ﴿وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ [الكهف: 19]. فشبّه سبحانه نومة أهل الكهف الطويلة، بنومة الموت مهما طالت، وشبه بعثهم -أي استيقاظهم من نومهم- ببعثة الموت عند قيام الساعة وقولهم: ﴿قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖ فَسۡ‍َٔلِ ٱلۡعَآدِّينَ ١١٣ [المؤمنون: 113]. وكذلك الموتى متى بعثوا، كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ [الكهف: 21]. وقد جعل الله النوم في الدنيا، بمثابة النموذج لموت الآخرة، فهو يحقق بصدق، قيام الساعة، وأحوال القيامة، وأهوالها.

[تسمية الله تعالى للنوم موتا]

وقد سمى الله النوم موتًا، في قوله سبحانه: ﴿ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ [الزمر: 42]. فسمى الله النوم وفاة، لأنه شقيق وفاة الآخرة، ويسمى الوفاة الصغرى. نظيره قوله: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٦٠ [الأنعام: 60]. فسمى الله النوم وفاة، لكونه يهجم على الحي في حال غفلته، بحيث لا يحس بهجومه إلا وهو في عالم الأموات، ثم يشاهد في منامه من الأحوال، والأهوال، ومخاطبة الموتى، وغير ذلك، مما لا يدركه في يقظته، ومتى رأى في منامه ما يسره فرح واستبشر، واستيقظ مسرورًا بما رأى.

والرؤيا الصالحة من المبشرات، وهي ما يراها المؤمن، أو تُرى له، كما أنه إذا رأى ما يسوءه، أصبح حزينًا كئيبًا من خوف وقوع ما رأى، وهكذا أحوال الآخرة، فإن الله خلق النوم، وسماه وفاة، وجعله بمثابة الشاهد الصادق لأحوال القيامة وأهوالها، وأن قيام الناس من قبورهم، هو بمثابة قيامهم من نومهم، قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ - أي القبور- ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ ٥١ قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرۡقَدِنَاۜۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٢ إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ جَمِيعٞ لَّدَيۡنَا مُحۡضَرُونَ ٥٣ فَٱلۡيَوۡمَ لَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٥٤ [يس: 51-54].

فلا ينبغي للعاقل أن يستبطئ قيام الساعة، وقد جاءت أماراتها، وهي لا تأتي إلا بغتة، فبعض الناس يراها بعيدة وهي قريبة، فلأجل طول أمله، تراه يندفع إلى المخالفات؛ من ترك الطاعات والصلوات، وارتكاب المنكرات لظنه أن الآخرة متأخرة، يقول الله تعالى: ﴿بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥ يَسۡ‍َٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦ [القيامة: 5-6]. يقول: سأعمل ثم أتوب، وسأعمل ثم أتوب، وربما تعاجله المنية قبل تحقيق هذه الأمنية، أي قبل التوبة فيندم، حيث لا ينفعه الندم ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ [الفجر: 24].

إن الأرواح بعد مفارقتها للأجسام لا يشملها الفناء، بل تبقى منعمة أو معذبة، فقد ثبت ذلك في القرآن الحكيم، حاكيًا عن آل فرعون، وأنهم يعرضون على النار غدوًّا وعشيًّا ﴿وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوٓاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ ٤٦ [المؤمن: 46].

وقال سبحانه في حق الشهداء: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١٧٠ [آل عمران: 196-197]. وهذه حياة أرواح برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى. وأخبر النبي ﷺ: أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها. وثبت لأرواح المؤمنين الصالحين مثل ذلك، فالأرواح بعد موتها باقية: إما أن تنعم، أو تعذب.

ومثله اجتماع النبي ﷺ ليلة الإسراء بالأنبياء في منازلهم من السماء، وصلاته بهم، وما ذاك إلا بأرواحهم. ولعلهم تشكلوا له بصورهم في الدنيا، حيث رأى نبي اللهِ يوسفَ، وقد أُعطي شطر الحسن، ومثله المراجعة الواقعة بينه وبين موسى عليه السلام، وما ذاك التخاطب إلا بالأرواح، وإلا فمن المعلوم أن الأنبياء كلهم قد ماتوا، ودفنوا بالأرض، ما عدا عيسى عليه الصلاة والسلام.

أما الإسراء بالنبي ﷺ، وكذا المعراج، فإنه بروحه وجسده على القول الصحيح، وحمل اللفظ على حقيقته، إذ المقام مقام معجزة، لأن الله تعالى افتتحها بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ [الإسراء: 1]. وكان من هدي النبي ﷺ أنه إذا استعظم شيئًا، إما سبح، أو كبر تأسيًا بالقرآن.

إنه ما بين أن يرى مقدمات الآخرة، والمجازاة على عمله، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

وثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «يؤتى بأنعم الناس في الدنيا -أي المنعمين المترفين، التاركين للطاعات، والمستحلين لفعل المنكرات- فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب. فينسى نعيم الدنيا ولذاتها عند أدنى مس من العذاب، ثم يقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: بئس ما اتجرت في يوم أو بعض يوم. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا -من المؤمنين المعذبين، ومن الفقراء والمساكين- فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا بؤسًا قط؟ وهل مرّ بك بؤس قط؟ فيقول: لا يا رب. فينسى بؤس الدنيا وعذابها، ويقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: نعم ما اتجرت في يوم أو بعض يوم».

[أثر الإيمان بالبعث على الإنسان]

إن بعض الملحدين المكذبين بالبعث، يستبعدون وقوعه وإمكانيته، حيث رسخ في قلوبهم عقيدة الدهريين، ويسمون بالطبيعيين، أي ينسبون الحياة والموت للطبيعة، ويقولون: ما هو إلا رحم يدفع، وأرض تبلع، ولا حياة بعدها. فهم لا يرجون لقاء ربهم، ولا يخافون عذابه، وقد أكد الله ذلك، وقرر الإنكار عليهم في كثير من الآيات، قال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَٱطۡمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ ٧ أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ٨ [يونس: 7-8]. وقال: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ ١١٥ [المؤمنون: 115]. فبدأ الآية باستفهام الإنكار عليهم في فساد اعتقادهم، نظيره قوله سبحانه: ﴿أَوَ لَيۡسَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّٰقُ ٱلۡعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي بِيَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيۡءٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٨٣ [يس: 81-83]. وقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلٗا وَنَسِيَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن يُحۡيِ ٱلۡعِظَٰمَ وَهِيَ رَمِيمٞ ٧٨ قُلۡ يُحۡيِيهَا ٱلَّذِيٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِيمٌ ٧٩ [يس: 78-79]. وإن الله سبحانه قد أكثر في كتابه من الإنكار على المكذبين بالبعث بفنون من التعبير، فقال: ﴿أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلۡيَتِيمَ ٢ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ ٣ [الماعون: 1-3]. فدلت هذه الآية دلالة واضحة على أنه متى فسد الاعتقاد، فسد العمل وساءت النتيجة. فهذا الكافر المكذب بالبعث، الذي لا يرجو ثوابًا على حسناته، ولا عقابًا على عصيانه، فنتج عن سوء اعتقاده فساد أعماله، فتراه يدعّ اليتيم -أي يدفعه بعنف وشدة- ليس في قلبه إحسان ولا حنان ولا شفقة، لأنه لا يؤمن بالثواب على إحسانه، ولا يخاف العقاب على إساءته، فكان جديرًا بكل شر، بعيدًا عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.
وللخير أهل يُعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشـر أهل يُعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابع
يقول الله تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٧ ثُمَّ مَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلدِّينِ ١٨ يَوۡمَ لَا تَمۡلِكُ نَفۡسٞ لِّنَفۡسٖ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَٱلۡأَمۡرُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ ١٩ [الإنفطار: 17-19]. فسمى الله القيامة بيوم الدين لأن كل إنسان يدان -أي يجازى- بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

إن عقيدة الإيمان بالبعث، والجزاء على الأعمال، هي أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأكبر رادع عن مواقعة المنكرات. فالمؤمن الذي يعتقد الجزاء على حسناته، تراه يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويؤدي الزكاة الواجبة في ماله، ويعتقدها مغنمًا عند ربه، وبركة في ماله. ويصوم رمضان بنيّة خالصة لله تعالى، حتى لو ضرب ليفطر لما أفطر أبدًا، أو عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ليفطر لما اعتاض بها، لكون إيمانه يحجزه، ثم هو يكثر من أفعال الطاعات والحسنات، وبسط اليد بالصدقات وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات، والتزوّد بنوافل العبادات، والإكثار من الذكر والتسبيح والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن. ثم السخاء بتضحية النفس في سبيل الله، لاعتقاده أن له حياة هي أسعد من حياته في الدنيا، فهو يسعى سعيه، ويعمل عمله في النقلة إليها، رجاء الفوز بها. وإن الذين يعتقدون الثواب على حسناتهم، ينجم عن حسن اعتقادهم، حسن أعمالهم؛ من الصفات الحميدة والأقوال السديدة، ومن الجرأة والإقدام والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الحق.

إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم، وتحمل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، يعلم أن ما عند الله خير وأبقى من الدنيا وما فيها، وما أنفقه فإن الله سيخلفه، ويدخر ثوابه له في آخرته.

لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في القرن الأول والثاني والثالث بشجاعة باسلة، وقلوب ثابتة، وإيمان راسخ إلى تحقيق الجزاء على أعمالهم، فاندفعوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، يفتحونها. وإن هذا الاعتقاد؛ هو الذي ثبت أقدامهم مع قلتهم، وضعفهم أمام جيوش أعدائهم، التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فتلاشت أمام المؤمنين بالله ولقائه، حيث كشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا بينهم التوحيد في سائر البلدان.

وقد أمر الله نبيه بأن يؤكد للناس البعث يوم القيامة للجزاء على الأعمال باليمين البارة، قال سبحانه: ﴿زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧ [التغابن: 7]. وفي الآية الأخرى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ [سبأ: 3]. والآية الثالثة: ﴿۞وَيَسۡتَنۢبِ‍ُٔونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِي وَرَبِّيٓ إِنَّهُۥ لَحَقّٞۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ ٥٣ [يونس: 53]. فهذه الآيات يحقق الله فيها البعث بعد الوفاة، كما أمر نبيه بتأكيد ذلك بالقسم الصادق، وقد أقسم رسول الله ﷺ في تأكيد الحق كهذا في بضعة وثمانين موضعًا من السنّة، وفيه دليل على أن الإنسان لا يأثم متى حلف بيمين بارة؛ ليتحصل بها ماله الثابت باليقين عنده، ولينقذ خصمه من ظلمه بمحاولة إخراجه منه بيمينه.

كفر مشركي العرب بإنكار البعث بعد الموت

إن القرآن الكريم قد أكثر من ذكر البعث بعد الموت، للجزاء على الأعمال، لكون مشركي العرب على طريقة وعقيدة الدهريين، بحيث ينكرون البعث بعد الوفاة، ويكذبون بالجنة والنار، فهم أغلظ كفرًا من اليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى يصدقون بالبعث بعد الموت. ويصدقون بالجنة والنار، فقال سبحانه عن المشركين: ﴿بَلۡ عَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡ فَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا شَيۡءٌ عَجِيبٌ ٢ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗاۖ ذَٰلِكَ رَجۡعُۢ بَعِيدٞ ٣ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا تَنقُصُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۡهُمۡۖ وَعِندَنَا كِتَٰبٌ حَفِيظُۢ ٤ [ق: 2-4]. أي يحفظ أعمالهم، وقال: ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]. فيقال لكل إنسان: ﴿ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا ١٤ [الإسراء: 14]. فعقيدة أهل السنة كلهم أن الله سبحانه ينشئ الناس خلقًا جديدًا، حتى الذي أكلته السباع، أو أكلته الحيتان في البحر، أو احترق بالنار حتى كان هباءً ورمادًا، فإن الله سبحانه يبعثهم خلقًا جديدًا، فيحاسبهم على أعمالهم ﴿وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49]. وفي البخاري أن النبي ﷺ قال: «إن رجلاً ممن كان قبلكم قال لبنيه: إذا مت فأحرقوني بالنار، وذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذابًا شديدًا». قال: «ففعل به بنوه ما أوصاهم به، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، فتمثل قائمًا بين يدي الله، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب». وقد أخبر سبحانه عن الملحدين المكذبين بالبعث، بأنهم يؤكدون للناس إنكارهم للبعث بعد الموت بأيمانهم الكاذبة، فقال سبحانه: ﴿وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٨ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰذِبِينَ ٣٩ إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٤٠ [النحل: 38-40]. وقال سبحانه: ﴿وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٠ ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ ١١ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ ١٢ [المطففين: 10-12]. فسمى الله يوم القيامة بيوم الدين، لأن كل إنسان يُدانُ -أي يجازى بعمله- إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

عقيدة أهل السنَّة في إنشاء الأجساد خلقًا جديدًا

إن الله سبحانه ينشئ أجسام الناس في الآخرة نشأةً مستأنفة، بحيث يدخل أهل الجنة الجنة في سن ثلاث وثلاثين سنة، حتى العجائز في الدنيا (الحمص والرمص)، وهن مسلمات، قانتات، فينشئهن الله نشأة مستأنفة، قال سبحانه: ﴿إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧ [الواقعة: 35-37]. فقوله: ﴿إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧، أي متحببات إلى أزواجهن، و ﴿إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ ٣٥ فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا ٣٦ عُرُبًا أَتۡرَابٗا ٣٧، أي في سن ثلاث وثلاثين سنة، وهن أفضل وأجمل من الحور العين، بفضل صلاتهن، وصيامهن، وقد قالت أم سلمة: يا رسول الله، المرأة منّا تتزوج بعدد أزواج، وتدخل هي وأزواجها الجنة، فمع من تكون؟ فقال: «يا أم سلمة إنها تخيّر، فتختار أحسنهم خلقًا، يا أم سلمة، ذهب حُسْنُ الخلق بخيريْ الدنيا والآخرة»[86].

يقول الله: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٠ [العنكبوت: 20].

إن إعادة الأجسام أسهل من بدايتها، فالقادر على الشيء في بدايته من صنعة وغيرها، هو قادر على إعادتها من باب أولى، يقول الله تعالى: ﴿أَفَعَيِينَا بِٱلۡخَلۡقِ ٱلۡأَوَّلِۚ بَلۡ هُمۡ فِي لَبۡسٖ مِّنۡ خَلۡقٖ جَدِيدٖ ١٥ [ق: 15]. ويقول: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣ بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤ [القيامة: 3-4]. يعني أطراف أصابعه التي هي أدق شيء في جسمه.
قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما

[86] رواه الطبراني في الكبير والأوسط .

وقوع التنازع بين موحِّدٍ وملحد في حقيقة البعث بعد الموت

أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن رجلين قرينين اصطحبا في الدنيا أحدهما مؤمن بالله، يصدق بالبعث بعد الموت، للجزاء على الأعمال، ويصدق بالجنة، والنار، ويعمل عمله على حساب هذه العقيدة الحسنة، فيصلي ويصوم ويتصدق ويعمل سائر أعمال الخير، رجاء أن يثاب عليها في الآخرة.

والثاني: ملحد دهري، يكذب بالبعث بعد الموت، ويكذب بالجنة والنار، ويعمل عمله على حساب فساد عقيدته، فتراه لا يصلي ولا يصوم، ويرتكب كل ما يشتهي من المنكرات، وترك الطاعات، ولم تزل المناظرة الجدلية بينهما في الدنيا، بحيث إن كل واحد منهما يحاول إرجاع صاحبه إلى عقيدته، حتى سارت بهما ركاب منيتهما إلى الآخرة.

فجوزي المؤمن: بالفوز بالجنة، بفضل ربه ورحمته، جزاء وكرامة له على حسن عمله.

وأدخل المكذب بالبعث النار، جزاء على كفره، وتكذيبه بلقاء ربه، فبعد دخول المؤمـن الجنـة تـذكر صاحبه في الدنيا الذي لا زال يجادله في إنكار البعث بعد المـوت، وتمنى أن يعرف كيف كانت حـاله ومحله، وعاقبـة مصيـره. فقيل له: إن صاحبـك أدخل النار جزاء على كفره بلقاء ربه، فإن أحببت أن تراه وتخاطبه فإنه سهل ميُسّر، قال الله تعالى: ﴿فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٥٠ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٞ ٥١ -أي صديق في الدنيا- ﴿يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُصَدِّقِينَ ٥٢ أَءِذَا مِتۡنَا وَكُنَّا تُرَابٗا وَعِظَٰمًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣ -أي لمجزيون- إن هذا من الأمر المحال الذي لا صحة له، فيقـال للمؤمن: ﴿قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ٥٤ أي هل تحب أن تنظر إلى صاحبك وتراه كيف يعذب في النار. فيقول: نعم. قال: ﴿فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ ٱلۡجَحِيمِ ٥٥ أي في وسط الجحيم يعذب فيها، فعند ذلك خاطبه المؤمن وقال له: ﴿قَالَ تَٱللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرۡدِينِ ٥٦ معك في العذاب لو أطعتك ﴿وَلَوۡلَا نِعۡمَةُ رَبِّي ورحمته بي ﴿لَكُنتُ معك ﴿مِنَ ٱلۡمُحۡضَرِينَ ٥٧ في النار ﴿أَفَمَا نَحۡنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨ إِلَّا مَوۡتَتَنَا ٱلۡأُولَىٰ وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩ ثم قال سبحانه: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٦٠ لِمِثۡلِ هَٰذَا فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ ٦١ [الصافات: 50-61].

وهنا يقع السؤال: وهو أن الله سبحانه قال في هذه الآية: ﴿فَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ ٥٠ [الصافات: 50]. وفي موضع آخر قال: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ ١٠١ [المؤمنون: 101]. فنفى التساؤل في هذه الآية بين الناس في الآخرة، وأثبته في الآية قبلها.

والجواب عن هذا: أن يوم القيامة عرصات، ومقامات، وللناس فيه حالات، فحالة لا يسأل فيها أحد أحدًا، وذلك حين تقوم الساعة، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ ٣٣ يَوۡمَ يَفِرُّ ٱلۡمَرۡءُ مِنۡ أَخِيهِ ٣٤ وَأُمِّهِۦ وَأَبِيهِ ٣٥ وَصَٰحِبَتِهِۦ وَبَنِيهِ ٣٦ [عبس: 33-36]. وهذا أحد المواقف التي لا يسأل أحد فيها أحدًا.

والموقف الثاني: حين تتطاير الصحف، ولا يدري أيأخذ كتابه بيمينه، أو بشماله.

والثالث: عند الميزان، حينما توزن الأجسام بما اشتملت عليه من الأعمال ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٦ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ ٧ وَأَمَّا مَنۡ خَفَّتۡ مَوَٰزِينُهُۥ ٨ فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ ٩ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا هِيَهۡ ١٠ نَارٌ حَامِيَةُۢ ١١ [القارعة: 6-11].

والموقف الرابع: عند الصراط، حين يعرض على متن جهنم، ويكلف الناس بالمرور عليه، وهو معروض على متن جهنم، أشبه الخشبة فوق القليب[87]، وهو أدق من الشعرة، وأحدُّ من السيف، تجري الناس بأعمالهم عليه، وهو معنى الورود الذي قال الله فيه: ﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّٗا ٧٢ [مريم: 71-72].

فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، وعلى جوانبه كلاليب وحسك، تخدش الناس، وتخطف من أمرَت بخطفه، وتلقيه في جهنم، وهذه الكلاليب والحسك، هي المعاصي. والنبي ﷺ قائم على طرف الصراط يقول: «اللهم سلم سلم»[88]. ويعرف أمته من بين سائر الأمم بالغرّة والتحجيل من آثار الوضوء، فمتى خلصوا من الصراط، شربوا من الكوثر، فهذه المواطن لا يذكر فيها أحد أحدًا، ولا يسأل أحد عن أحد.

ومن بعد صدورهم عن الحوض يقفون للسؤال ﴿وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡ‍ُٔولُونَ ٢٤ مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ٢٦ [الصافات: 24-26]. وفي هذه المواقف يقتص بعضهم من بعض في الحقوق التي بينهم في الدنيا، ويتنازعون، ويقع بينهم الخصام فيها ﴿۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ١١١ [النحل: 111]. فمن بعد التمحيص، والقصاص من بعضهم البعض؛ وبعدها، يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقول الله: ﴿وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَتۡلُونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ رَبِّكُمۡ وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنۡ حَقَّتۡ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧١ قِيلَ ٱدۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِينَ ٧٢ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ ٧٣ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعۡدَهُۥ وَأَوۡرَثَنَا ٱلۡأَرۡضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلۡجَنَّةِ حَيۡثُ نَشَآءُۖ فَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ٧٤ [الزمر: 71-74].

ثم إنه بعد دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجري بينهما التخاطب، فيسأل أحدهما الآخر عن حاله، ومحله، وعاقبة مصيره، وقد قيل: إن بين الجنة والنار سورًا، فيه كُوًى ينظر بعضهم بعضًا، ويخاطب بعضهم بعضًا، وهذا معنى قوله: ﴿... فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ١٣ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ -أي في الدنيا- ﴿يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ١٥ [الحديد: 13-15]. فأهل الجنة يدخلون الجنة بفضل الله ورحمته، لكنهم يتقاسمون المنازل بالأعمال، حيث إن بعضهم أفضل من بعض بالأعمال الصالحة، يقول الله تعالى: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا ٢١ [الإسراء: 21]. فيكون منزلة الفاضل كالكوكب في السماء، بحيث يتراءونه ويقولون: هذه منزلة فلان بن فلان، حتى إن الرجل الصالح ينزل في المنزلة العالية، وينزل ابنه في منزلة دونه، فيقول: أين ابني؟ فيقال: إن منزلته دونك، قد قصرت به أعماله، فيقول: إني عملت لنفسي ولابني. فيأمر الله برفع ابنه إليه في منزلته لتقرّ عينه به، يقول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]. فصاحب المنزلة العالية يستطيع أن يزور كل من تحته، أما صاحب المنزلة النازلة، فلا يستطيع أن يصعد إلى من فوقه، لأن أعماله قد قصرت به.

[87] أي فوق بئر أو حفرة. [88] أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري.

بيان سوق الجنة وتلاقي الناس فيه

إن هناك سوقًا في الجنة يجتمع فيه أهل المنزلة العالية، والمنزلة الدانية، فيسأل بعضهم بعضًا، كما ثبت في صحيح الترمذي أن سعيد بن المسيب لقي أبا هريرة في السوق فقال: يا سعيد أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال: أوفي الجنة سوق؟ قال: نعم إنه إذا كان يوم المزيد في الآخرة وهو يوم الجمعة في الدنيا؛ فيأذن الرب لأهل الجنة في زيارته، ويجلسون إليه، ويتجلى لهم، فما أعطوا نعيمًا أفضل من النظر إلى وجه الله الكريم، فما يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاوره الله، فيذكره ببعض أفعاله في الدنيا. فيقول: يا رب ألم تغفر لي، فيقول الله: بلى، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. ثم يقول الله: قوموا إلى ما أعددت لكم. ثم يقومون إلى سوق قد حفته الملائكة، فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيأخذون منه بلا عقد، ولا نقد ثمن، فهذا يوم المزيد.

وثبت في القرآن الكريم وقوع التخاطب بين أهل الجنة وأهل النار، وأن كل فريق منهما ينادي الفريق الثاني ويسأله عن حاله ومحله، وكيف مصيره، قال الله سبحانه: ﴿وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ أَصۡحَٰبَ ٱلنَّارِ أَن قَدۡ وَجَدۡنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّٗا فَهَلۡ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمۡ حَقّٗاۖ قَالُواْ نَعَمۡۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُۢ بَيۡنَهُمۡ أَن لَّعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ٤٤ [الأعراف: 44]. وقال: ﴿وَنَادَىٰٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَنۡ أَفِيضُواْ عَلَيۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ أَوۡ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُۚ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٥٠ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَهۡوٗا وَلَعِبٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ فَٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوۡمِهِمۡ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ ٥١ [الأعراف: 50-51].

حكم منكر البعث في الشرع الإسلامي

إن الحكم الشرعي في منكر البعث، وقيام الساعة، متى كان يجهر بإنكاره، فإنه كافر بإجماع علماء المسلمين، لأنه مكذب بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، فيترتب عليه حكم المرتد على السواء، يقول الله سبحانه: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا ١١ [الفرقان: 11]. وإن كان ممن يخفي ذلك ولا يجهر باعتقاده، فإنه المنافق، يعامل معاملة المسلمين.

إن الساعة آتية لا ريب فيها، فتأتي إلى الناس بغتة وهم غافلون، يقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13]. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر» قالوا: ما نقول؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل»[89].

وقال: «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه»[90] فالراجفة هي نفخة الصعق، أي الموت، فينفخ إسرافيل في الصور والرجلان بينهما الرداء، فلا هذا يقبضه، ولا هذا يقبضه، ويرفع الرجل اللقمة فلا يوصلها إلى فمه، ولا يردها في القصعة ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ ٦٨ وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٦٩ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 68-70].

وقد قيل للنبي ﷺ: كم بين النفختين؟ قال: «ما بين النفختين أربعون» قيل: أربعون يومًا؟ قال: «أبيت». قيل: أربعون شهرًا؟ قال: «أبيت». قيل: أربعون سنة. فسكت[91] -أي نعم- ثم إن الله سبحانه يأمر السماء أن تدر عليهم بالمطر، فيمطرون ليلاً ونهارًا، فينبت الناس كنبات الطراثيث، فإذا أكمل نباتهم، أمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ﴿كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ ١٠٤ [الأنبياء: 104]. فتخرج الأرواح تتوهج، ويقول الله تعالى: فوعزتي لترجعن كل روح إلى الجسد التي كانت تعمره في الدنيا، فيقومون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، وقد قالت عائشة: واسوأتاه، ينظر بعضنا إلى سوأة بعض. فقال: «الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك»[92] يقول الله سبحانه: ﴿يَوۡمَ يَسۡمَعُونَ ٱلصَّيۡحَةَ بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡخُرُوجِ ٤٢إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِۦ وَنُمِيتُ وَإِلَيۡنَا ٱلۡمَصِيرُ ٤٣ يَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلۡأَرۡضُ عَنۡهُمۡ سِرَاعٗاۚ ذَٰلِكَ حَشۡرٌ عَلَيۡنَا يَسِيرٞ ٤٤ [ق: 42-44].

فمتى انقضى عمار الدنيا، وأراد الله أن يجلي أهلها عنها، وأن ينقلهم منها إلى دار أخرى، ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فعند ذلك يأمر الله بقيام الساعة. وقد وصف الله القيامة بأسماء وأوصاف متعددة متنوعة، تدل بمعانيها على أنها شيء عظيم، فوصفها بالطامة الكبرى، وبالصاخة، وبالزلزلة، والقارعة، والواقعة، وقال: ﴿إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٣ [الواقعة: 1-3]. وقال: ﴿...إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ ١ [الحج: 1].

وقال: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٣ [القارعة: 1-3]. تعظيم لشأنها وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض، فترجها رجًّا، وتبسها بسًّا، ويكون الناس هباءً منبثًّا، وكالفراش المبثوث، فيكوّر بالشمس، ويخسف بالقمر، وتتناثر النجوم من إمساكها المقتضي لإثباتها، وقد بطل ذلك عند القضاء بفناء الدنيا، وخراب العالم، وعدم الاحتياج إلى شيء من ذلك.

وقال سبحانه: ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ٣ وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ ٤ [الإنشقاق: 1-4]. -أي ألقت جميع ما على ظهرها من جبال، وأناس، وتخلت عنهم- لكون الناس يحشرون على أرض بيضاء لم يُعصَ الله عليها.

والحكمة في هدم الأبنية، وتسيير الجبال، ودك الأرض، وشق السماء، ونثر النجوم، وتكوير الشمس، وخسوف القمر، وتخريب هذا العالم بأجمعه أن الله سبحانه لما بنى للناس دار الدنيا للسكنى بها، والتمتع بخيراتها، وجعل ما فيها زينة للأبصار، وعظة للاعتبار، والاستدلال على وحدانيته، وجميل صنعه بما يقتضي الإيمان به، وإخلاص العبادة له، فلما انقضت مدة السكنى بها، وحقت كلمة ربك على فنائها، أجلاهم سبحانه منها، وخرّبها؛ لانتقالهم منها إلى غيرها ﴿يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ [إبراهيم: 48]، أراد أن يعلمهم بأن في إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وتعريض ذلك الصنع العجيب للزوال، كله بيان لكمال قدرته، ودوام بقائه، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وأن عنده سبحانه لعباده دارًا هي أبقى وأرقى، وأجل وأجمل من دار الدنيا، ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه، إلا الذي لم يقدم لآخرته عملاً صالحًا يرجو ثوابه، ويقول: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ [الجاثية: 24]. فهذا الذي ينتقل من دار الدنيا إلى عذاب الآخرة، يقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13].
أما والله لو علم الأنام
لِما خُلقوا لَما غفلوا وناموا
لقد خُلقوا لأمر لو رأته
عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشـر
وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشـر قد عملت رجال
فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أُمرنا أو نهينا
كأهل الكهف أيقاظ نيام
والله أعلم.

[89] أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وأحمد من حديث ابن عباس. [90] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي بن كعب. [91] متفق عليه من حديث أبي هريرة دون قوله: فسكت ودون توجيه سؤال: كم بين النفختين. [92] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال.

الإيمان بالإسراء بنبينا محمد ﷺ

قال الله سبحانه: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ ٣ [يوسف: 3].

إن هذا القرآن الكريم يقص علينا خبر من كان قبلنا، ونبأ ما سيكون بعدنا، وهو الحكم العدل فيما بيننا؛ يذكر سبحانه بأنه أرسل رسله بالبينات وبالبراهين والمعجزات يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وليحكموا بين الناس بالقسط.

فمن الناس من استجاب لدعوتهم، وانقاد لطاعتهم، وصدق نبوتهم ومعجزات آياتهم، ومن الناس من بغى وطغى، فلم يستجب لداعي الهدى، وأصرّ على معصيتهم، ولم يؤثر معه ما يراه من معجزات نبوتهم ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 96-97].

فهؤلاء قد عوقبوا بما تسمعون من قوله سبحانه: ﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٤٠ [العنكبوت: 40].

إن الناس في المعجزات والأمور المغيبات على قسمين:

أحدهما: المؤمنون الذين آمنوا بالله تعالى، وصدقوا المرسلين، فهم يؤمنون ويصدقون بكل ما أخبر الله به في كتابه، من معجزات أنبيائه تصديقًا جازمًا، سواء أدركوا معرفته بعقولهم، أو لم يدركوه، لأن عدم علمهم بالشيء، ليس دليلاً على عدمه، فقد أتت الرسل بمجاراة العقول، فهم الذين يؤمنون بالغيب، على صفة ما أثبته القرآن، ويقولون: آمنا بالله، وما جاء من الله، على مراد الله.

لأن المسلم الحق، متى آمن بالله القادر على كل شيء، والذي إذا أراد أمرًا قال له: كن. فيكون، فإنه لن يعسر عليه التسليم لكل ما أخبر الله به في كتابه، من معجزات أنبيائه، فقد أجرى الله سبحانه خوارق العادات في خلقه، من معجزات أنبيائه التي تجري على خلاف السنن المطردة والمعروفة والمألوفة عند الناس، مما يدل على قدرة الرب الذي أوجدها، وصدق النبي الذي جاء بها. وإنما سميت معجزة؛ لكون الناس يعجزون عن الإتيان بمثلها، لكونها من صنع الله، لا من صنع الرسول، ولا البشر. ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [الرعد: 38]. وتسمّى الآية، والبينة، والبرهان. ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه ومجتمعهم.

فمن المعجزات: خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن. فكان، فصار بشرًا سويًّا. وكخلق حواء من ضلع آدم. وخلق عيسى من أم بلا أب ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٥٩ [آل عمران: 59]. ومثله عصا موسى، وهي عود من الشجر، يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وإنما صارت آية ومعجزة، حين أمره ربه أن يلقيها، فقال سبحانه: ﴿قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ ١٩ فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١ [طه: 19-21].

إنه حين ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا بإذن الله، ولمّا أمره ربه أن يأخذها صارت عصًا كعصا أحدنا في يده، وكمعجزة الريح لنبي الله سليمان عليه السلام حين قال الله تعالى: ﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٣٧ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٣٨ [ص: 36-38].

فكان يبسط البُسط، ويجلس عليها هو وجميع جنوده على كثرتهم، فتنقلهم غدوها مسيرة شهر ورواحها مسيرة شهر. وكمعجزة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام حين أنطقه الله في المهد، فقال: ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ [مريم: 30-32]. فكان يبرئ الأكمة والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله تعالى.

وأنه لولا هذا القرآن النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام حين يقص علينا خبر معجزات الأنبياء، التي تعزز دينهم، وتستدعي قبول دعوتهم - لكذّب الناس بهم، وبالكتب النازلة عليهم.

﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].

فالتصديق بهذه المعجزات، هي عقيدة المؤمنين، ومن كذّب بها فقد كفر.

الصنف الثاني: الماديون الطبيعيون، الذين ينسبون كل شيء إلى الطبيعة، بمعنى أنها الموجدة لها دون الله، فهم ينكرون ويكذبون بكل ما لم يدركوه بحواسهم، فينكرون وجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار.

وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ [يونس: 39-40].

فهم يبادرون إلى إنكار كل ما سمعوه من الخوارق، والمعجزات، والأمور المغيبات، فهذا دأبهم في نظرياتهم العلمية، ومن لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه، فإنه يعتبر كافرًا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله.

[قبس من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم]

أما معجزات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فإنها كثيرة جدًّا، ولسنا بصدد إحصائها قي هذا المقام الضيق.

فمنها: نبع الماء من بين أصابعه، ومنها تكثير الطعام القليل حتى يشبع منه الخلق الكثير، ومنها قصة الأعرابية صاحبة السطيحتين، أي الراوِيَتَيْن، وحاصلها ما رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين، قال: كنا في سفر مع النبي ﷺ فاشتكى إليه الناس من العطش، فدعا عليًّا وفلانًا. فقال: «اذهبا فابتغيا الماء» فانطلقا، فلقيا امرأة بين سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة. فقالا لها: انطلقي. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله ﷺ. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فجاؤوا بها إلى رسول الله ﷺ، ودعا النبي ﷺ وأطلق العُزال[93]، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا. فملؤوا قربهم وقدورهم، وأوانيهم، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، فقال: «اذهب، فأفرغه عليك». وايم الله لقد أقلع عنها، وأنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأها. وقال لها رسول الله ﷺ: «تعلمين ما رزأنا من مائك شيئًا، ولكن الله هو الذي أسقانا». فأتت أهلها، وقالوا: ما حبسك عنا؟ قالت: العجب؛ لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا. فوالله إنه لأسحر ما بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض، أو إنه رسول الله حقًّا. وبسبب هذه المعجزة أسلم قومها.

وكان العرب يسمون الرسول ﷺ: الصابئ، من أجل أن الناس يصبون إليه -أي يميلون إليه- ويدخلون في دينه، ومثله ما جرى له مع شاة أم معبد وكانت عجفاء هزيلة لا تطيق المشي مع الصحاح، فمسح ضرعها، وسمّى الله عليها، فتشافت، واجترت، ودرت، ثم انفجرت باللبن.
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
لكن المعجزة الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة هي معجزة القرآن الحكيم، الذي تحدى الله به جميع الأولين والآخرين، على أن يأتوا بسورة من مثله؛ فعجزوا مع بلاغتهم وشدة فصاحتهم ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ [الإسراء: 88]. فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الرذيلة.

وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمنّ عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحى الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة».
الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أقوى وأقوم قيلا
إن معجزات سائر الأنبياء قد وقعت بوقتها، ومضت بمضي زمانها، بحيث لا يشاهدها الناس الآن، غير أن المسلمين يؤمنون بها دون أن يشاهدوها تبعًا لإيمانهم بسائر المغيبات التي أخبر الله بها.

وإنما المعجزة الخالدة الدائمة والمشاهدة بالأبصار إلى يوم القيامة، هي معجزة القرآن، الذي فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم. يقول الله سبحانه: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ [طه: 99-100].

إذ لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء السابقين، إلا عن طريق القرآن الكريم، النازل على محمد ﷺ، فمن هذه المعجزات معجزة الإسراء والمعراج، قال تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ [الإسراء: 1].

فاستفتح سبحانه خبر هذه المعجزة العظمى بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ [الإسراء: 1]. وكان من هدي النبي ﷺ أنه إذا أعجبه شيء إما سبح، وإما كبر، آخذًا من القرآن، وقد استبدل الناس بهما التصفيق بالأيدي، والتسبيح والتكبير خير لهم لو كانوا يعلمون.

والصحيح من أقوال العلماء: أنه أُسري برسول الله ﷺ بروحه وجسده، لكون المقام، وفحوى المقال، ينبئ عن معجزته العظمى في خبر الإسراء.

فأثبت القرآن أن الله أسرى بنبيّه ورسوله محمد، ليلاً من المسجد الحرام. فقيل: أُسري به من الحجر. وهو الصحيح. وقيل: من بيت أم هانئ، إلى المسجد الأقصى الذي هو بيت المقدس. وهذا الإسراء معجزة عظمى، خارقة للعادة، والمعجزة كاسمها، بحيث يعجز الناس عن معارضتها، والإتيان بمثلها، وهي تدل على صدق نبوة من أتى بها.

وذكر أنه أوتي بالبراق، وهو دون الفرس، وفوق الحمار، وسمّيَ براقًا، لأنه مشتق من البرق في سرعته، ليريه من آياته وعجائب مخلوقاته في المسجد الأقصى، وفي السماء، وأنه من بعد وصوله إلى بيت المقدس صلى بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وصلاته بهم، إنما هي بأرواحهم، وإلا فإنهم قد دفنوا في الأرض.

ثم إنه عُرج به إلى السماء في صحبة جبريل عليه السلام، فاستفتح السماء الدنيا، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أأرسل إليه؟ قال: نعم. فقالوا: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء. ثم استفتح كل سماء مثل هذا، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، وفرض الله عليه الصلوات الخمس مع فرض الوضوء على القول الصحيح. فقال: هي خمس، وهي خمسون -أي في مضاعفة الأجر- والصحيح من أقوال العلماء، ومن نصوص القرآن والسنة: أن الرسولﷺ لم ير ربه تلك الليلة، لكون رؤية الرب مستحيلة في الدنيا، كما حكى الله عن نبيّه موسى -عليه السلام- أنه قال: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي [الأعراف: 143].

يقول الله سبحانه: ﴿۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ ٥١ [الشورى: 51].

ولمّا سئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنّى أراه»[94]، أي حال دون رؤيته نور. قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله ﷺ رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه، ثم استدلت بقوله: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣ [الأنعام: 103].

وأما قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ ١٨ [النجم: 18]. فإنه جبريل حين رآه في صورته التي خلقه الله عليها، بمنظر عظيم هائل.

وهذا الإسراء والمعراج، حصل في ابتداء نبوته، وليس عندنا دليل يثبت تعيين يومه أو شهره بطريق صحيح.

فالقول بأنه في شهر رجب، هو قول لا صحة له، ولا يستند إلى دليل، ولم يكن من عادة الصحابة، ولا التابعين، التجمّع للإسراء والمعراج، وليس له عندهم أي عمل أو اهتمام، وإنما يؤمنون بما قص الله في القرآن من خبره. وأما ما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، وفي بعض البلدان، من التجمعات للإسراء، والمولد، والنصف من شعبان، كله من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

والحكمة من ذكره لها في القرآن، هو الإيمان به، والعمل بما أوجب الله من المحافظة على الصلوات الخمس التي افترضها، فهي أول ما افترض من الشرائع، كما أنها آخر ما يفقد من دين كل إنسان. وإنما سميت البدعة بدعة؛ لكونها زيادة في الدين، ومن عادة البدعة، التمدد والزيادة كل عام.

فاقتصاد في سنّة خير من اجتهاد في بدعة، ومحبة الرسول ﷺ يظهر حقيقتها في طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. فقول بعضهم: إنها بدعة حسنة. خطأ؛ فليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة وكل بدعة سيئة. وقد وردت أحاديث في أمور رآها رسول الله ﷺ في الإسراء؛ منها قوله: «رأيت ليلة أُسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من النار، فقلت: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أُمتك الذين يقولون ما لا يفعلون». رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زبد.

قال: «ورأيت رجالاً على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، ويأكلون الضريع، والزقوم، ورضف جهنم. فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين منعوا زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون»[95].

قال: «ورأيت قومًا يزرعون في يوم، ويحصدون في يوم، فإذا حصدوا، عاد كما كان، فقلت: يا جبريل. ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين». رواه البزار من حديث أبي هريرة وفي سنده ضعف.

فهذا ملخص حديث الإسراء برسول الله ﷺ يؤمن به المؤمنون، ويكذّب به الزنادقة الملحدون ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 41].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[93] العُزال: القربة. [94] رواه مسلم عن أبي ذر. [95] رواه الطبري في تهذيب الآثار والبيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي هريرة.

(5) إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على سائر الأنبياء.

أما بعد:

فقد جرى على ألسنة العلماء والعوام، مما دخل في ضمن عقائد الإسلام، التعريف عن مراتب الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فقالوا: إن الرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، والنبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. وقالوا: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. وقالوا: إن رسول الله ﷺ نُبِّئَ باقرأ، وأُرسل بالمدثر.

معنى ذلك أن الرسول في حالة الفترة من نزول ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [یونس: 41]. ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ [العلق: 1]. إلى نزول ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ كان نبيًّا ولم يكن رسولاً. وقد قيل: إن هذه الفترة أربعون يومًا.

وقد صار هذا من العقائد الثابتة في قلوب الناس والتي لا مجال فيها للمماحلة والالتباس بين العام والخاص.

[التفريق بين الرسول والنبي ليس له أصل في الكتاب أو السنة]

إن هذا التقسيم بصفة التفريق بين الرسول والنبي قد شاع على ألسنة العلماء والعوام حتى ألحقوه بعقائد الإسلام وكأنه لا خلاف فيه بين الخاص والعام، وهو ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من قول الصحابة، لأنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن وآثار الصحابة لم نجد لهذا القول أصلاً يعتمد عليه ولا نظيرًا يقاس عليه، وأسبق من رأيناه تكلم بهذا التفريق هو العلامة ابن كثير في التفسير على قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٠ [الأحزاب:40].﴿...وَلَٰكِن رَّسُولَ ﴿...وَلَٰكِن رَّسُولَ ﴿...وَلَٰكِن رَّسُولَ ﴿وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ من سورة الأحزاب قال: فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، فإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأوْلى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس... انتهى.

فهذا الكلام وقع من ابن كثير رحمه الله ولم يسنده. والطريقة أن كلام العلماء يستدل لها ولا يستدل بها؛ إذ كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، فكلام العلماء يساق للتقوية والاعتضاد لا للاعتماد.

وكأنهم أخذوه من مفهوم قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. فقالوا: إنه ليس في السورة صريح الأمر بالدعوة وتبليغ الرسالة، إذ هي محض تعليم له خاصة فصار به نبيًّا لا رسولاً.

أما سورة ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ فإن فيها صريح الأمر بالدعوة والإنذار والتحذير فصار بها نبيًّا رسولاً. هذا حاصل ما يقولون وبه يعتقدون، والحق أن كل نبي ذكره الله تعالى في القرآن فإنه رسول، فلا فرق بين الرسول والنبي إلا بمجرد الاسم فقط والمسمى واحد، وهذا من تنوع الاسم. كما نقول: محمد رسول الله، ومحمد نبي الله. والقرآن يخاطب الرسول بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ [الأحزاب: 59]. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ [التحريم: 1]. وأحيانًا يخاطبه بلفظ الرسول كقوله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ [المائدة: 67]. ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ [المائدة: 41]. والمعنى واحد.

فكما أن محمدًا نبي رسول فكذلك سائر الأنبياء بلا فرق.

والنبي مشتق من الإنباء أي أن الله أنبأه من وحيه بما شاء، كما قال تعالى: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡ [التوبة: 94]. ثم هو يقوم بدوره بإنباء ما أوحى الله إليه، كما يقول المحدث: أنبأنا فلان.

فكل نبي إذن ملزم بإبلاغ ما أوحى الله إليه من الشرع، إذ التبليغ ثمرة النبوة وعقد نظامها، فلا يوجد في حكم الله وشرعه نبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه؛ إذ هذا أمر يخالف مقتضى النبوة ويجب تنزيه الأنبياء عنه، والله تعالى يقول: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]. فوصف الأنبياء بالتبشير والإنذار الذي هو وظيفة الرسل بلا خلاف كما قال تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ [النساء: 165]. فوصف الرسل بالتبشير والإنذار كما وصف بذلك الأنبياء على حد سواء.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابًا في النبوّات سمّاه النبوّات قد استقصى فيه أخبار الأنبياء وأوصافهم ومميزاتهم ومعجزاتهم والبراهين الدالة على صدق رسالتهم، وتصدّيهم لدعوة قومهم وصبرهم على أذاهم. وذكر الفرق بين الأنبياء وبين السحرة والكهان وخوارق العادات، ولم يذكر فرقًا بين الأنبياء والرسل، لأن الأنبياء هم الرسل تنوّع الاسم والمعنى واحد، فكل نبي فإنه رسول، فلو كان عنده فرق بين النبي والرسول لذكره ولَمَا أهمل السكوت عن بيانه، إذ الكتاب محل البحث عن مثل هذا لو كان له وجه عنده، والله سبحانه لمّا ذكر أقسام المنعم عليهم بقوله: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩ [النساء: 69]. فمتى كان الأنبياء ليسوا برسل فأين الرسل من مقعد هذا الصدق عند مليك مقتدر؟!.

ويترجح أن هذا الاعتقاد في قولهم: إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه؛ أنه إنما دخل على الناس من عهد قريب حيث إنه ليس معروفًا عند الصحابة والتابعين ولا السلف السابقين، وكأنهم أخذوه من مفهوم قوله تعالى: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ [العلق: 1]. لظنهم أنه ليس فيها الأمر بالدعوة ولا تبليغ الرسالة، وخفي عليهم أن الرسول نفسه هو أول من أرسل إليه بنفسه؛ لأن العلم مقدم على القول والعمل، ومن حين فاجأه الحق ونزل عليه الوحي فإنه رسول الله حقًّا، وقد أخذ القرآن ينزل عليه تدريجيًّا.

[حديث أبي ذر في عدد الأنبياء والرسل حديث ضعيف موضوع]

فهذه الغلطة في التفريق بين الرسول والنبي يظهر أنها إنما دخلت على الناس من طريق حديث موضوع رواه ابن مردويه عن أبي ذر، وهو حديث طويل جدًّا لا يتحمل أبو ذر حفظه مع طوله وفيه قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وعشرون ألفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير». قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: «آدم» قلت: أنبي مرسل؟ قال: «نعم». ثم قال «يا أبا ذر أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ -وهو إدريس- وهو أول من خط بالقلم. وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك محمد» قال: «وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى..» إلى شيء كثير ذكره مما يدل على صريح وضعه.

[الأنبياء والرسل كثيرون منهم معروفون، وكثير منهم لم يقص الله علينا خبرهم]

فمنها: حصره الأنبياء في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفًا وهذا الحصر مخالف لصريح القرآن، فإن الله يقول: ﴿مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ [المؤمن: 78]. وقد وردت عدة أحاديث في عدد الأنبياء يخالف بعضها بعضًا، وكلها من الضعاف التي لا يحتج بها. وقد ساقها ابن كثير في التفسير من آخر سورة النساء، وبعضها من قول كعب الأحبار. والذي عليه المحققون من السلف أن لله أنبياء كثيرين لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، منهم من قصّ الله خبرهم في كتابه فنؤمن به تفصيلاً ولا نفرق بين أحد منهم، ومنهم من لم يقصص خبرهم. وقالوا: إن من عدّ الأنبياء قد أخطأ وتكلف ما لا علم له به. ومثله: قوله في عدد الرسل وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وكأن هذا منشأ الغلط في التفريق بين الأنبياء والرسل، وأن النبي غير الرسول إذ النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فليس كل نبي رسولاً بزعمهم. وهذا التفريق لم نجد له أصلاً قطعًا، كما أن هذا الحديث لا يحتج به، وقد ذكره ابن الجوزي وكثير من العلماء في الموضوعات. والموضوع هو المكذوب على رسول الله ﷺ، وقد حرم أهل الحديث التحديث به إلا في حالة بيان وضعه.

قال في ألفية الحديث:
الخبر الموضوع شر الخبر
وذكره لعالم به احظر
ومثله: قوله في آدم وأنه أول الرسل، والصحيح أن أول الرسل نوح، يقول الله تعالى: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ [النساء: 163]. ويعني بالنبيين: المرسلين. ثم قال: ﴿وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ [النساء: 164-165]. فذكرهم باسم الأنبياء في قوله: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ [النساء: 163]. ثم ذكرهم باسم الرسل والمعنى واحد، إذ لا يوجد في شرع الله نبي ليس برسول، ولكن الجهل قد عمّ بالناس فصاروا يكذبون على الله وعلى رسوله ويروِّجون كذبهم بين العامة باسم الصحابة كأبي ذرّ ونحوه، ثم إن الكثير من العلماء قد غفلوا عن تحقيق هذا الحديث المكذوب. وكل من تأمل القرآن في موارده ومصادره وأمره ونهيه وقصص أنبيائه فإنه يجده يذكر الرسل باسم الأنبياء، والأنبياء باسم الرسل.

[كل نبي أو رسول مأمور بتبليغ ما أوحي إليه]

فقوله تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء: 165]. هو نظير قوله: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]. لفظًا ومعنى، وهو تنوع اسم والمسمى واحد، وأن جميع الأنبياء أرسلوا إلى قومهم يحملون رسالة ربهم، يدعونهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فكلهم مبشرون ومنذرون ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ [النساء: 165]. وهذه هي الحكمة في بعث الرسل، ثم إن السبب الذي جعل العلماء المتقدمين يغفلون عن نقد هذا بعدم ذكر الخلاف فيه، هو كونه مدرجًا في العقائد التي شبوا ونشؤوا عليها، فلا يتساءلون عن مصدر هذا التفريق، ويقتدي بعضهم ببعض في القول به، كما كنا نعتقده في حداثة سننا، فمثل هذا متى تصدى أحد من العلماء لنقده بالدلائل والبراهين الدالة على صحة ما يقول فعند ذلك ينتبه الناس له، وتنسحب عن قلوبهم الغفلة في الاستسلام بالقول به. وهذا يقع كثيرًا في مسائل الأصول والفروع مما يرجع إلى قوة الاستنباط.
ولم يتناول درة الحق غائص
من الناس إلا بالروية والفكر
وجميع الناس من الأولين والآخرين يُسألون يوم القيامة ويُقال لهم: ماذا كنتم تعملون ﴿مَاذَآ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦٥ [القصص: 65].

ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ ١٣٠ [الأنعام: 130]. فذكر الرسل ويعني بهم الأنبياء. فإن قيل: في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٥٢ [الحج: 52]. فعطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة فكأن النبي غير الرسول.

فالجواب: أن مثل هذا يقع كثيرًا في القرآن وفي السنة، يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [الأحزاب:35]. فغاير بينهـما بحرف العطف، ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون، والمؤمنين هم المسلمون، فلا يقال: فلان مسلم وليس بمؤمن ولا أنه مؤمن وليس بمسلم، وإنما هو تنوع اسم والمسمى واحد. نظيره قوله تعالى: ﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٩٧ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ ٩٨ [البقرة: 97-98]. فعطف بجبريل وميكال على الملائكة وهما منهم. والنبي ﷺ قال: «فادعوا بدعوى الله الذي سمّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله»[96] مثله قول أحدنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول.

ثم إن الله سبحانه تأبى حكمته أن يوحي إلى نبي من الأنبياء بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام ثم لا يأمره بتبليغه، بحيث يصر على كتمانه وعدم بيانه بدون حرج ولا إثم عليه، ويكون هذا الشرع الذي أوحاه الله إليه بمثابة الدين الضائع بحيث لا ينتفع به أحد. وما الفائدة بهذا النبي وبهذا الشرع الذي أوحي إليه وهو لم يبلغه إلى الناس؟!! إن هذا لا يكون أبدًا، وليس هو من سنّة الله ولا من شرعه ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به. والله تعالى يقول: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ [آل عمران: 187]. والأنبياء هم رؤوس من أوتوا الكتاب وأُخذ عليهم الميثاق في بيان ما نزل إليهم من ربهم، فهم لا يكتمون الله حديثًا.

ولم نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في قول أحد من الصحابة أن فلانًا نبي وليس برسول.

ولو سألنا أعمق رجل في العلوم والفنون وأعرفه بعلم القرآن والتفسير ليدلنا على اسم شخص معين هو نبي وليس برسول فإنه لن يجد إلى ذاك من سبيل، لأن هذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان، فإذا لم نجد ما يدل على الفرق بين النبي والرسول لا في الكتاب ولا في السّنة علمنا حينئذ أنه لا أصل له، وأن القول به جرى على ألسنة العلماء المتأخرين بدون سند من علم اليقين، وأن هذا النبي الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه لا يوجد ولن يوجد أبدًا، ويجب تنزيه الأنبياء عن هذا الاعتقاد الذي هو تفريق بينهم.

[96] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.

[تفضيل بعض الأنبياء والرسل على بعض أمر وارد في الشرع]

أما تفضيل بعضهم على بعض مع إثبات رسالة جميعهم فهذا شيء ثابت، فقد قال الله تعالى: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ [البقرة: 253]. فأثبت التفضيل مع إثبات رسالة الجميع. وأفضل الأنبياء محمد رسول الله؛ فقد قال: «أنا سيد الناس، وأنا أفضل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» [97] ومن بعده أولو العزم وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى. ومع ثبات تفضيله كما في حديث الشفاعة وغيره ففي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: «لا تفضلوني على الأنبياء» وهذا النهي محمول على تفضيله عليهم في حالة الجدل والمماراة، وقد عبّر عن الرسل باسم الأنبياء بدون فارق، والله سبحانه أمر عباده بأن يقولوا: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٣٧ [البقرة: 136-137]. فأمر الله عباده المؤمنين بأن يؤمنوا بكل النبيين وأن لا يفرقوا بين أحد منهم.

ولا شك أن وصف أحدهم بأنه نبي وليس برسول لكونه أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وبعضهم نبي رسول أن هذا هو حقيقة التفريق بينهم، إذ فيه إزالة وصف الرسالة التي هي أعلى المراتب عن بعضهم؛ لأنه وإن فسر هذ ا التفريق بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فإن الخطاب محتمل لهذا وذاك، إذ كِلا الأمرين تفريق بينهم، والقرآن يوجب على المؤمنين أن يؤمنوا بجميع الأنبياء بدون تفريق. وقد وصف الله نبيه والمؤمنين بالإيمان بهم جميعًا فقال تعالى: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥ [البقرة: 285].

فذكر سبحانه الأنبياء في هذه الآية باسم الرسل كما ذكرهم في الآية التي قبلها باسم النبيين، والكل حق والمعنى واحد، فالأنبياء هم المرسلون والمرسلون هم الأنبياء، كما أن الله يخاطب نبيه أحيانًا باسم النبي وأحيانًا باسم الرسول والمعنى واحد، فقوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40]. أي وخاتم المرسلين إذ النبيون هم المرسلون.

[97] أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري.

[البهائية والبابية والقاديانية دعوات باطلة مضلة]

وقد دخلت طائفة البهائية، الذين هم أشد الأمم كفرًا وعنادًا من فجوة هذا التفـريـق حين قالوا برسالة (بهاء الله الميرزا علي محمد)[98] حيث زعموا بأنه رسول الله، ولما استدل عليهم بعض المسلمين بقوله: ﴿وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40]. قالوا: إن محمدًا خاتم النبيين وليس بخاتم المرسلين، فكأنهم وجدوا في هذا التفريق بين النبيين والمرسلين فجوة يدخلون عن طريقها بباطلهم، كما هي طريقة القاديانية القائلين: إن محمدًا ليس بخاتم النبيين وإن النبوّة باقية، ﴿يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨ [التوبة: 8]. ﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٢٧ [ص: 27].

[98] البهائية وابتداء دعوتها: نشأت البهائية في إيران وكان أول من أنشأها رجل شيعي من مواليد الأحساء اسمه الشيخ أحمد الأحسائي سنة 1166 وسُمّوا الشيخية نسبة إليه، واشتهر بتبشيره بظهور المهدي المنتظر، وله آراء باطنية وفلسفية تحوم حول تغيير نظام الإسلام وشريعته، ويدعي أن لديه علمًا لدنيًّا تلقاه عن آل البيت، ويبشر بدعوة سرية ينظم حركتها أو يولي الخلفاء من بعده، واقتفى خطة الباطنية في تحريف القرآن والسنة إلى غير المعنى المراد منهما وفقًا لآرائه ونزعاته. وكان يقول: إنه لا يوجد بعدي من يعرف مقصدي سوى السيد كاظم الرشتي فاطلبوا علومي منه. ولم يزل متنقلاً داعيًا إلى أن توفي بجدة من أرض الحجاز سنة 1242هـ. ثم تولى كاظم الرشتي الدعاية بعده إلى أن توفي سنة 1259هـ. البابية: ثم قام علي محمد بعد وفاة الرشتي 1260هـ مدعيًا أنه نائب عن الإمام المنتظر، وأنه بابه الذي يفتح به ظهور الإمام، فسُمّوا البابية من أجله، وهم فرع من البهائية. ثم أظهر أنه الإمام المنتظر المهدي فقام بثورة وأخذ يظهر للناس فنونًا من الكفر، وأن شريعته تنسخ شريعة القرآن، وأنها قد أنهت دور الشريعة المحمدية!! فلا صلاة ولا صيام، ويعمد إلى النصوص القرآنية فيتأولها تأويلات الباطنية ويقلب حقائقها ويصرفها عن المعنى المراد منها. ثم ادعى أنه باب الله وأنه سيد من عترة الرسول ﷺ. فأنكر علماء فارس على طائفة البهائية علمهم وعملهم وحكموا بكفرهم وردّتهم، وأصدرت محكمتهم الشرعية حكمها بقتل الباب علي محمد وإعدامه لكفره وردته، فقتل في تبريز سنة 1266هـ. وجعلوا يتتبعون أتباعه حتى قتلوهم في كل مكان، ثم انتشروا في البلدان يدعون إلى نحلتهم (مذهبهم) على سبيل التقية والتستر. ومن البهائية: امرأة تدعى قرة العين، وكانت من أبرز دعاة البابية، وهي فتاة إيرانية من قزوين، بنت حاجي ملا صالح، وزوجة ابن عمها الملا محمد بن الملا نقي. المسمّى عند الشيعة بالشهيد الثالث. وقد اجتمعت هذه بالرشتي في كربلاء، فانتسبت إليه، وكتبت رسالة بتأييد شيخه الأحسائي فأجابها برسالة افتتحها بقوله: يا قرة عيني، وفرح فؤادي. فاشتهرت من ذلك الحين بهذا اللقب، وكانت على جانب عظيم من الخبرة والطلاقة والجمال، وذاع خبر السوء عنها بما يُعد اشتهارًا وفجورًا، فأسماها أنصارها بالطاهرة. ولما قيل لكاظم الرشتي عن فجورها. قال: إني والله أعلم ذلك، ولكن ماذا أصنع بامرأة سمّاها الله الطاهرة من فوق سبع سموات!!! ولم تنتزع عن الدعوى رغم حنق علماء بلدها بما فيهم أبوها، وأخوها، وزوجها، حتى أصبحت بلدها قزوين مركز دعوة البابية. القاديانية: أما القاديانية فإن مبدأها من رجل يدعى ميرزا غلام أحمد من سكنة قاديان بالهند فنسبت طائفته القاديانية إليها. ولد غلام أحمد سنة 1252هـ ولما بلغ سن التعليم تعلم بعض الكتب الفارسية وتعلم اللغة العربية والنحو والمنطق والفلسفة، ثم تقلد وظيفة في إدارة نائب المندوب السامي، ثم استقال منها لما استدعاه أبوه إلى مساعدته في أعماله الخاصة، وكان بزازًا. ثم مرض أبوه فزعم غلام أحمد بأنه نزل عليه وحي من الله أن أباه سيموت بعد الغروب فمات تلك الساعة، وهذه بداية دعوته في ادعاء نبوّته سنة 1876 ميلادي وأخذ بعد هذا يصرح بآراء يزعم بأنه نزل عليه الوحي بها. وكان المسلمون في الهند يلاقون هذه المزاعم بالإنكار الشديد. ثم أظهر منشورًا أعلن فيه بأنه المسيح المنتظر، فقام في وجهه علماء الشريعة بالهند فأنكروا عليه أشد الإنكار وكادوا يقتلونه لكنه استجار بالإنكليز فبالغت في نصرته وحمايته، وكان يصب الثناء والمدح لهم في سائر خطبه ومنشوراته، ثم انتقل غلام أحمد إلى دلهي يدعو إلى نحلته (مذهبه) ويدعي الوحي والنبوة والرسالة، وأخذ يخطب وينشر المنشورات غير مبال بالقرآن ولا بالسنة ولا بإجماع الأمة ويقول: إن كل من لم يصدق نبوتي فهو كافر!!! ويقول: إن سائر الأمم من اليهود والنصارى والمجوس الذين كذبوا نبوة محمد فإنهم سيؤمنون برسالتي! ويقول: وإن تعدوا آيات نبوتي لا تحصوها!!! إلى غير ذلك من الهراء والغرور. وليس الوحي والرسالة عند القاديانية بمقصورة على غلام أحمد بزعم نحلتهم، بل يدعون أن أتباعه ينزل عليهم الوحي! ويقولون: إن طريق الوحي لا يمكن أن يسد في وجوه الناس! ويزعم غلام أحمد أنه نزل عليه الوحي بقوله: (إني جاعلك للناس إمامًا ينصرك رجال نوحي إليهم!!) فهم ينكرون كون النبي محمد خاتم النبيين، ويزعمون أن شريعتهم قد نسخت شريعة محمد!!. وبذلك انفصلوا عن المسلمين بعقيدتهم وطريقتهم ونبيهم فليسوا من المسلمين ولا المسلمون منهم. وقد نشطوا في دعوتهم بما يخدع بها الهمج السذج الذين هم أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح أقرب شبهًا بهم الأنعام السائمة، وليسوا ببدع من المدعين للرسالة، فقد مضى للكذابين مثلها دعاوى، فقد ادعاها مسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار بن أبي عبيد ومن بعدهم أناس صالوا بدعوتهم وصار لهم أنصار وأتباع، ثم تمزقوا وتفرقوا واضمحلوا وزالوا، والله أعلم حيث يجعل رسالته ﴿هَلۡ أُنَبِّئُكُمۡ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَٰطِينُ ٢٢١ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ ٢٢٢ يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ ٢٢٣ [الشُّعَرَاء: 221-223].

[النبي محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء والرسل وشريعته آخر الشرائع]

ولقد ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الأمة أن محمدًا رسول الله هو خاتم النبيين والمرسلين فلا نبي ولا رسول بعده، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40]. وفي صحيح البخاري عن النبيﷺ أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدي».

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أيضًا أن النبي ﷺ قال: «أنا خاتم النبيين».

وفي رواية لمسلم عن جابر قال: «أنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي الطفيل أن رسول الله قال: «لا نبوّة بعدي إلا المبشِّرات». قيل: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الحسنة» وفي رواية: «الرؤيا الصالحة».

وروى البرقاني في صحيحه عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئات من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتَمُ النبيين، لا نبيَّ بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».

قال العلامة ابن كثير رحمه الله في التفسير: قد أخبر الله سبحانه في كتابه والسنة المتواترة عن رسول الله أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فإنه كذاب أفاك دجال ضال مضل، حتى ولو أتى بما أتى فإنها محال وضلال... انتهى.

ثم إن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وهي تذكر الأنبياء دائمًا بدلاً من الرسل. ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. فاجتمعنا فقال: «إنه ما من نبيّ إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمور تنكرونها، تجيء الفتن يرقق بعضها بعضًا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي. ثم تنكشف..» إلى آخر الحديث.

فأخبر النبي ﷺ أنه ما من نبي من الأنبياء إلا كان حقًّا واجبًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فأين هذا النبي الذي لا تجب عليه الدعوة ولا تبليغ الرسالة؟ لأن هذا هو مقتضى أمانة نبوتهم، لأنه إنما سمي نبيًّا لكونه ينبئ عن الله أمره ونهيه وحلاله وحرامه وسائر فرائضه وأحكامه، فهذه وظيفة جميع الأنبياء كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣ [الأنبياء: 73]. أما نبي يوحى إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فهذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به.

ومثله قوله ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتقنها وجمّلها إلا موضع لبنة منها، تم صنع مأدبة ودعا الناس إليها فجعلوا يعجبون من حسنها إلا موضع تلك اللبنة. قال: فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» رواه مسلم عن جابر. وقال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة»[99] وقال: «نحن معاشر الأنبياء بنو علات»[100]. الدين واحد والشرائع متفرقة يعني أن لكل نبي شريعة من الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام تناسب حالة أمته وزمانه غير شريعة الآخر. قال تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا [المائدة: 48].

ثم جاءت شريعة محمد رسول الله مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع، لأن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وقد بعث رسول الله محمد إلى الناس كافة قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. ولما رأى رسول الله مع عمر قطعة من التوراة قال: «يا عمر لقد جئتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»[101].

فبما أن رسول الله هو خاتم المرسلين فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع، فلا يجوز لأحد أن يتعبّد أو يعمل بشريعة غير شريعته، إذ هي المهيمنة على سائر الشرائع والحاكمة عليها.

يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي، وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة ومن بعدهم من الأئمة فضلاً عن غيرهم فيحكمون بخلافها، ثم يتبين لهم وجه الصواب فيها فيعودون إليه، لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها، لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم، لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وإنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن والحديث والتفسير، وأعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق والتدقيق وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها بحيث يخرجها من حيّز الخفاء والغموض إلى حيّز التجلي والظهور بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهـمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه والحالة هذه سيجد سعة لعذرنا ومندوحة[102] عن عَذلنا[103] فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأصول بعضها ببعض، فيخصص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، وبربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية بالأدلة القويمة القوية والمألوفة المعروفة، حيث تقبلها العقول ويتلقاها العلماء بالقبول لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول.

لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيما قلت مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيه إلى ما يأباه النقل أو ينفيه العقل، لكنني أعرف بأنني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، فعلى كل أخ مخلص منصف أن يعيد دراسته ويعجم عود فراسته ليتضح له معناه ويقف على حقيقة مغزاه ومبناه، فإن تبيّن له أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية، وجب عليه أن يكشف لي بكتاب عن وجه ما خفي علي من الصواب، فإن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع، والقصد واحد والغاية متساوية.

ثم إن العلماء من قديم الزمان وحديثه قد يبدو للمجتهدين منهم اليوم في فهم النصوص وتفسيرها وفهم القرآن واستنباط معانيه وأسرار أحكامه ما لا يبدو للفقهاء وللمفسرين المتقدمين في العصور السالفة، ولولا ذلك لم تتعدد التفاسير. وحسبك مخالفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للعلماء قبله في كثير من مسائل الفقه والتفسير والأصول والعقائد، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومن صفة القرآن أنه لا تنقضي عجائبه، وقد وصفوه بالبحر المملوء من الدرر، ولكل غائص على قدر نصيبه منه، كما قال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن[104]. «ومن يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين»[105].

إنه كلما اتسع علم الشخص اتسع رحبه لتقبل المسائل المستغربة متى كانت مرفقة بالدليل الواضح، وإن لم تكن معروفة أو معمولاً بها في زمانه أو عند فقهاء مذهبه، ومن ثم يتسع مجاله في استنباط نصوص الفقهاء وتحريرها وتقييدها في ضوء المقاصد الشرعية الكلية، وبذلك قد يظهر للمتأخرين المتبحرين في فقه النصوص والأصول ما عسى أن يخفى على المتقدمين. فكم ترك أول لآخر، وكم استفاد عالم من عامي، والحكمة ضالة المؤمن أينما يجدها يلتقطها.

والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

15 ربيع الثاني سنة 1396هـ

* * *

[99] رواه الترمذي من حديث أبي بكر. [100] أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة. [101] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [102] مندوحة: أي سعة. [103] عذلِنا: لومِنا. [104] أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب. [105] متفق عليه من حديث معاوية بن أبي سفيان.

(6) القول السديد في تحقيق الأمر المفيد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين.

أما بعد:

فإن من واجب العالم المحتسب القيام ببيان ما وصل إليه علمه من معرفة الحق بدليله مقرونًا بتجليته وتوضيحه والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.. فإن بيان العلم أمانة والكتمان خيانة.

ومن المعلوم أن العلم ذو شجون، يستدعي بعضه بعضًا ويزداد وضوحًا، والشخص يزداد نضوجًا بتوارد أفكار الباحثين وتعاقب تذاكر الفاحصين، إذ ملاقاة التجاوب بين العلماء تلقيح لألبابها وتقوية لخطابها وعلى قدر رغبة الإنسان في العلم وطموح نظره في التوسع فيه بطريق البحث والتفتيش عن الحق في مظانه.. فإنه تقوى حجته وتتوثق صلته بالعلم والدين. ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، واتقوا الله ويعلمكم الله. ورأس العلم خشية الله..

[اعتراض بعض العلماء على رسالة إتحاف الأحفياء برسالة الأنبياء]

ولقد نشرت مجلة الدعوة بالرياض بتاريخ 28 جمادى الأولى عام 1397 هـ، مقالاً صادرًا من الشيح عبد العزيز بن رشيد رئيس هـيئة التمييز بالمملكة العربية السعودية، إنكارًا منه على رسالة إتحاف الأحفياء، حينما قلت بعدم التفريق بين الأنبياء والرسل.. فإن الأنبياء هم الرسل والرسل هم الأنبياء، إذ إن مخرجهما في كتاب الله واحد؛ فمتى ذكر الأنبياء دخلت فيه الرسل، أو أفرد ذكر الرسل دخلت فيه الأنبياء، أشبه التسمية بالمؤمنين والمسلمين.

فإن الله سبحانه إذا ذكر المؤمنين دخل فيه المسلمون، أو أفرد ذكر المسلمين دخل فيه المؤمنون، كما أنه سبحانه إذا أفرد ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، أو أفرد ذكر الإسلام دخل فيه الإيمان على حد سواء، فكل نبي رسول وكل رسول نبي، وكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن في ظاهر الحكم على الناس في الدنيا، والله سبحانه يتولى الحكم في السرائر.

فأنكر فضيلة الشيخ عبد العزيز بن رشيد عدم التفريق بين الأنبياء والرسل وعدم التفريق بين المؤمنين والمسلمين، لزعمه أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.

فلأجله أصدر الشيخ عبد العزيز هذا المنشور ليطلع عليه كافة الجمهور من الرجال والنساء، كأنها فضيحة يريد إشاعتها، وهي شكاة قد ذهب عنا عارها، وقد كان من الأوفق أن يكتبها في رسالة ثم يعمم بها جميع المختصين بالعلم والمعرفة، ثم يحكموا رأيهم فيمن هو أهدى سبيلاً، بدلاً من أن يغشى بها العوام وضعفة العقول والأفهام.
وكم من عائب قولاً صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم
إن الشيخ عبد العزيز رحمه الله لديه قوة ونشاط في الرد والنقد، ولكن بدون رماية ولا دراية ولا سياسة ولا حكمة، فتراه يجعل الصحيح خطأ والصواب غلطًا، كما ستراه مفصلاً من قوله..

فبما أن الشيخ عبد العزيز أشاع الشناعة على الرسالة بصريح التضليل والتجهيل بدون تثبت ولا تصحيح، ومن المعلوم أن كل من أوصلته خبرًا لن تستطيع أن توصله عذرًا..

[الاعتراض لا يقوم على أساس من العلم و المعرفة]

وقد تبين لنا أن اعتراضاته كلها باطلة لا تعتمد على أساس من العلم والمعرفة، وأن سكوتي عن الجواب قد يعطي بعض الناس شيئًا من الشك والارتياب فيما قلت في الكتاب، مما قد يئول إلى عدم الثقة والاطمئنان إليه..

فلأجله بدا لي أن أُبدي اعتذاري بكشف هذا الاتهام الناشئ عن غلط الأوهام وخطأ الأفهام.
وكم من مليم لم يصب بملامة
ومتبع بالذنب ليس له ذنب
وقد كنت أحسب لهذه النفرة الحساب، فطرقت لسدها كل باب، وجمعت النصوص الجلية والبراهين القطعية ما عسى أن يزيح الشك والارتياب عن الكتاب.. غير أن صواب القول وصحته غير كافلة لصيانتة عن الرد عليه والحط من قدره بحق وبغير حق.

غير أن الناس بطريق الاختبار في القول والنقد يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام.. فمن واجب العالم الكاتب أن يبدي غوامض البحث ويكشف مشاكله ويبين صحيحه من ضعيفه، حتى يكون جليًّا للعيان، وليس من شأنه أن يفهم من لا يريد أن يفهم.

إنه متى تصدى عالم أو كاتب لتأليف أي رسالة أو أي مقالة أو أي قصيدة فبالغ في تنقيحها بالتدقيق، وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة، فحاول جاحد أو حاسد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها ويلبسها ثوبًا من الزور والبهتان والتدليس والكتمان، ليعمي عنها العيان، ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام؛ أفيلام صاحبها متى كشف عنها ظلام الاتهام، وأزال عنها ما غشيها من ظلام الأوهام، إذ لا بد للمصدور[106] من أن ينفث[107]، والحجة تقرع بالحجة، ومن حكم عليه بحق فالحق فلجه. ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ ٤١ [الشورى: 41].

مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق لأن الحق مضمون له البقاء، فأما الزبد فيذهب جفاء.. وإنا لنرجو لفضيلة الشيخ عبد العزيز في جهده ونقده جزيل الأجر والثواب، سواء أخطأ في النقد أو أصاب، فما رده عليَّ أو الرد عليه إلا محض التلقيح للألباب ويبقى الود ما بقي العتاب.. إذ ما من أحد من الناس إلا وهو راد ومردود عليه، ولنا الأسوة بالصحابة، حيث يرد بعضهم على بعض في مسائل الفروع ولن يجد أحدهم في نفسه حرجًا أو افتخارًا بفلج[108] في رد أخيه عليه؛ لأن قصد الجميع الحق، فهو غايتهم المقصودة وضالتهم المنشودة، وإنا لنرجو في إثارة هذه المباحث بأن لا نعدم من نتائج جميلة وحكم جليلة يثيرها البحث والنقاش، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب. وهذا أوان الشروع على رد مداركه، ونسأله سبحانه الهدى والسداد فإنه ولي التوفيق والهادي لأقوم الطريق.

[106] المصدور: الذي يشتكي صدره. [107] ينفث: يبزق. [108] فلج: ظفر وفوز.

المدرك الاول: أن الرسول والنبي اسمان لمعنيين. وضعف هذا الاعتراض

قال الشيخ عبد العزيز: ((إن ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الله، من أنه لا فرق بين النبي والرسول، والحق أن الاسمين اسمان لمعنيين: فإن الرسول أخص من النبي، وأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.. فإن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهو الرسالة)).

قال: ((فالأنبياء والرسل اشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم، واختصت الرسل بإرسالهم إلى الأمة.. قال الله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ [الحج: 52]).

قال: ((فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة، ففيها دليل على التغاير بين النبي والرسول)) انتهى.

فالجواب: أن كل شخص لا يبني قوله ونقده على أساس من العلم والمعرفة؛ فإنه سيتخبط في فنون الخطأ والغلط، ومن عادة شيخنا عبد العزيز في نظرياته وتقريراته أنه يرمي بمثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف، غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف، ثم يذهب كل مذهب في تحقيقها بما يظهر خطأه على فلتات لسانه ونزوات أقلامه، ويقولون في تفسير الحكمة: إنها إصابة الحق في القول والعمل. فهم يمدحون الثبت المصيب في أن إيراده وارد مورده، وأنشدوا:
ثبت البيان إذا تلعثم قائل
أضحى شِكالاً[109] للسان المطلق
لم يتبع شنعَ اللغات ولا مشى
رسف[110] المقيد في حدود المنطق
في هذه خبث الكلام وهذه
كالسور مضـروبًا له والخندق
من ذلك استدلاله بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ [الحج: 52].

قال: ((فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة، ففيه دليل على التغاير بين النبي والرسول)).. انتهـى.

فيا سبحان الله، لا أدري في أي كتاب من كتب النحو وجد أن العطف بالواو يقتضي المغايرة، فإننا لم نر من فسر العطف بالواو على ذلك.

وإنما حقيقة قول النحاة: أن العطف بالواو لمطلق الجمع للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، وهي من باب عطف الشيء على مصاحبه في الحقيقة أو المعنى، كقوله سبحانه: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ [البقرة: 238]. فعطف الصلاة الوسطى على الصلوات الخمس التي أمر بالمحافظة عليها جميعها ومنها الصلاة الوسطى.. وهي صلاة العصر على القول الصحيح، وخصها بالذكر لمزيد فضلها ويسمونه من عطف الخاص على العام، إذ الكل جنس واحد، وقد أمروا بالمحافظة عليها جميعها، ويسمونه هذا من عطف الشيء على مرادفه وجنسه.

نظيره قوله سبحانه: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ ٩٨ [البقرة: 98]. فعطف جبريل وميكال على الملائكة وهما من جنسهم.

ومثله قوله: ﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيٓ‍َٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓ‍ٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ١١٢ [النساء: 112]. فعطف الإثم على الخطيئة والخطيئة إثم والإثم خطيئة.

نظيره قوله سبحانه: ﴿وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ [النحل: 90]. فعطف المنكر على الفحشاء، والمنكر من الفحشاء كما عطف البغي على المنكر وهو منكر.

ويقول العلماء: إنه من عطف الشيء على مرادفه وجنسه، ففي الأول معنى الثاني، وفي الثاني معنى الأول.

فقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ [الحج: 52]: أي ولا أرسلنا نبيًّا إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فدلت هذه الآية بفحوى لفظها ومعناها: أن الله يرسل الأنبياء إلى الناس.

نظيره قوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ [الأعراف: 94].

ومثله قوله سبحانه: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ [البقرة: 213].

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر.. أن النبي ﷺ قال: «إنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أُمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم وإن استعجل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها.. الحديث». فوصف رسول الله جميع الأنبياء بإرسالهم إلى الناس بدون استثناء أحد منهم، وأنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فكلهم مرسلون يبشرون وينذرون، يتبين أن استدلاله بالآية هي حجة عليه لا له.. وهذا جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق والكبر يمنع من اتباعه.

وبالتحقيق نجد القرآن يخاطبهم باسم الأنبياء تارة كما تقدم، وباسم الأنبياء والرسل تارة أخرى، كقوله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥ [النساء: 163-165].

فهذه الآيات تثبت أن جميع الأنبياء من بعد نوح أنه أوحي إليهم وأنهم أرسلوا إلى الناس مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فأين هؤلاء الأنبياء الذين أُوحي إليهم بشرع من الأمر والنهـي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام، ثم لم يؤمروا بتبليغه؟! وكيف سكت عن ذكرهم وعدم بيانهم الكتابُ والسنة وما كان ربك نسيًّا؟

وتارة يخاطبهم باسم الرسل خاصة كقوله سبحانه: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ [البقرة: 253].

فإن هذا خلاف ما تقتضي سنة الله في إرسال رسله وأنبيائه.

فقد وصف الله سبحانه الأنبياء بالرسل، كما وصف الرسل بالأنبياء والمعنى واحد، لكون النبي يُنبِّئه الله من وحيه بما شاء، كما قال سبحانه: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ [التوبة: 94].

ثم هو يُنبِّئ عن الله أمره ونهيه وأحكامه وحلاله وحرامه وصلاته وصيامه، كما نجد القرآن يخاطبهم باسم الرسول بقوله: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ ٢٥٣ [البقرة: 253]. ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [البقرة: 253]. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٤ [الأنفال: 64].. فمن لوازم إنزال الوحي على النبي هو الإنذار والتبشير كما هي طريقة الرسل وكما نصف نبينا محمدًا ﷺ بأنه نبي رسول.

.. فوُصِف هذا النبي بإرساله إلى الناس، وبه يتبين أن استدلاله بالآية هو حجة عليه لا له، وهو واضح جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق والكبر يمنع من اتباعه.

نظيره قوله سبحانه: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]. فوصف هؤلاء النبيين بالإنذار والتبشير وهي وظيفة الرسل.

وكما في صحيح مسلم عن العباس أن النبي ﷺ قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًّا وبمحمد نبيًا رسولاً».

وليست هذه التسمية بهذه الصفة من خصائصه، بل يشاركه فيها سائر الأنبياء، إذ ليس عندنا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أن فلانًا نبي، وليس برسول، فيلزم المدعي لذلك إيجاد الدليل الواضح الذي يبين اسم النبي الذي ليس برسول.

﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤ [الأحقاف: 4]. فالتفريق إنما هو تنوع اسم والمسمى واحد.

وفي البخاري ومسلم، أن النبي ﷺ قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي». والله سبحانه قد أثنى على المؤمنين القائلين: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق ببن أحد من رسله.

فهذا التفريق الذي ذمه الله، كما أنه يشمل الإيمان ببعضهم والتكذيب ببعض، فإنه يشمل أيضًا إثبات الرسالة لبعضهم ونفيها عن بعضهم، فكله من التفريق الذي ذمّه الله ونهى عنه. فالذي يحتج بإثبات التفريق بين النبي والرسول، يجب عليه بأن يورد لنا أسماء الأنبياء الذين ليسوا برسل، حتى يكون لاحتجاجه موضع من الصحة وموقع من القبول.

[109] الشّكال: العقال (وما يُقيد به). [110] رسف: مشْي المقيد.

المدرك الثاني: وصف الرسالة وصف زائد على وصف النبوة. وضعف هذا القول

قال الشيخ عبد العزيز، في قوله سبحانه: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مُوسَىٰٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ مُخۡلَصٗا وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا ٥١ [مريم: 51]. قال: ((فوصفه بالرسالة والنبوة، فدل على أن الرسالة وصف زائد على النبوة..)) قال: وقال ابن كثير -رحمه الله-: وهذا دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف إسحاق بالنبوة فقط وإسماعيل وصفه بالرسالة والنبوة.

فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز عاجز مبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سَلك العنكبوت ؛ لهذا تراه يتتبع السقطات واللقطات عن العلماء التي ليس لها أصل والتي يخالفها الحق والحقيقة، من ذلك استدلاله بهذه الآية وبقول ابن كثير من تفضيل إسماعيل على أخيه إسحاق؛ لأنه إنما وصف إسحاق بالنبوة فقط وإسماعيل وصفه بالرسـالة والنبوة، والله سبحانه هو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين، وقد ذكـر الله إسحـاق مع الرسل بجنب أخيه إسماعيل، فقال سبحانـه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥ [النساء: 163-165].

فكل هؤلاء رسل وأنبياء بإجماع العلماء، وحسبما ذكرهم الله في كتابه في هذه الآيات التي بدأها بالنبيين وختمها بالمرسلين.. فهم أنبياء ورسل ومنهم إسحاق عليه السلام بجنب أخيه إسماعيل، وصفًا ومحلًّا.. فهذا التفريق بين إسماعيل وإسحاق باطل لا حقيقة له.

أما كون إسماعيل أبو العرب أفضل من إسحاق، فهذا ثابت للبلوى التي ابتُلي بها في تسليم نفسه لربه حسب طاعة أبيه، ولمشاركته لأبيه في بناء بيت الله؛ ولهذا أكثر القرآن من ذكره، فكما أن إسماعيل نبي رسول، فكذلك إسحاق نبي رسول، فإثبات الرسالة في حقه شيء والتفاضل بينه وبين أخيه إسماعيل شيء آخر، يقول الله: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ [البقرة:253].

المدرك الثالث: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. وضعف هذا التفريق

قال الشيخ عبد العزيز على حديث البراء حين قال: ورسولك الذي أرسلت؛ قال له: «قل آمنت بنبيك الذي أرسلت» -أخرجه في الصحيح -: ((فإن قوله: ورسولك الذي أرسلت؛ تكثير للرسالة وهو معنى واحد، فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قولك: ونبيك الذي أرسلت. وعلى هذا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا..)) انتهى.

فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز أخد هذا الاستدلال تقليدًا عمن سبقه، فهو يستدل بما لا خلاف فيه وبما هو خارج عن موضع الاحتجاج والبحث.. فإننا وإياه وجميع المسلمين متفقون على أن محمدًا هو نبي ورسول لا خلاف فيه.

أما حديث البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال له: «إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت.. فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول». رواه البخاري ومسلم.

ولما قال: رسولك الذي أرسلت. قال له: «قل: ونبيك الذي أرسلت» فأرشده النبي ﷺ إلى أن يقول: «ونبيك الذي أرسلت»؛ فلأن قوله: ورسولك الذي أرسلت؛ تكرار كالحشو الذي لا فائدة فيه.. وأمر آخر وهو مراعاة الأدب مع الرسول في الدعاء الذي شرعه، فهو أفضل من كونه يتصرف بتغييره من زيادة فيه أو نقص عنه. والاستدلال بهذا يعد خارجًا عن موضع النقد، إذ النبي رسول بلا خلاف.. ونحن وجميع المسلمين نقول: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً، وليست هذه من خصائصه، وإنما يشاركه فيها جميع الأنبياء.

المدرك الرابع: النبوة جزء من الرسالة وليست الرسالة جزء من النبوة. وضعف هذا القول

قال الشيخ عبد العزيز، فيما نقله عن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله قال بعد كلام سبق له: ((فالنبوة داخلة في الرسالة والرسالة أعم من جهة نفسها وأخفى من جهة أهلها، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة)).

ثم نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قائلاً: ((والنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما آتاه الله، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله فهو رسول. وأما إذا كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة ربه فهو نبي وليس برسول. قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ [الحج: 52]).

فالجواب: أن نقول: إننا متى كنا على الحق ولدينا الدلائل العقلية والنقلية من الكتاب والسنة لصحة ما نقول؛ فإننا لن نتخلى عنه لقول أحد كائنًا من كان، إذ الحق فوق قول كل أحد.. وقد اتفق العلماء على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، كما اتفقوا أيضًا على أنه لا يترك حق لانفراد قائله، كما لا يقبل باطل لكثرة ناقله، وقد سمى الله نبيه إبراهيم أمة وحده؛ لأن من كان على الحق فهو الأمة الذي يجب أن يقتدى به ولو كان وحده. ويظهـر أن شيخ الإسلام رحمه الله قد اضطرب قوله في هذا، فمرة قال: إن كان هذا النبي أرسل إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة الله فهو رسول، وإن كان يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل إلى أحد يبلغه عن الله رسالة ربه فهو نبي وليس برسول.

فقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بهذا، ثم استدلاله بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ [الحج: 52]. فإن هذه الآية تثبت إرسال النبي كما تثبت إرسال الرسول، فإن قوله:، أي وما أرسلنا من نبي. وهذا واضح جلي، فإن هذه الآية تنص على أن الله يرسل الأنبياء كما يرسل الرسل وهي تحقق ما قلنا، نظيره قوله: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ [الأعراف: 94].

أخبر سبحانه أنه يرسل الأنبياء إلى أهل القرى، كما قال تعالى: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ [البقرة: 213].

فوصف الله النبيين بصفة المرسلين لكون الأنبياء هم الرسل والرسل هم الأنبياء، نظيره قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ [الحديد: 25].. فوصف الرسل بما وصف به الأنبياء من الإنذار والتبشير، وأنزل الكتاب عليهم بالحق ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه. فهم الوسطاء بين الله وبين خلقه في دعوة الناس إلى ما ينفعهم، وتحذيرهم عما يضرهم ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ [النساء: 165]. أي خشية أن يقولوا: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩ [المائدة: 19].

ولن يخفى أن كل نبي أُوحي إليه بشرع؛ فقد كلف بتبليغه وأرسل إلى الناس من أهل بلده ومن حوله ثم يدعوهم إلى دين الله، فهذا هو ثمرة النبوة التي من لوازمها الرسالة.

وإن هذا الكلام الذي ساقه شيخ الإسلام ليس مستندًا إلى دليل صحيح صريح من الكتاب والسنة يثبت لنا وجود أنبياء تنزل عليهم الملائكة بالوحي، وبشرع من الفرائض والحلال والحرام والأحكام ولم يؤمروا بتبليغه.

ويترجح بأن شيخ الإسلام متأثر بحديث أبي ذر الموضوع الذي فرّق بين الرسل والأنبياء، فميز الرسل بعددهم وميز الأنبياء بعددهم، كما تأثر به غيره حتى صار عقيدة وطريقة، وهو حديث موضوع -أي مكذوب على الرسول- وقد قال علماء الأصول: إن أوضح علامات الوضع كونه يخالف نص القرآن، والقرآن يثبت أن ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٧٨ [المؤمن: 78].

ثم يقال: إن الله سبحانه قال: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ، ثم ختمها بقوله: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ [النساء: 163-165]. فالقرآن يثبت أن جميع الأنبياء بعد نوح كلهم قد أوحى الله إليهم وأُرسلوا إلى الناس مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، وهذه الآيات لم تبقِ مجالاً للشك في الموضوع.
وإذا البينات لم تغن شيئًا
فالتماس الهدى بهن عناء
فكل الأنبياء بعد نوح رسل مبشرون ومنذرون بدون استثناء أحد منهم، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا ٦٤ [مريم: 64].

يوضحه أن الله سبحانه لا يحابي بوحيه نبيًّا دون نبي، بحيث يوحي إلى أحدهم ويكلفه القيام بالدعوة والتبليغ والإنذار والتحذير والصبر على أذى قومه وعلى ما أصابه في ذات الله، فكان بعضهم يُقتل وبعضهم يُضرب وبعضهم يُسجن وبعضهم يُرجم بالحجارة ويُخرج من بلده ويصابون بفنون من البأساء والضراء، ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤ [البقرة: 214]. لأن الأنبياء هم أشد الناس بلاء.

والصنف الثاني من الأنبياء يوحى إليه بشرع تنزل به عليه الملائكة من الله من الأمر والنهي والحلال والحرام، ثم لا يكلفون بدعوة ولا بأمر ولا نهي ولا تبشير ولا تحذير ولا بشيء من إبلاغ هذا الشرع النازل عليهم!! فيكون هذا الشرع المشتمل على الأحكام وأمور الحلال والحرام بمثابة العلم المكتوم، الذي لا يطلع عليه ولا ينتفع به سوى صاحبه لعدم تبليغه والدعوة إليه!! فهذا يعد من القياس البديع ولن يوجد له نظير في شرع الله لكونه يخالف ما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ [آل عمران: 187]. ويقول: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكۡمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ [آل عمران: 81].

والأنبياء هم رؤوس من أوتوا الكتاب وأخذ عليهم العهد والميثاق في بيان الله من الكتاب، وقد قال الله لنبيه: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ [المائدة: 67].

فالعالم الذي يبلغ ما أنزل الله من العلم والهدى هو أفضل وأنفع من هذا النبي الذي أوحي إليه بشرع من الأمر والنهي والحلال والحرام، ثم يكتمه ولا يبلغه، ويجلس في بيته تاركًا الناس يموج بعضهم في بعض بفنون الشرك والضلال!!

ثم إننا متى بحثنا عن أصل هذه القاعدة التي صارت طريقة وعقيدة للناس بحيث يتلقفها الصغار عن الكبار ويتعلمها العامة عن العلماء وهي قولهم: الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.. والنبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. فهذه القاعدة حيث لم نجد لها أصلاً في القرآن يثبتها، ولم نجد لها أصلاً عن رسول الله يحققها، ولم يحفظ القول بها عن أحد من الصحابة، علمنا أنها محدثة ليس لها أصل تستند إليه ولا نظير تقاس عليه.

وهؤلاء الذين استقصوا عن مبدأ نشأتها عزوا بداية القول بها إلى الإمام النووي المتوفى عام 676هـ من كتابه: الفتح المبين بشرح الأربعين، حيث قال: الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، قال: والنبي هو من أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه، ولذلك كثرت الرسل إذ هم ثلاثمائة وثلاثة عشر.. انتهى.

ويظهر من كلام الإمام النووي رحمه الله أنه متأثر بحديث أبي ذر في التفريق بين الأنبياء والرسل، كما حقق عدد الرسل وأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ولا يوجد حصرهم في هذا العدد إلا في حديث أبي ذر الضعيف. وقد غفل رحمه الله عن مصادمته للقرآن الذي هو أوضح الدلائل على وضعه وهو قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ [المؤمن: 78]. ومن عادة العلماء أن ينقل بعضهم عن بعض القول بصحته وضعفه، حتى يشتهر وينتشر، ومثله يقع كثيرًا في كتب الفقهاء.

وكذا قوله: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥ [النساء: 163-165].

ومتى تبين لنا أن هذا التفريق بين الأنبياء ليس له أصل لا من القرآن ولا من السنة، وإنما نشأ القول به من الإمام النووي أو من مخلوق مثله.. أفيجوز أن نترك نصوص القرآن لقوله.. والله يقول: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213]. ويقول: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ [الأعراف: 94]. وكل يؤخذ من قوله ويترك، وما من الناس إلا راد ومردود عليه سوى رسول اللهﷺ.

وقد قيل:
وما كل قول بالقبول مقابل
ولا كل قول واجب الرد والطرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
فذلك قول جَلَّ يا ذا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها
تدور على حسب الأدلة في النقد
والحاصل أنه متى لم يوجد في القرآن ولا في السنة تحقيق القول بوجود هؤلاء الأنبياء الذين أُوحي إليهم بشرع ولم يؤمروا بتبليغه ولا صفتهم، فإنه يدل على عدم وجودهم، وإنما يوجدون في الأذهان دون العيان!!.

ونقول أيضا: إن الله سبحانه قال: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ [البقرة: 136].

ومثله قوله: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤ [آل عمران: 84].

ومثله قوله: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177].

وإذا لم يكن الأنبياء هم الرسل المذكورين في هذه الآيات، فأين الأنبياء الذين أوجب الله الإيمان بهم؟! ثم يقال: هؤلاء الأنبياء الذين أوجب الله الإيمان بهم ونهى عن التفريق بينهم، هل هم أنبياء وليسوا برسل، أم هم أنبياء ورسل؟ ومثله قوله سبحانه: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ [البقرة: 285].

والقول الحق في هذا المقام أن مخرج الأنبياء والرسل في كتاب الله واحد، وأنه إذا أفرد ذكر الأنبياء دخلت فيه الرسل أو أفرد ذكر الرسل دخلت فيه الأنبياء، أشبه ما قلنا بأنه متى أفرد الإسلام دخل فيه الإيمان أو أفرد الإيمان دخل فيه الإسلام على حد سواء، ومثله أن الله سبحانه سمى عباده المؤمنين باسم المسلمين وباسم المؤمنين، وكما سماهم رسول الله بالمسلمين المؤمنين عباد الله، وكما سمى الله كتابه المبين بالقرآن وبالفرقان في قوله: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ [الفرقان: 1]. والمسمى واحد.

ونحن لا نصدق بوجود نبي أو أنبياء قد أُوحي إليهم بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام، ثم يقال لهم: اجلسوا في بيوتكم ولا تكلفوا أنفسكم شيئًا من الدعوة والتبليغ والإنذار والتحذير!!! وكأن فكرة اعتقادها نشأت عن حديث أبي ذر فرسخت واستقرت عقيدته في نفوس الناس، وهو من سوء تأثير الأحاديث الموضوعة في الأمة، وإنا لنرجو أن يزول هذا الاعتقاد الخاطئ بضده الحق.. فإن الحق مضمون له البقاء ﴿أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ ١٧ [الرعد: 17].

المدرك الخامس: الاعتماد على حديث أبي ذر في عدد الأنبياء و الرسل. والحديث ضعيف موضوع

قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد فيما نقله عن الشيخ تقي الدين رحمه الله في كتاب الجواب الصحيح ما نصه: ((وقد روي في حديث أبي ذر، عن النبي ﷺ أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وبعض الناس يصحح هذا الحديث وبعضهم يضعفه..)) ثم نقل عن ابن القيم رحمه الله أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.

فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز يحاول رفع هذا الحديث الموضوع إلى درجة الصحة لكونه يقوي حجته، ومن له برفع أنف جدعته المخالب..

وإن كان شيخ الإسلام ذكر هذا الحديث في الجواب الصحيح، فإن ما ذكره بصفة التمريض الدالة على التضعيف مع العلم أنه محك التمحيص للتصحيح والتضعيف، ونستبعد جدًّا من شيخ الإسلام ابن تيمية تصحيحه لهذا الحديث الذي يشهد القرآن بوضعه وبطلانه، وقد ألحقه ابن الجوزي بالموضوعات، وكل عالم نِحرير[111] متى درس هذا الحديث ترجح لديه عدم نسبته إلى الرسول، لكونه لا يشبه كلامه. ونحن نسوقه بتمامه للإحالة عليه ولحقيقة النظر لمن يحب الوقوف عليه.

قال ابن كثير: وقد اختُلف في عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه في تفسيره عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير». قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله نبي مرسل؟ قال: «نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه، ثم سوّاه قبيلا» ثم قال: «يا أبا ذر أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ -وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم- وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيّك. يا أبا ذر وأول نبي من بني إسرائيل: موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيّك» قال: وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج ابن الجوزي؛ فذكر هذا الحديث في الموضوعات، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ابن كثير، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، من أجل هذا الحديث والله أعلم.. انتهى.

وأقول: كيف لا نتكلم في هذا الحديث بما يقتضيه من التضعيف نصيحة لله ولعباده المؤمنين؟ وحسبك أنه يصادم القرآن مما يدل على وضعه وعدم صحته؛ لمخالفته صريح القرآن، فقد قال سبحانه: ﴿وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ... [النساء:164]. وفي قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَ [المؤمن: 78].

وهاتان الآيتان تنصّان على أن الله سبحانه لم يقص على نبيه أسماء الأنبياء كلهم، بل منهم من قص عليه ومنهم من لم يقصص عليه، فيعتبر الإحصاء المذكور في حديث أبي ذر كذب على الله وعلى رسوله.

وأجمع آيات تنص على عدد الرسل وأعيانهم ببيان أسمائهم هي قوله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥ [النساء: 163-165].

فهؤلاء كلهم أنبياء ورسل بدأهم بذكر الأنبياء وختمهم بذكر الرسل، ومثلها آية الأنعام وهي قوله سبحانه: ﴿وَتِلۡكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيۡنَٰهَآ إِبۡرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٞ ٨٣ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَٰرُونَۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٨٤ وَزَكَرِيَّا وَيَحۡيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلۡيَاسَۖ كُلّٞ مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٨٥ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطٗاۚ وَكُلّٗا فَضَّلۡنَا عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨٦ وَمِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡ وَإِخۡوَٰنِهِمۡۖ وَٱجۡتَبَيۡنَٰهُمۡ وَهَدَيۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٨٧ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَلَوۡ أَشۡرَكُواْ لَحَبِطَ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٨٨ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَۚ فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩ [الأنعام: 83-89].

[111] نحرير: حاذق ماهر.

المدرك السادس: الإسلام و الإيمان شيئان متباينان. وضعف هذا الرأي

قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد رحمه الله: ((أما ما ذكره الشيخ في رسالته من أن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد.. فهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة.. فإن الإسلام والإيمان شيئان متباينان كما دل على ذلك الكتاب والسنة.

قال الله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ [الحجرات: 14].. فمعنى هذه الآية دليل على أن الإيمان غير الإسلام وأنه ليس كل مؤمن مسلمًا..)) انتهى.

فجوابه: أن الشيخ عبد العزيز يستبيح الكذب على صاحب الرسالة؛ لأنني لم أقل: إن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد. بل قلت: إن الإيمان تصديق القلب ولوازمه العمل وإلا اعتبر كاذبًا. وقلت: إن المسلمين هم المؤمنون، والمؤمنون هم المسلمون، فمخرجهما في كتاب الله واحد. وإن هذه الآية التي استدل بها نزلت في أعراب الجزيرة، لما غشيهم جنود الصحابة وخافوا من القتل أقبلوا وهم يقولون: آمنا. قبل أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وقبل أن يعرفوا أحكام الإسلام، فأنزل الله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، فقال:

(باب)

إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقول الله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وإذا كان على الحقيقة فهو على حد قوله جل ذكره: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ [آل عمران: 19]. فهم في تلك الحالة مستسلمون لحكم الإسلام وحكومته خوفًا من القتل قبل أن يعرفوا الإسلام ولا الإيمان.. لكن هؤلاء الأعراب بعد ما دخلوا في الإسلام وعرفوا الإيمان زال عنهم هذا الوصف وصاروا مسلمين مؤمنين بناء على الظاهر من أعمالهم، ودخلوا في عموم قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ [الحجرات: 10]. وفي قوله ﷺ: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره»[112].. فلا يجوز أن يقال: فلان الأعرابي مسلم وليس بمؤمن، لكون الإيمان مجرد التصديق ومن لوازمه العمل وإلا صار كذبًا.

فإن مجرد التصديق بدون عمل هو سببه كفر إبليس حين امتنع عن السجود لآدم، حيث أمره الله به فاستكبر عنه، ولأجله سمي إبليس لكونه أبلس من رحمة الله وإلا فإنه يصدق بوجود الرب والملائكة والجنة والنار، كما أخبر الله عنه في كتابه: ﴿وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ [إبراهيم: 22]. ومثله ما حكى الله عن اليهود أنهم يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم.. فمجرد التصديق الخالي عن العمل لا يجدي على صاحبه شيئًا ولا يسمى إيمانًا.

والنبي ﷺ إنما كان يطالب الناس بإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ولا يسأل عما في قلوبهم من إيمان أو نفاق.. ونحن إنما نتكلم على أعمال الناس الظاهرة حسب القاعدة، والله يتولى الحكم في السرائر..

وفي البخاري أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعد موت رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إننا نعرفكم إذ ينزل الوحي فينبئنا الله من أخباركم، وإنما نعرفكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أحببناه وقرّبناه وسريرته إلى الله.. ومن أظهر لنا شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه ولم نأمنه، وسريرته إلى الله عز وجل.

إنه ليس من الممكن أن يسرع دخول الإيمان إلى قلوب عرب الجزيرة وهم حديثو عهد بجاهلية ويعبدون الأصنام وسلاحهم بأيديهم يحاربون به الرسول والمؤمنين.. أو إلى أهل مكة -حال استيلاء الصحابة عليهم- وهم يعبدون الأصنام ويكذبون بوجود الرب وبالرسول وبالقرآن ويكذبون بالبعث بعد الموت ويكذبون بالجنة والنار، ويقولون ما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ [الجاثية: 24].

فدخول الإيمان إلى قلوب هؤلاء يحتاج إلى وقت يزاولون فيه بالتعليم بأحكام الإسلام والعمل بشرائعه، ثم يدخل الإيمان تدريجيًّا في قلوبهم. وقد يموت بعضهم على كفره، ولكن القاعدة الأصولية أن كل بلد يفتحها المسلمون ويغلب عليها أحكام الإسلام فإنها بلد إسلام، ومتى أظهر أهلها الطاعة والخضوع وجب الكف عنهم، وفي بعض الغزوات لما شهر بعض الصحابة سيفه يريد قتل رجل في صف المشركين، فقال: لا إله إلا الله. فقتله، ولما أُخبر رسول الله بذلك أنكر عليه قتله.. فقال: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من القتل. فقال رسول الله ﷺ: «أشققت عن قلبه»[113]، «فإنني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم»[114]. ومثله ما جرى لخالد بن الوليد في قتله بني جذيمة، حين أقبلوا عليه وهم يقولون: صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فقتلهم، فأنكر رسول الله عليه قتلهم.. وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»[115].

وأول ما يزاول عليه المغلوبون الحديث عهدهم بالشرك هو مزاولتهم على أعمال الإسلام من الوضوء والصلاة والزكاة والصيام، فمتى عرفوا أن لهم ربًّا يصلون ويصومون له، فهذا هو مبدأ الإيمان.. والله سبحانه لم يخاطب عباده بندائهم بالإيمان إلا بعد ما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم.. فناداهم الله سبحانه باسم الإيمان بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ [البقرة: 183].

وهذه الآية إنما نزلت في أول السنة الثانية من الهجرة، ولا أدري هل نزل قبلها من جنسها شيء أم هي أول ما نزل؟ لهذا لا توجد هذه الصيغة -أي النداء بقوله: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ [المائدة: 3][116]. وكان قبل ذلك يناديهم بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَٰلِقٍ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ ٣ في السور المكيات، كما توجد في السور المدنيات أيضًا ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ[117].

لهذا أنزل الله على رسوله وهو واقف بعرفة في السنة العاشرة من الهجرة قوله سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ [المائدة: 3]. وإذا أفرد الإسلام دخل فيه الإيمان لكونه من لوازمه وكذا عكسه.

كما أن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وعبادة غير الله، ولا يستغني أحدهما عن الآخر أبدًا، فلا يصح إيمان بدون إسلام ولا إسلام بدون إيمان.

والنبي ﷺ قد فصّل ذلك بأحسن تبيان وبما يزيل الإشكال في هذا المقام. فروى الإمام أحمد من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب». ومعنى كون الإسلام علانية: أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المصلين ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.

وهذا معنى ما روى الحاكم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق» من ذلك أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتأمر بالمعروف وتنهـى عن المنكر، وتسلم على من لقيت من المسلمين، وتسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم.

أما من يتسمى بالإسلام أو بالإيمان وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة ولا يؤدي الزكاة الواجبة ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه لا حقيقة له. ما هو إلا إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

يقول الله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9].

وقال: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ [المائدة: 41].

فاعملوا بإسلامكم تعرَفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.. وقد نصب الله سبحانه للإسـلام علامات ومراسيم يعرف بها إسلام الشخص. ففي الصحيحين من حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج».

وكما في حديث جبريل، حين قال: يا رسول الله أخبرني عن الإسلام، قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» قال: صدقت.. الحديث.

ولما سأل معاذ النبي ﷺ عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار، فأرشده إلى العمل بهذه الأركان.. وهذه الأركان هي بمثابة التصحيح والتمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والطغيان.

فالمتصف بالعمل بهذه الأركان هو المسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.

كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون اختبار لهم بأعمالهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم.. أنا مؤمن.. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان ينطق به البر والفاجر حتى عبدة الأوثان.

يقول الله سبحانه: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2]. أي: ولا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع من الأمر والنهي والصلاة والصيام والحلال والحرام، ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ [العنكبوت: 3]. أي: في دعوى إيمانهم، فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم وسائر ما أوجب الله عليهم، ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ أي الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه.

﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٢٥ [الأنعام: 125]. فيفوح بذكره ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره. ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ فَوَيۡلٞ لِّلۡقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ٢٢ [الزمر: 22].
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في العبادة الأعضاء
﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٢٥ [الأنعام: 125]. بالإسلام، ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٢٥ [الأنعام: 125]. حرجًا من أمره ونهيه وصلاته وزكاته وصيامه وسائر أحكامه، يحب التحلل منه وعدم التقيد به حتى يعيش في الدنيا عيشة البهائم ليس عليه أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام.. وقد روى الطبراني من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل».

وكان من دعاء النبي ﷺ على الجنازة: «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان»[118]، لكون الإنسان في حال حياته يعمل بشرائع الإسلام، وبعد موته ينقطع ذلك العمل ولم يبق معه سوى الإيمان في قلبه.

وإن كل ما ذكر في الإسلام من الآيات والأحاديث، فإنه يدخل فيه الإيمان، غير أن عناية القرآن والسنة بالإسلام أشد من الإيمان، لكون الإسلام مبني على الأعمال الظاهرة، أما الإيمان فمبني على التصديق بالقلب وحساب صاحبه على ربه.

فقول الشيخ عبد العزيز: ((إن في الآية[119] دليلاً على أن الإيمان غير الإسلام، وأنه ليس كل مسلم مؤمنًا..)) فهذا غير صحيح، فإنه لا يكون الرجل مسلمًا صحيح الإسلام حتى يكون مؤمنًا لتلازم ما بينهما وإلا اعتبر كافرًا.. فلو رأينا رجلاً يحافظ على أعمال الإسلام كلها، بحيث يصلي الصلوات الخمس المفروضة ويؤدي الزكاة الواجبة ويصوم رمضان ويحج البيت الحرام، لكنه لا يصدق بوجود الرب ولا الملائكة ولا بالبعث بعد الموت ولا بالجنة والنار، فإن كان يجهر بعقيدته وعدم تصديقه فهو الكافر المحض، وإن كان يخفيها في نفسه فهو المنافق تجري عليه أحكام الإسلام ويسمى مسلمًا تبعًا للمسلمين المؤمنين الصحيح إيمانهم، لكون الناس لم يكلفوا عن التنقيب عما في القلوب، كما قال النبي ﷺ: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم»[120].. وهذا الصنف من المنافقين لا يزالون يوجدون في كل زمان ومكان.

لهذا كان يعامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين من الصحابة من التناكح والتوارث بناء على ما ظهر من أعمالهم، فليس عندنا مسلم ليس بمؤمن أبدًا، بل كل مسلم مؤمن بناء على الظاهر من عمله.. والنبي ﷺ قال: «إنما الناس رجلان: مؤمن تقي، أو فاجر شقي»[121]. ولا أدري هل يلتحق هذا المسلم الذي ليس بمؤمن بقسم المؤمن التقي أو الفاجر الشقي.. وقد أتى النبيﷺ في هذه القضية بما يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع..

وهي قضية وقوع التزاحم على الماء بين المهاجرين والأنصار.. فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار.. فقال رسول الله ﷺ: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم»[122]، «فادعوا بدعوى الله الذي سمّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله»[123]. وهذه كافية في قطع النزاع وحل الخلاف لولا أن الهوى يصد عن رؤية الحق، والكبْر يمنع من اتباعه. فإن هذا التداعي بالمسلمين والمؤمنين يجمع جميع المسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها من مسلم ومنافق؛ لكون أعمال الناس تجري على الظاهر من أمرهم.

[112] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [113] أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد. [114] متفق عليه عن أبي سعيد الخدري. [115] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. [116] كسورة البقرة وآل عمران والنساء... (وكلها سور مدنية). [117] كسورة الأعراف ويونس ولقمان (وهي سور مكية)، وسورة البقرة والحج والحجرات (وهي سور مدنية) [118] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة. [119] يقصد بالآية قوله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ [الحُجرَات: 14]. [120] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [121] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من حديث أبي هريرة. [122] متفق عليه من حديث جابر. [123] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.

المدرك السابع: الاعتماد على حديث جبريل عليه السلام في التفريق بين الإسلام والإيمان اعتماد غير صحيح

استدل الشيخ عبد العزيز بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [الأحزاب: 35]. وبحديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان، وبحديث سعد بن أبي وقاص، قال: أعطى النبي ﷺ رجالاً ولم يعطِ رجلاً.. فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان وهو مؤمن؟ فقال: «أو مسلم»[124].. قال: ((فيه دليل على مغايرة الإسلام للإيمان وأنهما اسمان لمعنيين مختلفين.. )) انتهى.

فالجواب: أن الإسلام والإيمان متى تفرّقا اجتمعا، فيدخل الإسلام في الإيمان بعمل الجوارح، ويفسر الإيمان بالتصديق بالقلب، ولا يكفي التصديق بالقلب بدون عمل الجوارح ولا عمل الجوارح بدون التصديق بالقلب.

وكأن فضيلة الشيخ عبد العزيز يرى أن الإسلام بدون إيمان يوجد في شخص، بحيث يشار إليه بالبنان ويقال: هذا مسلم وليس بمؤمن، وأنه لا تلازم بينهما، وهذا خطأ مبين وعدم فقه في الدين، وفي نصوص القرآن الحكيم. فليس في الشرع مسلم ليس بمؤمن، ولكن الشيخ يريد أن لا يعتق نفسه من رق الاعتقاد الخاطئ الذي نشأ عليه في حالة الصغر.. وما أسرع ما نسي عقيدة أهل السنة من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأنه متى فُقد أحدهما فقد الآخر.. أشبه الرأس والقلب.. فإنه لا حياة للشخص بدون اجتماعهما، فلو رأينا شخصًا يعتقد الإيمان بالله واليوم الآخر ويصدق بوجود الملائكة والجنة والنار، ولكنه يقول: لا أصلي ولا أصوم ولا أؤدي الزكاة ولا أصدق بوجوب ذلك عليَّ.. فإن هذا كافر قطعًا وليس بمسلم ولا بمؤمن لمناقضته للإيمان.

كما أننا لو رأينا رجلاً يحافظ على أحكام الإسلام الظاهرة، ولكنه لا يصدق بوجود الرب ولا الملائكة ولا البعث بعد الموت ولا بالجنة والنار، فإن هذا ليس بمسلم ولا مؤمن. وكيف نسي فضيلة الشيخ قول العلماء في حكم المرتد، وأن من جحد وجود الرب، أو جحد صفة من صفاته، أو جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئًا منها، فإنه يكفر إلا أن يكون حديث عهد بجاهلية فيعرف وجوب ذلك، فإن أصرّ حُكم بكفره.

ومتى صح الإيمان صلحت أعمال الإسلام، ومتى فسد الإيمان فسدت الأعمال، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[125].

وقد فسر النبي ﷺ الإيمان بعمل الإسلام، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس، أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي ﷺ قال: «مَنِ القوم أو من الوفد؟» قالوا: ربيعة، فقال: «مرحبًا بالقوم أو الوفد غير خزايا». فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر.. فأْمُرْنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة.. فأمرهم بأربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس»، ففسر النبي ﷺ الإيمان بأعمال الإسلام لارتباط ما بينهما، كما فسره أيضًا بقوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[126] ومن المعلوم أن قول: لا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق والحياء كلها من أعمال الإسلام وسماها رسول الله بالإيمان.

إن كل من يتأمل القرآن فإنه يجده يصف أهل الإسلام بأنهم مسلمون، كما يصفهم بأنهم مؤمنون، يقول الله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ [البقرة: 136].

ومثله قوله: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤ [آل عمران: 84].

وكذلك قوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤ [آل عمران: 64].

ومثله قوله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣ [الأنعام: 162-163].

وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ [آل عمران: 102].

وكذا قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٨٠ وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بِ‍َٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ٨١ [النمل: 80-81].

ففي آيات كثيرة يصفهم بأنهم مسلمون ولم يذكر معها أنهم مؤمنون، للاكتفاء بذكر الإسلام عن الإيمان ولدخوله في مسماه.. فقوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ١٩ [آل عمران: 19]. أي الإيمان؛ لأنه من لوازمه فلا إسلام بدون إيمان ولا إيمان بدون إسلام، ولن يوجد مسلم صحيح الإسلام بدون إيمان، كما أنه لا يوجد شخص حي بجسم دون رأس.

وأنا أضرب لك مثلاً:

وهو أن الإسلام بمثابة رأس الإنسان؛ لحديث «رأس الأمر الإسلام»[127]، والإيمان بمثابة قلب الشخص فلا يكون الإنسان حيًّا سويًّا برأس دون قلب ولا بقلب دون رأس.. والنبي ﷺ حين فسر الإسلام بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج؛ فسر الإيمان بأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره، كما في حديث جبريل.

والنبي ﷺ بهذا التفسير والتفصيل بمثابة الطبيب الحاذق يشخّص حواس الرأس بمميزاته وكونه يشتمل على الدماغ وعلى السمع والبصر وبقية مخصصاته، ثم يشخّص القلب بأوصافه المختصة به، مع العلم أن كل واحد منهما ملازم للآخر صلاحًا وفسادًا وحياة وموتًا، فهما جزء واحد لا يتجزأ.

فقول الشيخ عبد العزيز: ((إن الإسلام والإيمان شيئان متباينان ومختلفان، وأنه ليس كل مسلم مؤمنًا.. )) فيا ليته وصف لنا هذا المسلم الذي ليس بمؤمن وبيَّن لنا صفات أعماله واعتقاده، وقد استدل لذلك بقول سعد في الرجل الذي لم يعطه رسول الله، فقال: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فإني أراه مؤمنًا. فقال: «أو مسلمًا..» قال: ((رواه الإمام أحمد)). ونحن نسوق هذا الحديث بكماله، فإن آخره يفسر أوله.

روى البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان في ترجمة باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل.. قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أعطى رهطًا -وسعد جالس- وترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أو مسلمًا»، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان.. فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أو مسلمًا»، ثم قال: «يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه الله في النار على وجهه».

إن رسول الله لا يأنس بالمجازفة بدعوى الإيمان لشخص معين لكون الإيمان اعتقاد قلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى، لحديث «الإسلام علانية والإيمان في القلب»[128]، ومتى ادعاه شخص عند رسول الله عمل معه التحقيق في صحته، كما في حديث حارثة بن النعمان أنه دخل على النبيﷺ فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًا. فقال: «انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة». فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الشهوات، فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عبد نوّر الله قلبه فالزم»[129]. قال ابن رجب: روي هذا الحديث مسندًا وروي مرسلاً والمرسل أصح.

لكن الخطاب باسم المؤمنين على الإجمال كما يقول الخطيب: يا معشر المؤمنين اتقوا الله فهذا جائز ومشروع لقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ [التوبة: 71]. وقوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ [الحجرات: 10]. لكون الخطاب بهذه الصفة يدخل فيه جميع المسلمين والمؤمنين.

إن الناس زمن النبي ﷺ حديثو عهد بشرك وجاهلية، وأكثر العرب لم يسلموا إلا بعد فتح مكة عام ثمانية من الهجرة. ولم يدخل الإيمان في قلوبهم حال استيلاء الرسول والصحابة عليهم، ولم يوقف رسول الله رجلاً منهم فيسأله: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكم أركان الإيمان؟ بل تركهم على حالهم، وأخذ الإسلام يدخل في قلوبهم تدريجيًّا شيئًا بعد شيء، وبعد أن عرفوا الإيمان بمقتضى المزاولة والمجالسة والتعلم صاروا مسلمين مؤمنين تبعًا للفاتحين الغالبين.

وبقي فيهم منافقون يظهرون الإسلام والإيمان ويبطنون الكفر والنفاق، ﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ١٤ [البقرة:14]. وقد أنزل الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة:8-9].

فالرسول يعرف مِنْ هؤلاء ما لا يعرفه سعد؛ لأن الله سبحانه قد أخبره بأسماء بعضهم، كما أنه أخبر حذيفة بن اليمان بذلك وستر عليهم نفاقهم.. فالرسول كره من سعد أن يجزم بإيمان هذا الشخص والإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. كما نهى عن المجازفة في المدح والثناء، فقال: «إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: فلان أحسبه كذا والله حسيبه. ولا يزكي على الله أحدًا»[130].

ولما كان رسول الله يعرف من هؤلاء ما لا يعرفه سعد؛ قال له: «أو مسلمًا» أي مستسلمًا بالطاعة والإذعان، كما فسرها البخاري بالترجمة وهي باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، ثم ساق هذا الحديث.

ولهذا أسرع أكثر هؤلاء العرب إلى الردة عن الإسلام بعد وفاة رسول الله ﷺ ومنعوا زكاة أموالهم وقالوا: إنه لو كان نبيًا لم يمت، فقاتلهم الصحابة حتى ردوهم إلى الدين؛ لأنه من المعلوم تفاوت الناس في الثبات على الدين وعدمه وزيادة الإيمان ونقصانه، وإن من الناس من إيمانه كالجبل في الثبات والقوة والاستقامة فلا تزعزعه الفتن، ومنهم من إيمانه كمثقال ذرة في خفته وقلّته ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧ [إبراهيم: 27].

وكما أخبر القرآن أن من ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ [البقرة: 8]. وهذه الآية نزلت في المنافقين، وكما أخبر النبي ﷺ فيما رواه مسلم عن حذيفة «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة»، ثم حدثنا عن رفع الأمانة «وأن الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينًا، ما أظرفه وما أعقله. وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان».

وقد ترك النبي ﷺ المنافقين يتسمون بالإسلام، وينسبون أنفسهم إلى الصحابة الكرام فيناكحونهم ويوارثونهم، ولما استؤذن رسول الله في قتل رجل منهم قال: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»[131]. لما كانوا ينتسبون إلى صحبته في الظاهر.

وإنما سمي عبد الله بن أُبي ابن سلول بأنه رأس المنافقين من أجل أنه كان يظهر نفاقه ولم يملك كتمانه، وقد شهد عليه زيد بن أرقم بأنه قال: لا تنفقوا على محمد وأصحابه حتى يخرجوا من بلدنا، فما مَثلنا ومَثَلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، فوالله لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. يعني بالأعز: نفسه، وبالأذل: الرسول وأصحابه، فأنزل الله تعالى تصديق شهادة زيد، بقوله: ﴿هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ ٧ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨ [المنافقون: 7-8].

وقد جرى العمل بتحكيم هذه القاعدة وأن جميع المنتسبين للإسلام الذين يصلون الصلوات الخمس ويؤدون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام أنهم مسلمون مؤمنون على الإجمال بناءً على الظاهر من أعمالهم، ويدخلون في عموم قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ [الحجرات: 10]. وفي عموم قوله ﷺ: «المسلم أخو المسلم»[132]، مع إثبات المغايرة بينهم في الإيمان والإسلام، كما قال سبحانه: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ [التوبة: 97].

وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ [التوبة: 98].. وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ [التوبة: 99].

فالله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص ﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩ [الكهف: 49].

وكل ما ذكره الله سبحانه عن الأعراب فإنه ينطبق بوصفه على الحضر. فمن الحضر من هو أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، ولا يزال النفاق موجودًا في الحضر والأعراب في كل زمان ومكان.

كما قال سبحانه: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ [التوبة: 101].

ومنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الزكاة والصدقة والصلة مغرمًا -أي غرمًا ثقيلاً على نفسه- قد بخل بما آتاه الله من فضله، وهي بالحقيقة مغنم لهم لو كانوا يعلمون، كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
كما أن منهم من يتخذ ما ينفق قربات عند الله يرجو ثوابها وأجرها، فهو يحتسبها مغنمًا وليس بمغرم، فتراه يعطي زكاته عن سخاء نفس ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.

وبما أن الشيخ عبد العزيز يدور كلامه على تحقيق وجود مسلمين غير مؤمنين، فإننا نطالبه بتعيين عشرة أشخاص أو خمسة أشخاص من الأحياء الموجودين في الدنيا، بحيث يسميهم بأسمائهم ويقول: هؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين. حتى يكون لقوله موقع من القبول والصحة في الجدل.

[124] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [125] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [126] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة. [127] أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. [128] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس. [129] أخرجه البزار من حديث أنس بن مالك. [130] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [131] متفق عليه من حديث جابر. [132] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.

المدرك الثامن: التدليل على التفريق بين الإيمان والإسلام بالاعتماد على آية (32) من سورة فاطر. وضعف هذا الاستدلال

قال الشيخ عبد العزيز: ((قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [فاطر: 32]. قال: فالظالم لنفسه: هو الذي أخل ببعض الواجبات أو انتهك بعض المحرمات، والمقتصد: هو الذي قام بفعل الواجبات وترك المحرمات، والسابق: هو الذي قام بفعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات واستفرغ وسعه في مرضاة الله.. )) انتهى.

فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز أخذ هذا الإيراد تقليدًا عمن سبقه وهو خارج عن موضع النزاع، وكأنه أراد من الظالم لنفسه أنه التارك لبعض الواجبات والمنتهك بعض المحرمات، ولعله يريد تطبيق المسلم على صفته، والصحيح أن هؤلاء الأصناف الثلاثة كلهم من أهل الجنة، كما تدل عليه فحوى الآية والحديث. وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ لما تلا هذه الآية قال: «هؤلاء كلهم في الجنة». لكن الحديث ضعيف.. وروى الإمام أحمد عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ [فاطر: 32]. قال: «فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابًا يسيرًا، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في المحشر، ثم هم الذين تلقاهم الله برحمته ويقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥ [فاطر: 34-35]».

ثم إن فحوى الآية يدل بطريق الوضوح بأنهم كلهم في الجنة؛ لأن الله وصفهم أولاً: بأنه أورثهم الكتاب وهذه الوراثة صفة عالية. ثم وصفهم بأنه اصطفاهم، والاصطفاء افتعال من الصفوة، فكأنه جعلهم صفوة الخلق. ثم أضافهم إلى نفسه الكريمة بقوله: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢، ثم نوّه بفضلهم بقوله: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ [فاطر: 32]. ثم ختمها بقوله: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ ٣٣ [فاطر: 33].

والذي أشكل على الشيخ عبد العزيز، هو قوله: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ [فاطر: 32]. فمنهم ظالم لنفسه.. فجعل الظالم لنفسه هو التارك للواجبات والمنتهك للمحرمات وخفي عليه أنه ما من أحد من الناس إلا وهو ظالم لنفسه، وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق قال: سمعت رسول الله يقول في دعائه: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». وروي «كبيرًا» بدل كثيرًا.

وقال سبحانه: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ ١٣٥ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَجَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَنِعۡمَ أَجۡرُ ٱلۡعَٰمِلِينَ ١٣٦ [آل‌عمران: 135-136].

المدرك التاسع: الاستدلال بحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" على التفريق بين الإسلام والإيمان غير صحيح

قال الشيخ عبد العزيز: ((إن اسم الإيمان ينتفي عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..» الحديث، وأما الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته.. )) انتهى.

فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز يقول: ((إن الإيمان ينتفي عمن ترك شيئًا من واجباته)) ثم يستدل بحديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وهي بالحقيقة من ارتكاب المنهيات وليست من ترك الواجبات، والفرق عظيم بين ترك الواجبات وبين ارتكاب المنهيات. إذ إن ترك الواجبات أشد من ارتكاب المنهيات؛ لأنها أول ذنب عُصي الله به حين ترك إبليس السجود لآدم..

وقد ذكر شيخ الإسلام الفرق بين ترك الواجبات وفعل المنهيات، وأن ترك الواجبات أشد من ارتكاب المنهيات بأكثر من ثلاثين وجهًا، وأشار إليها العلامة ابن القيم في كتاب الفوائد.

ولفظ الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.. وهذا الحديث من أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت، وللعلماء فيه تفسيرات متنوعة. وحاصلها أننا لا نقول في الزاني: إنه ليس بمؤمن. إلا على طريقة الخوارج الذين يكفرون بالذنب، أو المعتزلة الذين يقولون: إنه بمنزلة بين المنزلتين.

أما أهل السنة فإنهم يعبرون عن مرتكب الكبيرة من الزنا والسرقة وشرب الخمر بأنه مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، فلا يخرجونه من الإيمان بكبيرة الزنا، كما أنهم لا يعطونه كمال الإيمان، لكون الكبيرة تنقص إيمان فاعلها، وقد يتزايد هذا النقص مع الإصرار عليه وعدم التوبة منه حتى تئول إلى ما هو أكبر منها، وهذا معنى قولهم: إن المعاصي بريد الكفر، وقد ترجم عليه البخاري.. فقال: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر وفي عقيدة السفاريني.
لا يخرج المرء من الإيمان
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جر عليه حوبا
ومن يمت ولم يتب من الخطا
فأمره مفوض لذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
ثم إن لفظ الحديث في قوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»، أي حين ارتكابه لهذه الجريمة حال كون فرجه في فرجها، فلا ينطبق عليه هذا الوصف على ما قبل الزنا ولا ما بعده، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقد يخرج الشخص من الإيمان بمقتضى علم الله وإحاطته بسره وعلانيته، لكنه يعامل معاملة المسلمين المؤمنين في سائر الأحكام، ولنعلم أن من ليس بمؤمن فإنه الكافر أو المنافق، لكنه تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر.

فالذي يعتقد إنكار وجود الرب والتكذيب بالملائكة والتكذيب بالنبيين أو بالمعجزات التي أيدهم الله بها وأثبتها القرآن، أو التكذيب بالبعث بعد الموت أو الجنة والنار ويكتم هذا الاعتقاد في نفسه ولا يظهره للناس، فهذا هو المنافق الذي منزلته في الدرك الأسفل من النار.. لكنه يعامل معاملة المسلمين المؤمنين في الدنيا، ويسمى هذا النفاق الاعتقادي وهو النفاق الأكبر.

أما النفاق العملي فهو مثل ما ورد في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّثَ كذب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا ائتُمِن خان». وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص، أن النبيﷺ قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان». وزاد مسلم: «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم».

فهذا نفاق عملي، ويسمى النفاق الأصغر؛ لأن حقيقة النفاق هو إظهار الخير وإبطان الشر، فبعضه أشد من بعض، وهذا النفاق لا يخرج عن الملة، بل صاحبه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه كسائر عصاة الموحدين..

تتمة البحث

إن بعض أهل السنة أدخلوا في العقيدة السلفية كونه يستثنى في الإيمان ولا يستثنى في الإسلام، فمتى سئل الرجل وقيل له: أنت مؤمن؟ فليقل: إن شاء الله، أو قيل له: أنت مسلم؟ فليقل: نعم. بدون استثناء. قال السفاريني في عقيدته:
ونحن في إيماننا نستثني
من غير شك فاستمع واستبن
فهذا التفريق لا صحة له، ولم نجد له في الشريعة أصلاً يعتمد إليه ولا نظيرًا يقاس عليه، فيجوز للمؤمن أن يقول: أنا مؤمن. بدون استثناء متى علم من نفسه صحة إيمانه، كما يقول: أنا مسلم. بلا فرق.. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال لحارثه بن النعمان: «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا. فقال رسول الله ﷺ «انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة». فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الشهوات فأسهرت ليلي بالقيام، وأظمأت نهاري بالصيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عبد نور الله قلبه فالزم».. قال ابن رجب: روي هذا الحديث مسندًا ومرسلاً والمرسل أصح[133].. فلم ينكر النبي ﷺ جزمه بإيمانه بدون استثناء.

ومثله ما ذكره العلامة ابن القيم في كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد[134]:

قال: ذكر أبو نعيم في كتاب: معرفة الصحابة -وكذا الحافظ أبو مسلم المديني - عن سويد بن الحارث الأزدي، قال: وفدت على رسول الله ﷺ وأنا سابع سبعة من الأزد، فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سمتنا وزيّنا.. فقال لنا: «ما أنتم؟» فقلنا: مؤمنون. فتبسم رسول الله وقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟» قلنا: خمس عشرة خصلة يا رسول الله.. خمس أمرتنا أنت بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئًا. فقال رسول الله ﷺ: «ما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها؟» قالوا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله، وأن نقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً. قال: «وما الخمس التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟» قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. فقال: «وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية؟» قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضى بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.. فقال رسول الله: «علماء حكماء كادوا من فقههم وعلمهم أن يكونوا أنبياء».

والمقصود أن النبي ﷺ أقرّهم على الجزم بالإيمان ولم ينكر عليهم، ولا أدري ما الذي أدخل في عقيدة أهل السنة الاستثناء في الإيمان دون الإسلام على أن الاستثناء شرع لمنع انعقاد الإيمان، ولا يكون إلا في الشيء المستقبل الذي قد يفعله وقد لا يفعله، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٢٣ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ [الكهف: 23-24].

والنبي ﷺ قال: «والله لأغزون قريشًا والله لأغزون قريشًا»[135] ثم قال: «إن شاء الله».. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

* * *

[133] ذكر في شرح الأربعين على حديث جبريل والمسند أخرجه البزار من حديث أنس. [134] ج2 - ص50. [135] أخرجه أبو داود من حديث عكرمة.

(7) وجوب الإيمان بكل ما أخبر به القرآن من معجزات الأنبياء عليهم السلام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة».

[تعريف المعجزة]

الآيات والمعجزات تعم كل خارق للعادات، وتسمى البراهين، وهي كاسمها معجزة لعجز الناس عن معارضتها والإتيان بمثلها، فمعجزات الأنبياء هي آياتهم وبراهينهم الدالة على صدق نبوتهم، نصبها الله علامة على صدق رسله والاستدعاء إلى الإيمان بهم وقبول دعوتهم، وأنها من صنع الله القادر على كل شيء والفعال لما يريد، ليست من صنع النبي ولا من كسبه. يقول الله: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [المؤمن: 78]. فالعصا التي بيد نبي الله موسى هي عصًا مقطوعة من الشجر كعصا أحدنا في يده، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ ١٧ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَ‍َٔارِبُ أُخۡرَىٰ ١٨[طه:17-18]. وإنما صارت آية ومعجزة حين أمره ربه أن يلقيها، ولهذا قال: ﴿قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ ١٩ فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١ [طه: 19-21]. أي عصًا معتادة كحالتها السابقة.

وإن المسلم متى آمن بالله القادر على كل شيء لم يعسر عليه التسليم والقبول لكل ما أخبر الله به من عجائب رسله ومعجزات خلقه، كخلق آدم من تراب ثم قال له: كن. فكان فصار بشرًا سويًّا، ثم خلق حواء من ضلع آدم، ثم خلق المسيح من أم بلا أب، وكذا سائر معجزات الأنبياء والأولياء كأهل الكهف الذين قص الله علينا خبرهم، إذ لا بد للرسل من المعجزات التي تعزز دينهم وتستدعي تصديق دعوتهم، فقد أتت الرسل بما تحار فيه العقول.

ولولا حكاية القرآن للمعجزات التي أيد الله بها موسى وعيسى وسليمان وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكذب الناس بهم وبمعجزاتهم وبالكتب النازلة عليهم، وأنه لا يمكن إثبات آيات الأنبياء السابقين إلا بثبوت نبوة محمد ﷺ والإيمان بالقرآن النازل عليه الذي أخبر الله فيه: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77]. وقال: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ ٣ [يوسف: 3]. وقال: ﴿لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ١١١ [يوسف: 111]. وقال: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠ [طه: 99-100].

إن من آيات الله ما يجري على حسب السنن المطردة في الخلق والتكوين، ومنها ما يجري على خلاف السنن المعروفة للبشر، مما يدل على قدرة الباري عز وجل وأن الله سبحانه خرق العادات في خلقه: ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢ [يس: 82]. فقد أتت الرسل بما تحار فيه العقول.

[الناس تجاه المعجزة قسمان: الماديون الطبيعيون والمؤمنون]

إن الناس في المعجزات وفي الأمور المغيبات على قسمين:

أحدهما: الماديون الطبيعيون، الذين ينكرون ويكذبون بكل ما لم يدركوه بحواسهم، فهم ينكرون وجود الرب، ويكذبون بالملائكة ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار، ويبادرون إلى إنكار ما سمعوه من الخوارق والمعجزات التي لم يصلوا إلى حقيقة العلم بها، وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيٓ‍ُٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١ [يونس: 39-41].

فهذا دأبهم في جميع نظرياتهم العلمية، يكفرون بآيات الله ويكفرون ويكذبون بمعجزات الأنبياء، ولا يؤمنون بشيء منها يعتبرون مرتدين عن دين الإسلام، والمرتد شر من الكافر الأصلي، وقد كثر هذا الصنف في الأمصار التي أفسد التفرنج تربية أهلها بما يسمون بالمثقفين.
عُميُ العيون عموا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
أما الصنف الثاني: فهم المؤمنون الذين يصدقون بكل ما أخبر الله به تصديقًا جازمًا ليس مشوبًا بشك ولا ريب، سواء أدركوا سر معرفة ذلك بعقولهم أو لم يدركوه. فهؤلاء هم المؤمنون حقًّا الذين آمنوا بالله تعالى وصدقوا المرسلين. وفيهم أنزل الله تعالى: ﴿الٓمٓ ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٤ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥ [البقرة: 1-5].

والمعجزة، إنما كانت آية ومعجزة لوقوعها من فعل الله ليس للنبي ولا لغيره تصرف في صنعها أو كسبها. والحكمة في ذلك: أن مجرد قول الرسول لأمته: إن الله أرسلني إليكم. بدون أن يأتي بآية تصدق ما يقول فإن ذلك مما يقتضي عدم تصديقه ولا الإيمان به، لكنه متى أتى بآية ومعجزة ليست من صنعه ولا من كسبه ولا من الشيء المعتاد لغيره ويمتنع أن يأتي من يعارضه بمثلها دل هذا على صدقه وصحة نبوته. وسميت معجزة لكون الناس يعجزون عن معارضتها والإتيان بمثلها. وآيات الأنبياء هي علامات وبراهين من الله تتضمن إعلام الله لعباده بصدق رسله وما جاؤوا به من الحق.

وقد سماه الله تعالى برهانًا في قوله: ﴿فَذَٰنِكَ بُرۡهَٰنَانِ مِن رَّبِّكَ [القصص: 32]. يعني العصا واليد. ومن المعجزات إخبار القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام بقصص الأنبياء مع أممهم، وبمعجزاتهم وخوارق العادات التي أيدهم الله بها، وتكرار القرآن لأخبارهم تارة بطريق البسط وتارة بطريق الاختصار غير المخل.

ولأن اليهود والنصارى قد بدلوا الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل وغيروها وأدخلوا فيها الشيء الكثير من الكذب على الله وعلى أنبيائه ورسله، يقول الله تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩ [البقرة: 79]. وكانوا يجيزون لعلمائهم القسيسين بأن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون ويشتهون، لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله تعالى.

[القرآن الكريم هو المرجع الوحيد لمعرفة حقيقة المعجزات]

ولما كان هذا القرآن هو المهيمن على الكتب السابقة وبمثابة المصحح المصفي لما ذكر فيها، فيحق الحق ويبطل الباطل، لهذا أعاد سبحانه وأبدى من ذكر قصص الأنبياء ومعجزاتهم ليكون هذا القرآن هو المرجع الوحيد لكل ما يذكر من قصصهم: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77]. ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩ [المائدة: 19]. ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦ [المائدة: 15-16]. لأن الله سبحانه أرسل نبيه محمدًا إلى كافة الناس عربهم وعجمهم.

يقول الله: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٨ [سبأ: 28]. وقال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 157-158]. فكل قصة نجدها تخالف القرآن يجب علينا أن نضرب بها عرض الجدار، إذ ليس لنا حاجة في كل ما يخالف القرآن لعدم الثقة بصحته وكثرة دخول الكذب فيه.

[أمثلة من معجزات الأنبياء عليهم السلام]

ثم إن الإخبار بالآيات والمعجزات والمغيبات لا يجوز معارضتها بالعقل والرأي؛ لأنها من صنع الله القادر على كل شيء وليس من صنع النبي ولا من كسبه، فالاستدلال بها والتحدي بمثلها مع عجز الناس عن معارضتها دليل واضح على صحتها وصدق من جاء بها. من ذلك معجزة القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام والذي هو الحجة البالغة العظمى على خلقه، فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة ودستور العدالة، وقانون الفضيلة الواقي عن الرذيلة، مأدبة الله في أرضه، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ﴿قُلۡ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَ‍َٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا ٢ [الجن: 1-2]. فيه خبر الأمم السابقة مع أنبيائهم وما جرى منهم وما جرى عليهم: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧ [النمل: 76-77].
فيا لها من آيات حق لو اهتدى
بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة
فليست وإن أصغت تجيب المناديا
وهذا القرآن المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، منها السور الطوال والقصار مع ما اشتمل عليه من البلاغة، أنزله الله على هذا النبي العربي الأمي الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوبات، كما قيل: كفاك بالأمي معجزة، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49]. وقد تحدى الله جميع الخلق على أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا: ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨ [الإسراء: 88]. وهذا التحدي لجميع الخلق هو أعظم معجزة لنبوة محمد ﷺ وصدق رسالته والقرآن النازل عليه. يقول الله تعالى: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ ٤٤ لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ ٤٦ [الحاقة: 44-46]. لا يقال: إن هذا القرآن فاض على نفس محمد بدون أن يتكلم الله به وبدون أن ينزل به جبريل عليه، فإن هذا صريح في التكذيب به، وهي مقالة المكذب العنيد القائل: ﴿إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ ٢٥ [المدثر: 25]. ﴿وَقَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٱكۡتَتَبَهَا فَهِيَ تُمۡلَىٰ عَلَيۡهِ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلٗا ٥ قُلۡ أَنزَلَهُ ٱلَّذِي يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦ [الفرقان: 5-6]. ﴿قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ [النحل: 102]. وللنبي ﷺ معجزات غيره، كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل، وغير ذلك. والمعجزة العظمى هي القرآن الكريم، فهو معجزة الدهور وآيات العصور.

[لم كانت المعجزات؟ ]

ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه، وقد أيد الله موسى بمعجزات عديدة من أجل أنه أُرسل إلى شعب عنيد، فرعون وهامان وقارون. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ ٢٣ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَقَٰرُونَ فَقَالُواْ سَٰحِرٞ كَذَّابٞ ٢٤ [المؤمن: 23-24]. وقال: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۢ بَيِّنَٰتٖۖ [الإسراء: 101]. ومنها اليد والعصا والحجر الذي يحمله ثم يضربه بالعصا فينفجر منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم على قدر عدد الأسباط، وكذلك انفلاق البحر حينما لحقهم فرعون وجنوده: ﴿... قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ٦١ [الشعراء: 61]. أي كالجبل الشامخ. ومثله معجـزات نبي الله سليمان حيث سخـر الله له الريح ﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ [ص: 36].، فكان يبسط البسط فيركب هو وجميع جنوده ومن معه فتقلهم الريح.

ومثله معجـزة نبي الله صالح حيث أخرج الله له ناقـة من صخرة صماء ﴿قَالَ هَٰذِهِۦ نَاقَةٞ لَّهَا شِرۡبٞ وَلَكُمۡ شِرۡبُ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ ١٥٥ [الشعراء: 155]. ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ قَدۡ جَآءَتۡكُم بَيِّنَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡۖ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٧٣ [الأعراف: 73].

ومثله نبي الله عيسى حيث يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويبين للناس ما يدخرون في بيوتهم.

وهذه المعجزات يصدق بها أهل الكتاب من اليهود والنصارى لكونها مذكورة في كتبهم ومشهورة مشهود بها فيما بينهم، ولما قيل للنبي ﷺ: إن اليهود يصومون يوم عاشوراء ويقولون: إنه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه، قال: «نحن أحق وأولى بموسى، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، خالفوا اليهود»[136] فالعلم بهذه المعجزات والبراهين البينات يوجب علمًا ضروريًّا بأن الله جعلها آية لصدق أنبيائه ورسله الذين جاءوا بها من الله، واستدلوا بها على قومهم، وذلك يستلزم أنها خارقة للعادة، وأنه لا يمكن معارضتها ولا الإتيان بمثلها لكونها غير مصنوعة ولا من كسبهم ولا معتادة لغيرهم، ولهذا كانوا يعارضون معجزة كل نبي بدعوى أنه ساحر، كما قال تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُواْ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ ٥٢ أَتَوَاصَوۡاْ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ طَاغُونَ ٥٣ [الذاريات: 52-53]. أي كان بعضهم يوصي بعضًا بهذه المقالة.

وإنما هي من الله عز وجل أعلم الله بها عباده بصدق رسله وكتبه: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [المؤمن: 78].

فخوارق السحرة والكهان المشعوذين هي من الأمور المعتادة المشتركة التي يفعلها الكثير من الناس، وبالتحقيق فيها سرعان ما يتبين بطلانها.

إن ما ابتلي الناس به من الشرك والكفر وعبادة الأصنام ما كان ذلك إلا من أجل إعراضهم عن هداية الأنبياء وعدم الإيمان بهم واعتمادهـم على آرائهم وعقولهم.

إن المسلم متى آمن بالله القادر على كل شيء لم يعسر عليه التسليم بكل ما أخبر الله في كتابه من العجائب، كعجيبة خلق آدم من تراب، ثم خلق حواء من ضلع آدم، ثم خلق المسيح من أم بلا أب إذ لا بد للرسل من العجائب لتعزيز دينهم وتصديق دعوتهم، ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد الله بها موسى وعيسى لكذب الناس بهما وبمعجزاتهما وبالكتب النازلة عليهما.

إنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوة محمد ﷺ والتصديق بهذا القرآن النازل عليه، الذي يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وأنه لهدى ورحمة للمؤمنين. فإن من آيات الله ما يجري على سنته العامة المطردة في الخلق والتكوين، ومنها ما يجري على خلاف السنن المعروفة للبشر، مما يدل على قدرته على كل شيء، وأنه فعال لما يريد وأن لله سبحانه خرق العادات، فالماديون الملحدون المنكرون لوجود الخالق وقدرته التامة يبادرون بإنكار ما يسمعونه من الخوارق والمعجزات الذين لم يصلوا إلى حقيقة العلم بها، أو يتكلفون التأويلات البعيدة لكل ما يرونه مخالفًا لسنته المعروفة.

كما قال تعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ [يونس: 39].

وهذا دأبهم في جميع نظرياتهم العلمية فهم يكفرون بآيات الله ويكذبون بها كلها ولا يؤمنون بشيء منها، فتراهم يكذبون بكل ما غاب عن أبصارهم، وبكل ما لم يحيطوا بعلمه، فيكذبون بوجود الرب والملائكة وبالجنة والنار. فإفساد هؤلاء الفلاسفة الملاحدة للبشر في أمر دينهم ودنياهم أشد من إفساد النار لهشيم الحطب، لزعمهم أن الأنبياء يكذبون على الناس ويحدثون الناس بما لا حقيقة له، وأنهم يتصرفون بما يخالف السنن والنواميس: ﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٢٧ [ص: 27]. فكذبوا بالدين من أساسه، وكذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، وهذا يعد من أشد أنواع الكفر بالله تعالى؛ لأن ضرره يتعدى بما فيه من إضلال الناس باعتقاد هذا الباطل الذي يتبعه خروج الناس عن الدين ويبقون فوضى حيارى لا دين لهم.

فمتى جهر هؤلاء باعتقادهم في بلادهم، فإنها لفتنة في الأرض ولفساد كبير، فإن الجهر بالكفر والإلحاد هو جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد.

أما وظائف الرسل فإنهم بشر اختصهم الله بالحق لتبليغ عباده ما ارتضاه لهم من الدين بالقول والعمل، وبالتعليم والإرشاد، تبشيرًا وإنذارًا وتنفيذ أحكام شرعه فيهم بالعدل والمساواة. ولم يؤتهم التصرف في خلقه، بهداية أقرب الناس إليهم وأحبهم إليهم من والد وولد والناس أجمعين. فوالد إبراهيم عاش كافرًا ومات كافرًا، وولد نوح -أول رسل الله إلى خلقه- مات كافرًا، ولم يأذن الله لنوح بحمله معه في السفينة فكان من المغرقين، وكان أبو لهب عم رسول الله ﷺ من أشد أعدائه المؤذين له والصادِّين عن دينه، وأنزل الله في ذمه ووعيده سورة من القرآن يتعبد المؤمنون بقراءتها إلى يوم القيامة، وعمه أبو طالب الذي كفله ورباه وكف عنه أذى المشركين واعترف بصدق نبوته، ولما قال له عند الاحتضار: «يا عم قل: لا إله إلا الله. كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله» [137]. فامتنع ومات على ملة عبد المطلب، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ [القصص: 56]. ونُهي عن أن يستغفر له فقال: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ ١١٣ [التوبة: 113]. لأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

والمقصود أن معجزات الأنبياء كلها من الله لا من كسب الأنبياء ولا من تصرفهم، كما نطق به القرآن الكريم في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِ‍َٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ [الرعد: 38].

وإن الله سبحانه لم يؤيد رسله بما أيدهم به من المعجزات إلا لتكون حجة لهم على قومهم، بحيث يهتدي بها المستعد للهداية منهم، وتحق بها كلمة العذاب على الجاحدين: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس:96-97].

إن الثابت من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء كأهل الكهف وغيرهم فما كانت دلالته من النصوص القرآنية فإنها تعتبر قطعية لا مجال للرأي في إنكارها ولا صرفها بمجرد التحكم والتأويل عن المعنى المراد منها، فقد أتت الرسل بمحارات العقول، فالتكذيب بها يعتبر نقضًا لقواعد الشريعة المعتبرة القطعية، ويعتبر ارتدادًا عن الإسلام: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ [يونس: 39].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله رسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي أو الخبر، فإن مما يعلم الاضطرار من دين الإسلام أن الله إذا أخبر في القرآن بشيء أو أن الرسول إذا أخبر بشيء فإنه يجب علينا التصديق به وإن لم نعلم بعقولنا حكمته.

ومن لم يقر بما جاء عن الله ورسوله حتى يعلم بعقله فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ [الأنعام: 124]. ومن سلك هذا السبيل فليس بالحقيقة مؤمنًا بالقرآن ولا بالرسول، ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول. ولا فرق عنده بين أن يخبر القرآن أو الرسول بشيء أو لا يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه[138]، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، ولا فرق عند من سلك هذا السبيل ببن وجود القرآن والرسول وبين عدم وجودهما، ويصير ما يذكر في القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده.

والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

17 جمادى الأولى سنة 1396هـ.

* * *

[136] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بدون لفظ: «خالفوا اليهود» . [137] متفق عليه من حديث المسيب بن حزن. [138] يفوضه: أي يردّه.

(8) الإيمان بالأنبياء بجملتهم وضعف حديث أبي ذر في عددهم

الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبيان ضعف حديث أبي ذرٍّ في حصر عددهم والتفريق بين الأنبياء والرسل

الأنبياء هم بشر اصطفاهم الله لحمل نبوّته وتبليغ رسالته. فهو يوحي إليهم من أمره ما يشاء، ثم يقومون بإبلاغ ما أوحي إليهم من ربهم، ولا يكتمون الله حديثًا، يقول الله سبحانه: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ [المائدة: 67].

فكلهم ممن أُوحي إليهم بشرع، وأُمروا بتبليغه، يقول الله سبحانه: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ [آل عمران: 187].

والأنبياء، هم رؤوس من أُوتوا الكتاب، وأخذ منهم العهد والميثاق في البيان وعدم الكتمان.

[الأنبياء هم الرسل، تنوع الاسم والمسمى واحد]

فالأنبياء هم الرسل، والرسل هم الأنبياء، تنوع الاسم، والمسمى واحد. قال الله سبحانه: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ [النساء: 165]. وقال: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ [البقرة: 213]. فأمر الله النبيين بما أمر به المرسلين. وأما التعريف بقولهم: إن الرسول هو من أُوحي إليه بشرع، وأُمر بتبليغه. والنبي: هو من أُوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه. فهذا يُعد من الخطأ المتناقل، الذي انتشر واشتهر على ألسنة الناس، وفي عقائدهم في كل بلد، وحتى التبس الأمر فيه على العلماء الكبار، فظنّوه حقًّا، وهو لا صحة له، إذ لا يوجد نبي أُوحي إليه بشرع من الأمر والنهي، والفرائض والأحكام، والحلال والحرام، ثم يصر على كتمانه وعدم بيانه!! لكون هذا ينافي مقتضى الرسالة والأمانة، فكلهم مكلفون بنشر الدعوة وتبليغ الرسالة.

[سبب انتشار دعوة التفريق بين الأنبياء والرسل]

وأول من رأيناه تكلم بهذا التفريق بين النبي والرسول، هو الإمام النووي. فتلقاه الناس عنه، وهو إنما أخذه من الحديث الموضوع المنسوب إلى أبي ذرٍّ في التفريق بين الأنبياء والرسل! وسيأتي الكلام على بيانه بما يقتضي بطلانه.

وليست هذه بأول غلطة دخلت في عقائد الناس، وتناقلوها من جراء الأحاديث الموضوعة، التي عملت التأثير في الأُمّة، في إدخال البدع، وتغيير السنن، إذ تأبى حكمة الله، وحكمة بعثته لأنبيائه، أن يكون فيهم من أُوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه!

يقول الله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥ [النساء: 163-165].

فذكرهم أولاً باسم النبيين، ثم ذكرهم في آخر الآيات باسم الرسل. والمعنى واحد، كما أن نبينا محمدًا ﷺ نبي رسول، يخاطبه القرآن بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٤٦ [الأحزاب: 45-46]. وبقوله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥ [المائدة: 67].

وقد وصف الله الأنبياء بحمل رسالة ربهم، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ [الأعراف: 94].

وقال: ﴿وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِيّٖ فِي ٱلۡأَوَّلِينَ ٦ [الزخرف: 6]. (وكم) يؤتى بها للتكثير، أي عدد كثير. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٥٢ [الحج: 52]. فسماهم سبحانه مبشرين ومنذرين، كما سماهم مرسلين. فهذه الآيات لا تبقي مجالاً للجدل. وكيف يتلاءم صفة النبي الذي أُوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، مع الوعيد الشديد على كتمان العلم، وعدم بيانه؟!! في قوله تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ [آل عمران: 187].

وقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠ [البقرة: 159-160].

والله سبحانه قد سمى نبيّه محمدًا رسولاً منذ نزل عليه الوحي بغار حراء في قوله: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. فهذه السورة ليس فيها الأمر بالتبليغ والدعوة، لكن الله سماه رسولاً منذ أنزلها عليه، قال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ [الجمعة: 2]. وفي الآية الأُخرى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل عمران: 164].

فالبعثة هي ابتداء النبوّة والرسالة، وهي ابتداء نزول القرآن عليه، فمنذُ نُبِّئَ باقرأ وهو رسول. فالفضل كل الفضل، هو في البعثة، أي ابتداء النبوّة بابتداء نزول القرآن، وبينها وبين المولد أربعون سنة، فقولهم: إنه نُبّئ باقرأ، وأرسل بالمدثر كما قاله ابن كثير ليس بصحيح، والصحيح أنه نُبّئ وأرسل باقرأ وبالمدثر وبجميع القرآن.

وإنما أمر بالجهر بالدعوة، وتبليغ الرسالة بعد نزول قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ ٣ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ ٤ وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ ٥ [المدثر: 1-5].

وذلك من بعد الفترة المتخللة لما بين نزول اقرأ، ونزول المدثر. وقد قيل: إنها أربعون يومًا، وقيل أكثر من ذلك. وقد تمثل له جبريل عليه السلام في أثنائها، يقول له: «إنك لرسول الله حقًّا».

فالصحيح: أنه أرسل باقرأ، كما أرسل بالمدثر، وبالقرآن كله.

ثم إننا متى بحثنا عن سبب انتشار هذا الاعتقاد بين الناس في التفريق بين الرسول والنبي، نجد السبب هو: تأثرهم بالحديث المنسوب لأبي ذرٍّ، ويترجح بمقتضى الدلائل والبراهين أنه حديث موضوع مكذوب على الرسول وعلى أبي ذر، وإن كان قد رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه ابن حبان في صحيحه، فقد حققه ابن الجوزي وقال بأنه موضوع، واتهم بوضعه إبراهيم بن هشام. وكذلك ابن كثير، قد أشار في التفسير إلى ضعفه قائلاً: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، مع العلم أن لفظه ينمّ بوضعه، ونحن نسوقه بلفظه، ثم نعقبه بما يوضح بطلانه، نصيحة لله، ولعباده المؤمنين.

[عدد الأنبياء وما جاء في ذلك]

فعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير». قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: «آدم». قلت: يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال: «نعم، خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سوّاه قبيلاً» ثم قال: «يا أبا ذرٍّ، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وأخنوخ، وهو: إدريس، وهو أول من خط بالقلم. وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك يا أبا ذرٍّ. وأول نبي من بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى. وأول النبيين آدم، وآخرهم نبيك». قلت يا رسول الله كم كتابًا أنزله الله؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهـيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».

وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه: الأنواع والتقاسيم. وقد وسمه بالصحة، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي، فذكر هذا الحديث في كتابه: الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام. هذا ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، من أجل هذا الحديث، والله أعلم.

واعلم أن الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، هو مما اتفقت على وجوبه جميع الأنبياء.

يقول الله: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [البقرة: 177].

فالإيمان بجميع الأنبياء، وتصديقهم في كل ما أخبروا به من أُمور الغيب، وطاعتهم في كل ما أمروا به، ونهوا عنه، واجبة.

ولهذا أوجب الله سبحانه الإيمان بكل ما أتوا به. قال تعالى: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٣٧ [البقرة: 136-137].

فقد اتفق علماءُ الملة على كفر من كذّب نبيًّا معلوم النبوة، وكذا من سبّ نبيًّا لكون الإيمان واجبًا بجميع الأنبياء، وأن لا نُفرّق بين أحد منهم. يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ١٥٢ [النساء: 150-152].

وهذا التفريق الذي ذمه الله، بما أنه محمول على الإيمان ببعضهم، فإنه أيضًا يشمل إثبات الرسالة لبعضهم، ونفيها عن بعضهم. والله سبحانه قد فضل بعض الأنبياء على بعض، فقال سبحانه: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ [البقرة: 253].

أما عددهم: فقد جاء في حديث أبي ذرٍّ المذكور، وقد تكلم عليه الوليّ العراقي بما يحقق وضعه وبطلانه، وعدم صحته. ورد على ابن حبان، جماعة من العلماء الحفّاظ، وانتقدوا عليه إدخال هذا الحديث في صحيحه.

وفي كتاب: الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الإمام أحمد رضي الله عنه في الرسل وعددهم، أنه يجب الإيمان بهم في الجملة، لعدم صحة الحديث الوارد فيه.

وذكر محمد بن نصر المروزي وغيره من أئمة السلف نحو هذا الكلام، مما يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذرٍّ في ذلك لم يثبت عندهم. انتهى كلام شيخ الإسلام[139].

وحاصل ما تقدم: أنه يجب الإقرار بهم في الجملة، ثم الكف عن عددهم، لعدم ثبوت ما يدل عليه.

وسنتكلم الآن على حديث أبي ذرٍّ، مما يبين بطلانه وعدم صحته من ظاهر لفظه.

فأولاً: قوله: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا». قلت: كم الرسل منهم؟ فقال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير».

فهذا العدد بهذه الصفة، وبهذا التفريق، يبطله صريح القرآن الكريم في قوله سبحانه: ﴿وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ [النساء: 164]. وهي آية مدنية، فلا يمكن أن تنسخ بمثل هذا الحديث الضعيف.

وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ [المؤمن: 78]. فالاشتغال بعدد الأنبياء، هو مما يشغل الأذهان ولا يزيد في الإيمان، وهو صريح لمخالفة ما أبهمه القرآن الكريم.

فلو طلبنا من المجادلين بصحة ذلك تسمية ثلاثة أشخاص من الأنبياء، هم أنبياء، وليسوا برسل، لم يحيطوا علمًا بمعرفتهم.

ثانيًا: قوله في الحديث: قلت: يا رسول الله مَنْ أول الرسل؟ قال: «آدم» قلت: أنبي مرسل؟ قال: «نعم».

فهذا أيضًا مما يدل على عدم صحة الحديث؛ لأن القرآن لا يثبت لآدم نبوة ولا رسالة، وما كان ربك نسيًّا. وإنما هو أبو البشر، يذنب فيتوب، يقول الله تعالى: ﴿... وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ١٢١ [طه: 121].

وأصح، وأصرح ما ورد في فضله هـو قوله سبحانه: ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٣٣ [آل عمران: 33]. وليس فيها ما يدل على نبوّته بالصراحة، لكون الاصطفاء افتعال من الصفوة، ولا يلزم أن تكون نبوة. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَتِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَٰمَرۡيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصۡطَفَىٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٢ [آل‌عمران:42].

ومن المعلوم أن مريم ليست بنبيّة، وإنما هي امرأة صالحة من صفوة نساء العالمين. والصحيح أن أول الرسل نوح وآخرهم محمد ﷺ، وحتى آدم نفسه يعترف بأن أول الرسل نوح. كما في حديث الشفاعة الذي رواه أنس وأنه: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيلهمون ذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم. فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول لهم آدم: لست هناكم. ويذكر ذنبه الذي أصاب، فيستحيي من ربه عز وجل ويقول: ولكن ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض». رواه البخاري. وهذا الحديث قاطع للنزاع، ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع.

ثم إن القائلين بنبوة آدم، ليس عندهم دليل سوى محض الظن والتخمين، يقولون: إنه لا يمكن أن يبقى آدم وذريته في حياتهم بدون وحي ينظم أحوالهم ويبيّن لهم فرائضهم، وأحكامهم. ويستدلون بقوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ [البقرة: 31]. وهذا التعليم، وهذا العرض، إنما هو للأرواح قبل خلق آدم، فلا حجّة فيه، ولن ننسى في هذا الحديث الوارد في عرض الأرواح - على ضعفه - وهو أن الله سبحانه عرض على آدم ذريته كالذر، «فرأى رجلاً هو أضوؤهم، قال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود. قال: يا رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: يا رب، زده من عمري أربعين سنة. ثم إنها مضت الأيام والليالي، فلما انتهى عمر آدم وحان الحين لقبض أجله، جاءه ملك الموت لقبض روحه، فقال له آدم: إنك استعجلت عليَّ وإنني أعدّ الأيام والليالي، وقد بقي من عمري أربعون سنة. فقال: إنك وهبتها لابنك داود، فجحد أن يكون وهبها له». قال: «فجحد آدم، وجحدت ذريته، ونسي، فنسيت ذريته، فمن ثم أمر الله بالكتابة والشهود»[140].

ثم إن الناس من لدن خلق آدم وهم يولدون على الفطرة التي هي معرفة الخير ومحبته، فيلهمون فعل ما ينفعهم، واجتناب ما يضرهم، وقد يذنبون، فيتوبون وقد لا يتوبون، كما في حادثة ابني آدم، حين قتل أحدهما أخاه ولم يهتد إلى كيفية دفنه، حتى دلّه غراب يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه، وكان هذا أول قتيل دفن في الأرض، ولهذا ورد: «ما قتل قتيل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل»[141]. وكما يوجد في زماننا هذا أُمم من الناس لم تبلغهم الدعوة، ولا الشريعة، فيعيشون متعاشرين متعاملين، ويوصفون بأنهم ممن لم تبلغهم الدعوة، كحالة زمان الفترة. والله سبحانه، بحكمته وعدله، لا يعذب أمّة حتى يبعث إليها رسولاً فيعصون أمره، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولٗا ١٥ [الإسراء: 15].

وأما قول بعضهم: إن نبي الله إدريس كان قبل نوح، كما أشار إليه العلامة ابن كثير في التفسير، فهذا قول لا حظ له من الدليل، ويخالف نصوص القرآن والسنة.

وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من أنبياء بني إسرائيل، وهذا أقرب إلى المعقول والمنقول.

وقد رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ذكر في كتاب الإسلام والإيمان نبوة آدم عليه السلام، وهو اجتهاد منه رحمه الله.

الأمر الثالث مما يحقق عدم صحة حديث أبي ذرٍّ: قوله: «وأول نبي من بني إسرائيل هو: موسى، وآخرهم عيسى» فهذا واضح البطلان، بالدليل والبرهان، وبالسنة والقرآن، فإن أول نبي من بني إسرائيل هو: يوسف الصديق -عليه الصلاة والسلام- فهو الذي أسس دولة بني إسرائيل بمصر، واستدعى أباه وإخوته من القدس إلى مصر. وإسرائيل اسم يعقوب نبي الله، وبين يوسف الصديق، وبين موسى سنون طويلة، لا يعلم عددها إلا الله تعالى.

وحكى الله تعالى عن يوسف، بعدما جمع الله شمله بأبيه وإخوته، فقال: ﴿۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١ [يوسف: 101].

وأما كون آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى، فهذا صحيح بلا نزاع، فليس بعد عيسى أحد من الأنبياء سوى محمد نبينا ﷺ.

والحاصل: أن حديث أبي ذرٍّ في عدد الأنبياء والرسل، وتفريقه بين الأنبياء والرسل، هو حديث موضوع، أي مكذوب على أبي ذرٍّ وعلى رسول الله ﷺ، فلا يجوز لأحد أن يحدث به الناس إلا في حالة بيانه لبطلانه، ليحذر الناس عن الاغترار به، إذ الموضوع هو المكذوب وقد اتهموا بوضعه إبراهيم بن هشام.

وقد قال السيوطي في ألفية الحديث:
والخبر الموضوع شرّ الخبر
وذكره لعالم بهِ احظرِ
فمتى تحققنا من وضع هذا الحديث، تبين لنا بطلان ما تضمنه من عدد الأنبياء، وتقسيمهم بين الأنبياء والرسل، وأن هذا التقسيم لا صحة له، إذ الأنبياء هم الرسل، مخرجهما في القرآن واحد، فأحيانًا يعبر عنهم باسم الأنبياء، وهو الأكثر، كقوله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦ [البقرة: 136]. فذكرهم في هذه الآية باسم النبيين، ونهى عن التفريق بينهم. وأحيانًا يعبّر عنهم باسم الرسل، كقوله سبحانه: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ [البقرة: 285]. فذكرهم هنا باسم الرسل، ونهى عن التفريق بينهم في الآيتين كلتيهما.

ومن نوع التفريق إثبات الرسالة لبعضهم، ونفيها عن بعضهم بدون دليل، فتسمية الأنبياء بالرسل لا تدل على المغايرة، إذ التسمية متنوعة، والمسمّى واحد.

وله نظائر كثيرة، منها: القرآن الكريم، فإن اسمه القرآن، والفرقان، والذكر. ومثل جبريل عليه السلام فإن اسمه في القرآن: جبريل، ويسمى الروح الأمين، ويسمّى روح القدس، والمسمى واحد. ومثل مكة المكرمة فإنها تسمّى في القرآن: مكة، وبكة، وأُم القرى، والبلد الأمين، والمسجد الحرام. ومثل تسمية المسلمين في القرآن، فإن اسمهم: المسلمون، والمؤمنون، وعباد الله، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «ادعوا بدعوى الله الذي سمّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله» [142]. فالأسماء متنوعة، والمسمّى واحد.

وقد دخلت طائفة البهائية والقاديانية من فجوة هذا التفريق بين الأنبياء والرسل، لزعمهم أن الرسالة مكتسبة، وأن بابها مفتوح، وأنها لم تختم بمحمد رسول الله ﷺ، ولمّا استدل عليهم بعض المسلمين بقوله سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40]. فقالوا: نعم، إنه خاتم النبيين، وليس بخاتم المرسلين، فكأنهم وجدوا في هذا التفريق الذي لا صحة له فجوة يدخلون من جهتها إلى باطلهم في إثبات الرسالة لبهاء الله الميرزا علي أحمد، كما في الطريقة القاديانية، القائلين برسالة رجل يدعى ميرزا غلام أحمد من سكنة قاديان بالهند، تشابهت قلوبهم وأكثرهم فاسقون.

قال العلامة ابن كثير -رحمه الله-: قد أخبر الله سبحانه في كتابه، والسنة المتواترة عن رسول اللهﷺ أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فإنه كذاب، أفّاك، دجّال، ضال، مضل، حتى ولو أتى بما أتى به، فإنها محال، وضلال. انتهى.

قال: ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الأمّة؛ أن محمدًا رسول الله، هو خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي ولا رسول بعده، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ [الأحزاب: 40]. وفي صحيح البخاري، عن النبي ﷺ أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي».

وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة أيضًا: أن النبي ﷺ قال: «أنا خاتم النبيين».

وفي رواية لمسلم، عن جابر قال: «أنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء». وروى الإمام أحمد بسنده، عن أبي الطفيل، أن رسول الله ﷺ قال: «لا نبوّة بعدي إلا المبشرات». قيل: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الحسنة -وفي رواية-: الرؤيا الصالحة».

وروى البرقاني في صحيحه، عن ثوبان، أن النبي ﷺ قال: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أُمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئة من أُمتي الأوثان، وأنه سيكون في أُمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أُمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».

ثم إن السنة تفسر القرآن وتبيّنه وتدل عليه وتعبر عنه، وهي تذكر الأنبياء دائمًا بدلاً من الرسل، ففي صحيح مسلم، عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاة جامعة، فاجتمعنا، فقال: «إنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدلّ أُمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمّة جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأُمور تنكرونها، تجيء الفتن يرقق بعضها بعضًا. تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف.... » إلى آخر الحديث.

فأخبر النبي ﷺ: أنه ما من نبي من الأنبياء، إلا كان حقًّا واجبًا عليه أن يدل أُمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فأين هذا النبي الذي لا تجب عليه الدعوة، ولا تبليغ الرسالة؟!!.

لأن هذا هو مقتضى أمانة نبوتهم، لأنه إنما سُمي نبيًّا من أجل أن الله ينبئه من وحيه بما يشاء، كما قال سبحانه: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ [التوبة: 94]. ثم هو ينبئ عن الله وحيه، أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وسائر فرائضه وأحكامه. فهذه وظيفة جميع الأنبياء، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣ [الأنبياء: 73].

أما نبي يوحى إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه، فهذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان، ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به، ومثله قوله ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى دارًا فأتقنها وجمّلها إلا موضع لبنة منها، ثم صنع مأدبة، ودعا الناس إليها، فجعلوا يعجبون من حسنها، إلا موضع تلك اللبنة. قال: فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء» رواه مسلم عن جابر، قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة»[143]، وقال: «نحن معاشر الأنبياء بنو عَلاّت» [144]. الدين واحد، والشرائع متفرقة يعني أن لكل نبي شريعة من الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحـرام تناسب حالة أمته وزمانه، غير شريعة الآخر، قال تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ [المائدة: 48].

ثم جاءت شريعة محمد رسول الله ﷺ مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع، لأن كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة، وقد بعث رسول الله ﷺ إلى الناس كافة، قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. ولما رأى رسول الله ﷺ مع عمر قطعة من التوراة قال: «يا عمر قد جئتكم بها بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعهُ إلا اتّباعي» [145].

فبما أن رسول الله ﷺ هو خاتم المرسلين فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع.

فلا يجوز لأحد أن يتعبد بشريعة غير شريعته، إذ هي المهيمنة على سائر الشرائع، والحاكمة عليها، يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

ومثله ما ورد في القرآن بكثرة من تسمية الإسلام أحيانًا والإيمان أحيانًا، وتسمية المسلمين أحيانًا وتسمية المؤمنين أحيانًا.

والصحيح أن الإسلام متى أطلق في القرآن فإنه يراد به الإيمان، والإيمان يراد به الإسلام.

لكنه عند التفصيل يراد بالإيمان مجرد التصديق الجازم بالقلب، والإسلام مجرد العمل بالأقوال والجوارح.

فلا يصح إيمان بدون إسلام كما لا يصح إسلام بدون إيمان... وفي البخاري من حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال لوفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان» ففسر الإيمان بعمل الإسلام.

وقد شبههما بعض العلماء بالشهادتين، فشهادة أن لا إله إلا الله، لا تصح إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله، لا تصح إلا بشهادة أن لا إله إلا الله.

وقد أكثر القرآن من قرنه الإيمان بالأعمال الصالحات التي هي أعمال الإسلام كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٨ [فصلت: 8]. في كثير من الآيات.

أما قوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ [الحجرات: 14].

فإن الصحابة لمّا لقوا المشركين وغشَوهم بسيوفهم أقبلوا يقولون: آمنا آمنا، ومنهم من قال: صبأنا صبأنا. فقال الله: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤، أي إلى حد الآن، ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤. أي أن التصديق الجازم بأن الدين حق ورسول الله حق والقرآن حق فهو لم يدخل في قلوبهم إلى حد الآن، كما قال سهيل بن عمرو في صلح الحديبية لما قال رسول الله لعليٍّ: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله». قال سهيل: لا تكتب رسول الله. فلو كنا نعلم أنه رسول الله ما قاتلناه.

وهذا معنى قوله: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡ‍ًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٤. أي استسلمنا وخضعنا. فقول بعضهم: إن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا، هذا خطأ تناقله الناس فيما بينهم فإنه لا يوجد مسلم ليس بمؤمن في ظاهر الحكم، حتى المنافقون فإنهم يدخلون في مسمى المؤمنين في ظاهر الحكم، لأنهم يعاملون في الدنيا بالظاهر من أعمالهم والله يتولى الحكم في السرائر. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان والإسلام.

يبقى الكلام في المكثرين من موبقات الفسوق والعصيان ثم يموتون وهم على ذلك ولم يوجد منهم ما يوجب ردتهم، فهؤلاء يعبر عن أحدهم بأنه مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، أو يعبرون عن أحدهم بأنه ناقص الإيمان. وقد قال السفاريني في عقيدته.
ويفسق المؤمن بالكبيره
كذا إذا أصرّ على الصغيره
ثم قال:
لا يخرج المرء من الإيمان؟
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جر عليه حوبا
وقال:
ومن يمت ولم يتب من الخطا
فأمره مفوض لِذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
ومما يدل على أن الإسلام متى أطلق في القرآن فإنه يراد به الإيمان قوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ [آل عمران: 102]. أي مؤمنون، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢ [البقرة: 132]. أي مؤمنون. وفي دعوة يوسف عليه السلام: ﴿أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١ [يوسف: 101]. يعني مؤمنًا، لكون الأنبياء يسألون أعلى المراتب عند الله. وفي كتاب رسول الله لهرقل حيث ضمنه قوله سبحانه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤ [آل عمران: 64]. أي مؤمنون. فلا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله مسلمًا ليس بمؤمن أبدًا. والنبي قال: «فادعوا بدعوى الله الذي سمّاكم المسلمين المؤمنين عباد الله» [146]. فالمسلم هو المؤمن والمؤمن هو المسلم.

واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول، لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي، وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة، ومن بعدهم من الأئمة، فضلاً عن غيرهم، فيحكمون بخلافها ثم يتبين لهم وجه الصواب فيها، فيعودون إليه؛ لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ، فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وصنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها، رفع الملام عن الأئمة الأعلام. أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها؛ لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم، لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وأنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن، والحديث، والتفسير، وأُعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق، والتدقيق، وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها، بحيث يخرجها من حيز الخفاء والغموض إلى حيز التجلي والظهور، بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه والحالة هذه، سيجد سعة لعذرنا، ومندوحة عن عذلنا فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة، ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأُصول بعضها ببعض، فيخصص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، ويربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب، مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية، بالأدلة القويمة القوية، والمألوفة المعروفة حيث تقبلها العقول، ويتلقاها العلماء بالقبول، لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول -والله أعلم- وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * *

[139] نقله عنه السفاريني في لوامع الأنوار ص253 من المجلد الثاني. [140] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [141] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [142] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري. [143] الحديث في مسلم بلفظ مقارب من حديث عمر بن الخطاب. [144] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [145] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [146] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.

(9) لا مهدي يُنتظر بعد الرسول محمد ﷺ خير البشر

خطبة الرسالة

الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما بعد: فإن هذه الرسالة المسماة لا مهديّ يُنتظر بعد الرسول محمد ﷺ خير البشر اخترت لها هذه التسمية لتكون عقيدة حسنة، تتدلل بها الألسنة من كل مسلم ومسلمة، لاعتقادي أنها حقيقة مسلّمة.

بدأتها بدعوة العلماء والطلاب إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد من أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر؛ لأنني وإن كنت أرى في نفسي أنني أصبت في الرسالة مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيها إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل، لكنني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وقدمت في الرسالة عقيدة المسلم مع المهدي، ومنها:

أن جميع الناس من العلماء والعوام، في كل زمان ومكان، يقاتلون كل من يدعي أنه الإمام المهدي، لاعتقادهم أنه دجال كذاب، يريد أن يفسد الدين، ويفرق جماعة المسلمين، ويملأ ما استولى عليه جورًا وفجورًا، كما جرى لكثير من المدعين للمهدية، ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟

وأن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول، ولا بين التابعين، وأن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وهو الإمام الثاني عشر: محمد بن الحسن العسكري، فسرت هذه الفكرة وهذا الاعتقاد، بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة، فدخلت في معتقدهم، وهي ليست من أصل عقيدتهم.

ثم انتقلت بصورة عامة إلى المجتمع الإسلامي حين نادى بها في الناس عبد الله بن سبأ، المعروف بصريح الإلحاد والعداء للإسلام والمسلمين، فأخذ هو وشيعته يعملون عملهم في صياغة الأحاديث، ووضعها على لسان رسول الله بأسانيد منظمة عن أهل القبور، وأخذوا في نشرها في مجتمع الناس، حتى لا يفقدوا الأمل الذي يرتجونه بزعمهم في إرجاع الحكم إلى أهل البيت، ليزيلوا عنهم الظلم والاضطهاد الواقع بهم من قبل خصومهم بني أمية؛ فهي دعوة سياسية إرهابية.

كما أن بني أمية لما سمعوا بهذه الأحاديث الموجهة لهم من العراق، والتي ترجف بهم تهددهم بالإيقاع بهم، تنبهوا لهذا، فأقاموا السفياني مقام المهدي، وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث عن رسول الله في السفياني، من ذلك ما روى الحاكم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «يخرج رجل يقال له: السفياني من دمشق، وعامة من يتبعه من كلب، فيقتل حتى يبقر بطون النساء، ويقتل الصبيان»، وذكر بقية الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ثم ساق حديثًا ثانيًا في السفياني بلفظ الحديث الأول ومعناه.

فتصحيح الحاكم لأحاديث السفياني، هي بمثابة تصحيحه وتصحيح الترمذي لأحاديث المهدي على حد سواء، وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة، ولا متواترة، فإن قيل: كيف عرفتم أن هذه الأحاديث الكثيرة المسندة، والمسلسلة عن عدد من الصحابة، بأنها مختلقة وهي في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، والحاكم، وغيرها من الكتب؟

فالجواب: إن هذه الأحاديث الكثيرة التي تبلغ خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، بعضها يزعمونها صحاحًا، وبعضها من الحسان، وبعضها من الضعاف، وقد بلغت ألفًا ومائتي حديث عند الشيعة، والمهدي واحد وليس باثنين تنازعته أفكار الشيعة وأفكار أهل السنة.

فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من علماء أهل السنة على حد ما قيل، والقوة للكاثر، على أن الكمية لا تغني عن الكيفية شيئًا، وأكثر الناس مقلدة، يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون، فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين، قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص، وللجرح والتعديل، فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، لأمور:

منها: أن النبي ﷺ بُعث بدين كامل، وشرع شامل، مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المضار وتقليلها، ومن المعلوم أن اعتقاد المهدي، والقول بصحة خروجه يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار، ومن إثارة الفتن، وسفك دماء الأبرياء، ما يشهد بعظمته التاريخ المدروس، والواقع المحسوس، من كل ما يبرأ النبي ﷺ عن الإتيان به، إذ الدين كامل بدونه.

ومنها: أن المهدي الذي يزعمون صحة خروجه، أن اسمه محمد بن عبد الله، وأن صفته أجلى الجبهة، أقنى الأنف. وهذه التسمية بهذه الصفة توجد بكثرة في الطوائف المنتسبين إلى الحسن والحسين، فلا تعطي يقينًا في التعيين، فمتى أتى من انطبعت فيه هذه الأوصاف، وقال: إنني أنا المهدي. فعند ذلك يقع المحذور من إثارة الفتنة بين مصدق به ومكذب، وبين محب ومحارب، فيكون اعتقاده شقاء على العباد طول حياتهم، لوقوع الاشتباه فيه دائمًا، مما يتنافى مع الدين الذي جعله الله رحمة للخلق أجمعين، فقال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء:107]. ومنها: أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي ﷺ على أمته التصديق برجل من بني آدم، مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته، ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128].

ومنها: أننا لسنا بأول من رد هذه الأحاديث، فقد أنكرها بعض العلماء قبلنا، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج[147] بعد ذكره لأحاديث المهدي:

إن هذه الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء، فطائفة أنكروها مما يدل على أنها موضع خلاف من قديم بين العلماء، كما هو الواقع من اختلاف العلماء في هذا الزمان.

ومنها: أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم، ولم يدخلاها في كتابيهما، مع رواجها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم ثبوتها عندهما، كما أنه ليس للمهدي ذكر في القرآن، مما يقلل الاحتفال به.

ومنها: تناقض هذه الأحاديث وتعارضها في موضوعها، فمهدي اسمه اسم الرسول، واسم أبيه اسم أبيه، ومهدي اسمه أبو عبد الله، ومهدي يشبه الرسول في الخلق، ولا يشبهه في الخلق، ومهدي يصلحه الله في ليلة، ورجل يخرج هاربًا من المدينة إلى مكة، فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل اسمه الحارث بن حران، يوطئ أو يمكّن لآل محمد، ورجل يخرج من وراء النهر، ورجل يبايع له بعد وقوع فتنة عند موت خليفة، ورجل أخواله كلب، وتأتيه الرايات السود من قبل العراق، وأبدال الشام، ومهدي يصلي عيسى ابن مريم خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صل أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه، تكرمة الله لهذه الأمة.

فهذه وما هو أكثر منها، مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله ﷺ، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها، فضلاً عن تصديقها.

فهذه الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه هي التي حملت بعض علماء السنة لكثرتها على التصديق بها، فقبلوها قاعدة مسلّمة، وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها بدون تفكر ولا تدبر، كالشيخ صديق، والشوكاني، والسفاريني، والشيخ مرعي، والعبادي، وسائر العلماء من المتأخرين. فلو أن هؤلاء حققوا النظر بإمعان وتفكروا في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، فقابلوا بعضها ببعض، لعرفوا من مجموعها حقيقة التعارض والاختلاف، ولظهر لهم منها ما يوجب عليهم الرجوع عن التصديق بها، وكون أكثرها قضايا أحداث وقعت مع أشخاص، ولا ذكر للمهدي فيها.

وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، كحديث علي مرفوعًا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً منا يملؤها عدلاً كما ملئت جورًا». ومثله عن علي رضي الله عنه مرفوعًا: «المهدي منا أهل البيت». وكذا عن علي رضي الله عنه: ونظر إلى ابنه الحسن فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق. ومثله: حديث أم سلمة مرفوعًا: «المهدي من عترتي ومن ولد فاطمة». رواها كلها أبو داود في سننه وغيره.

وقد أعرض أكثر العلماء المحدثين عن إثبات أحاديث كثيرة في كتبهم عن أهل البيت، لتسلط الغلاة على إدخال الشيء الكثير من الكذب في فضائلهم، كما تحاشى عنها البخاري ومسلم، والنسائي والدارقطني والدارمي، فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة، وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها، مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزه مسنده عن أحاديث المهدي، فلا ذكر لها فيه.

ثم إن من عادة العلماء المحدثين، والفقهاء المتقدمين، أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته، تقليدًا لمن سبقه، كما ذُكر عن الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد، فينقلها، ثم يردها إليه، ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إليَّ حتى أثبته في كتابي. وكذلك سائر علماء كل عصر، ينقل بعضهم عن بعض، فمتى كان الأمر بهذه الصفة فلا عجب متى رأينا أحاديث المهدي تنتشر في كتب المعاصرين لأبي داود كالترمذي وابن ماجه، لخروج الحديث من كتاب، إلى مائة كتاب، وانتقال الخطأ من عالم إلى مائة عالم، لكون الناس مقلدة، وقليل منهم المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم.

وقد عقدت في الرسالة فصلاً عنوانه التحقيق المعتبر في أحاديث المهدي المنتظر شرحت فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، والحاكم بما لا مزيد عليه فليراجع. وبينت في الرسالة أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة، ولا صريحة، ولا متواترة بالمعنى، وقد أسلفنا كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله فيها، وأن طائفة أنكروها بتاتًا، ومثله العلامة ابن القيم رحمه الله، فقد قال في كتابه: المنار المنيف في الصحيح والضعيف: اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال:

أحدهـا: أنه المسيح ابن مريم، وهو المهدي على الحقيقة.

الثـانـي: أنه المهدي بن المنصور، الذي ولي من بني العباس، وقد انتهى زمانه.

الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي ﷺ، من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان. وأكثر الأحاديث على هذا.

الرابـع: قول الإمامية، أنه محمد بن الحسن العسكري.

فهذه الأقوال على اختلافها، تدل على أن القضية هي موضع نزاع وخلاف في قديم الزمان وحديثه، وليست بموضع اتفاق.

ومن لوازم قوله أن ما يزعمونه من خروج المهدي المجهول في عالم الغيب، أنه لا حقيقة له، لكن المتعصبين لخروجه لما طال عليهم الأمد، ومضى من الزمان أربعة عشر قرنًا -وما يشعرني أن يأتي من الزمان أكثر مما مضى بدون أن يروه حتى تقوم الساعة- لهذا أخذوا يمدون في الأجل ليثبتوا بذلك استقامة قولهم عن السقوط، فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى ابن مريم، مع العلم أن الأحاديث التي بأيديهم، والتي يزعمونها صحيحة ومتواترة والتي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، أنها وردت مطلقة لم تقيد بزمن عيسى عليه السلام، إلا حديث صلاة عيسى خلف المهدي، قال الذهبي وعلي القاري: إنه موضوع، أي مكذوب، فسقط الاحتجاج به.

وكلام العلماء من المتأخرين كثير، وأعدل من رأيته أصاب الهدف في قضية المهدي هو: أبو الأعلى المودودي، حيث قال في رسالة اسمها البيانات عن المهدي:

إن الأحاديث في هذه المسألة على نوعين، أحاديث فيها الصراحة بكلمة المهدي، وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان، ويعلي كلمة الإسلام. وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات، فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه، وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلا رواية واحدة في صحيحه، ولكن ما جاءت فيها أيضًا الصراحة بكلمة المهدي.

وقال: لا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبًا دينيًّا يعرف بالمهدوية يجب على كل مسلم أن يؤمن به، ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة.

وقال: مما يناسب ذكره بهذا الصدد، أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي، ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد، انتهى.

والحاصل الذي نعتقده، وندين الله به، أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، وأنه لا ينكر على من أنكره، إذ إنكاره لا ينقص من الإيمان، وإنما يتوجه الإنكار على من يجادل في وجوده، وصحة خروجه.. والله أعلم.

* * *

[147] راجع منهاج السنة النبوية: 4/211.

دعوة العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيا معشر العلماء الأجلاء ويا معشر العقلاء الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

تعالوا بنا نجلس على بساط البحث والتحقيق في أحاديث المهدي التي وقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال، فننظر إلى صلاحيتها وصحتها، وما يجب الإيمان به منها، وما يجب على المسلمين اعتقاده ومنعه.

فإن البحث نتيجته الفائدة، وملاقاة التجارب من الرجال تلقيح لألبابها، والعلم ذو شجون يستدعي بعضه بعضًا.

ومتى قلنا: إننا مسلمون سلفيون، وعقيدتنا عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن هذا الاعتقاد يوجب علينا الاتحاد على كلمة الحق وقول الصدق، فنتفق ولا نفترق. يقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا [آل عمران: 103]. وإنه من المعلوم بطريق اليقين أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين في العلوم والأفهام، كما أنهم متفاوتون في العقول والأجسام، ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ ١١٩ [هود: 118-119].

من ذلك أحاديث المهدي وما يقال في صحتها وصلاحيتها، وما يجب اعتقاده منها، وأنه بمقتضى التحقيق منها والدرس لرواياتها يتبين بطريق اليقين أن فيها من التعارض والاختلاف، وعدم التوافق والائتلاف، ووقوع الإشكالات، وتعذر الجمع بين الروايات ما يحقق عدم صحتها، ويجعل العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين يحكمون عليها بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله ﷺ، وليست من كلامه، وينزهون ساحة رسول الله وسنته عن الإتيان بمثلها، إذ الشبهة فيها يقينية، والكذب فيها ظاهر جلي، وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به، ثم يتقدم أحدهم فيحل نفسه محل هذا المهدي المجهول، ويترتب عليه فتنة في الأرض وفساد كبير، وكل الأحاديث التي يوردونها لتحقيق خروجه متناقضة متعارضة، ومختلفة غير مؤتلفة، فما يزعمونه صحيحًا منها فإنه ليس بصحيح في الدلالة على ما ذكروا، وما يزعمونه صريحًا وفيه ذكر المهدي فإنه ليس بصحيح، وجماع القول أنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة.

لكن قد يعرض لتحقيق ما قلنا قول بعضهم بأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال بصحة خروج المهدي، وهو العالم المحقق المشهود له بصحيح الرواية وصريح الدراية.

وأقول: نعم وإنني رأيت لشيخ الإسلام قولاً يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود. وكنت في بداية نشأتي أعتقد اعتقاد شيخ الإسلام، حيث تأثرت بقوله، حتى بلغت سن الأربعين من العمر وبعد أن توسعت في العلوم والفنون، ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها، فبعد ذلك زال عني الاعتقاد السيئ والحمد لله، وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله، وبعد كتاب الله. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا.

وقد قيل: كم فات على العالم النحرير[148] ما عسى أن ينسب فيه إلى الخطأ والتقصير وهو كسائر علماء البشر فلا يحيط بكل شيء علمًا، قد يحفظ شيئًا وينسى أشياء، إذ الكمال لله سبحانه الذي لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته. وقد شبهوا زلة العالم بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير، وكم غرق في كلمة شيخ الإسلام هذه كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي، فكان من لقيته من العلماء والعوام يحتج بكلام شيخ الإسلام رحمه الله.

ولعل هذا القول خرج منه في بداية عمره قبل توسعه في العلوم والفنون وهو مجتهد ومأجور على اجتهاده، إذ يقول العالم المحقق قولاً ضعيفًا مرجوحًا فلا يكون المقلد لقوله، والمنتصر لرأيه بمثابته في حصول الأجر، وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر، فكم من عالم كان يقول أقوالاً في بداية عمره ثم يتبين له ضعفها فيقول بخلافها.

فهذا الإمام الشافعي له أقوال قالها في العراق، وتسمى أقواله القديمة، ثم صار له أقوال جديدة قالها في مصر، وصار العمل على أقواله الجديدة الأخيرة، ومثله الإمام أحمد فإن له في المسألة الواحدة عدة روايات، لكون الاجتهاد في عرفهم يتجدد.

وهذا الدارقطني رد على البخاري في بضعة وثمانين موضعًا في صحيحه، ولا عيب على البخاري ولا على الدارقطني، وحسبك تفرق المذاهب إلى أربعة، وكلُّ يرى عنده دليلاً ليس عند صاحبه ويترضى بعضهم على بعض.

وفي البخاري: أن موسى لما لقي الخضر في مجمع البحرين، وهاله ما رآه من تصرفه من قتله للغلام، وبنائه للجدار الذي يريد أن ينقض، وخرقه لسفينة المساكين الذين يعملون فيها في التكسب في البحر، فضاق صدر موسى من تصرفه، وعيل صبره، فأراد أن يفارقه فقال له الخضر: يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه لا أعلمه. وقال له أيضًا: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر[149].

وهكذا يقع تفاوت العلماء فيما علموه، والاختلاف فيما فهموه، كما قيل:
وتفاوت العلماء في أفهامهم
في العلم فوق تفاوت الأبدان
يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين:

إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله ﷺ كما لا نبي بعده.
جزى الله عنا كل خير محمدًا
فقد كان مهديًّا وقد كان هاديًا
كما نعتقد بأن رسول الله ﷺ لم يخلف وراءه علمًا ولا دينًا يرتجى حصوله ووصوله على يد المهدي من بعده، لأن الله سبحانه قد أكمل لنا الدين، وأتم به النعمة على المسلمين بإرسال هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة:128].

وأنزل الله في كتابه المبين ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ [المائدة: 3]. فما بعد الكمال إلا النقص، ولا بعد الإسلام إلا الكفر.

وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غنى واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر

إذ المهدي ليس بملك مقرّب ولا نبي مرسل، وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١١٥ [الأنعام: 115].

إن رسول الله ﷺ قال في موقف عرفة حين خطبهم تلك الخطبة الطويلة قال فيها: «لعلكم لا تلقوني بعد عامي هذا»[150]، «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله»[151]، وفي رواية أخرى: « وسنتي»[152] ولم يقل: وتركت من بعدي المهدي، إذ إنه لم يثبت عن رسول اللهﷺ في حديث صحيح صريح أنه ذكر المهدي باسمه.

إن من العلم ما يحسن كتمانه ويضر بيانه لبعض الناس، فقد كان النبي ﷺ يخص ببعض العلم أفرادًا من الناس، يوصيهم بكتمانه خشية أن يفتن الناس، كما خص معاذًا بقوله ﷺ: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة». فقلت: وإن زنا وإن سرق. قال: «وإن زنا وإن سرق». فقلت: أفلا أبشر بها الناس؟ فقال: «لا تبشرهم فيتكلوا». متفق عليه. فأمره رسول الله بكتمان هذه البشرى خشية أن يتهاون الناس في فعل المعاصي والمنكرات، اتكالاً على ما سمعوه فيفتنوا، ولم يخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا إلا عند موته..

ومثله إخباره حذيفة بأسماء ثلاثين من المنافقين وأمره بكتمانها، فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة، ويسمونه صاحب السر المكتوم.

وقد ترجم له البخاري في صحيحه فقال: (باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وساق عن علي: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وقالوا: إنك لن تحدث الناس بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة.

فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن السياسة الشرعية توجب على العالم بأن يذكّرهم بما ينفعهم، وما يزيد في إيمانهم وتقواهم، وأن يجتنب التذكير بما يفتنهم ويزعزع إيمانهم، ويوقع القلق والاضطراب في مجتمعهم، فإن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد قيل: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره.

من ذلك: تذكير الناس بأن المهدي حق، وأنه سيخرج على الناس لا محالة وأنه يملأ الأرض عدلاً، فإن هذا لا يزيد في الإيمان، ولا في صالح الأعمال ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب.

مع العلم أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة، ولا صريحة، ولا متواترة بل هي كلها مجروحة وضعيفة، والجرح مقدم على التعديل، وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله، فهي حديث خرافة سياسية إرهابية صيغت وصنعت على لسان رسول الله ﷺ، صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت، فأخذوا يرهبون بها بني أمية ويوعدونهم بأنه سيخرج المهدي، وقد حان خروجه فينزع الملك من بني أمية ثم يرده إلى أهل بيت رسول الله إذ إنهم أحق به وأهله.

وكان لعبد الله بن سبأ اليد العاملة في صياغة الحديث، والتلاعب بعقول الناس، وكان يقول: إن المهدي هو محمد ابن الحنفية بن علي بن أبي طالب، وإنه بعث بعد موته وسكن بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وإن عنده عين عسل وعين ماء، وسيقود الجموع لقتال بني أمية. وسموا بالسبئية، وفيه يقول كثير عزة وهو سبئيّ:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانًا
برضوى عنده عسل وماء
وعلى كل حال فإنه متى ساء الاعتقاد ساء العمل، وساءت النتيجة.

ولقد عاش الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، ثم عاش من بعدهم العلماء والسلف الصالحون ممن كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، ثم عاش من بعدهم جميع العلماء والحكام ومنهم: عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وجميع الناس بعدهم، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم، فلم ينقص إيمانهم وتقواهم على عدم وجود المهدي من بينهم لعلمهم واعتقادهم أن الدين كامل بدونه فلا حاجة لهم به خرج أو لم يخرج.

وإننا الآن في العام المتمم للقرن الرابع عشر من السنين، وما يشعرني أنه سيأتي من الزمان أكثر مما مضى حتى تقوم الساعة دون أن يخرج المهدي، والله أعلم.

* * *

[148] النحرير: الماهر الحاذق. [149] أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس. [150] أخرجه أبو يعلى من حديث جاير. [151] أخرجه مسلم من حديث جابر. [152] أخرجه البيهقي من حديث زيد بن أرقم.

عقيدة المسلم مع المهدي

لقد علق بعقائد العامة وعقولهم، وبعض العلماء، وجود مهدي في عالم الغيب لا يعلمون مكانه ولا زمانه.

فمنهم: من يؤمن به، ويصدق بظهوره، وينكر على من أنكره. ومنهم: من ينكر وجود المهدي بتاتًا، ويطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه ويزعم بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله.

ولم تزل المناظرة والمجادلة واقعة قائمة بين الفريقين، ولأجله لا يزال يخرج في كل زمان، وفي بعض البلدان من يدعي أنه المهدي، وعلى أثر هذه الدعوى تثور الفتن وتسيل الدماء.

والحق الذي نعتقده، وندعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه، هو أنه لا مهدي بعد رسول الله كما أنه لا نبي بعده.
جزى الله عنا كل خير محمدا
فقد كان مهديًّا وقد كان هاديا
والمهدي متى قلنا بتصديق الأحاديث الواردة فيه، ليس بملك معصوم، ولا نبي مرسل، ما هو إلا رجل عادي، كأحد أفراد الناس إلا أنه عادل، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة، ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله ﷺ، ولم يحدث بها.

مقام المسلم من المهدي ومقام المهدي منه

أولاً: إنه لا يجب الإيمان الجازم بخروجه لقوة الخلاف في الأحاديث، فلا ينكر على من أنكره، وإنما يتوجه الإنكار على من قال بصحة خروجه.

ثانيـًا: ليس من عقيدة الإسلام والمسلمين الإيمان به، كالإيمان بوجود الرب، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بالجنة والنار إذ هذه من أمور الآخرة التي يجب اعتقادها ووقوعها جلية للعيان في دار الآخرة، وقد أثبتها القرآن وصحيح السنة، وليس منها الإيمان بالمهدي، وقد غلط السفاريني حيث أدخل الإيمان به في عقيدته، قال:
منها الإمام الخاتم الفصيح
محمد المهدي والمسيح فقد أخطأ حيث جعل المهدي هو الخاتم، وإن حملناه على جعله خاتم الأئمة الاثنى عشر خليفة الذين يستقيم بهم أمر الدين، فهذا هو نفس عقيدة الشيعة حيث جعلوا الإمام الحادي عشر هو الحسن العسكري، وبعد موته انتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن الحسن العسكري الذي دخل سرداب سامراء، فدعوى المهدي في مبدئها للشيعة، فهم الذين آمنوا بها وصدقوها، وأكثروا من ذكر هذا المهدي المنتظر، فاقتبس بعض أهل السنة هذا الاعتقاد، ثم سار في طريقه وتلقينه إلى حالة انتشار هذه الفكرة عند المتأخرين، حتى جعلوها طريقة وعقيدة، متى غيرت قيل: غيرت السنة! وهكذا حال البدعة، فبسبب مجاورتهم للشيعة واختلاطهم بهم اقتبسوها منهم، وإلا فإنها ليست من عقيدة أهل السنة، ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في عقائده، لا في الواسطية ولا في الأصفهانية ولا السبعينية ولا التسعينية ولا العرشية، كما أنها لم تذكر في عقيدة الطحاوية ولا في شرحها، ولا في عقيدة ابن قدامة، ولا عقيدة ابن زيدون المالكي.

فعدم ذكرهم لها يدل على أنها ليست من عقائد الإسلام والمسلمين، والمهدي في مبدأ دعوته هو واحد وليس باثنين، فلم يقل أحد: إنهما مهديان، وإنما هو مهدي واحد، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار بعض أهل السنة، فكل لوم أو ذم ينحى به على الشيعة لإيمانهم بإمامهم محمد بن الحسن الذي هو في سرداب، فإنه ينطبق بطريق التطابق والموافقة على أهل السنة الذين يصدقون بالمهدي المجهول في عالم الغيب، فهما في فساد الاعتقاد به سيان.

فبيت الشعر للسفاريني على الحالتين غير صواب ولا صحيح، والسفاريني رحمه الله هو أقوى من ثبت دعائم عقيدة المهدي في قلوب المسلمين.

ثالثـًا: إن المهدي لم يذكر في القرآن، ولا في صحيح البخاري ومسلم فقد نزها كتابيهما عن ذكره، وعن الحديث عنه مع رواج الخبر عنه في زمانهما، فلا نرى ذلك إلا لضعف أحاديثه عند هما.

رابعـًا: إن رسول الله ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يختصر الحكم الكثيرة في الكلمات اليسيرة، تقول عائشة: لقد كان رسول الله يتكلم بكلمات لو عدّها العادُّ لأحصاها [153]. وأحاديث المهدي هي بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، قد أحصاها الشوكاني فيما يزيد على خمسين حديثًا، وكلها متخالفة ومضطربة ينقض بعضها بعضًا، منها ما يشير إلى أن المهدي هو علي بن أبي طالب، ومنها ما يشير إلى أنه الحسن أو بنوه من بعده، ومنها ما يشير إلى أنه محمد ابن الحنفية، وأنه حي في جبل رضوى بين مكة والمدينة، وعنده عينا عسل وماء، ومنها ما يشير إلى أنه رجل اسمه الحارث، ويؤمر بالسعي إليه لبيعته ولو حبوًا على الركب أو على الثلج، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يعلم كل عاقل بأن رسول الله منزه عنها.

خامسًا: لم يكن من هدي رسول الله ولا من شرعه، أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب وهو من أهل الدنيا، ومن بني آدم فيخبر عنه أنه يفعل كذا وكذا، مما يوجب الاختلاف والاضطراب بين الأمة.

سادسـًا: بما أن المهدي بصفة ما يزعمون، وأن اسمه كاسم الرسول محمد بن عبد الله، وأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف ومن قريش، فإن هذه الصفة توجد بكثرة في كثير من الأشراف.

وبما أنني من هؤلاء الأشراف، من ذرية الحسن بن علي، فإنه لو خرج رجل من الأشراف اسمه محمد بن عبد الله، وهو أجلى الجبهة أقنى الأنف، ويدعي أنه المهدي، فإنني أول من يقاتله لاعتقادي أنه كذاب يريد أن يفسد الدين، ويشق عصا المسلمين، والنبي ﷺ قال: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه»[154].

سابعـًا: إن من صفة المهدي الذي يدعون خروجه، وأن مقامه في الدنيا سبع سنين أو تسع سنين في الحديث الآخر، وهل هو يؤيد بالخوارق والمعجزات أو بالأحلام والمنامات؟ وهل تنزل معه الملائكة تحارب معه، أو الجن تسخر له كما سخرت لداود؟ وهل هو أكرم على الله من محمد رسول الله الذي مكث ثلاثًا وعشرين سنة، كلها يجاهد ويجادل ويصبر على اللأواء والشدة، ويتبع السنن الكونية من الطرق الموصلة إلى نجاحه، والقرآن يؤيده والملائكة يمده الله بهم، وقد شُج رأسه ﷺ، وكسرت رباعيته، ودلوه في حفرة ظنوه ميتًا وذلك في وقعة أحد.

ومع هذا كله لم يتمكن من بسط العدل إلا في جزيرة العرب، وهي نقطة صغيرة بالنسبة إلى سعة الدنيا.

أفيكون المهدي المنتظر أعز على الله من محمد رسول الله؟!

ثامنًا: إن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، علماءهم وعامتهم، متفقون على قتال من يدعي أنه المهدي كما مضى منهم ذلك في كل زمان ومكان، مع كثرة من يدعي أنه المهدي، لاعتقادهم أنها دعوى باطلة لا صحة لها.

ولا يزالون يقاتلون من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟ وصار المهدي كالموجود في الأذهان دون الأعيان.

تاسعًا: اتفق العلماء على أن الصحابة كلهم عدول، فلا ينسب إليهم شيء من تعمد الكذب، لكنه في القرن الأول ثم الثاني شمل الناس فتن مثل فتنة الجمل وصفين، ثم فتنة النهروان في قتال علي للخوارج، ثم فتنة ابن الزبير مع عبد الملك ابن مروان والحجاج، ثم فتنة مقتل مصعب بن الزبير مع عبد الملك بن مروان في العراق، ثم فتنة المختار بن أبي عبيد وقتله لعبيد الله بن زياد.

وعلى أثر هذه الفتن انتشرت الأهواء في الناس إلى حالة أنهم يتقاذفون بالسب والشتم على المنابر، فأصحاب علي رضي الله عنه وأنصاره يسبون معاوية وبني أمية، وبنو أمية وأنصارهم يقابلونهم بمثل ذلك إلى بداية ولاية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فرفع هذا السب، وجعل بدله: ﴿رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ١٠ [الحشر: 10].

عاشرًا: إن الدين كامل بوجود رسول الله ونزول كتاب الله، ولم يخلف رسول الله شيئًا منه لا في السماء ولا في الأرض، يقول تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3].

والنبي ﷺ يقول: «لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنتي»[155].

لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين وعدل يأتي به المهدي، فلا مهدي بعد رسول الله ﷺ كما لا نبي بعده.

حادي عشر: إن العلماء كأبي داود في سننه، وابن كثير في نهايته، والسفاريني في لوامع أنواره وغيرهم، قد أدخلوا أحاديث المهدي في جملة أشراط الساعة مع أحاديث الدجال والدابة، ويأجوج ومأجوج، وأحاديث الفتن. فكل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، لعلمهم أنها أحاديث مبنية على التساهل، ويدخل فيها الكذب والزيادات، والمدرجات، والتحريفات وليست بالشيء الواقع في زمانهم، ولا من أحاديث أحكامهم، وأمور حلالهم وحرامهم.

وفي القرن التاسع لما كثر المدعون للمهدي، وثارت الفتن بسببه كما ذكرها المسعودي في تاريخه، فعند ذلك اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي ليعرفوا قويها من ضعيفها، وصحيحها من سقيمها، لكون الحوادث في الحياة هي أم الاختراعات، فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها، فنخلها ثم نثرها حديثًا حديثًا، وبين عللها كلها، وأن من رواتها الكذوب، ومنهم المتهم بالتشيع والغلو، ومنهم من يرفع الحديث إلى الرسول بدون أن يتكلم به الرسول، ومنهم من لا يحتج به.

وخلاصته أنه حكم على أحاديث المهدي بالضعف.

لكن رأينا بعض العلماء في هذا الزمان يعترض على تصحيحات ابن خلدون قائلاً: إنه مؤرخ، وليس بصاحب حديث. وهذا الاعتراض لا موقع له من الصحة، فإن ابن خلدون عالم جليل، ولا يقول أحد فيه إلا الخير، وكونه مؤرخًا لا يمنع من كونه محققًا لعشرة أحاديث أو أكثر، لكون التحقيق سهل على مثله عند توفر الآلات والكتب المؤلفة عن صفات الرواة... ودراسة الأشخاص وعدالتهم والقدح فيهم من شؤون التاريخ، كما أنه من شؤون علم الحديث، وكان لابن خلدون مناظرات ومساجلات في الرد مع ابن حجر صاحب فتح الباري.

وقد رأينا من يؤيد قول ابن خلدون من العلماء المتقدمين، والراقين في العلم والمعرفة، والاعتصام بالكتاب والسنة، ومنهـم: العلامة ابن القيم فقد ذكر في كتابه المنار المنيف عن أحاديث المهدي وضعفها كما سنورد كلامه بطوله في التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا فلتراجع.

ومنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام[156] فقد جعل المهديين والإمامية من أهل البدع، ويعني بالمهديين: الذين يصدقون بخروج المهدي، ودونك كلامه بلفظه إثباتًا للحجة والعذر، وإزالة للشبهة والعذل، قال بعد كلام له سبق في المتبعين لأهل الأهواء والبدع:وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرًا لها ومحتجًّا عليها.

وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل.

وقال: مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة، وافقت حكم الشريعة أو خالفت، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم، من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي[157].

وبذلك تنقطع حجة من ادعى أنه لم يسبق الإمام ابن خلدون أحد من العلماء في تضعيف أحاديث المهدي، وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي، وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله ﷺ، بدليل التعارض والتناقض، والمخالفات والإشكالات، مما يجعل الأمر جليًّا للعيان، ولا يخفى إلا على ضعفة الأفهام، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

ثاني عشر: هو أن النبي ﷺ جاء بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والمضار وتقليلها، وأن التصديق بالمهدي والدعوة إلى الإيمان به يترتب عليه فنون من المضار والمفاسد الكبار، والفتن المتواصلة التي تكون الآخرة منها شر من الأولى، مما ينزه الرسول عن الإتيان بمثلها، فهي من فتنة الحياة التي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منها في أدبار الصلوات، وقد لازم الناس الخوف والوجل من الابتلاء بفتنة المدعي أنه المهدي وبشيعته وأعوانه من الشباب الطائش الذين هم الغوغاء والهمج السذج أتباع كل ناعق، ويميلون مع كل صايح، والغوغاء هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان، فيترتب على التصديق به فتنة في الأرض وفساد كبير، وما يقع في قلوب الناس من اعتقاده هو أكبر وأنكر، فإن الفتنة أشد من القتل فلا يلام ولا يأثم من أنكره إذ الأصل عدم صحته.

فإن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، فإن هذا مما ينافي شريعته التي جعلها الله رحمة لعباده ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨[التوبة:128].

فوجود هذا أضر على الناس من عدمه، مع أنه من المحال بأن يكون على صفة ما ذكروا..

أما اعتقاد بطلانه، وعدم التصديق به فإنه يعطي القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتنان ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة: 41].

إن فكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية، وكلها نبعت من عقائد الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من آل البيت.

واستغلت الشيعة أفكار الجمهور الساذجة، وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية فآتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله ﷺ في ذلك، وأحكموا أسانيدها، وأذاعوها من طرق مختلفة فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم.

وكانت بذلك مؤامرة شنيعة أفسدت بها عقول الناس، وامتلأت بأحاديث تروى وقصص تقص، نسبوا بعضها إلى النبي ﷺ، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار.

وكان لكل ذلك أثر سيِّئ في تضليل عقول الناس، وخضوعهم للأوهام كما كان من أثر ذلك الثورات والحركات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس، ويتسببون في إثارة الكثير من الفتن، وهذا كله من جراء نظرية خرافية هي نظرية المهدي وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم.

* * *

[153] متفق عليه. [154] أخرجه مسلم من حديث عرفجة بن ضريح. [155] أخرجه مسلم من حديث جابر. [156] انظر صفحة 129 وما بعدها. [157] انظر كتاب الاعتصام : 301 وما بعدها.

التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر

علم أن أحاديث المهدي تدور بين ما يزعمونه صحيحًا وليس بصريح، وبين ما يزعمونه صريحًا وليس بصحيح، وأننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي ﷺ حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي، وأن الرسول ﷺ تكلم فيه باسمه.

وقد نزه البخاري ومسلم كتابيهما عن الخوض في أحاديث المهدي، كما أنه ليس له ذكر في القرآن، لهذا لا ننكر على من أنكره، وإنما الإنكار يتوجه على من اعتقد صحة خروجه.

وسنتكلم على الأحاديث التي يزعمونها صحيحة، والتي رواها أبو داود والإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وكلها متعارضة ومختلفة، ليست بصحيحة ولا متواترة، لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى.

الحديث الأول:

روى أبو داود في سننه عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة». ثم قال كلمة فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلهم من قريش» فالجواب أن هذا الحديث يجعلونه رأسًا وأصلاً في أحاديث المهدي بحيث يستقي منه أهل السنة الذين يصدقون بصحة خروج المهدي، كما يستقي منه الشيعة حيث يرون أن إمامهم محمد بن الحسن العسكري هو الثاني عشر.

وبمقتضى التأمل لم نجد للمهدي ذكرًا في هذا الحديث، لا بمقتضى التصريح ولا التلميح، فالاستدلال به، على فرض صحته، غير موافق ولا مطابق، فإنه لا ذكر للمهدي فيه ولم يقل في الحديث: إن أحدهم المهدي. حتى يكون حجة.

وقد صار أمر المهدي وخروجه مشتركًا بين السنة والشيعة، وكل منهم استدل بهذا الحديث، وقد سماه العلامة ابن كثير في نهايته بالخليفة، وجعله بصف الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

وقد قال النبي ﷺ: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»[158]. وقد انتهت بوفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

كما أن السفاريني سماه بالإمام وبالخاتم فقال:
منها الإمام الخاتم الفصيح
محمد المهدي والمسيح
ولا أدري من أين وجدوا بأن رسول الله قال في هؤلاء الأئمة إن أحدهم المهدي أو إنه الإمام أو الخليفة، وما هو إلا محض المبالغة في الغلو في القول بخروجه حتى أدخلوا هذا الاعتقاد في قلوب بعض العلماء، وأكثر العامة، وحتى أدرجوه في عقيدة أهل السنة والجماعة.

والحق أن حديث جابر بن سمرة في قول النبي ﷺ: «لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة». ينبغي أن يحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حمله على حكام المسلمين الذين كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، والذين قام بهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية بن أبي سفيان ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد ابن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك ثم يزيد بن الوليد، ومن بعده إلى مروان بن محمد، ثم انتقلت الإمامة إلى بني العباس ومنهم: المنصور، ثم ابنه المهـدي، ثم هارون الرشيد إلى من بعدهم ممن استقام بهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين، ومن بعد هؤلاء عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي.

فلا ينبغي أن نبخس هؤلاء حقهم، أو ننسى محاسنهم، أو نجحد عموم عدلهم الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، ثم نحمله على المهدي الذي لا يخرج بزعمهم إلا زمن عيسى ابن مريم، وهو مجهول في عالم الغيب.

ولا نقول: إن هؤلاء ليس فيهم عيوب ولا ذنوب، بل قد يوجد فيهم ما يعابون به كما قالوا في معاوية وقتاله لعلي، وكون علي أحق بهذا الأمر منه بشهادة رسول الله ﷺ حيث قال في الخوارج: «يقتلهم أولى الطائفتين بالحق»[159]. وقد قاتلهم علي، وقال في عمار: «تقتلك الفئة الباغية»[160]. وقد قتله أصحاب معاوية، وهذه كلها ذنوب خاضعة تحت عفو الله ومغفرته، إذ لا يلزم أن تحبط سائر عمله، وماضيه ومستقبله، والحسنات يذهبن السيئات، فقد حكم معاوية عشرين سنة، واستقام عليه أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين.

وقبله قد قاتل الزبير وطلحة في وقعة الجمل عليًّا رضي الله عنهم أجمعين، ومع هذا فقد قال علي رضي الله عنه: إني أرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة من الذين قال الله فيهم: ﴿وَنَزَعۡنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنۡ غِلٍّ إِخۡوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٖ مُّتَقَٰبِلِينَ ٤٧ [الحجر: 47].

فمتى قلنا: إن الاثني عشر خليفة الذين استقام بهم الدين لن يخرجوا عن هؤلاء الأئمة الذين أعز الله بهم الدين، وجمع بهم شمل المسلمين لم نكن آثمين، بدلاً من أن نحيل أحدهم إلى تسميته بالمهدي، ثم نجعله خيالاً غيبيًّا يوجد في الأذهان دون الأعيان، إذ هذا من التخرص والظنون، والقول على الله وعلى رسوله بغير حق.

[158] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث سفينة. [159] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. [160] أخرجه مسلم من حديث أم سلمة.

الحديث الثاني:

روى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله رجلاً منا يملؤها عدلاً كما ملئت جورًا».

ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم، ورواه الترمذي أيضًا.

والجواب: إن هذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة، وهي ليست بصريحة في الدلالة على المعنى الذي ذكروه، إذ ليس فيها ذكر للمهدي.

وعلى فرض صحته، فإنه لا مانع من جعل هذا الرجل الذي يملأ الأرض عدلاً من حكام المسلمين الذين مضوا وانقضوا واستقام عليهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين.

فقوله: «منَّا» يحتمل أن يكون من أهل ديننا وملتنا، على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا يكاد أن يكون من المحال، فقد خلق الله الدنيا وخلق فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر كما قال سبحانه: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢ [التغابن: 2]. لكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والمصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين المسلمين والكفار.

وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «ما أنتم في الأمم المكذبة للرسل إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود». وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «يقول الله: يا آدم ابعث بعث النار. فيقول: يا ربي وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة».

وعلى كل حال فإنه ليس في الحديث التصريح باسم المهدي، ولا زمانه ولا مكانه ولا الإيمان به، ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين الذين استقام بهم الدين، وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين.

وهذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة.

الحديث الثالث:

روى أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «المهدي مني أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، يمكث في الأرض سبع سنين».

والجواب: إن هذا بمعنى الحديث الأول ما عدا الأوصاف، من كونه أجلى الجبهة أقنى الأنف، وهذه الأوصاف موجودة في كثير من الناس وخاصة الأشراف، فلا تفيد بالمهدي علمًا ولا يقينًا، ورسول الله ﷺ منزه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله، ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد صارت دعوى المهدي، والاتصاف بالأوصاف المذكورة، مركبًا للكذابين الدجالين، فكل واحد منهم يحاول أن يكون هو، فيقع الناس في مشكلة لم تحل، وفتنة لا تنتهي يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة، وحاشا أن يأتي بها رسول الله لأمته.

الحديث الرابع:

روى أبو داود في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المهدي من عترتي ومن فاطمة».

فالجواب أن نقول: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأم سلمة، وأبا سعيد الخدري، وابن مسعود وسائر الصحابة كلهم إن شاء الله منزهون عن الكذب على رسول الله ﷺ، وإنما حدث وضع أمثال هذه الأحاديث وصياغتها من الغلاة الزنادقة.

وقد تعقب صاحب تهذيب السنن على حديث أم سلمة هذا وأعله بالبطلان. قال أبو جعفر العقيلي: إن هذا الحديث يروى عن أبي نفيل العقيلي، وإنه من قول نفيل، ولا يتابع عليه ولا نعرفه إلا منه، وذكر البخاري أن في سنده زياد بن بيان، وقد وهم في رفعه إلى رسول الله ﷺ.

فهذا الحديث مما قلنا: إنه صريح في ذكر المهدي، لكنه ليس بصحيح لا في سنده ولا متنه، ولم يحفظ عن رسول الله اسم العترة، وهم أقارب الشخص، ولا اسم المهدي.

الحديث الخامس:

روى أبو داود في سننه عن أم سلمة: أن رسول الله ﷺ قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن و المقام، ويُبعث إليه بعث من الشام، فتخسف بهم البيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك آتاه أبدال الشام، وعصائب أهل العراق، فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش، أخواله كلب فيبعث إليهم بعثًا، فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب -أو قال: بيعة كلب- فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيه، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض، فيلبث سبع سنين، تم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون».

فالجواب: إن هذا الحديث ليس بصحيح ولا بصريح، وليس للمهدي فيه سوى ذكر رجل خرج هاربًا من المدينة إلى مكة، ويبعد كل البعد أن يصدر هذا الخبر عن أم سلمة، فإنها ليست معروفة برواية الحديث كهذا، وبطلانه يظهر من دراسته، ولقد صرح السيوطي في كتاب اللآليء المصنوعة بأنه موضوع، والموضوع: هو المكذوب على الرسول.

وكم خليفة قد مات فوقع من بعده اختلاف، ولما قتل ابن الزبير ألزم الحجاج الناس بأن يبايعوا لعبد الملك بن مروان بين الركن والمقام، أفيقال: إنه هو؟ ولأن حوادث الزمان لا تنضبط، وليس من شأن الرسول، ولا من شأن عالَم الغيب، أن يخبر أمته بكل حادثة تحدث من بعد موته إلى يوم القيامة، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا ينكر فيه حديث أبدال الشام ورايات العراق، ويقول: إنه لا صحة له.

وقد أخبر النبي ﷺ أنه يؤخذ بأناس من أمته ذات الشمال «فأقول: يا رب أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: بعدًا وسحقًا لمن غيّر بعدي، أقول كما قال العبد الصالح: ﴿مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ١١٧ [المائدة: 117]»[161].

وأما قوله في الرجل الذي من قريش والذي يبايعه الناس: «ثم يلقي الإسلام بجرانه بين الناس سبع سنين، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون».

فكم من رجل من قريش تولى الحكم على الناس، وألقى الإسلام بجرانه في زمانه، واجتمعت عليهم كلمته واستفادوا في زمانه بالإيمان والأمان وزيادة الاطمئنان، ثم نشر العدل في جميع الأوطان، ومكث في ولايته سنين طويلة دون أن يسمى المهدي.

أما هذا الرجل الذي لا يمكث في ولايته على الناس إلا سبع سنين فإنه فيء زائل.

وكيف يملأ الأرض عدلاً في سبع سنين، وقد ملئت جورًا وكفرًا؟ فهل يغزو الناس بالأحلام في المنامات، أو يغزو الناس بالملائكة أو بالجن؟

وهل هذا الرجل أفضل من رسول الله ﷺ، الذي جادل وجاهد وصبر على اللأواء والضنك والشدة، وأوذي في الله، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ومشى على طريق السنن المعتادة، واستقام على ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، ولم يتمكن من ملء الأرض عدلاً إلا في الجزيرة العربية، التي هي بمثابة النقطة بالنسبة إلى سعة الدنيا، ومتى صدقنا بهذا الحديث فإننا نكون ممن يفضل هذا الرجل على النبي محمد ﷺ، مع العلم أنه لم يذكر اسم المهدي فيه، فسقط الاستدلال به، إذ الرجل مبهم، وتعيين شخص معين هو تحكم بغير علم، إذ هذا يعود إلى علم الغيب.

[161] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.

الحديث السادس:

روى أبو داود بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له: الحارث بن حران على مقدمة رجل يقال له: منصور، يوطئ أو يمكّن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله ﷺ، وجبت على كل مؤمن نصرته» أو قال: «إجابته».

فالجواب: إن هذا الحديث هو من جملة ما أورده أبو داود في سننه عن المهدي، وإنه يبعد كل البعد عن المعنى الذي أرادوا، فليس فيه ذكر للمهدي قطعًا لا باللفظ ولا بالمعنى، فليس هو بصحيح ولا بصريح ولا متواتر، وإن أمارات الكذب تلوح عليه جلية، إذ لا يوجب الرسول على أمته البيعة لرجل مجهول اسمه الحارث يخرج من وراء النهر، ويوطئ الملك لآل محمد.

فقد قال النبي ﷺ لقريش: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من عذاب الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا»[162].

فليس من شأن الرسول، ولا من عمله، ولا من خلقه ودينه، أن يمهد الملك ويوطد البيعة لأهل بيته، ولو كان كذلك لقدم عليًّا على أبي بكر في البيعة، ولما قال: «يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر»[163].

ولهذا قال الصحابة عند بيعته: رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ بل قال رسول الله ﷺ في حديث العرباض بن سارية الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن العرباض قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصِنا قال: «أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإن من يعش منكم فسيرى اختلافًاً كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة».

والنبي ﷺ قال لأهل بيته: «إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تروني على الحوض»[164]. والأثرة: الاستئثار بالشيء عن الآخرين.

وقريش لم تمهد لآل محمد الملك، إنما قاتلهم عليه، فقد غزت قريش النبي ﷺ في عقر داره يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، وإنما بذلوا له الطاعة بعد فتح مكة، لأن الدنيا دار أنكاد وأكدار، ودار شرور وأضرار، وأشد الناس فيها بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، والآخرة عند ربك للمتقين.

[162] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [163] أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «يأبى الله والمؤمنون» . [164] أخرجه البخاري ومسلم عن أسيد بن حضير.

الحديث السابع:

روى الإمام أحمد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية عن أبيه عن علي قال: قال رسول الله ﷺ: «المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة». وقد رأيت من ينتقد هذا الحديث قائلاً: والعجيب أن يكون المهدي بعيدًا عن التوفيق، والفهم والرشد، ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة ليكون في صبيحتها داعية هداية ومنقذ أمة.

ورواه ابن ماجه عن عثمان بن أبي شيبة، وقال: ياسين العجلي ضعيف.

فهذا من جملة الأحاديث التي فيها التصريح باسم المهدي، لكنها ليست بصحيحة كما أشار ابن ماجه إلى تضعيفه، ومن الأمر العجيب في هذا الحديث كون المهدي بعيدًا عن الهداية والتوفيق والرشد، ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة فيكون في صبيحتها: هاديًا مهديًّا ومنقذ أمة من جورها وفجورها.

الحديث الثامن:

روى أبو داود عن هارون بن المغيرة، حدثنا ابن أبي قيس عن شعيب بن خالد عن أبي إسحاق قال: نظر علي إلى ابنه فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله ﷺ، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق، ولا يشبهه في الخلق. ثم ذكر قصة يملأ الأرض عدلاً... وهذا يعد من كلام علي رضي الله عنه، وليس بحديث عن رسول الله، فسقط الاحتجاج به، ومن المحتمل أن يكون مكذوبًا على علي به.

الحديث التاسع:

روى أبو داود في سننه من حديث سفيان الثوري بسنده عن عبد الله بن مسعود، عن النبيﷺ قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث فيه رجل مني، أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا». ورواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.

والجواب: إن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، كهذه الأحاديث وأمثالها، لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم. وفي صحيح البخاري عن أبى جحيفة، قلت لعلي رضي الله عنه: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر، وفي رواية: والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. ولم يذكر شيئًا من هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب، ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما، لكون الغالب عليها الضعف والوضع، وأصح ما ورد في ذلك هو قول النبي ﷺ: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»[165]. وقد وقع ما أخبر به حيث تنازل الحسن عن المطالبة بالملك لمعاوية ابن أبي سفيان، فأطفأ الله به نار الحرب بين الصحابة، وسموا ذلك العام بعام الجماعة.

[165] أخرجه النسائي والترمذي من حديث أبي بكرة.

الحديث العاشر:

روى ابن ماجه بسنده إلى الحارث بن جزء الزبيدي قال: قال رسول الله ﷺ: «يخرج الناس من المشرق فيوطئون للمهدي»، يعني السلطان. وروى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي ﷺ اغرورقت عيناه، وتغير لونه، قلت: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه!؟ قال: «إنا أهل البيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بلاء وتشريدًا وتطريدًا حتى يأتي قوم من أهل المشرق ومعهم رايات سود، يسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطًا كما ملئت جورًا، فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبوًا على الثلج». قال الذهبي: هذا حديث موضوع، والموضوع: المكذوب على رسول الله. وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو سيئ الحفظ، اختلط في آخر عمره، وكان يقلد الفلوس أي: يزيفها.

الحديث الحادي عشر:

روى ابن ماجه عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارًا، ولا الناس إلا شحًّا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، وما المهدي إلا عيسى ابن مريم».

وقالوا: إن هذا الحديث مشهور بمحمد بن خالد الجندي المؤذن شيخ الشافعي.

وهذا الحديث لو صح لقضى بإبطال سائر الأحاديث في المهدي، ولكنه ضعيف عندهم لمخالفته لسائر الأحاديث، ولا يقل عن ضعف سائر الأحاديث المذكورة في المهدي، وهنا حديث كثيرًا ما يحتج به المتعصبون للمهدي وهو: أن المهدي مع المؤمنين يتحصنون به من الدجال، وأن عيسى عليه السلام ينزل من منارة مسجد الشام، فيأتي فيقتل الدجال، ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فيقول المهدي: تقدم يا روح الله، فيقول: إنما هذه الصلاة أقيمت لك، فيتقدم المهدي، ويقتدي به عيسى عليه السلام إشعارًا بأنه من جملة الأمة، ثم يصلي عيسى عليه السلام في سائر الأيام. قال علي بن محمد القاري في كتابه: الموضوعات الكبير؛ بأنه حديث موضوع.

وإننا متى حاولنا جمع أحاديث المهدي التي يقولون بصحتها وتواترها بالمعنى، وقابلنا بعضها ببعض، لنستخلص منها حديثًا صحيحًا صريحًا في المهدي، فإنه يعسر علينا حصوله، وكلها غير صحيحة، ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى، بل هي متعارضة ومتخالفة، وغالبها حكايات عن أحداث، ومتى حاولت جمعها نتج لك منها عشرة مهديين، صفة كل واحد غير الآخر مما يدل بطريق اليقين أن رسول الله ﷺ لم يتكلم بها، منهم مثلاً:

1- مهدي يخرج من اثني عشر خليفة الذين يستقيم بهم الدين.

2- ومهدي استخرجوه من حديث: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلاً منا يملؤها عدلاً كما ملئت جورًا».

3- ومهدي منا أجلى الجبهة، أقنى الأنف.

4- ومهدي يقول فيه رسول الله ﷺ: «المهدي من عترتي، ومن ولد فاطمة».

5- ومهدي يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة إلى مكة، فيبايعونه بين الركن والمقام.

6- ومهدي يخرج من وراء النهر يقال له: الحارث بن حران، وعلى مقدمته رجل يقال له: منصور، يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله ﷺ.

7- ومهدي قال فيه رسول الله: «المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة».

8- ومهدي قال فيه رسول الله: «إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون ذلًّا وتشريدًا من بعدي حتى يأتي قوم من المشرق معهم رايات سود، فيسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون، فينصرون ويعطون ما سألوا، فلا يقبلوها حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطًا كما ملئت جورًا».

9- ومهدي أخواله كلب.

10- ومهدي قال فيه رسول الله: «لا مهدي بعدي إلا عيسى ابن مريم».

وهذه الأحاديث هي التي يزعم المتعصبون لصحة خروج المهدي بأنها صحيحة ومتواترة بالمعنى، وهي لا صحيحة ولا صريحة ولا متواترة.

* * *

فصل مهدي أهل السنة ومهدي أهل الشيعة

إننا عندما نتحدث في كتابنا هذا عن المهدي، فإنما نعني به المهدي المجهول في عالم الغيب، والذي يصدق بخروجه بعض أهل السنة.

أما مهدي الشيعة فإنه معلوم اسمه، ومعروف مكانه فلا حاجة للكلام فيه.

وأول من قال بالمهدية: كيسان مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ابنه محمد ابن الحنفية، فقد زعم بأنه المهدي، وأنه مقيم بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وأن عنده عيني عسل وماء. وهذا هو اعتقاد المختار بن أبي عبيد ومن معه، ثم دخلت فكرة المهدي وخروجه في المجتمع الإسلامي، وكان لعبد الله بن سبأ اليد العابثة في تحقيقه، وصناعة الحديث في التصديق به، وكانت الكوفة موطنًا أو مسرحًا لجميع الناس، وخاصة غلاة الزنادقة ومن دخل في الإسلام في الظاهر من اليهود والنصارى والمجوس، فدخلت من بينهم الأهواء، ومجادلة انتصار قوم على آخرين مع الحرص منهم على إفساد عقيدة الدين، فصار من السهل عليهم مع عدم إيمانهم وأمانتهم بأن أنشؤوا الأحاديث المكذوبة عن أهل القبور بحيث يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله. وهم كلهم أموات غير أحياء، فوسعوا الشكوك الإلحادية، وزعزعوا بآرائهم العقائد الدينية، ولقحوا أفكار الناس بعقائد خيالية دخيلة ليست من عقائد الإسلام والمسلمين، كعقيدة المهدي المنتظر وما يكون من أمره ونشره للعدل في جميع الدنيا في خلال سبع سنين، وساعد على رسوخ فتنة المهدي نشاط دعاتها، وجَوبهم للأقطار في سبيل نشرها، واشتهارها وصحتها ويوهمون أتباعهم بنجاح دعوتهم، وكثرة أتباعهم، مع حلاوة ما يدعون إليه من محاربة الجور والظلم، وبسط العدل والأمن الذي يخالفه فعلهم عند استيلائهم. فكانوا يرون بالضروري بزعمهم أن يلجؤوا إلى صناعة الأحاديث المكذوبة ليشغلوا بها الأذهان وضعفة العقول والأفهام، ويستعملوها بمثابة آلة الانتصار لحزبهم وحرب عدوهم، والباطل لا تقوى شوكته وتعظم صولته إلا في حالة رقدة الحق عنه، فإذا انتبه له هزمه بإذن الله.

يقول الله تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ [الأنبياء: 18].

لها رأينا كما رأى المؤرخون قبلنا بأن دعوى المهدي لا تزال تتكرر في الأعصار والأمصار، فكان دعاتها يملؤون ما استولوا عليه من البلدان جورًا وفجورًا وظلمًا وعدوانًا، ويستبيحون سفك الدماء وأخذ الأموال، ويفسدون الدين ويفرقون جماعة المسلمين حتى في أشرف بقاع الأرض كالمسجد الحرام، والذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ومن دخله كان آمنًا.

لهذا وقبل ذلك تنبه العلماء من المتقدمين والمتأخرين لرد الأحاديث التي يرددونها ويموهون بها على الناس، فأخضعوها للتصحيح والتمحيص، وبينوا ما فيها من الجرح والتضعيف، وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين.

وممن انتقد هذه الأحاديث وبين معايبها: العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: المنار المنيف في الصحيح والضعيف.

وقد أشرنا إلى كلامه بلفظه في كتابنا هذا، ومنهم: الشاطبي صاحب الاعتصام، فقد ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع، ويعني بالمهدية: الذين يعتقدون صحة خروج المهدي، وكذلك ابن خلدون في مقدمته فقد فحص أحاديث المهدي وبين بطلان ما يزعمونه صحيحًا منها، فسامها كلها بالضعف وعدم الصحة، وأن من رواتها من يتهم بالتشيع، ومنهم الحروري[166]، ومنهم من يعتقد رفع السيف على أهل القبلة، ومنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من يتهم بسوء الحفظ، ومن يتهم برفع الحديث إلى رسول الله بدون أن يتكلم به الرسول، مع ما فيها من التعارض والاضطراب والاختلاف.

ثم قال: والحق الذي ينبغي أن يتقرر أن ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء ممن لا يرجع في رأيه إلى اعتقاد صحيح، ولا إلى علم صريح يفيده، فيجيبون في ذلك على غير نسبة، وفي غير مكان تقليدًا لما اشتهر من ظهور الفاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر وإنما يقولون تقليدًا، فقد ظهرت حركات كثيرة كلها تدعي أنها المهدي، ثم ظهر ناس بهذه الدعوة وينتحلون السنة، وليسوا عليها إلا الأقل.

ويقول محمد فريد وجدي في دائرة المعارف الجزء 9 ص 480: ما ورد في المهدي المنتظر من أحاديث، والناظرون فيها من أولي البصائر لا يجدون في صدورهم حرجًا من تنزيه رسول الله ﷺ من قولها، فإن فيها من الغلو والخبط في التواريخ والإغراق في المبالغة، والجهل بأمور الناس والبعد عن سنن الله المعروفة ما يشعر المطالع لأول وهلة أنها أحاديث موضوعة تعمد وضعها رجال من أهل الزيغ المشايعين لبعض أهل الدعوة من طلبة الخلافة في بلاد العرب أو المغرب.

وقد ضعَّف كثير من أئمة المسلمين أحاديث المهدي، واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه منهم: الدارقطني والذهبي، وقد أوردناها مجتمعة لتكون بمرأى من كل باحث في هذا الأمر حتى لا يجرؤ بعض الغلاة على التضليل بها على الناس. انتهى.

* * *

[166] الحروري: الخارج، وكان الخوارج يسمون بالحروريين.

المقارنة بين أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين

إننا متى قابلنا بين العلماء المتقدمين والمتأخرين، نجد الفرق واسعًا، فلا مداناة فضلاً عن المساواة، إذ العلماء المتقدمون قد جمعوا بين العلم والعمل، فهم أحق وأتقى وأقرب للتقوى.

لكن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله ﷺ من مؤمن بالله، ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة، حتى بلغت خمسين حديثًا في قول الشوكاني كما نقلها عنه السفاريني في لوامع الأنوار، وأورد ابن كثير في نهايته الكثير منها، وفي كتب الشيعة: إنها بلغت ألفًا ومائتي حديث.

والسبب أن من عادة علماء السنة المتقدمين التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة، كأحاديث المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وما كان من قبيل ذلك فلا يتكلفون في نقدها، ولا إخضاعها للتصحيح ولا للتمحيص لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة.

بخلاف أحاديث الأحكام وأمور الحلال والحرام، وما يحتاجه الناس في عبادة ربهم والتعامل فيما بينهم في أمور دنياهم، فقد بالغوا في تحقيقها بمعرفة رواتها، وما يجوز وما لا يجوز منها، فهم بعلم صحيح نطقوا وببصر ناقد كفوا.

غير أن الحاجات هي أم الاختراعات، ولكل حادث حديث، وكم ضارة نافعة، وأنه لولا حادث الحرم الشريف بمكة، وانتهاك حدوده ومحرماته وقتل الحجاج والمصلين فيه، وقتل حراسه من قبل الفئة المارقة المنافقة، إنه لولا ذلك لما تكلفت تأليف هذه الرسالة، لاعتقادي أن المهدي وما يقال فيه ليس من عقيدة أهل السنة، فلم أعطه حظًّا من الاحتفال به، وأنه وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة، يتلقفها واحد عن آخر، ويزيد كل واحد فيها ما يريده. لله در الحادثات فإنها صدأ الجبان وصيقل[167] الأحرار إن فكرة المهدي والفتنة به أصبحت تتكرر في كل زمان ومكان، وأصبح يتطلع لها ويطمع في الاتصاف بها كل شاب مجنون يطابق اسمه اسم المهدي وصفته كصفته، فيظن الهمج السذج الذين هم أتباع كل ناعق ويميلون مع كل صائح أنه أملهم المنشود وبغيتهم المطلوبة.

ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الطفور والطغيان ومجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان.

والذي جعل أمر المهدي يستفحل بين أهل السنة من المسلمين، وكان بعيدًا عن عقيدتهم، هو عجز العلماء المتقدمين وكذا العلماء الموجودين على قيد الحياة، فلم نسمع بأحد منهم رفع قلمه ولا نطق (ببنت شفة)[168] في التحذير من هذا الاعتقاد السيئ، وكونه لا صحة له. اللهم قد بلغت، بل إنهم ينكرون على من يقولون بإنكاره فيزيدون الحديث علة والطين بلة.

وقد سمعت أن أحد الطلاب قد حصل على شهادة الدكتوراه بتقديم رسالة أثبت فيها صحة خروج المهدي. إن فكرة المهدي والفتنة به لها أسباب سياسية واجتماعية، وغالبها مقتبس من عقائد الشيعة وأحاديثهم، فسرى اعتقادها إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى.

فبعد خروج الخلافة من أهل البيت تصدى أقوام من المتحمسين لهم فعملوا عملهم في صناعة الأحاديث التي غزوا بها أفكار الجمهور، يروونها عن رسول الله ﷺ، وأحكموا أسانيدها عن أكثر الموتى وأخرجوها بطرق مختلفة، وأسانيد مضطربة ومتعارضة، فصدق بها بعض علماء الإسلام، وضعفة العلوم والأفهام، وصار لها الأثر السيئ في تضليل عقول الناس، وإفساد عقائدهم، وخضوعهم للخرافات والأوهام.

وعلى أثر اعتقادها والتصديق بها، تتابعت الحركات والثورات المشحونة بسفك الدماء، ففي كل عصر يخرج من يدعي أنه المهدي، وناهيك بالمغرب وكثرة من يخرج فيه من المدعين للمهدية، ويلتف حوله أتباعه من الهمج السذج والغوغاء الذين هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

ففكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع سيرة رسول الله ﷺ وسنته بحال، فقد أثبتت التآريخ الصحيحة حياة رسول الله من بداية مولده إلى حين وفاته، كما أثبتها القرآن وليس فيها شيء من ذكر المهدي، كما لا يوجد في القرآن شيء من ذلك فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به والقرائن والشواهد تكذبه؟

وما هذا التهالك في محبته والدعوة إلى الإيمان به، وهو رجل من بني آدم ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به؟!

* * *

[167] صيقل: جلاء. [168] بنت الشفة: أي كلمة.

محاربة أكثر علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي

إن علماء الأمصار -والحق يقال- متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية التي يقع فيها الجدال وكثرة القيل والقال، فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، حتى يجعلونه جليًّا للعيان، وصحيحًا بالدلائل والبرهان، وليس من شأن الباحث أن يُفهِم من لا يريد أن يَفهَم.

وقد قرروا قائلين: إن أساس دعوى المهـدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما، مع العلم أنها على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين، وما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان، أو في أوله يقوم بها فلان أو فلان، بدون ذكر المهدي.

فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها، وقد ثبت بطريق الواقع المحسوس أن فكرة المهدي أصبحت فتنة لكل مفتون، تنتقل من جيل إلى جيل، ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، وتراق من أجلها الدماء الزكية البريئة، في الشهر الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام، مما أزعج المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها.

والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي، وعدم اعتقاد صحتها، وعندنا كتاب الله نستغني به عنه، وعن كل بدعة واتباع كل مبتدع مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله باللواذ به عند الفتن، كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة سواء كانت متواترة، أو من رواية الآحاد غير المتعارضة ولا المختلقة.

ولعل العلماء الكرام، والأكابر من الطلاب، يقومون بجد ونشاط إلى بيان إبطال فكرة المهدي وفساد اعتقاده، وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم، وعلى أئمة المسلمين وعامتهم، وما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول، وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم، وإن الجهل بأحكام الدين وحقائقه وعقائده الصحيحة يدفع صاحبه إلى أي فكرة تنقش له بدون مناظرة عقلية، وبدون رجوع منه إلى نص صحيح وصريح، وهذا الجهل هو الذي أدى بأهله إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وإلى وضع ألف ومائتي حديث عند الشيعة[169]، وإن هذه الأحاديث المختلقة هي التي أفسدت العقول وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدي.

ولقد قام علماء الأمصار بجد ونشاط إلى تحذير قومهم من اعتقاد المهدي وصحة خروجه، فواصلوا قولهم ونصحهم بعملهم بكتابة الرسائل في الجرائد والمجلات والنشرات، يبينون لهم فسادها وسوء عواقب اعتقادها حتى خف أثرها في نفوسهم، وحتى زال اعتقادها عن علمائهم وعامتهم، على نسبة عكسية من فعل علمائنا، فإنهم -رحمهم الله- يسيرون في طريق مخالف، ويصدعون على رؤوس الناس بصحة اعتقادها، وينكرون على من أنكرها، ويحجرون رأي الجمهور على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم. إنهم لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر، من كتابنا هذا وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة، وقابلوا بعضها ببعض، لظهر لهم بطريق اليقين أنها لست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى، نسأل الله لنا ولهم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياهم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

إن بعض علمائنا عندما يرى أحدهم شيئًا من الرسائل أو البحوث الصادرة من علماء الأمصار المتأخرين، وهي تعالج شيئًا من المشاكل الهامة التي يشتد الخلاف فيها، ويهتم كل الناس بأمرها، كمسألة المهـدي ونحوها، فلا يعطي هذه الرسالة شيئًا من الاهتمام والنظر، خصوصًا عندما يعرف أنها تخالف رأيه واعتقاده، فإنه يشمئز منها، وينفر عنها، وتشتد كراهيته لها وربما قال: إن هؤلاء ليسوا بشيء، حتى لا يكاد يراها ولا يسمعها، لكون الإنسان إذا اشتدت كراهيته للشيء فإنه لا يكاد يراه ويسمعه، وقد مدح الله الذي جاء بالصدق وصدق به، والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فهؤلاء قد حرموا أنفسهم خيرًا كثيرًا، وعلمًا غزيرًا، فإن من واجبهم تلقي هذه العلوم والبحوث بالرحب وسعة الصدر، وتدبر وتفكر في مدلولها.. ثم التزود مما طاب لهم منها ليزدادوا علمًا إلى علمهم، وعسى أن يفتح لهم من العلوم والفنون ما لم يكونوا يحتسبون، لأن العلم شجون يستدعي بعضه بعضًا... ﴿وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا ١١٤ [طه: 114].

* * *

[169] نشأت هذه الأحاديث عن أهواء عصبية وأمور سياسية.

فصـل من كلام ابن القيّم في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف

قال رحمه الله: ذكر أبو نعيم في كتاب المهدي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لبعث الله فيه رجلاً اسمه اسمي، وخلقه خلقي، يكنى أبا عبد الله» ولكن في إسناده العباس بن بكار لا يحتج بحديثه؛ وقد لخصه الحافظ السيوطي، وحذف أسانيده، وزاد عليه أضعافه في جزء سماه: العرف الوردي في أخبار المهدي. وأدخله في كتابه: الحاوي للفتاوى.

وقد قالت أم سلمة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «المهدي من عترتي من فاطمة» رواه أبو داود وابن ماجه، وفي إسناده زياد بن بيان وثقة ابن حبان، وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال البخاري: في إسناد حديثه نظر.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الهلالي، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن زياد، عن الأعمش، عن زر بن حبيش، عن حذيفة قال: خطبنا النبي ﷺ فذكر ما هو كائن، ثم قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من ولدي اسمه اسمي». ولكن هذا إسناده ضعيف.

وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي ﷺ اغرورقت عيناه، وتغير لونه فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئًا نكرهه؟ قال: «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بلاءً وتشريدًا وتطريدًا، حتى يأتي قوم من أهل المشرق ومعهم رايات سود، يسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطًا كما ملئت جورًا، فمن أدرك ذلك اليوم فليأتهم ولو حبوًا على الثلج» وفي إسناده يزيد بن أبي زياد، وهو سيئ الحفظ، اختلط في آخر عمره، وكان يقلد الفلوس أي: يزيفها.

ومن كلام العلامة ابن القيم رحمه الله في المنار المنيف عن موقف الإمامية من المهدي:

قال: إن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيرًا من أكثر من خمسمائة سنة، وهم ينتظرونه، ولقد أحسن من قال:
ما آن للـسرداب أن يلد الذي
حمّلتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم
ثلثتم العنقاء والغيلانا
أما مهدي المغاربة: محمد بن تومرت فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل، ملك بالظلم والتغلب والتحيل، فقتل النفوس وأباح حريم المسلمين وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم، وكان شرًّا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير، وكان يودع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، يأمرهم أن يقولوا للناس: إنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ. ثم يردم عليهم ليلاً لئلا يكذبوه بعد ذلك، وسمى أصحابه الجهمية: (الموحدين) نفاة صفات الرب وكلامه، وعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بالأبصار يوم القيامة، واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم والإيمان، وتسمى بالمهدي المعصوم. ثم خرج المهدي الملحد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان جده يهـوديًّا من بيت مجوسي، فانتسب بالكذب والزور إلى أهل البيت، وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ، وملك وتغلب، واستفحل أمره إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون، الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ولرسوله، على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام. واشتدت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم، وكانوا يدعون الألوهية، ويدعون للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها.

ولم يزل أمرهم ظاهرًا إلى أن أنقذ الله الأمة منهم، ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم.

والمقصود أن هؤلاء لهم مهدي، وأتباع ابن تومرت لهم مهدي، والرافضة الاثنى عشرية لهم مهدي.

فكل هذه الفرق تدعي في مهديها الظلوم الغشوم، والمستحيل المعدوم: إنه الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم، الذي بشر به النبي ﷺ.

فهذا كلام ابن القيم قد أنحى فيه بالملام، وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي، ولم يستثن فرقة من فرقة، لكونها دعوى باطلة من أصلها.

ويشير إلى أن فكرة المهدي المنتظر قد سبق إلى ادعائها كثيرون، وأنهم كلهم لم يعدلوا في الأرض، بل ملؤوا الدنيا جورًا وظلمًا وعدوانًا، وسفكوا الدماء، واستباحوا المحارم، خلاف ما يدعون إليه.

ويقول الأستاذ البلاغي في تصوير حالة المنتظرين للمهدي: إن هؤلاء الناس يعيشون تحت ركام من الإيحاءات والتمنيات المستمرة بشأن ظهور المهدي، وحتى امتلأت قلوبهم وجوانحهم بالبشرى به، والشوق إلى لقائه وطالت عليهم ليالي الانتظار في توقع صبح الفرج، فكان من يأتيهم باسم المهدي يكون حاجتهم المطلوبة، وأمنيتهم المنتظرة، ويأتي إلى مهاد موطد، وأمر ممهد، قد امتلأت بالرغبة إليه القلوب، واشتاقت إليه النفوس، وامتدت الأعناق وشخصت الأبصار، فلا يحتاج المتمهـدي فيه من ضعفاء البصائر إلا إلى شيء من التمويه والتلبيس الذي قد فتح بابه وقدح زناد فتنته[170]. انتهـى.

هذا الجهل هو الذي أدى إلى وضع ألف ومائتي حديث موضوع في المهدي عند الإمامية، وإلى وضع خمسين حديثًا عند أهل السنة، إن مثل هذه الأحاديث المختلقة هي التي أفسدت العقول، وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية.

وإنه على فرض صحة هذه الأحاديث، أو بعضها، أو تواترها بالمعنى، حسب ما يدعون، فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية، ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية في رسائله: الواسطية والأصفهانية والسبعينية والتسعينية، ولم تذكر في عقيدة الطحاوية وشرحها، ولا عقيدة ابن قدامة، ولا في الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، وهي تتمشى على عقيدة أهل السنة، وهي من آخر مؤلفاته، وجعلها خاتمة حياته، فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين. ثم إن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى، ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص، كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من وراء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة.

فهذه كلها ليست من العقائد الدينية كما زعم دعاة المهدي والمتعصبون لصحة خروجه، كما حدث من هذا المدعي أنه المهدي الذي سفك دماء زكية بريئة في الشهر الحرام، في البلد الحرام وفي المسجد الحرام، وحول البيت الحرام الذي يستقبله المؤمنون في المشارق والمغارب صلاتهم ودعاءهم، وروع المسلمين وأحدث بينهم زلزالاً شديدًا وكفى بالمسيء عمله.

لهذا يجب طرح فكرة المهدي جانبًا، فعندنا كتاب الله تعالى نستغني به عن كل دعي مفتون، وهو الملجأ الذي أوصانا رسول الله ﷺ باللواذ به عند الفتن، كما أن لدينا سنة رسول الله ﷺ فيما صح منها سواء كان متواترًا أو أحادًا.

وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تثار من آن لآخر ﴿وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤ [الأحزاب: 4].

* * *

[170] رسالة نصائح المهدي والدين : 141.

تعدّد أحداث من يدّعي أنه المهدي

إن مدار الأعمال على العقائد صحة وفسادًا لحديث: «إنما الأعمال بالنيات»[171]. فمتى صح الاعتقاد صلح العمل، أو فسد الاعتقاد ساء العمل وساءت النتيجة.

ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح، والاعتقاد السيئ القبيح، وهي في الأصل حديث خرافة، يتلقفها واحد عن آخر، وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف، حيث غزا بها قوم آخرين، وإلا فمن المعلوم قطعًا أن الرسول الكريم ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. لذا فلن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم، مجهول في عالم الغيب، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك أهله يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة.

إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به، إذ هو جرثومة فتنة دائمة، ومشكلة لم تحل، والرسول جاء بمحاربة الفتن، وقال: «أعوذ بالله من مضلات الفتن»[172]. وقال: «لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»[173]. وقال: «لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله»[174].

وقال: «إياكم ومحدثات الأمور»[175]. والمهدي واعتقاده هو من محدثات الأمور.

إن أول من قال بالمهدي هو كيسان، مولى علي بن أبي طالب، في ابنه محمد ابن الحنفية. وجاء في كتاب أسد الغابة أنهم أطلقوا على علي: هاديًا مهديًا ثم أطلقوا الكلمة على الحسين بعد مقتله فقالوا: المهدي بن المهدي. ولما قتل الحسين ومات الحسن، رأت طائفة أنه من الطبيعي أن يرث عليًّا ابنه محمد ابن الحنفية، كما رأى غيرهم أن الوارث لعلي هما الحسن والحسين فقط، لأنهما وحدهما ابنا علي من فاطمة بنت الرسول ﷺ، أما ابن الحنفية فابن علي لكن لا من فاطمة بل من امرأة من بني حنيفة.

ونشأت فرقة تسمى الكيسانية، نسبة إلى كيسان يتزعمها عبد الله بن سبأ، ثم المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي زعم هو وفرقته أن محمد ابن الحنفية هو الإمام، وهو المهدي، وأنه لم يمت ولكنه تغيب في جبل رضوى، وهو في الحجاز على سبع مراحل من المدينة، وأنه حي يرزق، وعنده عينان نضاختان تجريان عسلاً وماء، وأنه سوف يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلاً، وأنه سيقود الجيوش فيرد الملك إلى أهل البيت، وفيه يقول كثير عزة وهو سبئي:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الجيش يقدمه اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانًا
برضوى عنده عسل وماء
ثم خرج السفياني زمن بني أمية فلقبوه: المهدي المنتظر.

ولما سمع المنصور العباسي بخبر المهدي، وكثرة حديث الناس فيه، أراد أن يقطع الطريق عن التسمي به؛ فسمى ابنه المهدي.

فاستغل الخليفة المنصور أخو مؤسس الدولة العباسية، شيوع كلمة المهدي فلقب ابنه بالمهدي، ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي، والتقديس الديني، وجعله ولي عهده وكان ذلك في بغداد.

وفي المغرب تضخمت كلمة المهدي على أيدي البرابرة، وكانوا قد ضاقوا ذرعًا باستغلال الحكم العباسي لفكرة المهدي المنتظر، ثم ظهر عبيد الله الملقب بالمهدي، وأسس بلدة المهدية، وكان من نسله المعز لدين الله الفاطمي الذي فتح مصر.

ومن الدول التي تأسست على فكرة المهدي في المغرب: دولة الموحدين وزعيمهم محمد بن تومرت، وهو شيعي أيضًا، وعندما ذهب الموحدون والمرابطون وانتصر الأسبانيون على المسلمين، كان ملوك بني الأحمر يتطلعون إلى مهدي منتظر يقويهم على الأسبان ويطردهم منها.

وقد قامت الكثير من الثورات على أساس فكرة المهدي من ذلك: ثورة الزنج في العراق، وثورة القرامطة التي ظهر على رأسها رجل يدعى حمدان قرمط، وكلمة قرمط تعني (المعلم السري)، وكان أساس الدعوة: الإيمان بالمهدي المنتظر. ومن الفرق التي أسست على التشيع والاعتقاد بالمهدية: فرقة الحشاشين، ويسمون أحيانًا بالإسماعيلية، وزعيمهم الحسن بن الصباح المشهور، وهناك ثورة البساسيري، وهو رجل تركي، قدم بغداد في زمن الخليفة القائم بأمر الله العباسي، فبشر في بداية ثورته بالمهدي.

وفي العصور الحديثة لعبت فكرة المهدي دورًا خطيرًا لا يقل شأنه عن العصور القديمة.

ففي نهاية القرن الثاني عشر الهجري، خرج شيعي من مواليد الأحساء اسمه الشيخ أحمد الأحسائي سنة ست وستين ومائة وألف هجري، واشتهر بتبشيره بظهور المهدي، وله آراء باطنية وفلسفية تحوم حول تغيير نظام دين الإسلام وشريعته، ويدعي أن لديه علمًا لدنيًّا تلقاه عن آل البيت، وينشر دعوة سرية وينظم حركتها، ثم اقتفى أثره خليفته من بعده على نشر دعوته، وهو: كاظم الرشتي، ولم يزل متنقلاً داعيًا إلى أن توفي بجدة من أرض الحجاز سنة 1242هـ. فهو أول من أسس نحلة البهائية، ثم قام علي محمد بعد وفاة الرشتي سنة 1260هـ مدعيًا أنه نائب عن الإمام المنتظر، وأنه بابه الذي يفتح به ظهور الإمام، فسموا البابية من أجله، وهم فرع من البهائية.

ثم أظهر أنه الإمام المنتظر المهدي، فقام بثورة وأخذ يظهـر للناس فنونًا من الكفر، وأن شريعته تنسخ شريعة القرآن، وأنها قد أنهت دور الشريعة المحمدية، فلا صلاة ولا صيام، ويعمد إلى النصوص القرآنية فيتأولها تأويلات الباطنية، فيقلب حقائقها، ويصرفها عن المعنى المراد منها، وأنكر عليه علماء فارس ما ادعاه وحاكموه، فحكمت عليه محكمة تبريز بقتله على ردته هو وأعوانه.

ثم ظهرت بدعة المهدي في الهند على يد رجل يدعى ميرزا غلام أحمد القادياني من سكنة قاديان بالهند، ونسبت طائفة القاديانية إليها، وتفرعت عنها الأحمدية.

وقد زعم مؤسسها ميرزا غلام أحمد بأنه المسيح المنتظر، فقام في وجهه علماء الشريعة بالهند، فأنكروا عليه أشد الإنكار وكادوا يقتلونه، لأنه كان يتقي بالنصارى، فهم يحمونه ويحاربون دونه.

وانتقل غلام أحمد إلى دلهي، يدعو إلى نحلته، ويدعي الوحي والنبوة والرسالة ويقول: إن كل من لم يصدق بنبوّتي فهو كافر!! ويقول: إن سائر الأمم من اليهود والنصارى والمجوس الذين كذبوا نبوة محمد سيؤمنون برسالتي!!

وفي الحقيقة أن كلتا الطائفتين: البهائية والقاديانبة قد ابتعدتا عن الإسلام تمام الابتعاد.

نسأل الله سبحانه أن يسلك في قلوب عباده المؤمنين نور اليقين والثبات على الدين، وأن يحفظهم من فتنة الضالين بما يحفظ به عباده الصالحين.

وإني أرجو بعد دراستهم لهذه الرسالة أن ينتبهوا ويتناصحوا، فيغسلوا قلوبهم من اعتقاد هذه الخرافة التي ستضرهم وتضر أبناءهم ومجتمعهم من بعدهم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم وستذكرون ما أقول لكم.. ﴿فَسَتَذۡكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤ [المؤمن: 44].

* * *

[171] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [172] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث عبد الله بن عمر. [173] أخرجه ابن ماجة من حديث العرباض بن سارية. [174] أخرجه مسلم من حديث جابر. [175] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية.

فصـل رأي محمد رشيد رضا في المهدي المنتظر

قال محمد رشيد رضا في تفسيره: المنار عند تفسيره سورة الأعراف ما نذكره ملخصًا[176]: أما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر والجمع بين الروايات أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر.

ولذلك لم يعتد الشيخان -البخاري ومسلم- شيئًا من رواياتها، وقد كانت أحاديث المهدي أكبر مثارات للفساد والفتن في الشعوب الإسلامية، إذ تصدى كثير من محبي الملك والسلطان، ومن أدعياء الولاية، وأولياء الشيطان للدعوة المهدية في الشرق والغرب، وتأييد دعواهم بالقتال والحرب، وبالبدع والإفساد في الأرض، حتى خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية، ومرق بعضهم من الإسلام مروق السهم من الرمية.

وقد كان من أسباب تصديق الجماهير من المتأخرين بخروج مهدي يجدد الإسلام، وينشر العدل في جميع الأنام، أن يجعلهم على أهبة الاستعداد لظهوره، وقد جاءهم النذير وهو ابن خلدون الشهير، وصاح فيهم قائلاً: إن لله تعالى سننًا في الأمم والدول والعمران، مطردة في كل زمان ومكان كما ثبت في مصحف القرآن، وصحف الأكوان، ومن المعلوم وقوع الاختلاف والاضطراب في أحاديث المهدي.

منها: أن أشهر الروايات في اسمه واسم أبيه عند أهل السنة محمد بن عبد الله، وفي رواية: أحمد بن عبد الله.

والشيعة الإمامية متفقون على أنه محمد بن الحسن العسكري، وهما الحادي عشر والثاني عشر من أئمتهم المعصومين، ويلقبونه بالحجة، والقائم، والمنتظر، ويقولون: إنه دخل السرداب في دار أبيه في مدينة (سر من رأى) التي تسمى الآن سامراء، سنة 265 هـ وله من العمر تسع سنين، وأنه لا يزال في السرداب حيًّا!!

ومنها: أن العابثين بالإسلام، ومحاولي إفساد المسلمين، وإزالة ملكهم من زنادقة اليهـود، وغيرهم من أهل الابتداع، وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية، قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها، وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها، ورواج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى، ولم تعرف بعض الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعيها.

سؤال: إلى صاحب المنار محمد رشيد رضا[177].

إنه من المشهور بين الكافة من أهل الإسلام، على ممر الأعصار أنه لابد من ظهور رجل يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويسمى المهدي، فرأيت أن أكتب لجنابكم لكي تتكرموا علينا بالإفادة ولكم الأجر.

الجواب: وردت أحاديث في المهدي، منها ما حكموا بقوة إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها كلها.

ومن استقصى ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار، وعرف مواردها ومصادرها، يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة، وذلك أنه لما استبد بنو أمية بأمر المسلمين، وظلموا وجاروا، وخرجوا بالحكومة الإسلامية عن وضعها الذي يهدي إليه القرآن، وعليه استقام الخلفاء الراشدون، وهو المشاورة في الأمر، وفصل الأمور برأي أهل الحل والعقد من الأمة، حتى قال على المنبر من يعد من خيارهم، وهو عبد الملك بن مروان: من قال لي: اتق الله؛ ضربت عنقه! لما كان هذا؛ كان أشد الناس تألمًا له وغيرة على المسلمين آل النبي عليه وعليهم السلام، فكانوا يرون أنهم أولى بالأمر وأحق بإقامة العدل، فكان من تشيع لهم يؤلفون لهم عصبية دينية يقنعونها بأن سيقوم منهم قائم مبشر به يقوم بالعدل، ويؤيد الدين، ويزيل ما أحدث بنو مروان من الاستبداد والظلم، وعن هذا الاعتقاد صدرت تلك الروايات.

والناظر في مجموعها يظهر له أنهم ينتظرون ذلك في القرن الثاني ثم في الثالث، وكانوا يعينون أشخاصًا من خيار آل البيت يرجحون أن يكون كل منهم القائم المنتظر فلم يكن، وكان بعضهم يسأل من يعتقد أنه صاحب هذا الأمر فيجيبه ذلك بأجوبة مبهمة، ومنهم من كان يتنصل ويقول: إن الموعد ما جاء ولكنه اقترب، ومنهم من كان يضرب له أجلاً محدودًا، ولكن مرت السنون والقرون ولم يكن ما توقعوا أن سيكون.

وجرّت هذه العقيدة على المسلمين شقاء طويلاً، إذ قام فيهم كثيرون بهذه الدعوى، وخرجوا على الحكام فسفكت بذلك دماء غزيرة، وكان شر فتنها: فتنة البابية الذين أفسدوا عقائد كثير من المسلمين، وأخرجوهم من الإسلام، ووضعوا لهم دينًا جديدًا، وفي الشيعة ظهرت هذه الفتنة وبهم قامت، ثم تعدى شرها إلى غيرهم، ولا يزال الباقون منهم ومن سائر المسلمين ينتظرون ظهور المهدي، ونصر الإسلام به، فهم مستعدون بهذا الاعتقاد لفتنتة أخرى نسأل الله أن يقيهم شرها.

ومن الخذلان الذي ابتلي به المسلمون، أن هذه العقيدة مبنية عندهم على القوة الغيبية والتأييد السماوي، لذلك كانت سببًا في ضعف استعدادهم العسكري فصاروا، أضعف الأمم بعد أن كانوا أقواها، وأشدهم ضعفًا أشدهم بهذه العقيدة تمسكًا، وهم مسلمو الشيعة في إيران، فإن المسألة عندهم اعتقادية، أما سائر المسلمين فالأمر عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين، ولو كانوا يعتقدون أنه يقوم بالسنن الإلهية والأسباب الكونية، لاستعدوا لظهوره بما استطاعوا من قوة، ولكان هذا الاعتقاد نافعًا لهم.

وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به، ولو ظهر -ونحن له منكرون- لما ضره ذلك إذا كان مؤيدًا بالخوارق كما يقولون، وقد بينا ذلك في كتابنا: المحكمة الشرعية[178].

* * *

[176] انظر تفسير المنار : 9/499 وما بعدها. [177] انظر فتاوي الإمام محمد رشيد رضا : 1/106 وما بعدها. [178] فتاوي الإمام محمد رشيد رضا : 1/106 وما بعدها.

حوادث الحرم الشريف من المدعين للمهدي

إن حادث الحرم الشريف الواقع من المارقين المنافقين في يوم الثلاثاء أول يوم من المحرم عام 1400هـ، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، والذي من دخله كان آمنًا؛ فإنه ليس بأول حادث، فقد مضى للملحدين المهديين أمثالها، فرد الله كيدهم وبدد شملهم، وأعتق البيت الحرام من جورهم وفجورهم، وإنما سمي البيت العتيق؛ لأن الله يعتقه من ظلم الجبابرة فلا يكون لهم عليه من سبيل.

وقد أثبت التاريخ، كتاريخ المسعودي وغيره، عدوانًا مماثلاً لهذا العدوان على البيت الحرام، وذلك أنه حدث في موسم الحج عام 317 هجري: أن جاء إلى مكة باسم الحج رجل يدعى أبو طاهر الجنابي، ومعه تسعمائة رجل من أتباعه، وكان أبو طاهر هذا قد نشر الرعب والدمار في الجزيرة العربية وهو من القرامطة.

فدخل أبو طاهر هذا وأصحابه مكة في سابع ذي الحجة، وكان أميرها إذ ذاك محمد بن إسماعيل المقرون بابن مخلب، وقام أهل مكة والحجاج بمخادنة أبي طاهر في بادئ الأمر، ولكن القرامطة كانوا يبيتون أمرًا آخر، وهو مهادنة الأمراء والرؤساء والاحتكاك بهم حتى يتم لهم مقصودهم من المكر والكفر، فاحتكوا برجال الأمن وقتلوا واحدًا منهم، فبدأت الاشتباكات، فقاموا بإثارة فتنة عظيمة قتل فيها على ما يقوله المؤرخ المسعودي: نحو ثلاثين ألفًا من الحجاج وأهل مكة. وهجم على الحرم الشريف فخلع باب الكعبة، و كان مصفحًا بالذهب، وأخذ كل المحاريب والذهب التي كانت داخل الحرم، وقام بانتزاع الحجر الأسود من الكعبة، وجرد الكعبة من كسوتها، وأقام في مكة ستة أيام وهو يعبث فيها بالفساد والظلم، وسفك الدماء ونهب الأموال.

ثم سافر في طريقه إلى هجر والقطيف، يحمل الحجر الأسود وباب الكعبة وكسوتها، وما غنم من الأموال التي حملها على خمسين بعيرًا، واعترضت له قبيلة هذيل في المضائق والجبال فأخذت منه بعض ما غنمه، لكنه استطاع أن يهرب بعد ما فقد كثيرًا من غنائمه، وأقام كعبة جديدة للقرامطة بالقطيف، بمكان يسمى الجعبة، ووضع فيها الحجر الأسود، ثم رُدَّ الحجر إلى مكانه من الكعبة بعد موت أبي طاهر.

والشاهد من هذا الحديث: أن أبا طاهر الذي فعل في الحرم الشريف ما فعل كان يدعي بأنه المهدي المنتظر، نفس ما ادعى به جهيمان ومن معه، إذ الدنيا أم العبر والفتن، يرقق بعضها بعضًا، بحيث تكون الآخرة شرًّا من الأولى، لكنها لن تزيغ ولن تزعزع أهل الإيمان الثابت.

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٣٠ نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١ نُزُلٗا مِّنۡ غَفُورٖ رَّحِيمٖ ٣٢

[فصلت: 30-32].

* * *

كلمة المؤلف في مؤتمر السنَّة والسيرة النبويّة[179]

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وهدي الرسول هو سيرته وسنته التي هي طريقته وأمره ونهيه وإقراراته.

إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل، وشرع شريف شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام بالحكمة والمصلحة، والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء، لأنه يهدي للتي هي أقوم. فهو الرحمة المهداة لجميع خلقه. يقول الله تعالى: ﴿... وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 156-158]. فكل ما ذكر في هذه الآية فإنه من عمل سيرته وسنته.

وليست سيرة الرسول وسنته التي انعقد هذا المؤتمر المبارك لبيان فضلها وبيان عموم علمها ونفعها، بمقصورة على العلم بغزواته وبعوثه وسراياه ورسائله حسبما يظنه بعض الناس، والحق أن سيرته هي أعم وأشمل، فهي تشمل كل ما جاء به من العلم والهدى، ودين الحق من لدن بعثته إلى حين وفاته ﷺ.

فسيرته كاسم شريعته التي جاءت بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والجرائم وتقليلها، وهي تدور على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، فالتخلق بسيرة الرسول ﷺ، والتمسك بسنته هي التي تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق؛ ولهذا قالوا: إن كل متدين بدين صحيح فإنه متمدن، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة من القتل، ونهب الأموال وانتهاك الأعراض من عادمي الدين، الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، وفسقوا عن أمر ربهم، لأن من لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه، ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم وفسادهم فإنه يترتب على جهرهم فتنة في الأرض وفساد كبير.

إن التكاتف على العمل بشريعته عليه الصلاة والسلام، من المحافظة على الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها، وأداء الزكاة الواجبة، وصيام رمضان، هو الذي يوحد بين المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إن الله أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم»[180]. إن دين الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، وإن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام بأقوالهم لكنهم يخالفونه بأعمالهم، فهم في جانب والإسلام في جانب آخر، حتى صاروا بمثابة الخزي على المسلمين، والفتنة للكافرين، بحيث يقول الكفار: إن كان الإسلام يبيح قتل الأبرياء، وسبي أموال الأغنياء فإنه لا خير فيه: ﴿رَبَّنَا لَا تَجۡعَلۡنَا فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغۡفِرۡ لَنَا رَبَّنَآۖ [الممتحنة: 5].

والحق: أن دين الإسلام بريء من هذه الأعمال التي تخالف نظام شرعه، فهو قائم على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول.

الإسلام دين السلام والأمان، والمطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام والبغي والعدوان.

الإسلام دين العدل والمساواة في الحدود والحقوق والأحكام، لا فضل لأحمر على أسود إلا بالطاعة والإيمان، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. الإسلام يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف والتلاطف كالإخوان، وفي التعاون والتساعد كالبنيان، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ [التوبة: 71].

الإسلام يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام»[181]. ويقول: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»[182]. أي: بمقتضى الرضا التام، وفي محكم القرآن ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188]. الله أكبر إن دين محمد وكتابه أقوى وأقوم قيلا لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا ودينهم الإسلام، ودستور حكمهم السنة والقرآن، فهم يعتزون بهما، إذ هما أكبر معين للحاكم على سياسة مملكته، وسيادة رعيته، لكونهما يوقفان الخصم اللدود على حده، ويقنعانه بحقه، فلا يقع بين الناس مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها.

ونحن في كلامنا على السنة، إنما نتكلم على الأحاديث الصحيحة الصريحة التي قام جهابذة النقاد العلماء على تمحيصها وتصحيحها، حتى جعلوها عمدة في العقائد والأحكام، وأمور الحلال والحرام.

وإلا فإنه من المعلوم أن الوضاعين الكذابين قد أدخلوا كثيرًا من الأحاديث المكذوبة في عقائد المسلمين، وأحكامهم حتى صار لها الأثر السيئ في العقائد والأعمال، لكن المحققين من علماء المسلمين قد قاموا بتحقيقها، وبينوا بطلانها، وأسقطوها عن درجة الاعتبار، وحذروا الأمة منها.

من ذلك أحاديث المهدي المنتظر، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا ونحو ذلك مما يقولون.

وصار في كل زمان وفي كل مكان يظهر مخرف ويقول: أنا المهدي المنتظر. حتى كأن المهدي جرثومة البدع، ومثار الفتن، ولا يزال علماء السنة في كل مكان يحاربون هذه الدعوى، ويحاربون من تسمى بها لاعتباره من الكذابين الدجالين، والحق: أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا. وفي سنن ابن ماجه: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم».[183]

وإنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي، نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها، وأكثرها من رواية أبي نعيم في حلية الأولياء وكلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة، ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى.

ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي، وكونه لا حقيقة لها؛ فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين، فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدًّا، فلا ينكر على من أنكره. كما رأيت أيضًا لمنشئ المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعًا، وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار[184].

لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء من يقول بخروج المهدي، ويقوي الأحاديث الواردة فيه، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد رأيت له قولاً يقول فيه بصحة خروجه، وأن فيه سبعة أحاديث.

فقول شيخ الإسلام هذا خرج بمقتضى اجتهاد منه، ويأجره الله عليه وقد أخد بقوله بعض العلماء المتأخرين، وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء.

ومعلوم أن شيخ الإسلام هو أطول منا باعًا، وأوسع اطلاعًا في سائر العلوم والفنون، فنحن نعترف بفضله، ولم نزل نغترف من بحر علمه، لكنه بشر كسائر علماء البشر، والصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين، هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي، لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من الدجالين المنحرفين، فإنه يسمي نفسه بالمهدي، ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم، ويد الغاشم في كل زمان ومكان.

وحسبكم ما سمعتموه عما فعله هؤلاء في بيت الله الحرام، وهم ينتسبون إلى الإسلام ﴿وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۢ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ ٢٥ [الحج: 25].

ولا يجني جان إلا على نفسه، ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١ [الطور: 21]. وقد اتخذ دعاة البدع هذه العقيدة لهم طريقة.

فمن ذلك دعوة البهائية، فقد خرج عام 1166 هـ رجل يدعى الشيخ أحمد الأحسائي، شيعي من أهل الأحساء، وأظهر للناس أنه المهدي المنتظر، وأن شريعته تنسخ شريعة الرسول محمد، ثم ظهر بعده محمد علي الرشتي وأظهر للناس أنه باب المهدي ثم قال: إنه باب الله. ثم ادعى أنه المهدي فقام عليه علماء فارس، فحاكموه وحكمت عليه محكمة تبريز الشرعية بقتله على ردته، فقتل ومن معه، وقد خرجوا بردتهم عن عداد المسلمين.

ثم ظهرت بدعة القاديانية في القرن الثاني عشر الهجري، وأسس دعواها رجل يسمى ميرزا غلام أحمد، من سكنة قاديان الهند، وسمى نحلته[185] بالأحمدية وادعى أنه المهدي المنتظر، وقام علماء الهند في نحره، لكنه استجار بالإنجليز فكانوا يحمونه، وتخمرت دعوته في الهند وباكستان، يعتقدها الهمج السذج وعلى طول الزمان حتى أخرجهم علماء المسلمين عن عقيدة الإسلام.

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان حيث وصفوه بالقدم، وكونه لا يتلاءم الحكم به في هذا العصر، وأن شرائعه تكاليف شاقة.

وقولهم بعزل الدين عن الدولة، وربما عابوه بإقامة الحدود الشرعية، كحد الزنا والسرقة، وشرب الخمر، وينسبون هذه الحدود إلى القساوة والوحشية، وهي حدود الله التي شرعها لعباده، لتكون بمثابة الزواجر عن هذه الجرائم لتطهير المجتمع منها، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم، ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ ١٨ [الحج: 18]. فهم يعيبون الإسلام بما يعد من محاسنه، ولا عجب وهؤلاء هم أعداء الإسلام الذين يحبون أن تشيع الفواحش في البلدان، فهم يتحاملون على الإسلام بالطعن فيه لصد الناس عنه، فهم كما قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وإن مما يقوي الرجاء، ويزيد في الأمل، حينما نسمع حكام المسلمين وزعماءهم في مؤتمراتهم التي يعقدون الاجتماع لها، للتذاكر في شأن أممهم، وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، يتفقون على كلمة واحدة وهي: أن الشيء الذي فلّ حدهم وفرق شملهم، وألقى العداوة بينهم، هو تقصيرهم بالعمل بنظام دينهم، وأن الرأي السديد والأمر المفيد: هو رجوعهم إلى العمل بكتاب ربهم، وسنة نبيهم، فإنه لن يصلحهم إلا ما صلح به سلفهم.

فهم يتواصون بذلك، ويتناصحون بموجبه، وسيكون لهذا التواصي تجاوب ولو بعد حين. فهذه نصيحتي لكم، والله خليفتي عليكم، وأستودع الله دينكم وأمانتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* * *

[179] ألقيت بتاريخ: 5 محرم 1400هـ . [180] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [181] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [182] أخرجه الدارقطني من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [183] هذا اللفظ جزء من الحديث وتمامه: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارًا، ولا الناس إلا شحًّا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس، ولا المهدي إلا عيسى ابن مريم». انظر سنن ابن ماجه 2/1340-1341. [184] انظر تفسير المنار : 9/499 وما بعدها، وفتاوى محمد رشيد رضا 1/106 وما بعدها. [185] نحلته: أي مذهبه.

الحديث عن يأجوج ومأجوج

لقد أكثر الشيخ السفاريني في كتابه: لوامع الأنوار من أحاديث يأجوج ومأجوج على صفة ما عمله في أحاديث المهدي؛ لأنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين، والصحيح والسقيم.

ونحن نسوق لك قليلاً من كثير من أحاديثه التي ذكرها، منها حديث: «أن منهم من طوله مائة وعشرون ذراعًا، ومنهم من طوله قدر شبر، ومنهم من يفترش شحمة أذنه ويلتحف بالأخرى» [186] وحديث: أنه لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من أولاده [187] وأحاديث تصفهم بصفة الإرهاب، وأن لهم أنيابًا كالسباع وقرونًا.

ونقل عن كعب الأحبار في صفة بدء خلقهم، وذلك أن آدم احتلم فاختلط ماؤه بالتراب، فخُلق منه يأجوج ومأجوج. قال: فهم إخوتنا لأبينا [188].

كل هذه وما هو أكثر منها، ذكرها السفاريني.

ويأجوج ومأجوج قد أخبر الله عنهم في كتابه مما لا شك فيهم، فقال سبحانه: ﴿قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٩٤ [الكهف: 94].

وقال: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ ٩٦ وَٱقۡتَرَبَ ٱلۡوَعۡدُ ٱلۡحَقُّ [الأنبياء: 96-97].

فالمسلمون يصدقون في وجودهم بلا شك، ولكنهم لا يخوضون في أمرهم وفي مكان وجودهم، وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم، بل ومن ذرية نوح، وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة، ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟ لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها فلم يروهم، ولم يرو سدًّا، وتجرأ بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا: إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها!!

فبينما هم كذلك في غمرة من الجهل ساهون، إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج قائلاً: لا تبعدوا النظرة، ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم، وعن شمائلكم، ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم والتي تداعى عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها، وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا هو حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي ﷺ كما في صحيح البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش قالت: خرج علينا النبي ﷺ فزعًا قد احمر وجهه، وهو يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» [189] وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، فقلنا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».

وكانت ابتداء حركتهم في ظهـورهم على المسلمين من غزوة مؤتة، حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها» قالوا: يا رسول الله، أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ينزع الله مهابة عدوكم منكم، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي في قلوبكم الوهن» قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهة الموت» [190].

ولما أخرج الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله رسالته في تحقيق أمر يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسيره واستنباطه، أنكر عليه بعض العلماء في ذلك، واتهموه بأنه يكذب بالقرآن، واستدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله.

فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن، وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم، وسوء اعتقادهم.

لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام، وضلال أهل الزيغ والبهتان.

وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا..

ونحن نسوق فقرات من رسالته للاتعاظ بها والانتفاع بعلمها...

* * *

[186] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة: وقال الألباني في السلسلة الضعيفة: موضوع. [187] ذكره القرطبي في تفسيره من حديث علي موقوفًا. [188] ذكره القرطبي في تفسيره من حديث كعب الأحبار مقطوعًا. [189] أخرجه مسلم من حديث زينب بنت جحش. [190] أخرجه أبو داود من حديث ثوبان.

فقرات من كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله

اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله ﷺ عنهم، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم الموجودون الآن الذين ظهروا على الناس: كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا والفرنسيين والإنجليز واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم، فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي كالجن، ونحوهم ممن حُجب الآدميون عن رؤيتهم، والإحساس في الدنيا بهم، بيان ذلك في القرآن من قصة ذي القرنين في قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٩٣ قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٩٤ [الكهف: 93-94]. إلى آخر الآيات، فمن فهم معنى هذه الآيات، وما ذكره أصناف المفسرين فيها، علم قطعًا أنهم كما ذكر الله في شكاية هؤلاء القوم الذين كثر إفسادهم لذي القرنين بالقتل والنهب والتخريب وأنواع الفساد، فطلبوا منه أن يجعل بينهم وبينهم سدًّا، يمنعهم من الإفساد، والنفوذ إليهم، فأجاب ذو القرنين طلبتهم، طاعة لله وإحسانًا على هؤلاء المظلومين، فجعل بينهم وبينهم ردمًا، ومعلوم أنهم آدميون محسوسون، قد تناولوهم بأنواع الأذى. فلو كانوا جنسًا آخر كالجن ونحوهم، ممن حُجبوا عن الأبصار، لم يتمكنوا من الأذية لبني آدم إلى هذا الحد، ولم يطلب هؤلاء القوم من ذي القرنين ما لا قدرة له عليه، ولم يمنعهم من الأذية سد ولا ردم.

وذلك أن هناك جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل، والبغال، والحمير فبنى ذو القرنين سدًّا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس، وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى.

ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي، والجبال، والبحار فتحركوا في وقت النبيﷺ في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى، في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف، وجيش النصارى مائة وعشرين ألفًا، فكشف للنبي ﷺ عنهم يوم قتالهم فقال وهو يخطب الناس: «أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذها زيد ابن حارثة فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله وهو خالد بن الوليد، ففتح الله عليه»[191] يخبرهم بذلك وهو يبكي.

وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين، والخروج عليهم، وهو معنى قوله ﷺ: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا».

قال: ولم يزالوا في ازدياد، وظهور على الناس، حتى وصل الأمر إلى هذه الحال المشاهدة، ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله.

ومنها: أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فإن السد -كما ذكرنا- في الموانع الجبلية، والمائية، ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود، والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة وهي سد محكم بينهم وبين الناس، لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله، وشاهدهم الناس، وقد اخترقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات، وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه.

وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة الصحيحة، والأدلة العقلية، والواقع، والمشاهدة، كلها أمور يقينية لا شك فيها، ولا مناقض لها.

والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه، قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي، يعتبر آية وبرهانًا عظيمًا على صدق القرآن، وصحة ما جاء به رسول الله ﷺ، من آيات بينات لا تزال تشاهد، وتظهر كل وقت وحين، يعتبر بها المعتبرون وينتفع بهـا المؤمنون، ويسترشد بها الغافلون المعرضون، وتقوم بها الحجة على المعارضين المعاندين.

وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية، وآثار موضوعة وقصص خرافية، وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع. انتهى.

* * *

[191] أخرجه البخاري من حديث أنس.

سد يأجوج ومأجوج

قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه[192]

سألنا عن سد يأجوج ومأجوج غير واحد، من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار، ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلة؛ فإن بقعة كل من القطبين -لاسيما القطب الجنوبي- لا تزال مجهولة، وقد استدل بعض العلماء على أن سدًّا بني في جهة أحد القطبين، يذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس مطلعها، وليس ذلك جهة الشمال أو جهة الجنوب، ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد القطبين، فإن حالة مدنية ذلك العصر، وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا الآن، فنبني عليها اعتراضًا كهذا، فما درينا أن الاستطراق إلى أحد القطبين أو كليهما، كان في زمن ذي القرنين سهلاً، فكم من أرض يابسة فاضت عليها البحار، فغمرتها بطول الزمان، وكم من أرض انحسر عنها الماء، فصارت أرضًا عامرة متصلة بغيرها، أو منفردة (جزيرة) وكم من مدينة طُمست حتى لا يُعلم عنها شيء، ومن المعلوم الآن من شؤون المدنيات القديمة بالمشاهدة، أو الاستدلال ما يجهل بعض أسبابه، كالأنوار والنقوش وجر الأثقال عند المصريين القدماء، فالقرآن يقول في ذي القرنين ﴿ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٨٩ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا ٩٠ [الكهف: 89-90]. كذا من مطلع الشمس ومغربها، وبين السدين، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية أو كهربائية؟ الله أعلم بذلك.

هذا ما يقال بالإيجاز في رد دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض التي بني عليها الاعتراض، ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطل، وإن فرضنا أنها هي مسلّمة؛ وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما:

أحدهما: الموضع الذي يسمى الآن (دربند) بروسيا ومعناه السد، وفيه موضع يسمى (دمرقبو) أي باب الحديد، وهو أثر سد قديم بين جبلين، يقال: إنه من صنع بعض ملوك الفرس، ومحتمل أن يكون موضع السد، وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك، وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريطة جغرافية قديمة لتلك الجهات، وفيها رسم ذلك المكان، وبيان أن وراءه قبيلتين اسم إحداهما: (آقوق) واسم الثانية (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين: يأجوج ومأجوج ؛ ظاهر جلي.

وأما الموضع الثاني، فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية على غرابته وهو:

في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين مرحلة (مائة وبضع فراسخ) مدينة قديمة تسمى الطويلة، وفي شرقي هذه المدينة واد عميق جدًّا يحيط به من ثلاث جهات جبال شامخة منتصبة، ليس فيها مسالك معبدة، فالموغل فيها على خطر السقوط والهوي، وفي الجهة الرابعة منه سهوب فيحاء، يستطرق منها إلى الوادي، ومنه إليها، وفجوة الوادي من هذه الجهة تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذراع الفارسي متر وأربعة سنتيمترات) وفي الفجوة سد صناعي، يمتد من أحد طرفي الجبلين إلى الآخر، وهو من زبر الحديد المتساوية المقدار، فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع، فأما سمكه فخمسة عشر شبرًا، وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه، وارتفاعه؛ لأن أرضه غير مستوية، وفي القرن العاشر للهجرة لما فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن، وصل إلى قلعة تسمى تسام واقعة بجوار هذا السد، فأمر بعدٍِّ زبر الحديد المبني بها السد، فقصارى ما تيسر لهم عده منها: تسعة آلاف، وفي طرفي هذا السد قلعتان عظيمتان، محكمتا البناء، قديمتان تسمى إحداهما: قلعة العرصة، والثانية: قلعة الباحثة.

فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد، وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحميريين في حضرموت واليمن، المعروفين بالأذواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس) ولكن إن صح وجود السد فأين يأجوج ومأجوج منه؟ وهم التتر كما في تاريخ السوريين قبل الإسلام، أو السكيثيين الذين وصفهم النبي حزقيال بما ينطبق على وصفهم في تاريخ اليونان، ويعدهم النصارى رمزًا لإعادة الكنيسة.

ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك، ولم يكن فيما بقي مجهولاً من الأرض، فلم لا يجوز أن يكون قد اندك، وذهب أثره من الوجود؟ إن قيل: يمنع ذلك أن اندكاكه، وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة، أجبنا بجوابين:

أحدهما: قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين بدليل أن نبينا نبي الساعة، وقرب الساعة أي: هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض، وما يدرينا أنه ملايين من السنين.

وثانيهما: أن هناك ساعة عامة، وساعة خاصة أي: ساعة هلاك أمة معينة، كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في الساعة، وربما عدنا إلى التفصيل في هذه المسألة. انتهى.

* * *

[192] من فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا : 2/650 وما بعدها.

الإصلاح والتجديد بالعلم والعدل والدين

سألني غير واحد عن حديث: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها» [193].

فيسألون هل هذا حديث؟ وهل هو صحيح أو غير صحيح؟

فأجبتهم بأن هذا الحديث رواه أبو داود وصححه الحافظ العراقي والعلامة السخاوي..

وأقول: إن الإصلاح والتجديد بالعلم والعدل والدين فضل من الله يوفقه له من يختاره الله من صفوة عباده المؤمنين، من حاكم وعالم ومحتسب لفعل الخير والصلاح، والأمر به والدعوة إليه في أي زمان وفي أي مكان، أشبه الغيث النازل من السماء على أي مكان وفي كل زمان. وخير الناس أنفعهم للناس، وخير الناس من يرجى خيره ويؤمن شره، والخير خزائن والناس لها مفاتيح، فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر.

والله يقول: ﴿وَمِمَّنۡ خَلَقۡنَآ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ ١٨١ [الأعراف: 181]. فهذا الحق والحكم به هو من الإصلاح والتجديد لما اندرس من الدين، فقد يكون في رأس القرن أو في وسطه أو في آخره؛ فليس لرأس القرن مزية على غيره من سائر الأعوام والشهور والأيام..

لكنه توجد نصوص صحيحة صريحة مثل قول النبي ﷺ: «لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»[194].

فالإصلاح والتجديد يكون بسبب من يصلحه الله من عالم، وحاكم، في أي شهر، وفي أي سنة كما يدل له حديث: «لا زال الله يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته، ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[195].

ومثله ما رواه الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره».

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: هذا حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، قال: وصححه ابن حبان من حديث عمار.

فكل هذه الآثار تدل دلالة واضحة على تقلب الأحوال وتغير الأزمان، وأن الدين معها محفوظ عن الزوال، لا يزال باقيًا دائمًا يتقلب بين الضعف والنشاط، حتى تقوم الساعة، فمن ظن أن الله يُديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، أو أن الأشرار تتسلط على الأخيار دائمًا، فقد ظن بالله ظن السوء.

ولكن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ودار جدال وجهاد، فالمصارعة فيها لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين العلم والجهل، والعاقبة للتقوى.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمن
﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٤ [محمد: 4].

﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١ [محمد:31].

إن الله سبحانه قادر على أن يخلق في كل قرن عشرات، أو مئات، من العدول المهتدين، ومن المصلحين، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويهدون إلى الحق والعدل، ويهدون إلى صراط مستقيم، كما فعل ذلك من قبل، وسيفعله من بعد إن شاء الله، كما قال علي رضي الله عنه: لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله على عباده، أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم [196].

فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا من واقعهم، ويتركوا واجبهم، لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم، ويبسط العدل بينهم، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات.

ثم يفرض عليهم علماؤهم التحجر الفكري، والجمود الاجتماعي، على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي عالم، أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه، وعدم الخروج عنه وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب، هو من سائر البشر يأتي في آخر الزمان، فينقذ الناس من الظلم والطغيان.

إن من واجب المسلمين في كل زمان ومكان؛ أن يتكاتفوا على البر والتقوى، ويتناهوا عن الإثم والعدوان، وأن ينصحوا من ولاه الله أمرهم بالحكمة والموعظة الحسنة، دون خروج عليه، ودون محاولة قلب نظام الحكم فإن هذا أساس كل فتنة وشر.

لقد رأينا في هذا الزمان من يدعي الإسلام، ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥ [البقرة: 205]. فيكثرمن قتل الأبرياء، وسلب أموال الأغنياء، ويهدم العمران ومشيد البنيان، ويعطل المصانع، ويحاول قلب نظام الحكم، كله باسم الإسلام وباسم الإصلاح والعدل، والله يعلم أن عملهم غاية في الفساد والجور والظلم، والله لا يحب المفسدين.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين: إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله.

فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر، وأكبر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله، مثل الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.

وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة»[197].

وقال: «من رأى من أميره ما يكره فليصبر، ولا ينزعن يدًا عن طاعة»[198].

قال: ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الصغار والكبار، وأنها إنما حدثت عن عدم الصبر على منكر قد طلبوا إزالته، فتولد عنه ما هو أكبر منه، إذ كان رسول الله يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف؛ وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأكبر منه حرم إنكاره.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: مررت أنا وبعض أصحابي زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت: إنما حرم الله الخمر لكونها تصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم يشتغلون عن الناس بخمرهم.

والمقصود أن أحق من يتصف بالإصلاح والتجديد، هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، و الذين يبلغون عن الله وحيه، وسنة رسوله، فيعلمونها الناس وينشرون فضل العدل والتوحيد، والمحافظة على الفرائض، والنهي عن المنكرات والرذائل، وينهون عن الشرك والبدع، والمذاهب الهدامة والاعتقادات السيئة التي تزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل، والزيغ عن سواء السبيل، فهم ﴿ثُلَّةٞ مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ ١٤ [الواقعة: 13-14].

والحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم والتقى، يدعون من ضل عن الهدى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، يجددون ما اندرس من السنة، ويحيون ما أماته الناس منها، فهم أنفع الناس للناس، ولولا العلماء لكان الناس بمثابة البهائم، وكم مضى من المصلحين المجددين، ما لا يعد ولا يحصى، وسيأتي من بعدهم من يخلفهم على علمهم وعملهم، ويحمل راية تبليغهم وعدلهم، «ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» [199].

أما الحكام فإنهم دون مرتبتهم في العلم والعمل، ومعرفة الحق بدليله، فمتى وفق الحاكم للإحسان والعدل، وتنفيذ الحق وتحكيم الشرع، ونصر المظلوم، وردع الظالم، واستيفاء الحق منه، فإن هذا نعمة من الله، وفضل على العباد والبلاد.

وقد قيل: الحاكم ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].

إذ العدل قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين، وله وضعت الموازين، فمتى اتصف به الحاكم ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه، وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
إنه من المعلوم بمقتضى النصوص، وبالواقع المحسوس، أن للدين إقبالاً وإدبارًا، وقوة و ضعفًا.

فمن إقبال الدين: أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق، أو الفاسقان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قُمعا.

وإن من إدبار الدين: أن تجفو القبيلة عنه بأسرها، وتنحل عن عزائم دينها وتفسق عن أمر ربها، حتى لا يكون فيها إلا الفقيه، أو الفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، ومن المعلوم أن الناس يزدادون إسرافًا في الرذائل، وفي ترك الفرائض والفضائل عامًا بعد عام، والدين معها محفوظ عن الزوال، ويبقى فضل الجهاد فيه، والعمل والتمسك به، والصبر على الأذى فيه.

وإن صفوة الأمة هم: أصحاب النبي ﷺ الذين هم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، ثم: التابعون لهم بإحسان، الذين تلقوا العلم عنهم، فهم من خير الناس بعدهم، لما في الصحيحين عن عمران بن حصين، أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، -لا أدري أذكرهم مرتين أو ثلاثًا- ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» أي: من أجل غرقهم في الترف وسائر الأكل المسمن للجسم. وفي رواية: «تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»، مما يدل على فساد دينهم ويدل له ما روى البخاري في صحيحه، أن النبي ﷺ قال: «يذهب الصالحون، الأول فالأول، ثم تبقى حفالة -وفي رواية- حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله باله»[200].

ومن المعلوم أنه متى ذهب الصالحون المصلحون، الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، فإنه يخلو الجو للفاسدين الفاسقين، فيبيضون ويصفرون.

ومن أشراط الساعة: أن يذهب العلم، ويفيض الجهل، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي ﷺ قال: «إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» ولهذا حث النبي ﷺ على التمسك بسنته عند فساد أمته، وقال في حديث العرباض بن سارية: «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان وقال الترمذي: حسن صحيح؛ ويدل له ما رواه ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد» رواه البيهقي والطبراني.

وقد سماها النبي ﷺ بأيام الصبر، وقال: «إن من ورائكم أيام الصبر، القابض فيهن على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم» قالوا: كيف يكون له أجر خمسين منا؟ قال: «إنكم تجدون على الحق أعوانًا، وهم لا يجدون» رواه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني.

إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون بأنهم من أهله، وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، فترى أكثرهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ويستحلون الربا، وشرب الخمر، فهم في جانب والإسلام الصحيح في جانب، فهؤلاء هم أكثر الناس، والله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103]. وقد قيل: الركب كثير والحاج قليل.
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
يقول بعض الناس: إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاطًا. ونحن نقول: إنه متى فسد العمل بالدين فلا دين، كما أنها متى فسدت الصلاة فلا صلاة، ومتى فسد الصيام فلا صيام، لكون الدين عند الإطلاق ينصرف إلى الدين الصحيح الذي كان عليه رسول الله وأصحابه، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»[201].
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
فمتى أفسد الناس الدين بترك أوامره، وارتكاب نواهيه، قد خرجوا عن حده، واستبدلوا به ضده، وكانوا بهذا الانقلاب جديرين بالضعف والانحطاط، لأن ذنوب الجيش جند عليه و ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ [الرعد: 11].

فكل ضعف حصل بالمسلمين فبسبب ما ضيّعوه من تعاليم الدين، حتى التنازع والاختلاف والقتال بين الحكام المسلمين، فكلها ذنوب تورث الضعف والذل، وحلول الفشل..

ولضعف الدين عوامل عديدة، تساعد على ضعف الناس، منها: قول عمر بن الخطاب: يفسد الإسلام ثلاثة أشياء: أئمة مضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن [202].

وروى مسلم عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إنما أخاف على أمتي: الأئمة المضلين».

والخطر المخوف من زلة العالم هو: الاغترار به فيها ومتابعته عليها؛ إذ لولا التقليد والاتباع لما خيف على الإسلام وأهله من زلته، وكان ابن عباس يقول: ويل للأتباع من عثرات العالم [203]. وقد شبهوا زلته بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير.

كما أن الأئمة المضلين هم: أمراء الناس الذين تنكبوا الطريق المستقيم، وتركوا شريعة القرآن الحكيم، وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، واستبدلوا بها شريعة القوانين، فتبعهم الناس على ضلالهم، ووافقوهم على فسادهم واستبدادهم. والناس غالبًا على طرائق ملوكهم في الخير والشر، ومتى فسد الراعي فسدت الرعية.

ومنها: دنيا تقطع أعناق الناس، حتى تجعلهم كالميتين عن مصالحهم الدينية، وعن ما يوجب قوّتهم واستقامتهم، والاستعداد للجهاد في سبيل الله؛ لأن شغفهم بلذاتها المادية قد شغلهم عن الأمور الدينية، فلأجل حبها صارت هي الجيش الغازي لبلاد الإسلام في هذا العصر، وكأنها الكافلة لأعداء الإسلام بالفتح والنصر بغير جموع ولا جنود، وبغير دفاع ولا امتناع؛ طبق ما روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها» قالوا: أمن قلة يومئذ؟ قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله مهابة عدوكم منكم ويسكنكم مهابتهم، ويلقي الله في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهة الموت».

كل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا لدخول الضعف منه على العباد.
وكل كسر فإن الدين يجبره
وما لكسر قناة الدين جبران
فهذا الضعف الحاصل بالمسلمين ليس من الدين، وإنما حصل بسبب ما ضيعوه من تعاليم الدين.

ثم إن هذا الضعف والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم، بل قد تقع، ثم تزول، إذ هي وصف عارض، كالأمراض الطبيعية، وربما صحت الأبدان بالعلل.
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فقد يعود الإسلام إلى قوته، ويفيء من غربته، كما اشتد ضعفه وغربته زمن وفاة النبى ﷺ، حتى ارتدت العرب عنه، ولم يبق مسجد يصلَّى فيه إلا مسجد مكة ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى أي الأحساء، ولهذا يقول شاعرهم:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول في الخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وعلى أثر هذا الضعف، وهذه الغربة، جاهد الصحابة في الله حق جهاده حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه.

فقول النبي ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد، و ابن ماجه من حديث ابن مسعود وفيه قالوا: يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: «النزاع من القبائل». وفي رواية قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» وفي رواية قال: «هم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي».

وقد اتخذ الناس هذا الحديث بمثابة التخدير للهمم، والتخذيل للأمم بحيث يتخذونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة لله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، حتى كأن الرسول بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف المفاجئ للمسلمين، ولهذه الغربة في الدين.

وإن هذه الغربة تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، فمثل الرسول في الإخبار كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم من وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. قال: فاجتمعنا. فقال النبي ﷺ: «إنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، تجيء الفتن يرقق بعضها بعضًا»، يعني الآخرة شر من الأولى.

فالعاقل لا يستوحش طرق الهدى من قلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103].

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182]. ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف:103].

* * *

[193] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [194] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية، والمغيرة بن شعبة، وأخرجه مسلم من حديث ثوبان، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله. [195] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة والحاكم في المستدرك. [196] ذكره أبو نعيم الأصبهاني في الحلية. [197] أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك. [198] أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك بلفظ مقارب. [199] متفق عليه من حديث معاوية. [200] رواه البخاري عن مرداس الأسلمي. [201] ذكره ابن بطة في الإبانة. [202] أخرجه الدارمي من حديث عمر. [203] أخرجه البيهقي في الكبرى.

(10) الرد بالحق الأقوى على صاحب بوارق الهدى

إلى العلماء الأعلام وإلى حكام بلدان الإسلام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سلام الله ورحمته عليهم أجمعين.

أما بعد:

فإن مما يجب التنبيه إليه، أنه خرج في هذه الأيام كتاب سماه صاحبه بوارق الهدى في تفسير السماوات العلى ويستحق أن يسمى بوارق الضلال والظلام مؤلفه / محمد عزت نصر الله -من أهل طرابلس- وهذا المؤلف قد أبشع وشنع في كتابه على جميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، حتى الصحابة والتابعين وحتى رسول رب العالمين، ونسبهم إلى الجهل بتفسير آيات القرآن الحكيم استدعاء منه إلى الإقبال والقبول على تفسيره، المبنية قواعده على الكفر بالآيات والتكذيب بالنبوات والتعلق بالمحالات والمجهولات، وعلى قلب الحقائق في المعقول والمنقول وأنه للخرافات والترهات أشبه منه بتفسير الآيات، لاعتقاده في مخالفته لجميع علماء المسلمين أنه قد وضع ناموسًا للناس بعقله، فهو يخالف الحقائق مخالفة غير خافية لأحد على حد ما قيل: خالف تذكر.

لهذا يجب التنبه لهذا الكتاب بمنعه من دخول بلدان المسلمين صيانة لأسماعهم وأبصارهم عما وضع فيه من فنون الأباطيل وركوب التعاسيف في التأويل والتبديل والزيغ عن سواء السبيل.

ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا، والله خليفتي عليكم وأستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم.

الشيخ

عبد الله بن زيد آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية

الرد بالحق الأقوى على صاحب بوارق الهدى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة مبرأة من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه واختاره لأعباء نبوته وتبليغ رسالته، فأوحى إليه ما أوحاه... اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وعملوا بمقتضاه.

أما بعد:

فإن الله سبحانه بحكمته وعدله قد نصب على أعمال الناس علامات يعرف بها صلاحهم من فسادهم، وحسن قصدهم من سوء اعتقادهم. فمن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها علانية إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، قال تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَٰنَهُمۡ ٢٩ وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٠ [محمد: 29-30].

[الناس متفاوتون في الدين]

إن الناس متفاوتون في هذا الدين وفي كتاب الله المبين؛ ما بين محب له يدافع عنه ويشرحه ويبشر به ويحمله على المعنى المراد منه بدون تحريف ولا تبديل ولا ميل عن سواء السبيل، وبين كاره له يحاول أن يحرفه عن المعنى المراد منه ليبدل كلام الله، فهو ينقصه ويشينه بكل سبيل. وقد رأيت كتابًا سماه صاحبه بوارق الهدى في تفسير السماوات العلى لمؤلفه الدكتور محمد عزت نصر الله -من أهل طرابلس- شنع فيه على جميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وأن تفاسيرهم كلها تعتمد على الإسرائيليات في تفسير الآيات، ويزعم أن تفاسير ابن عباس وجميع الصحابة والتابعين -أنها كلها باطلة- وأنهم يعرفون معاني القرآن بالكلية.

[مهاجمة "نصر الله" لابن كثير]

ثم ذكر تفسير ابن كثير وقال: إنه أقل التفاسير احتواء للإسرائيليات، لكنه رغم ذلك نراه يقع في شَرَك الإسرائيليات وخلفياتها الفكرية فينكر أي رواية تنص على ما يخالفها أو ينقضها، كما أنكر القول الصحيح الذي قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 40]. أي بين السماء والأرض فعده ابن كثير من الغريب جدًّا. قال: الواقع أن ابن كثير يعتمد في تفسيره على الروايات والأقوال أكثر من اعتماده على اللغة والاجتهاد الخاص فهو ناقل لجملة تفاسير يقول بها غيره وليس بمفسر مجتهد إلا فيما ندر من ترجيح أو اجتهاد... انتهى.

وأقول: إنه لو اقتصر في لومه على ابن كثير فحسب لكان أسهل، لكنه تعدى فبغى وطغى على جميع علماء المسلمين من المفسرين المتقدمين والمتأخرين، فسجل عجزهم عن فهم القرآن المبين وعن فهم اللغة العربية، وأنه لم يكن لهم دور في الفهم المستقل للآيات الكونية... وأشار إلى أنه سيصنع منهجًا جديدًا في التفسير يعتمد على التحليل وفهم القرآن عن طريق دراسة اللغة العربية.

يريد بذلك تفسيرًا يخرج القرآن عن معانيه الصحيحة المتبادرة إلى الأذهان وإلى ما يسبق إليها فهم كل إنسان، ولا علاقة لها بالدين؛ بالأحكام ولا أمور الحلال والحرام... وإنما يتمحض في العلوم المادية والكشوف الكونية والنجوم الخفية وسائر علوم الفلك والطبيعة كتفسيره بوارق الضلال.

وإننا لم نر في سائر كتب المؤلفين المخالفين للمسلمين في الدين أبشع ولا أشنع من هذا الكتاب الذي استخرجه محمد عزت نصر الله وانتهك فيه حرمات جميع المسلمين وجميع المفسرين من المتقدمين والمتأخرين حتى الصحابة والتابعين.

... وإنه لا يحل لحكام المسلمين وعلمائهم أن يسمحوا بدخول هذا الكتاب إلى بلادهم اتقاء الفتنة به واتقاء تأويله وتحريفه.
يا فرقة جهلت نصوص نبيها
وقصوده وحقائق القرآن
فسطوا على أتباعه وجنوده
بالبغي والتكفير والطغيان

[نماذج من حملته على المفسرين]

فكلامه في ابن كثير والحط من قدره وتفسيره إنما هو بمثابة التمهيد منه لهدم سائر التفاسير الإسلامية المتضمنة لمعاني القرآن الحكيم، فهو يريد تحطيمها لقطع صلة الناس بها، ويستدعي إلى الإقبال والقبول لتفسيره الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا... فتفسيره لا يمت للتفسير الشرعي بصلة ولا للغة العربية، بل هو أجنبي وغريب عن معرفة معاني الآيات القرآنية واللغة العربية.
سبكناه ونحسبه لجينًا
فأبدى الكير عن خبث الحديد
فدونك نص لفظه الدال على شدة ضغنه وبغضه لجميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وكأنه قد أخرج نفسه برغبته واختياره عن المسلمين.

قال في الصفحة الثالثة من مقدمة كتابه: (إن المسلمين المفكرين في زماننا شأنهم كشأن المسلمين المفكرين القدامى قد عجزوا تمامًا رغم التقدم الملحوظ في علوم الفلك والطبيعة عن فهم الآيات الكونية في القرآن الكريم فهمًا صحيحًا، وعجزوا بالتالي عن المساهمة في تقدم هذه العلوم مما يدل على أن هذا العجز الإسلامي في التفكير غير متعلق بتقدم هذا العلم أو ذلك).

ثم عاد يقول: (كذلك عجز العلماء والمفكرون من المسلمين قديمًا وحديثًا، لأنه لم يكن لهم دور في الفهم المستقل غير المرتبط بالإسرائيليات والنظرات الضيقة والروايات المنسوبة لكبار المفسرين والعلماء والمفكرين كابن عباس والسدي وغيرهما فلم يفرقوا بين الغث والسمين).

ثم عاد يقول: (إن التصور القديم والحديث لدى علماء الدين والمفكرين المسلمين للسموات والأرض هو تصور خاطئ ويقوم في مجمله على أسس واهية من الفكر السطحي، وها هي كتبهم القديمة وسجلاتهم تبث حيرتهم البالغة في تفسير السموات والأرض.

وإنه بسبب هذا العجز البالغ وتلك الحيرة ظل الفكر الإسلامي مقيدًا ومغلولاً وغير قادر على حسم الموقف الفكري الحديث لصالح الهدى والإيمان بالله).

ثم عاد يقول: (فإذًا لا بد من تحرك فكري سريع يأخذ زمام المبادرة الفكرية من أيدي الحيارى والعاجزين).. انتهى.

وأقول: إن هذا الكاتب قد كشف للناس لباسه وأبدى لهم سوأة التباسه، سقط من قمة الهدى فهوى، ثم امتطى غارب الغي فغوى. فدونكه يسير هائمًا في مهامه الجهالة والضلالة لم يلجم نفسه بلجام التقوى فنزعت به إلى شر غاية وأبعد أمد. ﴿إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓ [يوسف: 53]. وأنه قد أثارها حربًا شنعاء على الدين وعلى القرآن الحكيم وعلى كافة علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين حتى الصحابة والتابعين وحتى رسول رب العالمين بعبارات تقتضي الجنف والجفاء، وتنافي الإنصاف والحفاء، قد جعل الجد عبثًا والتبر خبثًا والحق باطلاً والباطل حقًّا.

ومن المعلوم أن قبح الجفاء ينافي الحفاء، وأن نجوم الظاهر يدل على خبث الباطن، وأنه لم يجترم أحد جريمة يعم بها جميع علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين كجريمة هذا الكاتب الذي ينبض قلبه بالضغن وقلمه بالطعن على كافة علماء المسلمين المفسرين، حيث سجل عجزهم وحيرتهم عن فهم القرآن الكريم، يريد بذلك فهمًا وتفسيرًا يخرج القرآن عن معانيه الصحيحة إلى العلوم الطبيعية الكونية والنجوم الخفية وسائر العلوم والفنون المادية.. فكلامه يعد من الباطل المكشوف الذي يؤكد بعضه بعضًا في البطلان ومن أنه لم يبق من لدن نزول القرآن إلى هذا الزمان من يعرف معاني القرآن حتى ولا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن هذا من لوازم قوله. ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥ [الكهف: 5].
نعوذ برب الناس من كل طاعن
علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة
ومن ملحق في الدين ما لم نحاول

[واجب الدفاع عن المفسرين العلماء]

إن الناس كلهم يعرفون العلماء وفضلهم وعلو قدرهم وعموم نفعهم، وأنهم حملة الحجة والبيان والسنة والقرآن، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فسعادة العباد والبلاد بوجودهم، فلحومهم مسمومة، وعادة الله في عقاب منتقصهم معلومة.

لهذا وجب علينا أن نذب عن عرضهم وأن نحمي كرامتهم من هذا الأفاك الأثيم، وأن نبين بطلان ما اقترفه عليهم من الكذب والبهتان المبين، إذ لولا من يقيمه الله لدفع ضرر المعتدين ودحض المبطلين لفسد الدين. وقد ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: « من حمى مؤمنًا من منافق يريد شينه حمى الله لحمه من نار جهنم»[204] فما بالك بحماية كرامة جميع علماء المسلمين الذين من عاداهم فقد بارز الله تعالى بالحرب.

ثم قال الكاتب في تفسيره: (وإني وقد حالفني التوفيق في وضع هذه الدراسة والحمد لله ـ لا أدعي لنفسي الكشف في الوصول إلى ما لم يصل إليه أحد قبلي من العلماء والمفكرين وحتى من مدعي الكشف والولاية، ولكن أقولها صراحة: إن جميع البوارق وهي الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب قد لمعت في خاطري فأنارت بصيرتي فسجلتها في فقرات على قدر استطاعتي).

وأقول: إن هذا التفسير الذي رفع عقيرته بمدحه هو ليس بتفسير للآيات القرآنية ولا للأحاديث النبوية ولا اللغة العربية ولا يمت للتفسير بصلة... وإنما هو خطرات من وساوس فكرية يتقلب فيها مع الأهواء ويخبط خبط العشواء.. كتب يدعي في تفسيره بأنه قد وصل إلى معرفة أسرار السموات بما لا يعرفه الرسول ولا الصحابة والتابعون ولا سائر علماء المسلمين المفسرين، فهو تفسير منكور يشتمل على بدع من القول والزور. هو للخرافات أقرب منه لتفسير الآيات.
أقام يعمل أيامًا رويته
ففسـر الماء بعد الجهد بالماء لأن التفسير الذي لا يعرفه الرسول ولا الصحابة ولا التابعون ولا سائر علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ويخرج القرآن عن معانيه المتبادرة إلى الأذهان وإلى ما يسبق إليه فهم كل إنسان، فإنه ليس بتفسير أبدًا وإنما هو من وساوس الشياطين، كهذا التفسير الذي حمل رايته وبادر بفكرته فإنه مبنية قواعده على الكفر بالآيات والتكذيب بالنبوات والتصديق بالمحالات والمجهولات، وعلى قلب الحقائق في المعقول والمنقول.

وكل من له أدنى مسكة من عقل متى تأمل كلامه يتبين له بطريق الوضوح أنه اختار تكذيب القرآن على الإيمان به، وأنه اختار العمى على الهدى، والقبيح على الحسن، والباطل على الحق.

وقد صرح تصريحًا ليس بالتلويح بأن جميع علماء المسلمين من لدن نزول القرآن حتى الآن أن تصورهم للسموات والأرض تصور خاطئ ويقوم في مجمله على أسس واهية من الفكر السطحي.

يعني بذلك رسول الله ﷺ أولاً ثم سائر أصحابه وجميع علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين، فإن هذا صريح من قوله، والجنون فنون.

لأن من كان في أصل عقيدته التي ينتحلها أن الله سبحانه لم يخبر في كتابه بحقيقة السموات والأرض... وإنما أخبر الناس بما لا يعرفون وبما ظاهره باطل... فإن هذا كفر بالله وتكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، فإن من لوازم هذا القول أن الله سبحانه لم يوح هذا القرآن إلى نبيه للإيمان به والعمل بموجبه.

وإنما أراد من خلقه أن يطلقوا أذهانهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير معناه، وينتحلوا له وجوه الاحتمالات المنكرة والتأويلات المستكرهة التي هي بالأحاجي والهذيان أشبه منها بالحقيقة والبرهان.

[204] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث معاذ بن أنس.

[من لوازم قوله أن الله لم يبين الحق باللفظ الصريح الذي يحفظ عن الوقوع بالباطل]

فإن من لوازم هذا القول أن الله سبحانه لم يبين الحق باللفظ الصريح الذي يحفظ عن الوقوع في الباطل، حتى جاء هذا الكاتب فعبر عن الحق بصريحه دون الله ورسوله وأصحابه ودون سائر علماء المسلمين المفسرين من المتقدمين والمتأخرين... وهذا التفسير للسموات العلى يظهر بطلانه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓ [النحل: 12].

قال: (مسخرات لتكوين وتشكيل حجارة جهنم وحرها وعذابها، فهي مسخرة لتوليد الطاقة الهائلة التي تتجمع في السماء وتنصب يوم القيامة داخل جهنم وتكون وقودًا للنار). فيقال لهذا الأفاك الأثيم: من أنبأك بهذا والله يقول: ﴿۞مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ [الكهف: 51]. فهذا كله من التخرصات الكاذبة. والله يقول: ﴿قُتِلَ ٱلۡخَرَّٰصُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي غَمۡرَةٖ سَاهُونَ ١١ [الذاريات: 10-11]. أي من الجهل ساهون.

فهو من جهله ببلاغة معاني القرآن وجهله باللغة العربية يعيب الفصحاء البلغاء المتبحرين في العلم بمعاني القرآن المبين. فهو كما قيل: أنف في السماء واست في الثرى.

ويرى أن الهدى والحق في كلامه وعباراته دون كلام الله ورسوله، وهذا ظاهر كلام الملحدين والحيارى المكذبين كهذا وأمثاله. قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗاۚ وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ ١١٢ وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡ‍ِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ ١١٣ [الأنعام: 112-113].
فيالك من آيات حق لو اهتدى
بهن مريدُ الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة
فليست وإن أصغت تجيب المناديا
فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين، يعرف العوام على سذاجتهم وبديهتهم أكثر معانيه وما يشتمل عليه من الأحكام وأمور الحلال فضلاً عن العلماء الأعلام. وكان الصحابة يسألون رسول الله ﷺ عما أشكل عليهم من القرآن، يقول ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن[205]. وقد وصف الله كتابه بالبيان أي: الجلاء والظهور. فقال سبحانه: ﴿تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ [القصص: 2]. أي: البين الواضح.

[205] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث ابن مسعود.

[القرآن أكثره آيات محكمات جليات]

وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ [النحل: 44]. فالقرآن أكثره آيات محكمات ظاهرات جليات يدل لفظها على معناها، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها. وقد اشتمل القرآن على العلوم الإلهية، وأصول العقائد الدينية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأحكام العبادات، وحل المشكلات، ودحض الشبهات، وتحقيق البعث بعد الوفاة للجزاء على الأعمال، والإيمان بوجوب الرب والملائكة والجنة والنار، وقوانين الفضائل والآداب، وقواعد التشريع السياسي والمدني والاجتماعي، وكونه هداية عامة للبشر كلهم.

فهو رحمة للعالمين، وهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، والواقي من الوقوع في الرذيلة. يوازن بين ما كان عليه المسلمون السابقون من السيادة والعزة والقوة لما كانوا مؤمنين به متبعين لأمره ونهيه ﴿ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١ [الحج: 40-41].

وبين ما حل بخلفهم في هذا العصر من الضعف والعجز والشقاق لما ضعف عملهم به وساء اعتقادهم فيه. وبيان موافقته لصالح البشر كلهم في علاج عللهم وإصلاح مجتمعهم بانطباق عقائده وشرائعه على العقل والفطرة، وجلب المصلحة ودرء المفسدة. وهذه هي الحكمة التي أنزل الله بها كتبه وأرسل بها رسله ﴿مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِ [النساء: 165].

فهو صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان... فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء.

وليس من شأن القرآن الكريم ولا من شأن علماء المسلمين المفسرين بأن يبينوا للناس ما يصلون إليه بكسبهم وأفكارهم وتجاربهم من كشوفهم واختراعاتهم وصنائعهم وسائر ما يدركونه من الأشياء الغامضة والنجوم الخفية وغيرها.

لأن هذه من شأن الباحثين في علوم الطبيعة والفلك وسائر الأمور الكونية، ولا تعلق لها بأمور الدين ولا القرآن المبين. والناس منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا وهم يستخدمون أفكارهم وتجاربهم في تطوير المخترعات من الصناعات وكشف غوامض الآيات والخفيات.

وقد أخبر الله سبحانه عن مبدأ آدم وحواء وأنهما بداعي الحاجة عملا لهما لباسًا من ورق الشجر يستر سوأتهما -أي ثيابًا من الخوص تستر عوراتهما- وهذه هي مبدأ الصنائع في الدنيا وخاصة الملبوسات التي تستر بها العورات، كما أن الأواني التي يطبخون فيها ويأكلون ويشربون فيها هي من الطين، فهذه من أمور الحياة التي تدعو إليها الحاجات إذ الحاجة هي أم الاختراع. وتدخل في عموم قوله ﷺ: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»[206]. وفي عموم قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٩٦ [الصافات: 96]. وقوله سبحانه: ﴿يَعۡلَمُونَ ظَٰهِرٗا مِّنَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ غَٰفِلُونَ ٧ [الروم: 7].

ونحن لا نكابر في إنكار ما أدركه هؤلاء من علم الكون وما اكتشفوه من الأسرار والآيات، وما عسى أن يكتشفوا فيما هو آت من كل ما يعد من خوارق العادات، ومن كل ما يؤهلهم للوصول إلى الغايات الداخلة في حدود مقدرتهم، فقد رأى الناس عجائب ما صنعوه من الطائرات الهوائية تجارية وحربية حيث تحلق في الأجواء حتى تتجاوز المحيط الهوائي، والغواصات البحرية التي تغوص في أقصى قعر البحار بحيث يعلوها بمن فيها الماء والأمواج، ويتخاطبون من أقصى البقاع بحيث يتحدث أهل المشرق مع أهل المغرب.

وفي بلدان أوربا وأمريكا يتكلم مع من في نجد والخليج والحجاز، بحيث يكلم أحدهما صاحبه بكلام جلي غير خفي وبينهما الوديان الساحقة والجبال الشاهقة والبحار المضطربة والسحب المتقصفة والأهوية المزعجة، كل هذه لم تكن حائلة دون سماع أحدهما لخطاب الآخر. فلو تحدث متحدث بذلك قبل وقوعه وقبل وقوف جميع الناس على حقيقته لأنكروه أشد الإنكار لاستبعادهم إمكانيته وعدم اتساع عقولهم لقبوله.

وحسبك ما في الكهرباء من الأسرار وعموم المنافع الكبار، وكل من هذه من الحقائق التي لا يسمو إلى جوها غبار، فلا مجال للشك فيها، وهي من مكملات الكرامة والراحة والرفاهية للناس، توجب الشكر والعبادة لله رب العالمين الذي خلق موادها يوم خلق السموات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس لها، والمكتشفون يعترفون بأن ما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما يعرفون، وأنهم كلما أوغلوا في كشف شيء تبين لهم من جهلهم ما لم يكونوا يحتسبون.. ومن طبيعة النفوس التطلع إلى كل مستور عنها من كل ما تظنه في متناولها.

[206] أخرجه مسلم من حديث أنس وعائشة.

[الاكتشافات العلمية الحديثة من نعم الله على عباده]

هذه كلها من النعم التي أكرم الله بها عباده والتي توجب عليهم الشكر والطاعة لله رب العالمين لدخولها في عموم قوله سبحانه: ﴿۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا ٧٠ [الإسراء: 70].

غير أنه بمقتضى الاختبار وعلم اليقين نجد الناس وخاصة هؤلاء المكتشفين يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضائل والدين على نسبة عكسية مطردة في ارتقائهم في الاختراعات والصنائع والكشوف وسائر العلوم المادية، فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل، وجرأة على ارتكاب فنون الجرائم، فضلاً عن ترك الفرائض والفضائل، حتى كاد الكثير منهم يفضل الإباحية المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وخلق وآداب ودين، ويحبون أن يعيشوا عيش البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12].

وقد دعا الله عباده إلى النظر والاعتبار في مخلوقاته ليزدادوا بذلك إيمانًا ويقينًا وعبادة، يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١ [آل عمران: 190-191].

وقال سبحانه: ﴿قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تُغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ ١٠١ [يونس: 101]. وصدق الله ورسوله فإن الآيات والعبر والتفكر المعتبر إنما تستفيد به النفوس الخيرة النيرة المستعدة لقبول الحق والتوجه إلى طلبه واتباعه.

أما النفوس الشريرة فإنها تزداد به طغيانًا وكفرًا وعتوًّا ونفورًا، فهي تحيل كل شيء إلى الطبيعة وينسبون آيات الله ومخلوقاته في أرضه وسماواته إلى الطبيعة، بمعنى أنها الموجدة لها دون الله عز وجل، ويسميهم العلماء بالطبعيين فهؤلاء لا تزيدهم الآيات والعبر إلا نفورًا واستكبارًا وجحودًا وعنادًا ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ١٤ [النمل: 14]. ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧ [يونس: 96-97].
أقلقتم السابح في لجة
أطرتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم عرضة للفنا
فكيف لو عمرتم يا وقاح
مع العلم أن القرآن يشتمل على بيان كثير من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس كما قال سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ [فصلت: 53].

فيذكر سبحانه جميع أنواع المخلوقات من الجبال والجماد والنباتات والحيوانات والناس، ويصف سبحانه خلق السماوات وشمسها وقمرها ونجومها والأرض والهواء والسحاب وخلق الماء فيه والبحار والأنهار، وقد عجزت هذه القرون التي ارتقت فيها جميع العلوم والفنون عن أن يغيروا بناء آية من آيات الله أو ينقضوا حكمًا من أحكامه.

والحاصل أنه لا يجوز تحريف القرآن الكريم وصرفه عن معانيه المتبادرة إلى الأذهان لأجل تطبيقه على العلوم والفنون والكشوف والصنائع وسائر ما يتجدد بتجدد الزمان، فقد اتفق المسلمون على الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهدي سلف الإسلام الصالحين، وعدم الاعتداد بإسلام من لا يهتدي بالكتاب والسنة ولا بمن يحرف القرآن بتفسير يخالف قواعد اللغة وضروريات الدين.

وقد عمل بعض المفسرين من المسلمين المتأخرين عمله في تطبيق الآيات القرآنية على الكشوفات والمخترعات العصرية وسائر ما يتجدد من أمور الحياة لمناسبة بعيدة. كتفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهري ويقع في ثلاثة عشر مجلدًا. وهو كتاب حاوٍ لسائر العلوم والفنون العصرية، وقد أدرك العلماء عليه تكلفه في صرف الآيات القرآنية عن المعنى المراد منها ويغفر الله له، وقد سئل عنه صاحب المنار.. فأجاب قائلاً: تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي فيه كل شيء إلا التفسير.

ورأيت رسالة مختصرة للشيخ محمود شكري عنوانها ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب في الرد على المنطقيين ضمنه كثيرًا من البحوث والكشوف والعلوم الكونية ويقع في مجلد. وله رسالة سماها عرش الرحمن تكلم فيها عن الأفلاك وقولهم: إنها تسعة. وقال: إنه ليس لهم دليل لا عقلي ولا نقلي في حصر هذا العدد، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، وقد يتفرع عن الفلك الواحد عدة أفلاك.

وقوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 40]. يقتضى أنها في فلك مستدير كما قال ابن عباس: في فلكة كفلكة المغزل.

قال: والفلكيون يستدلون بما يشاهدونه من الحسيات ولا يعلمون ما وراء ذلك مثل علمهم أن البخار المتصاعد من البحار ينعقد سحابًا وأن السحاب إذا اصطك بعضه ببعض حدث عن اصطكاكه صوت الرعد وسنا البرق. وهو قول باطل لم يجدوا ما يعللون به صوت الرعد.

ثم تناول كلامه وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال وهو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية، قال: فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين فكما أن جوانب الأرض التي عليها الناس فليس بعضها فوق بعض ولا تحته. فكذلك من يكون على الأرض من الناس والنبات لا يقال: إنهم تحت أولئك ولا أن أولئك تحتهم. وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فنحن نرى السقف فوقها وهي تراه تحتها وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في إحدى جانبي الأرض أن الجانب الآخر تحته، انتهى.

وكل ما قاله شيخ الإسلام في الأرض فهو مبني على كونها كرة كما جزم به علماء الهيئة وبعض المفسرين أخذًا من قوله سبحانه: ﴿يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ [الزمر: 5]. وقوله: ﴿يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ [فاطر: 13].

وأقول: إن علماء الكون في هذا الزمان قد خالفوا الفلكيين الأوليين، فأثبتوا كون الرعد والبرق يحدث من اشتعال الكهربائية باحتكاك الإيجابي منها بالسلبي فيحدث صوت الرعد عند ذلك كصوت المدفع عند انطلاقه. والله أعلم.

وقد ينتحل المرء في نفسه ما يقلده عن غيره فيظنه حقًّا وكشفًا صحيحًا وهو باطل في نفس الأمر والواقع.

وللعلامة ابن القيم رحمه الله كلام طويل في مفتاح دار السعادة يتعلق بالبحوث والكشوف وعلم الكون من خلق السماء والشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والسحاب وخلق الماء فيه وسائر ما يتعلق بعلم الآفاق والأنفس لا يوجد له نظير.

وبما أن الكاتب قد أنحى بالملام وتوجيه المذام على ابن كثير ونسبه في تفسيره إلى التقصير وأنه كغيره من المفسرين يفسر الآيات بالإسرائيليات وهذا كذب مفترى. فإن جميع العلماء يعرفون طريقة ابن كثير في التفسير وأنه يفسر الآيات بالآيات ويفسرها بالأحاديث وبأقوال الصحابة والتابعين، ولا نعلم له آية تتعلق بالعقائد والعبادات والأحكام وأمور الحلال والحرام قد بنى قواعد تفسيرها على الإسرائيليات، وإنما يذكر حديث بني إسرائيل إذا ذكره في سبيل الاعتضاد لا الاعتماد عندما يراه موافقًا للقرآن. أما إذا خالف القرآن فإنه لا يذكره قطعًا وعنده رخصة في ذلك وهو قول النبي ﷺ: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»[207].

[207] أخرجه أبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة.

[نماذج من تفسير "نصر الله" للآيات الكونية]

وله في تفسيره اجتهادات في علم الكون والكشوف والسموات لا بد من الإشارة إلى ذكر بعضها.

من ذلك قوله في تفسير قوله سبحانه:

﴿أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ [الأنبياء: 30].

قال: أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض ومتلاصقًا متراكبًا بعضه فوق بعض في ابتداء الامر ففتق الله هذه من هذه، فجعل السموات سبعًا والأرض سبعًا وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض فذلك قوله ﴿كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ. وكانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت.

ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات، ثم ساق عن ابن عباس وعن سعيد ابن جبير معنى ذلك.

وقال في تفسير قوله: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى [لقمان: 29].

قال: روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها. قال: وكذلك القمر، إسناده صحيح. انتهى.

فتفسير ابن كثير بهذا يوافق ما ذكره عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: ﴿وَكُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ ٤٠ [يس: 40]. أي: بين السماء والأرض، وإنما استغربه ابن كثير من أجل نكارة سنده، وإلا فإن معناه صحيح كما مر وصححه في هذه الآية.

ثم ذكر على قوله سبحانه: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ١٥ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦ [النوح: 15-16].

قال: طباقًا. أي: واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط أو هو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكشوفات فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضًا. فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة. والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة، وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت، والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي، والفلك التاسع وهو الأطلس الأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك.

وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق، وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب ومعها تدور سائر الكواكب تبعًا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها فإنها تسير من الغرب إلى الشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، ذلك بحسب اتساع أفلاكها، وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة.

هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ كَيۡفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا ١٥ وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِيهِنَّ نُورٗا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجٗا ١٦ [النوح: 15-16]. انتهى كلام ابن كثير.

وفي تفسير المنار لمؤلفه محمد رشيد رضا الشيء الكثير مما يتعلق بعلم الكون والكشوف سلك فيه مسلك الاعتدال في التعبير وحسن التفسير.

ثم تكلم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَرۡسَلۡنَا ٱلرِّيَٰحَ لَوَٰقِحَ [الحجر: 22].

فقال: المراد بها الرياح التي تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى كل شيء بحسبه، كما أنها تثير السحاب وتلحقه بالماء، ولم يكن هذا معروفًا قبل نزول القرآن حتى قال رجل مستشرق اسمه (مستر اجيزي) وكان أستاذًا للغة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي قال: إن رعاة الإبل يعني العرب قد عرفوا أن الرياح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعرفها علماء أوروبا بثلاثة عشر قرنًا.

وهذا من حكمة إنشاء النشء أن يكن بين زوجين وهو شيء يعرفه أهل الحرث حيث يضعون بنات الذكر في الأنثى فيما يسمونه التنبيت والتلقيح، يقول الله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٤٩ [الذاريات: 49].

وقال تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا يَعۡلَمُونَ ٣٦ [يس: 36].

ثم تكلم على قوله سبحانه: ﴿يُكَوِّرُ ٱلَّيۡلَ عَلَى ٱلنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّهَارَ عَلَى ٱلَّيۡلِۖ... [الزمر:5]. قال: فتكوير الليل على النهار نص في إثبات كروية الأرض مأخوذ من تكوير العمامة على الرأس إذا غطته ومثله ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ ٦١ [الحج: 61]. بمعناه مع العلم أن القرآن يشتمل على بيان الشيء الكثير من آيات الله سبحانه في الآفاق وفي الأنفس، يقول الله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ [فصلت: 53]. انتهى.

وحسبك أنهم بذلوا جهودهم الضائعة في الصعود إلى القمر حتى وصلوا بزعمهم إلى سطحه ولكنهم لم يغيروا شيئًا من حكمه. بل قرروا بأنه غير صالح لشيء أبدًا سوى ما خلق لأجله في قوله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٥ [يونس: 5].

وبالجملة فإن المكاتب الإسلامية وغيرها مملوءة من كتب المسلمين التي تبحث عن الأفلاك وعلم الكون والطبيعة بما لا يستطيع هذا الكاتب أن يأتي بمثله، ولو أنصف لعرف ولكنه جنف فحرف.

[الرد على ما جاء في تفسيره من مغالطات]

ولنعرض الآن على القراء الكرام نبذًا من مهمات تفسيره ليقابلوا بينها وبين تفسير علماء المسلمين حتى يعلموا بطريق اليقين بأنه ليس على شيء، وأن تفسيره بالخرافات والترهات أشبه منه بتفسير الآيات، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا.

قال الكاتب في صفحة (21، 19، 18، 17).

على قوله سبحانه: ﴿أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا [النمل: 61].

وقوله: ﴿ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗا [الرعد: 3].

وقوله: ﴿وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ [الأنبياء: 31].

قال: فالرواسي التي جعلت في الأرض هي جاذبية الأرض نفسها. قال: والشمس أكبر رواسي الأرض على الإطلاق فهي بجاذبيتها راسية للأرض أي مثبتة لها.

قال: فالشمس والقمر والكواكب تعتبر رواسي للأرض كيلا تميد.

وقال في صفحة (23):

وليست الجبال من الرواسي المجعولة في الأرض أو الملقاة فيها فهي جزء من الأرض نفسها. انتهى.

وأقول: إن هذا من فنون تفسيره الدال على جهله وعدم نصيبه من العلم والمعرفة ومخالفته للحق والحقيقة مخالفة غير خافية على أحد لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس بتفسيره.

لأن هذا الكاتب لما حتم نفسه بأن يأتي بتفسير لم يسبقه إلى القول به أحد من المفسرين ولا من علماء المسلمين، اضطر أن يتقلب مع الأهواء وأن يخبط خبط العشواء، فيركب التعاسيف في التأويل ويورد من الأقوال ما يشهد العقل والنقل ببطلانه لكونه عاريًا عن الدليل، غارقًا في التبديل. ومن ديدن الحائر المبهوت أن يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.

فتفسير الرواسي بالجبال هو من الأمر المستقر في نفوس العلماء والعوام والخاص والعام؛ لأنه من التفسير الذي يعرفه العرب بلغتهم ولا يعذر أحد بجهله، وقد كرر الله سبحانه ذكر رواسي الأرض في عدد من آيات القرآن الحكيم.

فقال سبحانه: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ ٧ [ق: 7].

فتفسير الرواسي يظهر صريحًا من تلاوة الآيات إذ هو من التفسير الذي لا يقبل التغيير، لكون القرآن نزل بلسان عربي مبين يفسير بعضه بعضًا. فإن قوله سبحانه: ﴿وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ [الأنبياء: 31]. أي: لئلا تضطرب. لأن الميد هو الحركة والاضطراب، فالجبال راسية بنفسها ومرسية للأرض لئلا تتكفأ وتضطرب.

ولا تسمى السفينة راسية إلا إذا وقفت بمرساها في الميناء وأمسكت بأشطان الحبال لتقف ولا تتحرك.

يقول الله سبحانه: ﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ [هود: 41]. وقد سمى الله الجبال أوتادًا أخذًا من أوتاد الخيمة التي تثبتها في قوله سبحانه: ﴿ أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧ [النبأ: 6-7].

لكون الجبال هي التي تثبت الأرض وترسيها لئلا تضطرب بالناس، ومن المعلوم بالمشاهدة والحس أنها متى أصيبت الأرض برجة أو زلزال فإن الناس يفزعون ويضطربون ويفرون عن منازلهم خوفًا من سقوطها عليهم، فمن رحمته أن ثبتها بالجبال كما تثبت الخيمة بالأوتاد والحبال. قال الشاعر: والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وفي جامع الترمذي وغيره من حديث أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الله الجبال عليها فاستقرت».

وقد رأينا أرباب السفن متى كانت سفينة أحدهم خالية عن الحملان حمل عليها شيئًا من الحصى أو الرمل ليثبتها عن الاضطراب والميد، وكذلك الجبال في الأرض، ولا علاقة للشمس ولا للقمر في مرساها بل هو من التبديل وركوب التعاسيف في التأويل الزائغ عن سواء السبيل.

ومتى انقضى عمار الدنيا وأراد الله سبحانه فناءها وانتقال أهلها عنها إلى دار الآخرة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار.

فعند ذلك يأمر الله سبحانه بقلع الجبال عن أماكنها كما يقلع المسافر أوتاد خيمته حين يريد الانتقال عن مكانه.

يقول الله سبحانه: ﴿وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡجِبَالِ فَقُلۡ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسۡفٗا ١٠٥ فَيَذَرُهَا قَاعٗا صَفۡصَفٗا ١٠٦ لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجٗا وَلَآ أَمۡتٗا ١٠٧ [طه: 105-107].

وقال سبحانه: ﴿إِذَا رُجَّتِ ٱلۡأَرۡضُ رَجّٗا ٤ وَبُسَّتِ ٱلۡجِبَالُ بَسّٗا ٥ فَكَانَتۡ هَبَآءٗ مُّنۢبَثّٗا ٦ [الواقعة: 4-6].

وقال سبحانه: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٣ يَوۡمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلۡفَرَاشِ ٱلۡمَبۡثُوثِ ٤ وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ ٱلۡمَنفُوشِ ٥ [القارعة: 1-5].

وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ ٧ فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ ٨ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ ١٠ [المرسلات: 7-10].

فالقرآن يفسر بعضه بعضًا ويدل بمنطوقه ومفهومه على أنه متى انتهى عمار الدنيا وأراد الله عليها وعلى من فيها الفناء فعند ذلك يزيل الجبال من أماكنها فتضطرب الأرض وتتزلزل لتلقي الناس على ظهارها. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ ١ يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ ٢ [الحج: 1-2].

وقد وصف الله القيامة بأسماء وأوصاف متعددة متنوعة تدل بمعانيها على أنها شيء عظيم. فوصفها بالطامة الكبرى وبالصاخة وبالزلزلة والقارعة والواقعة.. فقال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٣ [الواقعة: 1-3]. وقال: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ [القارعة: 1-3]. تعظيمًا لشأنها وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض فترجها رجًّا وتبسها بسًّا ويكون هباءً منبثًا وكالفراش المبثوث فيكور بالشمس ويخسف بالقمر وتتناثر النجوم لبطلان ما ركبه الله من سنة إمساكها المقتضي إثباتها وقد بطل ذلك عند القضاء بفناء الدنيا وخراب العالم وعدم الاحتياج إلى شيء من ذلك.

وقال سبحانه: ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ٣ وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ ٤ [الإنشقاق: 1-4]. أي ألقت جميع ما على ظهرها من جبال وأناس وتخلت عنهم لكون الناس يحشرون على أرض بيضاء لم يعص الله عليها.

[الحكمة من تخريب الدنيا يوم القيامة]

والحكمة في هدم الأبنية وتسيير الجبال ودك الأرض وشق السماء ونثر النجوم وتكوير الشمس وخسوف القمر وتخريب هذا العالم بأجمعه أن الله سبحانه لما بنى للناس دار الدنيا للسكنى بها والتمتع بخيراتها وجعلها وما فيها زينة للأبصار وعظة للاعتبار والاستدلال بها على وحدانيته وجميل صنعه بما يقتضى الإيمان به وإخلاص العبادة له. فلما انقضت مدة السكنى بها وحقت كلمة ربك على فنائها أجلاهم سبحانه منها وخربها لانتقالهم منها إلى غيرها. ﴿يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ ٤٨ [إبراهيم: 48]. وأراد أن يعلمهم بأن في إحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وتعريض ذلك الصنع العجيب للزوال كله بيان لكمال قدرته ودوام بقائه، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وأن عنده سبحانه لعباده دارًا هي أسمى وأرقى وأجل وأجمل من دار الدنيا.

﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ [المؤمن: 39].

فسمى الله الدنيا متاعًا مأخوذًا من متاع المسافر، ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨ [التوبة: 38].

فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع من لقاء ربه إلا الذي لم يقدم عملاً صالحًا لآخرته ويقول: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ [الجاثية: 24]. فهذا ينتقل من خراب الدنيا إلى عذاب الآخرة.

ثم قال في صفحة (39) على قوله سبحانه: ﴿وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ ٢٢ [الذاريات: 22].

قال: وما توعدون أي يوم القيامة.. بالعذاب في السماء الدنيا.

قال: من الواضح أن النجوم مسخرات الآن لتوليد الطاقة الكونية الكبرى الهائلة التي تتجمع الآن في السماء لتلقى يوم القيامة في جهنم مع أجرام النجوم والكواكب التي ترمى وتنصب في جهنم وتكون وقودًا للنار فيها.

وقال في صفحة (57) على قوله سبحان: ﴿وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ [النحل: 12].

قال: والنجوم وتوابعها ممسوكة ومسخرة لتكوين حجارة جهنم.

قال: والنجوم كما هو معلوم كثرة هائلة من النار الموقدة المسخرة بأمر الله وكذا قوله: ﴿وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ [النحل: 12]. أي: لتوليد الطاقة الكبرى التي تتجمع في السماء لتلقى يوم القيامة في جهنم.

ويقول في صفحة: (11):

(وها نحن نوضح بما لا لبس فيه من أن النجوم مسخرات لتكوين حجارة جهنم وحرها وعذابها وهي مسخرة لتوليد الطاقة الكبرى الهائلة التي تتجمع وتنصب يوم القيامة داخل جهنم). انتهى كلامه.

وأقول: سبحان الله ما أجرأ هذا الكاتب على القول على الله وعلى تحريف كلام الله بلا علم بمجرد الرأي الذي ليس له مستند لا من القرآن ولا من السنة ولا من اللغة العربية ولا من قول أحد العلماء، وإنما يتكلم بفنون من الجنون في التفسير.

لكون ما يتكلم به هو من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا هو: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ [النمل: 65]. إذ ليس عندنا ما يدل على أن هذه النجوم مرصدة ومسخرة لتكوين طاقات العذاب يوم القيامة في نار جهنم.

ولا يعني القرآن بهذا التفسير في التسخير، بل هي من الجمادات التي يقول الله لها: كوني ترابًا. فتكون ترابًا وعند ذلك يقول الكافر: ﴿إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا ٤٠ [النبأ: 40]. ولم يثبت ما يدل على أنها مسخرة كالصناع لتوليد طاقة العذاب لتكون وقودًا في نار جهنم.

وقد أخبر الله سبحانه عن تكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم في عدة آيات من القرآن الحكيم.. كقوله سبحانه: ﴿إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ ١ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُيِّرَتۡ ٣ وَإِذَا ٱلۡعِشَارُ عُطِّلَتۡ ٤ وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ ٥ وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ ٦ وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ ٧ وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ ٨ بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ ١٠ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتۡ ١١ وَإِذَا ٱلۡجَحِيمُ سُعِّرَتۡ ١٢ وَإِذَا ٱلۡجَنَّةُ أُزۡلِفَتۡ ١٣ عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّآ أَحۡضَرَتۡ ١٤ [التكوير: 1-14]. وكذا قوله. ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتۡ ١ وَإِذَا ٱلۡكَوَاكِبُ ٱنتَثَرَتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ فُجِّرَتۡ ٣ وَإِذَا ٱلۡقُبُورُ بُعۡثِرَتۡ ٤ عَلِمَتۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ وَأَخَّرَتۡ ٥ [الإنفطار: 1-5]. وفي المرسلات. ﴿فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتۡ ٨ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتۡ ٩ وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ نُسِفَتۡ ١٠ وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتۡ ١١ لِأَيِّ يَوۡمٍ أُجِّلَتۡ ١٢ لِيَوۡمِ ٱلۡفَصۡلِ ١٣ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا يَوۡمُ ٱلۡفَصۡلِ ١٤ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ١٥ [المرسلات: 8-15].

ولم يذكر سبحانه بأن هذه الكواكب من الشمس والقمر والنجوم بأنها مسخرة لتوليد أدوات العذاب في نار جهنم.. وما كان ربك نسيًّا.

قل فأتوا بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين.. وقد قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ [التحريم: 6].

فأخبر سبحانه أن الناس من وقود النار كالحجارة وقال: ﴿إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ ٩٨ [الأنبياء: 98]. والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي: ترمى به وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به قاله في الصحاح.

والحق أن تسخير الشمس والقمر والكواكب، الذي عناه القرآن بقوله ﴿وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ [الأعراف: 54]. هو أن الشمس مسخرة بأمر الله ومخلوقة لمصالح العباد في الدنيا في حكمة الله وتسخيره لها، أنها تطلع على جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها فتوزع ضوءها بينهم بنظام واعتدال لا يحول ولا يزول ولا يتبدل، فتطلع وتشرق على ما قابلها من الأفق الغربي ليصيب نصيبه من مصلحة ضوئها.

ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة وقطرًا بعد قطر حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها من المشرق فيختلف بذلك الليل والنهار.

فلو كانت الشمس واقفة لا تتعدى مكانها لما وصل ضوؤها إلى كثير من الجهات وبذلك يسوء الزمن ويكون الليل دائمًا سرمدًا على من تطلع عليهم الشمس ويكون النهار سرمدًا دائمًا على من طلعت عليهم الشمس فيفسد بذلك نظام الدنيا.

ولذا ساقه سبحانه في معرض الامتنان به على عباده فقال سبحانه: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلَّيۡلَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِضِيَآءٍۚ أَفَلَا تَسۡمَعُونَ ٧١ قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِلَيۡلٖ تَسۡكُنُونَ فِيهِۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٧٢ وَمِن رَّحۡمَتِهِۦ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٣ [القصص: 71-73].

أي في الليل ﴿وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ أي: في النهار ﴿وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٣. فلولا غروب الشمس لكانت الأرض تحمي بداوم شروق الشمس عليها حتى يحترق كل ما عليها من حيوان ونبات.

وكذلك حكمته سبحانه في تسخير سير القمر كما قال سبحانه: ﴿وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِي لِمُسۡتَقَرّٖ لَّهَاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ٣٨ وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩ [يس: 38-39].

وقال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمۡسَ ضِيَآءٗ وَٱلۡقَمَرَ نُورٗا وَقَدَّرَهُۥ مَنَازِلَ لِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ [يونس: 5]. فسخر القمر في أن ينزل في الشهر ثماني وعشرين منزلة ينزل كل ليلة منها منزلة مرسومة لا يتخطاها ولا يقصر دونها ليعلم الناس بذلك حساب الشهر، وقالوا: إن القمر يقطع الفلك في كل شهر مرة.

ومثله في خلق النجوم وأن منها السيارات التي تطلع وتغيب على حسب سنة الله في تسخيرها، ومنها الثوابت التي لا تبرح مكانها مثل بنات نعش، والفرقدين وتسمى الحويجزين، والجدي التي لا تغيب عن أعين الناس لقربها من مركز خط الاستواء فصارت بمثابة الأعلام التي يهتدي بها الناس في الظلمات وفي الطرق المجهولة في البر والبحر فيهتدون بها حيث شاءوا، وهذا كله من حكمة خلق الله لهذه الأفلاك وتسخيرها بأمره، حكمة بالغة فما تغنى النذر.

وقد أعطاها سبحانه هذا النور كي يراها الناس مع بعد منازلها فيهتدون بها كما قال سبحانه: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦ [النحل: 16]. وقد اتفق علماء الهيئة المتقدمون والمتأخرون أن النجم أكبر من الدنيا، ويحسبه أكثر الناس صغيرًا في مناظرهم كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
الذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وقال الكاتب في صفحة (43) عند تفسيره لقوله سبحانه: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦ [النحل: 16].

(وقد اكتشفوا عام 1975 حقلاً نجميًّا بواسطة (معهد التكنولوجيا) في كاليفورنيا يبعد عن الشمس مائة ألف سنة ضوئية.

وقد اكتشفوا كذلك أنجمًا مع المجرات تنضم إلى تجمعات أكبر منها فيحتوي التجمع الواحد على عشرات التجمعات.. وقد احتسبوا عدد الشموس الفرادى التي تماثل شمسنا في نظام المجرة فوجدوها حوالي خمسة عشر ألف مليون شمس. وكانت الشموس التي تدور حول مركز المجرة تقدر بحوالي مائة مليون شمسٍ.

والشموس الفرادى في نظام التتابع تبلغ عشرين مليون شمس. ومن النجوم المزدوجة في المجرة نجم (الشعرى) اليمانية وهو يبعد عن الأرض تسع سنوات ضوئية ويفوق الشمس بسبع وعشرين مرة في لمعانه، وقالوا: إن درجة حرارة الشعرى تبلغ عشرة آلاف كما تبلغ سرعته خمسة كيلو، وقدرت كتلته بحوالي مائتين وخمسين ألف مرة قدر وزن الأرض.

وهناك نجم (القرينة) الذي يفوق الشمس لمعانًا بألف وخمسمائة شمس ويبعد عنا مائة سنة ضوئية.

والنجم (زحل) الجبار ـ يفوق ضوؤه ضوء الشمس بأربعين ألف شمس ويبعد عنا بثمان مائة سنة ضوئية). انتهى كلام الكاتب.

لهذه نماذج من أوضح تفسيره ويسير في بقيته على هذا النمط:
تخرصًا وأحاديثًا ملفقة
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
ويظهر من كلامه أنه مقلد للبحاثين وعلماء الفلك ينقل عنهم كل ما يقولون، يلقط لفظهم كل ما لفظوا، ويتبع ظلهم أينما انبعثوا، والمقلد لا يعد من أهل الفن، وعلماء البحث في نظرياتهم يحققون الشيء ويؤكدونه ثم يعودون فينقضونه ويكذبونه دائمًا لكون نظرياتهم بعيدة عن التثبت واليقين وإنما يبنونها على الخرص والتخمين ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُسۡتَيۡقِنِينَ ٣٢ [الجاثية:32]. فقد يحقق الإنسان فيما يقلده عن غيره فيظنه حقًّا وكشفًا صحيحًا وهو لا حقيقة له في نفس الأمر والواقع.

ثم يقال: من حدثك عن هذه الشموس التي تبعد بخمسة عشر ألف مليون شمس والتي الواحدة منها تماثل شمسنا التي نشاهدها بأعيننا؟ ومن الذي حسبها وحصرها في هذا العدد؟ ومن الذي حدثك بالشموس التي تدور حول مركز المجرة، والتي تقدر بحوالي مائة ألف مليون شمسٍ؟ وهل هي نظريات خطؤها أكثر من صوابها؟.

[ما الفائدة من علم الفلك وغيره إذا لم يكن للناس فيه منفعة؟]

ثم يقال: ما الفائدة في العلم بهذه النجوم والشموس والمجرات الخفية التي لا نراها وليست بزينة للسماء ولا علامات يهتدى بها وأنت تفسر قوله تعالى: ﴿وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦ [النحل: 16]. فاكتشاف هذه الخفيات والغيبيات من النجوم والشموس والمجرات التي لا ترى إلا بالمناظير المكبرة، فإن تكلف العلم بها لن يعود على الناس بمنفعة، وقد خلق الله النجوم زينة للسماء ورجومًا للشياطين وعلامات يهتدى بها. فحسبنا منها ما نشاهد بأعيننا، وما عرفناه لمواقيت زماننا من نجوم الشتاء والصيف والربيع والخريف، وما يصلح للزراعة وغرس الأشجار، وما يستدعينا إلى التفكر والاعتبار في صنع الله الخالق الجبار.

يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١ [آل عمران: 190-191].

وقوله: ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَٰجٗا وَقَمَرٗا مُّنِيرٗا ٦١ [الفرقان: 61].

وقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٥٤ [الأعراف: 54].

ومن شعر أبي العلاء المعري:
عجبي للطبيب يلحد في الخا
لق من بعد درسه التـشريحا
ولقد علم المنجم ما يو
جب للدين أن يكون صحيحًا
من نجوم نارية ونجوم
ناسبت تربة وماء وريحا
وإن تفسير هذا الكاتب لهذه الآية بالاكتشافات الخفية من الشموس والنجوم والمجرات الغيبية التي لا تدركها الأبصار هو بعيد جدًّا عن معاني القرآن وتحريف له عن المعنى المراد منه.

فإن ما لا يدركه كل الناس بأبصارهم ليس بعلامات لهم ولا زينة للسماء ولا بالنجوم التي يهتدون بها في ظلمات البر والبحر.. والله سبحانه لا يكلف عباده في البحث عما خفي عليهم من أسرار النجوم والمجرات التي لا يشاهدونها إذ هذا من تكليف ما لا يستطاع والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

فالاستقصاء في اكتشافها غير نافع للناس، وعدم اكتشافها غير ضار إذ هي من الأشياء التي العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر.

فالخير كل الخير في اكتشاف الأرض التي خلقها الله لعباده وأودع فيها جميع ما يحتاجون إليه من الكنوز والنفائس، ومن كل زوج بهيج ومن كل شيء موزون. يقول الله سبحانه: ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا [فصلت: 10].

فهذه البركة التي أودعها سبحانه في أرضه ولا يزال الناس يتطلبونها بالكشف والتفتيش من لدن خلق الله آدم إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة. فتحصلوا على ما توصلوا إليه من خزائن الأرض وبركاتها التي خلقها الله يوم خلق السموات والأرض وأودعها في مظانها إلى وقت حاجة الناس إليها، والمكتشفون يعترفون بأن ما خفي عليهم من أسرار الكون وخزائن الأرض أكثر وأكبر مما اكتشفوه، وأنهم كلما أوغلوا في كشف شيء تبين لهم مما خفي عليهم أكثر مما يحتسبون.

وما أحسن ما قال الشافعي في هذا المعنى:
كلما أدبني الدهـ
ـر أراني نقص عقلي
وكلما ازددت علمًا
زادني علمًا بجهلي
فهذا هو الكشف الذي تعم منفعته وتحسن عاقبته ويتمتعون بما خلق لهم ربهم من أزواج ومن كل شيء موزون.

يقول الله سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا [البقرة: 29].

وقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥ [الملك: 15].

فكل ما يتمتع به الناس من الذهب والفضة والحديد والنحاس والخشب والرصاص والمعادن الجامدة والسائلة والبترول والأدوية والحبوب والثمار والفواكه والحيوانات وسائر أنواع الخيرات، كل هذه أوجدها الله في أرضه ليتنعم بها عباده ويتمتعوا بها إلى ما هو خير منها في آخرتهم.

﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ١٧ [العنكبوت: 17].

﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ ٨١ [طه: 81].

هذا... ولعل ما بقي من خزائن الأرض أكثر مما اكتشفوا بأضعاف مضاعفة.

أما اكتشاف النجوم والشموس والمجرات الخفية وسائر الأفلاك الغيبية التي لا يشاهدها الناس بأبصارهم ولا يصل إليهم شيء من نفعها فإنها من الأشياء التي العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر.. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الشیخ

عبدالله بن زید آل محمود

رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية